الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوُبنَا غُلْفُ﴾ الآية. جمع أغلَفَ، كما أن حُمْرًا [[في (ش): (حمر).]] جمع أَحمر، فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشعر [[من "الحجة" 2/ 155، وينظر: "تفسير الطبري" 1/ 406، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 169.]]. قال أبو عبيدة: كل شيء في غلاف فهو أَغْلَف، قالوا: سيفٌ أَغْلَف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف: لم يُختن [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 46، ونقله عنه أبو علي في "الحجة" 2/ 155.]]. وما يدرك به المعلومات من الحواس وغيرها من الأعضاء إذا ذُكِر بأنه لا يعلم وُصِفَ بأن عليه مانعًا من ذلك ودونه حائلًا، فمن ذلك قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، كأن القُفْل لما كان حاجزًا بين المُقْفَل عليه وحائلًا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يَكن مُقفلًا جُعِل مَثَلًا للقلوب في أنها لا تعي ولا تفقَه. وكذلك قوله ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ [الكهف: 101] [[من كلام أبي علي في "الحجة" 2/ 154.]]، ومثل هذه الآية في المعنى قوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: 5]. قال ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 406، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 170.]] ومجاهد وقتادة في هذه الآية: إنهم قالوا استهزاءً وإنكارًا وجحدًا لما أتى به محمد: قلوبنا عليها غشاوة، فهي في أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد. ومن ضم اللام فهو جمع غلاف مثل: حِمَار وحُمُر، ومِثَال ومُثُل [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 169، و"البحر المحيط" 1/ 301، وقال الطبري في "تفسيره" 2/ 327: وأما الذين قرأوها بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأولوها أنهم قالوا: قلوبنا غلف للعلم، بمعنى أنها أوعية فمعنى الكلام: وقالت اليهود: قلوبنا غلف للعلم وأوعية له ولغيره، ثم بين أن القراءة بالضم شاذة غير جائزة. انتهى كلامه. وممن قرأ بضم اللام: ابن عباس والحسن وابن محيصن والأعرج. ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1028، "زاد المسير" 1/ 99، "تفسير القرطبي" 2/ 22.]]. قال ابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 407، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 170، وذكره أبو علي في "الحجة" 2/ 155، "القرطبي" 2/ 22.]] والكلبي [["تفسير الثعلبي" 3/ 1028، "تفسير البغوي" 1/ 120، "تفسير الخازن" 1/ 81.]]: إنهم قالوا للنبي ﷺ: قُلُوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به مما تدعونا إليه؟ فلو كان فيه خير لفَهِمَتْه وَوَعَتْه [[ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 22.]]. وقوله تعالى: ﴿بَل لَّعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكفرِهِمْ﴾ أكذبهم الله سبحانه وقال: بل لعنهم الله، أي: أبعدهم من رحمته وطردهم، واللعن: الإبعاد [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 408، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 46.]]. قال الشَّمَّاخ [[هو: الشمّاخ بن ضرار بن سنان بن أمامة الذبياني، قال ابن سلام: فأما الشماخ فكان شديد متون الشعر، أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقًا "طبقات فحول الشعر" 1/ 124 - 132.]]: ذَعَرْتُ به القَطَا وَنَفَيتُ عنه ... مقام الذئبِ كالرجُلِ اللعينِ [[البيت للشماخ بن ضرار في "ديوانه" ص 321، "مجاز القرآن" 1/ 46، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 170 "تفسير الثعلبي" 1/ 1029، "لسان العرب" 7/ 4044، "تفسير القرطبي" 2/ 23، وذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 408 برواية: مكان الذئب.]] أراد: مقام الذئب الذي هُوَ كالرجل اللَعين، لا يزال مُنتبذًا عن الناس، شبّه الذئب به، وكل من لعنه الله فقد أبعده عن رحمته، واستحق العذاب، وصار هالكًا [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3272 - 3274، "اللسان" 7/ 4044 - 4045.]]. وقال الليث: اللعن: التعذيب، ولعنه الله، أي: عذبه، قال: واللعنة في القرآن: العذاب، واللعن: السب والشتم [[ينظر: "تهذيب اللغة" 2/ 396، و"اللسان" 13/ 388، وتفسير "القرطبي" 2/ 25.]]. قال شمر [[أول البيت: هل تبلغني دارها شدنية]]: أقرأنا ابن الأعرابي لعنترة [[والبيت من معلقة عنترة بن شداد التي مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم]]: لُعِنَتْ بمحرومِ الشَّرابِ مُصَرّم [[ينظر: "أساس البلاغة" 2/ 14، و"لسان العرب" 7/ 4045.]] وفسّره، فقال: سُبَّت بذلك، أي: قيل: أخزاها الله فما لها در ولا لبن [[ينظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3274، ونقله في "لسان العرب" 7/ 4045 وفيه: ولا بها لبن.]]. وقال الفراء: اللعن: المسخ أيضًا، قال الله تعالى: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ [النساء: 47] أي: نمسخهم [[لم أعثر عليه في "معاني القرآن" له.]]، وكل هذا راجع إلى معنى الطرد والإبعاد. و (بل) لا يُنسق به في غير الجحد، والجحد هاهنا في المعنى، ومجازه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وليس كذلك، بل لعنهم الله، ولم يجعل لهم سبيلًا إلى فهم ما تقول [[في (ش): (فتقول).]]. وقوله تعالى: ﴿فَقَلِيلًا مَّا يُؤمِنُونَ﴾ يريد: فما يؤمنون قليلًا ولا كثيرًا، والعرب قد تستعمل لفظَ القِلَّةِ في موضع النفي، فتقول: قلّما رأيتُ من الرجال مثلَه، وقلَّمَا تزورنا، يريدون النفي لا إثبات القليل. وحكى الكسائي عن العرب: مررت [[في (ش): (مررنا).]] بأرضٍ قلّما تُنبت إلا الكُرّاث والبَصَل، أي: ما تُنبت إلا هذين [[ذكره عنه الفراء في "معاني القرآن" 1/ 59، وعنه الطبري في "تفسيره" 1/ 409 - 410 ولم ينسبها، الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1030.]]، هذا قول الواقدي [[نقله عنه الثعلبي 3/ 1030، وينظر: "القرطبي" 2/ 23، و"البحر المحيط" 1/ 302.]] [[هو: أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، محدث مؤرخ، مفسر فقيه، أديب، متروك الحديث مع سعة علمه، ولد بالمدينة، وأقام == ببغداد، تولى القضاء، توفي سنة 207 هـ. ينظر: "تاريخ بغداد" 3/ 3، و"وفيات الأعيان" 4/ 348.]] و (ما) على هذا الوجه للنفي. وقال أبو عبيدة: معناه: لا يؤمنون إلَّا بقليل ممَّا في أيديهم ويكفرون بأكثره. وانتصب قليلًا على هذا القول بنزع الخافض [[ينظر: "البحر المحيط" 1/ 302.]]. و (ما) صلة، تقديره: فبقليل يؤمنون. وقال قتادة: معناه لا يؤمن منهم إلا قليلٌ؛ [[رواه عبد الرزق في "تفسيره" 1/ 51، ومن طريقه رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 409، وابن أبي حاتم 1/ 171، وذكره الثعلبي 1/ 1029، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 301 - 302، ونقل عن المهدوي مذهب قتادة: أن المعنى فقليل منهم من يؤمن، وأنكره النحويون؟ وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل، ثم تعقبه أبو حيان فقال: قول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون؛ لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه ولم يرد شرح الإعراب فيلزمه ذلك.]] لأن مَنْ آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود. و (ما) على هذا القول أيضًا صلة، وانتصب قليلًا على الحال. تقديره: فيؤمنون قليلًا [["البحر المحيط" 1/ 302.]]، كعبد الله بن سلَامَ [[هو: أبو يوسف عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، ثم الأنصاري، كان أحد أحبار اليهود في الجاهلية، أسلم عند مقدم الرسول ﷺ، بشره الرسول ﷺ بالجنة، توفي سنة 43 هـ. ينظر: "أسد الغابة" 3/ 264، "الاستيعاب" 3/ 921.]]. وذكر ابن الأنباري في هذه الآية ثلاثة أوجه سوى ما ذكرنا: أحدها: فيؤمنون إيمانًا قليلًا، وذلك أنهم يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد والقرآن، فيقلل ذلك إيمانهم، ودليل هذا التأويل: قوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 106]، معناه: أنهم يعترفون بأن الله ربهم، ويكفرون بمحمد فيقلّ إيمانهم. وانتصب قليلًا على هذا الوجه لأنه نعتُ مصدرٍ محذوف [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 60، وهذا ما رجحه الطبري رحمه الله في "تفسيره" 1/ 409، فقال: أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد ﷺ، ولذلك نصب قوله: فقليلا لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانًا قليلاً ما يؤمنون، فقد تبين إذًا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك". ورجحه في "البحر" 1/ 302 قائلًا: لأن دلالة الفعل على مصدره أولى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة وعلى المفعول وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: ﴿فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلًا﴾ [النساء: 46].]]. الوجه الثاني: أن يكون المعنى: فيؤمنون قليلًا من الزَمَانِ ويكفرون أكثره، ودليل هذا التأويل: قوله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72]. فخّبر الله تعالى بقلة إيمانهم على معنى الوقت القصير الذي أظهروا فيه موافقة المسلمين ثم باينوهم بعده، وانتصب (قليلًا) في هذا الوجه؛ لأنه أقيم مقام الظرف، و (ما) في هذين الوجهين صلة. الوجه الثالث: أن يكون (ما) مع الفعل مصدرًا، ويرتفع بـ "قليل"، وهو مقدم، ومعناه: فقليلًا إيمانهم، كما قالوا: راكبًا لقَائِيك ومُجَرَّدًا ضَرْبِيكَ. والآيه رَدٌّ على القدرية؛ لأن الله تعالى بيّن أن كفرهم بسبب لعنه آباءهم، فالله تعالى لما لعنهم وطردهم وأراد كفرهم وشقاوتهم منعهم الإيمان [[قال القرطبي 2/ 23: ثم بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان: إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب