الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ مَخازِيَهم حَتّى خَتَمَها بِعَظِيمِ ما ارْتَكَبُوا مِنَ الرُّسُلِ مِنَ القَتْلِ المَعْنَوِيِّ بِالتَّكْذِيبِ والحِسِّيِّ بِإزْهاقِ الرُّوحِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّهم أتَوْا بِالبَيِّناتِ والآياتِ المُعْجِزاتِ فَأرْشَدَ المَقامُ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ فَقالُوا لِلْأنْبِياءِ لَمّا أتَوْهم أُمُورًا كَثِيرَةً يَعْجَبُ مِن صُدُورِها عَنْ عاقِلٍ وأتَوْا في الجَوابِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ وقَتْلِهِمْ مِنَ التَّناقُضاتِ بِما لا يَرْضاهُ عالِمٌ ولا جاهِلٌ عَطَفَ (p-٣٣)عَلَيْهِ أوْ عَلى ﴿وقالُوا لَنْ تَمَسَّنا النّارُ﴾ [البقرة: ٨٠] قَوْلَهُ: بَيانًا لِشِدَّةِ بُهْتِهِمْ وقُوَّةِ عِنادِهِمْ: ﴿وقالُوا﴾ في جَوابِ ما كانُوا يُلْقُونَ إلَيْهِمْ مِن جَواهِرِ العِلْمِ الَّتِي هي أوْضَحُ مِنَ الشَّمْسِ، ﴿قُلُوبُنا غُلْفٌ﴾ جَمْعُ أغْلَفَ وهو المُغَشّى الذَّكَرِ بِالقُلْفَةِ الَّتِي هي جِلْدَتُهُ، كَأنَّ الغُلْفَةَ في طَرَفَيِ المَرْءِ: ذَكَرِهِ وقَلْبِهِ، حَتّى يُتِمَّ اللَّهُ كَلِمَتَهُ في طَرَفَيْهِ بِالخِتانِ والإيمانِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ. فالمَعْنى: عَلَيْها أغْطِيَةٌ فَهي لا تَفْهَمُ ما تَقُولُونَ. فَكانَ المُرادُ بِذَلِكَ مَعَ أنَّهم أعْلَمُ (p-٣٤)النّاسِ أنَّ ما يَقُولُونَهُ لَيْسَ بِأهْلٍ لِأنْ يُوَجَّهُ إلَيْهِ الفَهْمُ، ولِذَلِكَ أضْرَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَلْ﴾ أيْ: لَيْسَ الأمْرُ كَما قالُوا مِن أنْ هُناكَ غُلْفًا حَقِيقَةً بَلْ ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: طَرَدَهُمُ المَلِكُ الأعْظَمُ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ لِأنَّهم لَيْسُوا بِأهْلٍ لِلسَّعادَةِ بَعْدَ أنْ خَلَقَهم عَلى الفِطْرَةِ الأُولى القَوِيمَةِ لا غُلْفَ عَلى قُلُوبِهِمْ، لِأنَّ اللَّعْنَ إبْعادٌ في المَعْنى والمَكانَةِ إلى أنْ يَصِيرَ المَلْعُونُ بِمَنزِلَةِ النَّعْلِ في أسْفَلِ القامَةِ يُلاقِي بِهِ ضَرَرَ المُوطى، قالَهُ الحَرالِّيُّ. ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: أعْظَمُ الذُّنُوبِ ما تَكُونُ عُقُوبَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْها الإلْزامَ بِذُنُوبٍ أشَدَّ مِنها، فَأعْقَبَ اسْتِكْبارَهُمُ اللَّعْنَ كَما كانَ في حَقِّ إبْلِيسَ مَعَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فانْتَظَمَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ إظْهارَ الشَّيْطَنَتَيْنِ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ الَّذِي انْخَتَمَ بِهِ القُرْآنُ في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ [الناس: ٦] لِيَتَّصِلَ طَرَفاهُ، فَيَكُونُ خَتْمًا لا أوَّلَ (p-٣٥)لَهُ ولا آخِرَ؛ والفاتِحَةُ مُحِيطَةٌ بِهِ لا يُقالُ: هي أوَّلُهُ ولا آخِرُهُ، ولِذَلِكَ خَتَمَ بَعْضُ القُرّاءِ بِوَصْلِهِ حَتّى لا يَتَبَيَّنَ لَهُ طَرَفٌ، كَما قالَتِ العَرَبِيَّةُ لَمّا سُئِلَتْ عَنْ بَنِيها: هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أيْنَ طَرَفاها، ولَمّا أخْبَرَ بِلَعْنِهِمْ سَبَّبَ عَنْهُ قَوْلَهُ: ﴿فَقَلِيلا ما يُؤْمِنُونَ﴾ فَوَصَفَهُ بِالقِلَّةِ وأكَّدَهُ بِما إيذانًا بِأنَّهُ مَغْمُورٌ بِالكُفْرِ لا غِناءَ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب