الباحث القرآني

﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهم فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ وزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤] ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِن خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ واليَتامى والمَساكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٥] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكم وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكم وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهو شَرٌّ لَكم واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١٦] ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرامِ وإخْراجُ أهْلِهِ مِنهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكم حَتّى يَرُدُّوكم عَنْ دِينِكم إنِ اسْتَطاعُوا ومَن يَرْتَدِدْ مِنكم عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وهو كافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧] ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨] (p-١٣٤)حَسِبَ: بِكَسْرِ السِّينِ، يَحْسَبُ بِفَتْحِها في المُضارِعِ وكَسْرِها: مِن أخَواتِ ظَنَّ، في طَلَبِها اسْمَيْنِ: هُما في مَشْهُورِ قَوْلِ النُّحاةِ: مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، ومَعْناها نِسْبَةُ الخَبَرِ عَنِ المُتَيَقَّنِ إلى المُسْنَدِ إلَيْهِ، وقَدْ يَأْتِي في المُتَيَقَّنِ قَلِيلًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎حَسِبْتُ التُّقى والجُودَ خَيْرَ تِجارَةٍ رَباحًا إذا ما المَرْءُ أصْبَحَ ثاقِلا ومَصْدَرُها: الحُسْبانُ، ويَأْتِي: حَسِبَ أيْضًا بِمَعْنى احْمَرَّ، تَقُولُ: حَسِبَ الرَّجُلُ يَحْسَبُ، وهو أحْسَبُ، كَما تَقُولُ: شَقِرَ فَهو أشْقَرُ، ولِحَسِبَ أحْكامٌ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. لَمّا الجازِمَةُ: حَرْفٌ، زَعَمُوا أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن: لَمْ وما، ولَها أحْكامٌ تُخالِفُ فِيها لَمْ؛ مِنها: أنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُ الفِعْلِ بَعْدَها إذا دَلَّ عَلى حَذْفِهِ المَعْنى، وذَلِكَ في فَصِيحِ الكَلامِ؛ ومِنها: أنَّهُ يَجِبُ اتِّصالُ نَفْيِها بِالحالِ؛ ومِنها: أنَّها لا تَدْخُلُ عَلى فِعْلِ شَرْطٍ ولا فِعْلِ جَزاءٍ. زَلْزَلَ: قَلْقَلَ وحَرَّكَ، وهو رُباعِيٌّ عِنْدَ المِصْرِيِّينَ كَدَحْرَجَ، هَذا النَّوْعُ مِنَ الرُّباعِيِّ فِيهِ خِلافٌ لِلْكُوفِيِّينَ والزَّجّاجِ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ. ماذا: إذا أُفْرِدَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما عَلى حالِها؛ كانَتْ ما: يُرادُ بِها الِاسْتِفْهامُ، وذا: لِلْإشارَةِ، وإنْ دَخَلَ التَّجَوُّزُ فَتَكُونُ ذا مَوْصُولَةً؛ لِمَعْنى الَّذِي والَّتِي وفُرُوعِها، وتَبْقى ”ما“ عَلى أصْلِها مِنَ الِاسْتِفْهامِ، فَتَفْتَقِرُ ذا - إذْ ذاكَ - إلى صِلَةٍ، وتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ: ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ؛ فَيَصِيرُ دَلالَةُ مَجْمُوعِهِما دَلالَةَ ما الِاسْتِفْهامِيَّةِ لَوِ انْفَرَدَتْ؛ ولِهَذا قالَتِ العَرَبُ: عَنْ ماذا تَسْألُ ؟ بِإثْباتِ ألْفِ ما، وقَدْ دَخَلَ عَلَيْها حَرْفُ الجَرِّ، وتَكُونُ مُرَكَّبَةً مَعَ ما المَوْصُولَةِ، أوْ ما النَّكِرَةِ المَوْصُوفَةِ؛ فَتَكُونُ دَلالَةُ مَجْمُوعِها دَلالَةَ ما المَوْصُولَةِ أوِ المَوْصُوفَةِ، لَوِ انْفَرَدَتْ دُونَ ذا، والوَجْهُ الآخَرُ هو عَنِ الفارِسِيِّ. الكُرْهُ، بِضَمِّ الكافِ وفَتْحِها، والكَراهِيَةُ والكَراهَةُ: مَصادِرٌ لِكَرِهَ، قالَهُ الزَّجّاجُ؛ بِمَعْنى: أبْغَضَ، وقِيلَ: الكُرْهُ، بِالضَّمِّ: ما كَرِهَهُ الإنْسانُ، والكَرْهُ، بِالفَتْحِ: ما أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وقِيلَ: الكُرْهُ، بِالضَّمِّ: اسْمُ المَفْعُولِ، كالخُبْرِ والنُّقْضِ بِمَعْنى المَخْبُورِ والمَنقُوضِ، والكَرْهُ، بِالفَتْحِ: المَصْدَرُ. عَسى: مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ، وهي فِعْلٌ، خِلافًا لِمَن قالَ هي حَرْفٌ، ولا تَتَصَرَّفُ، ووَزْنُها: فَعَلَ، فَإذا أُسْنِدَتْ إلى ضَمِيرِ مُتَكَلِّمٍ، أوْ مُخاطَبٍ مَرْفُوعٍ، أوْ نُونِ إناثٍ؛ جازَ كَسْرُ سِينِها ويُضْمَرُ فِيها لِلْغَيْبَةِ، نَحْوُ: عَسَيا وعَسَوْا، خِلافًا لِلرُّمّانِيِّ؛ ذَكَرَ الخِلافَ عَنْهُ ابْنُ زِيادٍ البَغْدادِيُّ، ولا يُخَصُّ حَذْفُ إنَّ مِنَ المُضارِعِ بِالشِّعْرِ، خِلافًا لِزاعِمِ ذَلِكَ، ولَها أحْكامٌ كَثِيرَةٌ ذُكِرَتْ في عِلْمِ النَّحْوِ، وهي: في الرَّجاءِ تَقَعُ كَثِيرًا، وفي الإشْفاقِ قَلِيلًا، قالَ الرّاغِبُ. الصَّدُّ: ناحِيَةُ الشِّعْبِ والوادِي المانِعِ السّالِكِ، وصَدَّهُ عَنْ كَذا كَأنَّما جَعَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يُرِيدُهُ صَدًّا يَمْنَعُهُ. انْتَهى. ويُقالُ: صَدَّ يَصُدُّ صُدُودًا: أعْرَضَ، وكانَ قِياسُهُ لِلُزُومِهِ يَصِدُّ، بِالكَسْرِ، وقَدْ سُمِعَ فِيهِ، وصَدَّهُ يَصُدُّهُ صَدًّا: مَنَعَهُ، وتَصَدّى لِلشَّيْءِ: تَعَرَّضَ لَهُ، وأصْلُهُ تَصَدَّدَ، نَحْوَ: تَظَنّى بِمَعْنى تَظَنَّنَ، فَوَزْنُهُ تَفَعَّلَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَفَعْلى، نَحْوَ: يَعَلْنى، فَتَكُونُ الألِفُ واللّامُ لِلْإلْحاقِ، وتَكُونُ مِن مُضاعَفِ اللّامِ. زالَ: مِن أخَواتِ كانَ، وهي الَّتِي مُضارِعُها: يَزالُ، وهي مِن ذَواتِ الياءِ، ووَزْنُها فَعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ عَيْنَها ياءٌ ما حَكاهُ الكِسائِيُّ في مُضارِعِها، وهو: يُزِيلُ، ولا تُسْتَعْمَلُ إلّا مَنفِيَّةً بِحَرْفِ نَفْيٍ، أوْ بِلَيْسَ، أوْ بِغَيْرَ، أوْ لا، لِنَهْيٍ أوْ دُعاءٍ. الحُبُوطُ: أصْلُهُ الفَسادُ، وحُبُوطُ العَمَلِ: بُطْلُهُ، وحَبِطَ بَطْنُهُ: انْتَفَخَ، والحَبَطاتُ: قَبِيلَةٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، والحَبَنْطى: المُنْتَفِخُ البَطْنِ. المُهاجَرَةُ: انْتِقالٌ مِن أرْضٍ إلى أرْضٍ، مُفاعَلَةٌ مِنَ الهَجْرِ. والمُجاهَدَةُ، مُفاعَلَةٌ مِن جَهِدَ: اسْتَخْرَجَ الجُهْدَ والِاجْتِهادَ. والتَّجاهُدُ: بَذْلُ الوُسْعِ والمَجْهُودِ، والجَهادُ بِالفَتْحِ: الأرْضُ الصُّلْبَةُ. * * * ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾، مُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّ إصْرارَ هَؤُلاءِ عَلى كُفْرِهِمْ هو حُبُّ الدُّنْيا، وأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذا الزَّمانِ الَّذِي بُعِثْتَ فِيهِ، بَلْ هَذا أمْرٌ كانَ في الأزْمِنَةِ المُتَقادِمَةِ؛ إذْ كانُوا عَلى حَقٍّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَغْيًا وحَسَدًا وتَنازُعًا في طَلَبِ (p-١٣٥)الدُّنْيا. والنّاسُ: القُرُونُ بَيْنَ آدَمَ ونُوحٍ، وهي عَشْرَةٌ كانُوا عَلى الحَقِّ، حَتّى اخْتَلَفُوا؛ فَبَعَثَ اللَّهُ نُوحًا فَمَن بَعْدَهُ. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ؛ أوْ: قَوْمُ نُوحٍ ومَن في سَفِينَتِهِ كانُوا مُسْلِمِينَ؛ أوْ: آدَمُ وحْدَهُ، عَنْ مُجاهِدٍ؛ أوْ: هو وحَوّاءُ؛ أوْ: بَنُو آدَمَ حِينَ أخْرَجَهم مِن ظَهْرِهِ نَسَمًا، كانُوا عَلى الفِطْرَةِ، قالَهُ أُبَيٌّ وابْنُ زَيْدٍ. أوْ: آدَمُ وبَنُوهُ كانُوا عَلى دِينِ حَقٍّ، فاخْتَلَفُوا مِن حِينِ قَتَلَ قابِيلُ هابِيلَ؛ أوْ: بَنُو آدَمَ مِن وقْتِ مَوْتِهِ إلى مَبْعَثِ نُوحٍ، كانُوا كُفّارًا أمْثالَ البَهائِمِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ؛ أوْ: قَوْمُ إبْراهِيمَ، كانُوا عَلى دِينِهِ إلى أنْ غَيَّرَهُ عَمْرُو بْنُ يَحْيى؛ أوْ: أهْلُ الكِتابِ مِمَّنْ آمَنَ بِمُوسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ - أوْ: قَوْمُ نُوحٍ حِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ، كانُوا كُفّارًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ أوِ: الجِنْسُ، كانُوا أُمَّةً واحِدَةً في خُلُوِّهِمْ عَنِ الشَّرائِعِ، لا أمْرَ عَلَيْهِمْ ولا نَهْيَ، أوْ صِنْفًا واحِدًا؛ فَكانَ المُرادُ: أنَّ الكُلَّ مِن جَوْهَرٍ واحِدٍ، وأبٍ واحِدٍ، ثُمَّ خَصَّ صِنْفًا مِنَ النّاسِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ، وإنْزالِ الكُتُبِ عَلَيْهِمْ تَكْرِيمًا لَهم، قالَهُ الماتُرِيدِيُّ، فَهَذِهِ اثْنا عَشَرَ قَوْلًا في النّاسِ. وأمّا في التَّوْحِيدِ فَخَمْسَةُ أقْوالٍ: إمّا في الإيمانِ، وإمّا في الكُفْرِ، وإمّا في الخِلْقَةِ عَلى الفِطْرَةِ، وإمّا في الخُلُوِّ عَنِ الشَّرائِعِ، وإمّا في كَوْنِهِمْ مِن جَوْهَرٍ واحِدٍ، وهو الأبُ. وقَدْ رُجِّحَ كَوْنُهم أُمَّةً واحِدَةً في الإيمانِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾، وإنَّما بُعِثُوا حِينَ الِاخْتِلافِ، ويُؤَكِّدُهُ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ ﴿أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: ١٩]، وبِقَوْلِهِ: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاتِّفاقَ كانَ حَصَلَ قَبْلَ البَعْثِ والإنْزالِ، وبِدَلالَةِ العُقُولِ؛ إذِ النَّظَرُ المُسْتَقِيمُ يُؤَدِّي إلى الحَقِّ، ويَكُونُ آدَمُ بُعِثَ إلى أوْلادِهِ، وكانُوا مُسْلِمِينَ، وبِالوِلادَةِ عَلى الفِطْرَةِ، وبِأنَّ أهْلَ السَّفِينَةِ كانُوا عَلى الحَقِّ، وبِإقْرارِهِمْ في يَوْمِ الذَّرِّ. ويَظْهَرُ أنَّ هَذا القَوْلَ هو الأرْجَحُ؛ لِقِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ؛ ولِلتَّصْرِيحِ بِهَذا المَحْذُوفِ في آيَةٍ أُخْرى، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ النّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: ١٩]، والقُرْآنُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وتَقَدَّمَ شَرْحُ ”أُمَّةً“ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ [البقرة: ١٢٨] . وفِي قِراءَةِ أُبَيٍّ: (كانَ البَشَرُ)، إشارَةً إلى أنَّهُ لا يُرادُ بِالنّاسِ مَعْهُودُونَ، ومَن جَعَلَ الِاتِّحادَ في الإيمانِ قَدَّرَ: فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ، ومَن جَعَلَ ذَلِكَ في الكُفْرِ لا يَحْتاجُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ؛ إذْ كانَتْ بَعْثَةُ النَّبِيِّينَ إلَيْهِمْ، وأوَّلُ الرُّسُلِ عَلى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ: نُوحٌ - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ - «يَقُولُ النّاسُ لَهُ: أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ»، المَعْنى: إلى قَوْمٍ كُفّارٍ؛ لِأنَّ آدَمَ قَبْلَهُ، وهو مُرْسَلٌ إلى بَنِيهِ يُعَلِّمُهُمُ الدِّينَ والإيمانَ. * * * ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ﴾، أيْ: أرْسَلَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِثَوابِ مَن أطاعَ، ومُنْذِرِينَ بِعِقابِ مَن عَصى، وقَدَّمَ البِشارَةَ لِأنَّها أبْهَجُ لِلنَّفْسِ، وأقْبَلُ لِما يُلْقِي النَّبِيُّ، وفِيها اطْمِئْنانُ المُكَلَّفِ، والوَعْدُ بِثَوابِ ما يَفْعَلُهُ مِنَ الطّاعَةِ، ومِنهُ: ﴿فَإنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: ٩٧]، وانْتِصابُ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ عَلى الحالِ المُقارِنَةِ. ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ﴾ مَعَهم: حالٌ مِنَ الكِتابِ، ولَيْسَ تَعْمَلُ فِيهِ أنْزَلَ؛ إذْ كانَ يَلْزَمُ مُشارَكَتُهم لَهُ في الإنْزالِ، ولَيْسُوا مُتَّصِفِينَ، وهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ، أيْ: وأنْزَلَ الكِتابَ مُصاحِبًا لَهم وقْتَ الإنْزالِ، لَمْ يَكُنْ مُصاحِبًا لَهم لَكِنَّهُ انْتَهى إلَيْهِمْ. والكِتابُ: إمّا أنْ تَكُونَ ”ألْ“ فِيهِ لِلْجِنْسِ، وإمّا أنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ، عَلى تَأْوِيلِ مَعَهم، بِمَعْنى مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم، أوْ عَلى تَأْوِيلِ أنْ يُرادَ بِهِ واحِدٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الكُتُبِ، وهو التَّوْراةُ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ، أُنْزِلَتْ عَلى مُوسى وحَكَمَ بِها النَّبِيُّونَ بَعْدَهُ، واعْتَمَدُوا عَلَيْها كالأسْباطِ وغَيْرِهِمْ، ويَضْعُفُ أنْ يَكُونَ مُفْرَدًا وُضِعَ مَوْضِعَ الجَمْعِ، وقَدْ قِيلَ بِهِ، ويُحْتَمَلُ بِالحَقِّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِـ ”أنْزَلَ“، أوْ بِمَعْنى ما في الكِتابِ مِن مَعْنى الفِعْلِ؛ لِأنَّهُ يُرادُ بِهِ المَكْتُوبُ، أوْ بِمَحْذُوفٍ؛ فَيَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الكِتابِ، أيْ: مَصْحُوبًا بِالحَقِّ، وتَكُونُ حالًا مُؤَكِّدَةً؛ لِأنَّ كُتُبَ اللَّهِ المُنَزَّلَةَ يَصْحَبُها الحَقُّ ولا يُفارِقُها، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾ . ولا يُقالُ: إنَّ البِشارَةَ والنِّذارَةَ إنَّما يَكُونانِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، وهُما إنَّما يُسْتَفادانِ مِن إنْزالِ الكُتُبِ (p-١٣٦)فَلِمَ قُدِّما عَلى الإنْزالِ مَعَ أنَّهُما ناشِئانِ عَنْهُ ؟ لِأنَّهُ ذَلِكَ لا يَلْزَمُ، لِأنَّ البِشارَةَ والنِّذارَةَ قَدْ يَكُونانِ ناشِئَيْنِ عَنْ غَيْرِ الكُتُبِ مِن وحْيِ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ دُونَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كِتابًا يُتْلى ويُكْتَبُ، ولَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَكانَ تَقْدِيمُهُما هو الأوْلى؛ لِأنَّهُما حالانِ مِنَ النَّبِيِّينَ، فَناسَبَ اتِّصالُهُما بِهِمْ، وإنْ كانا ناشِئَيْنِ عَنْ إنْزالِ الكُتُبِ. وقالَ القاضِي: الوَعْدُ والوَعِيدُ مِنَ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - قَبْلَ بَيانِ الشَّرْعِ مُمْكِنٌ فِيما يَتَّصِلُ بِالعَقْلِيّاتِ مِن مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، وتَرْكِ الظُّلْمِ وغَيْرِهِما، انْتَهى كَلامُهُ. وما ذُكِرَ لا يَظْهَرُ؛ لِأنَّ الوَعْدَ بِالثَّوابِ والوَعِيدَ بِالعِقابِ لَيْسا مِمّا يَقْضِي بِهِما العَقْلُ وحْدَهُ عَلى جِهَةِ الوُجُوبِ، وإنَّما ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الجَوازِ، ثُمَّ أتى الشَّرْعُ بِهِما، فَصارَ ذَلِكَ الجائِزُ في العَقْلِ واجِبًا بِالشَّرْعِ، وما كانَ بِجِهَةِ الإمْكانِ العَقْلِيِّ لا يَتَّصِفُ بِهِ النَّبِيُّ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ إلّا بَعْدَ الوَحْيِ قَطْعًا؛ فَإذَنْ يَتَقَدَّمُ الوَحْيُ بِالوَعْدِ والوَعِيدِ عَلى ظُهُورِ البِشارَةِ والنِّذارَةِ مِمَّنْ أُوحِيَ إلَيْهِ قَطْعًا. قالَ القاضِي: وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا نَبِيَّ إلّا ومَعَهُ كِتابٌ مُنَزَّلٌ فِيهِ بَيانُ الحَقِّ، طالَ ذَلِكَ الكِتابُ أوْ قَصُرَ، دُوِّنَ أوْ لَمْ يُدَوَّنْ، كانَ مُعْجِزًا أوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأنَّ كَوْنَ الكِتابِ مَنَزَّلًا مَعَهم لا يَقْضِي شَيْئًا مِن ذَلِكَ. انْتَهى كَلامُهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ في: أنْزَلَ، فَيَكُونُ بِمَعْنى: جَعَلَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾ [الحديد: ٢٥]، ولَمّا كانَ الإنْزالُ الكَثِيرُ مِنهم نُسِبَ إلى الجَمِيعِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ في الكِتابِ؛ فَيَكُونُ بِمَعْنى المُوحى بِهِ، ولَمّا كانَ كَثِيرًا مِمّا أوْحى بِهِ بِكُتُبٍ، أطْلَقَ عَلى الجَمِيعِ الكِتابَ؛ تَسْمِيَةً لِلْمَجْمُوعِ بِاسْمِ كَثِيرٍ مِن أجْزائِهِ. * * * ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، اللّامُ لامُ العِلَّةِ، ويَتَعَلَّقُ بِأنْزَلَ، والضَّمِيرُ في: لِيَحْكُمَ، عائِدٌ عَلى اللَّهِ في قَوْلِهِ: فَبَعَثَ اللَّهُ، وهو المُضْمَرُ في: أنْزَلَ، وهَذا هو الظّاهِرُ، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى أنْزَلَ الكِتابَ لِيَفْصِلَ بِهِ بَيْنَ النّاسِ، وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الكِتابِ، أيْ: لِيَحْكُمَ الكِتابُ بَيْنَ النّاسِ، ونِسْبَةُ الحُكْمِ إلَيْهِ مَجازٌ، كَما أسْنَدَ النُّطْقَ إلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩]، وكَما قالَ: ؎ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ نَسِيجَها وقَضى عَلَيْكَ بِهِ الكِتابُ المُنْزَلُ ولِأنَّ الكِتابَ هو أصْلُ الحُكْمِ، فَأُسْنِدَ إلَيْهِ رَدًّا لِلْأصْلِ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ النَّبِيَّ، قالَ: لِيَحْكُمَ اللَّهُ أوِ الكِتابُ أوِ النَّبِيُّ المُنَزَّلُ عَلَيْهِ، وإفْرادُ الضَّمِيرِ يُضْعِفُ ذَلِكَ، عَلى أنْ يَحْتَمِلَ ما قالَهُ، فَيَعُودُ عَلى أفْرادِ الجَمْعِ، أيْ: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بِكِتابِهِ، ولا حاجَةَ إلى هَذا التَّكَلُّفِ مَعَ ظُهُورِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلى اللَّهِ تَعالى، ويُبَيِّنُ عَوْدَهُ عَلى اللَّهِ تَعالى قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ فِيما ذَكَرَ مَكِّيٌّ: لِنَحْكُمَ، بِالنُّونِ، وهو مُتَعَيِّنٌ عَوْدُهُ عَلى اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ ذَلِكَ التِفاتًا إذْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ الغائِبِ في أنْزَلَ، إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ، وظَنَّ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ القِراءَةَ تَصْحِيفًا، قالَ ما مَعْناهُ لِأنَّ مَكِّيًّا لَمْ يَحْكِ عَنِ الجَحْدَرِيِّ قِراءَتَهُ الَّتِي نَقَلَ النّاسُ عَنْهُ، وهي: ”لِيُحْكَمَ“، عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، ونَقَلَ مَكِّيٌّ لِنَحْكُمَ بِالنُّونِ. وفي القِراءَةِ الَّتِي نَقَلَ النّاسُ مِن قَوْلِهِ: ”ولِيَحْكُمَ“، حُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، والأوْلى أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى، قالُوا: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكِتابُ أوِ النَّبِيُّونَ. وهي: ظَرْفُ مَكانٍ، وهو هُنا مَجازٌ، وانْتِصابُهُ بِقَوْلِهِ: لِيَحْكُمَ، وفِيما: مُتَعَلِّقٌ بِهِ أيْضًا، وفِيهِ: مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفُوا، والهاءُ عائِدَةٌ عَلى ما المَوْصُولَةِ، والمُرادُ بِها الدِّينُ والإسْلامُ، أيْ: لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ في الدِّينِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدَ الِاتِّفاقِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أوْ دِينُهُ، أوْ هُما، أوْ كِتابُهُ. * * * ﴿وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾، الضَّمِيرُ مِن قَوْلِهِ: وما اخْتَلَفَ فِيهِ، يَعُودُ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ في: فِيهِ الأُولى، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّها عائِدَةٌ عَلى ما، وشَرْحُ ما المَعْنِيُّ بِما، أهُوَ الدِّينُ، أمْ مُحَمَّدٌ ﷺ ؟ أمْ دِينُهُ ؟ أمْ هُما ؟ أمْ كِتابُهُ ؟ والضَّمِيرُ في: أُوتُوهُ، عائِدٌ إذْ ذاكَ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ في: فِيهِ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ في: فِيهِ، عائِدٌ عَلى الكِتابِ، وأُتُوهُ عائِدٌ أيْضًا عَلى الكِتابِ، التَّقْدِيرُ: وما اخْتَلَفَ في الكِتابِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أيْ: أُوتُوا الكِتابَ. وقالَ الزَّجّاجُ: الضَّمِيرُ (p-١٣٧)فِي: فِيهِ الثّانِيَةُ يَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ أيْ: وما اخْتَلَفَ في النَّبِيِّ ﷺ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ، أيْ: أُوتُوا عِلْمَ نُبُوَّتِهِ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْبَغْيِ، وعَلى هَذا يَكُونُ الكِتابُ: التَّوْراةُ، والَّذِينَ أُوتُوهُ: اليَهُودُ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في: فِيهِ، عائِدٌ عَلى ما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِن حُكْمِ التَّوْراةِ والقِبْلَةِ وغَيْرِهِما، وقِيلَ: يَعُودُ الضَّمِيرُ في: فِيهِ، عَلى عِيسى - صَلّى اللَّهُ عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الدِّينِ، أيْ: وما اخْتَلَفَ في الدِّينِ. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ مِن سِياقِ الكَلامِ وحُسْنِ التَّرْكِيبِ أنَّ الضَّمائِرَ كُلَّها في: أُوتُوهُ، وفِيهِ الأُولى، والثّانِيَةُ يَعُودُ عَلى: ما المَوْصُولَةِ في قَوْلِهِ: فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ، وأنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، مَفْهُومُهُ: كُلُّ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَرْجِعُهُ إلى اللَّهِ، بَيَّنَهُ بِما نَزَلَ في الكِتابِ، أوْ إلى الكِتابِ؛ إذْ فِيهِ جَمِيعُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ المُكَلَّفُ، أوْ إلى النَّبِيِّ يُوَضِّحُهُ بِالكِتابِ عَلى الأقْوالِ الَّتِي سَبَقَتْ في الفاعِلِ في قَوْلِهِ: (لِيَحْكُمَ) . والَّذِينَ أُوتُوهُ أرْبابُ العِلْمِ بِهِ والدِّراسَةِ لَهُ، وخَصَّهم بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا مِنهُ عَلى شَناعَةِ فِعْلِهِمْ، وقَبِيحِ ما فَعَلُوهُ مِنَ الِاخْتِلافِ؛ ولِأنَّ غَيْرَهم تَبَعٌ لَهم في الِاخْتِلافِ، فَهم أصْلُ الشَّرِّ، وأتى بِلَفْظِ: مِن، الدّالَّةِ عَلى ابْتِداءِ الغايَةِ مُنَبَّهًا عَلى أنَّ اخْتِلافَهم مُتَّصِلٌ بِأوَّلِ زَمانِ مَجِيءِ البَيِّناتِ، لَمْ يَقَعْ مِنهُمُ اتِّفاقٌ عَلى شَيْءٍ بَعْدَ المَجِيءِ، بَلْ بِنَفْسِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ اخْتَلَفُوا، لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُما فَتْرَةٌ، والبَيِّناتُ: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ؛ فالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، أوْ جَمِيعُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ؛ فالَّذِينَ أُوتُوهُ عُلَماءُ كُلِّ مِلَّةٍ، أوْ ما في التَّوْراةِ مِن صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ والَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ اليَهُودُ، أوْ مُعْجِزاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والَّذِينَ أُوتُوهُ جَمِيعُ الأُمَمِ، أوْ مُحَمَّدٌ ﷺ والَّذِينَ أُوتُوهُ مَن بُعِثَ إلَيْهِمْ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ البَيِّناتِ هي ما أوْضَحَتْهُ الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ عَلى أنْبِياءِ الأُمَمِ المُوجِبَةِ الِاتِّفاقَ وعَدَمَ الِاخْتِلافِ، فَجَعَلُوا مَجِيءَ الآياتِ البَيِّناتِ سَبَبًا لِاخْتِلافِهِمْ، وذَلِكَ أشْنَعُ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ رَتَّبُوا عَلى الشَّيْءِ خِلافَ مُقْتَضاهُ. ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلافَ الَّذِي كانَ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ لَيْسَ لِمُوجِبٍ ولا داعٍ إلّا مُجَرَّدَ البَغْيِ والظُّلْمِ والتَّعَدِّي. وانْتِصابُ ”بَغْيًا“ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، و”بَيْنَهم“ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ، فَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، أيْ: كائِنًا بَيْنَهم، وأبْعَدَ مَن قالَ إنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: باغِينَ، والمَعْنى: أنَّ الحامِلَ عَلى الِاخْتِلافِ هو البَغْيُ؛ وسَبَبُ هَذا البَغْيِ حَسَدُهم لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى النُّبُوَّةِ، أوْ كَتْمُهم صِفