الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الآية، قال ابن عباس: كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمةً واحدةً كفارًا كلهم، وولد إبراهيم في جاهلية، فبعث الله إليهم إبراهيم وغيره من النبيين [[رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 376 من طريق العوفي، وذكره البغوي في "تفسيره" 1/ 243، "الدر المنثور" 1/ 435.]]. وقال الحسن [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 714، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، والواحدي في "الوسيط" 1/ 315، والرازي في "تفسيره" 6/ 133، "غرائب النيسابوري" 2/ 303.]] وعطاء [[انظر المصادر السابقة.]]: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر، كانوا كفارًا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله عز وجل نوحًا وإبراهيم وغيرهما من النبيين. قال ابن الأنباري: على هذا القول وإن كان فيما بينهم من لم يكن بهذا الوصف نحو: هابيل وإدريس، فإن الغالب كان الكفر، والحكم للأغلب والأعم، ولا يعتد بالقليل في الكثير، كما لا يعتد بالنبيذ القليل من الشعير في البر الكثير. وقال الكلبي [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 715، "البغوي" في "تفسيره" 1/ 243، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 22.]] والواقدي [[ذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 2/ 716، والقرطبي في "تفسيره" 3/ 22، وقد استظهر محقق "تفسير الثعلبي" أن المراد بالواقدي هنا: علي بن الحسين بن واقد القرشي ت 211، وله تفسير رواه الثعلبي وصرح به في مقدمة "تفسيره".]]: هم أهل سفينة نوح، كانوا مؤمنين كلهم، ثم اختلفوا بعد وفاة نوح فبعث الله النبيين. وقال ابن زيد [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 336.]]: لم يكونوا أمة واحدة إلا يومًا من الدهر، يذهب إلى الوقت الذي أخرجهم الله فيه من صلب آدم في صورة الذَّرِّ، حين قال لهم تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]. وهذا القول مروي عن أبي بن كعب [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 335، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 376، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 717، "الدر المنثور" 1/ 435.]]، وعلى هذين القولين يحتاج في الآية إلى إضمار، كأنه قال: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله، وهكذا في قراءة أبيٍّ [[ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 717.]] وابن مسعود [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 717، "الكشاف" 1/ 255، "المحرر الوجيز" 2/ 209.]]. وحكى الزجاج عن بعض أهل اللغة قال: كان كلُّ من بعث إليه الأنبياء كفارًا [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 284.]]، يريد: أن أمم الأنبياء الذين بعثوا إليهم كانوا كفارًا، كما كانت هذه الأمة قبل مبعث محمد ﷺ. وقال محمد بن إسحاق: ولدت حواء لآدم أربعين ولدًا ذكرًا وأنثى، في عشرين بطنًا، وكانوا أمة مسلمين فاختلفوا حين قتل أحد ابني آدم أخاه [[ينظر: "السيرة النبوية" لابن هشام، والذي في "تفسير الثعلبي" 2/ 717 - 718، وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق بن يسار: كان الناس أمة واحدة، يعني: آدم وحده، سمى الواحد بلفظ الجمع؛ لأنه أصل النسل، ثم خلق الله تعالى حواء ونشر منهما الناس، فكانوا مسلمين كلهم إلى أن قتل هابيل فاختلفوا حينئذ فبعث الله النبيين. وينظر قول مجاهد في "تفسيره" 1/ 104، والطبري في "تفسيره" 2/ 335.]]. وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ أي: الكتب، اسم الجنس أريد به الجمع [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 723، "الكشاف" 1/ 256، "المحرر الوجيز" 2/ 206.]]. وقوله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالعدل والصدق، وما فيه من البيان عن الحق من الباطل [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 723.]]. وقوله تعالى: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ قال أهل المعاني: هذا مجاز وتوسع، وحقيقته ليحكم منزل الكتاب، إلا أنه جعل اللفظ على الكتاب تفخيمًا له لما فيه من البيان [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 724، "تفسير القرطبي" 3/ 32.]]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ الكناية راجعة إلى الكتاب، والمراد بالكتاب المختلف فيه: التوراة والإنجيل [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 724.]]. وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ يعني: اليهود والنصارى، وهم الذين أوتوا الكتاب، والله تعالى كثيرًا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ، كقوله: ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ﴾ [المائدة: 5]، كأنه قال: وما اختلف في الكتاب إلا اليهود والنصارى [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "المحرر الوجيز" 2/ 210 - 211.]]. واختلافهم: كفر بعضهم بكتاب بعض بغيًا وحسدًا. ويحتمل أن يكون المراد باختلافهم: تحريفهم وتبديلهم؛ لأن اليهود بدلت التوراة، وعلى هذا المراد اليهود دون النصارى إن لم تبدل النصارى، والوجهان في الاختلاف ذكرهما الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 131، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "المحرر الوجيز" 2/ 211، "تفسير القرطبي" 3/ 32، "البحر المحيط" 2/ 136 - 137.]]. وقال بعضهم: الكناية راجعةٌ إلى محمد ﷺ، لأنه من جملة النبيين وداخل فيهم، وعلى هذا معنى الآية: وما اختلف في أمر محمد بعد وضوح الدلالات لهم بغيًا وحسدًا إلا اليهود الذين أوتوا الكتاب، وذلك أن المشركين وإن اختلفوا في أمر محمد فإنهم لم يفعلوا ذلك للبغي والحسد، ولم تأتهم البينات في شأن محمد ﷺ وصحة نبوته كما أتت اليهود. فاليهود مخصوصون من هذا الوجه الذي ذكرنا [[ينظر: "معاني القرآن" للنحاس 1/ 161، "تفسير الثعلبي" 2/ 725، "البحر المحيط" 2/ 136 - 137.]]، وهذا اختيار الزجاج، وقال في هذه الآية: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي؛ لأنهم عالمون بحقيقة أمره في كتبهم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 284.]]، ويجوز أن تعود الكناية إلى الحق كأنه قال: وما اختلف في الحق، وذلك الحق الذي اختلفوا فيه هو: إما محمد ﷺ، وإما كتابهم، فيعود المعنى إلى ما ذكرنا. وقوله تعالى ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ أي: إلى ما اختلفوا، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ [المجادلة: 3]، ويقال: هديته إلى الطريق وللطريق والطريقَ، قال الله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43] [[ينظر: "تفسيرالثعلبي" 2/ 726.]]. فإن قيل: ما معنى الهداية إلى ما اختلفوا فيه؟ فالجواب ما قال ابن الأنباري: إن هذا من باب حذف المضاف، أي: فهدى الله الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه. وقال الفراء: هذا من المقلوب، أراد: فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، وأنشد: إِن سِرَاجًا لكَرِيمٌ مَفْخَرُه ... تَحْلَى به العَيْنُ إذا ما تَجْهَرُه [[البيت غير منسوب، في "معاني القرآن" للفراء 1/ 131.]] أراد: يَحْلَى بالعين، لأنك تقول: حَلِيْتَ بعيني، فصرف فعل الرجل إلى العين [["معاني القرآن" للفراء 1/ 131 - 132 بمعناه.]]. وقال بعضهم: اختلفوا فيه حق لا باطل، فالهداية إليه يصح في المعنى، وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فكفر بعضهم بكتاب بعض، فهدى الله الذين آمنوا بالكتب كلها؛ لأن الكتب المنزلة كلها حق، ألا تري إلى قول ابن زيد في هذه الآية، قال: ثم اختلفوا في القبلة، فصلت اليهود إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، فهدانا الله عز وجل إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من يصوم بالليل، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله عز وجل له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، فهدانا الله عز وجل للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لفرية، وجعلته النصارى ربًّا، فهدانا الله عز وجل فيه للحق [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 339، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 378، والنحاس في "معاني القرآن" 1/ 163، والثعلبي في "تفسيره" 2/ 726، وينظر: "البحر المحيط" 2/ 138، "الدر المنثور" 1/ 436.]]. وقد قال النبي ﷺ: "كتب الله الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيها فهدانا الله لها، والناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا، والنصارى بعد غدٍ" [[أصله في الصحيحين من حديث أبي هريرة، رواه البخاري (876) كتاب الجمعة، باب: فرض الجمعة، ومسلم (855) كتاب الجمعة، باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة. وأوله عندهما: "نحن الآخرون السابقون".]]. وقوله تعالى: ﴿بِإِذْنِهِ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد كان ذلك في قضائي وقدري [[ذكره في "الوسيط" 1/ 317.]]، وقال بعضهم: بعلمه وإرادته فيهم، وهو قول الزجاج [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 285، "تفسير الثعلبي" 2/ 726.]]. وقال بعض أهل التفسير في قوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ﴾ يعني: أهل كل كتاب اختلفوا فيه بعد ما جاءهم البينات بغيًا بينهم ظلمًا وطلبًا للملك، ورفضوا الحكم بكتابهم، فعصم الله هذه الأمة من نقض حكم كتابها، ومخالفة ما فيه من الأحكام.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب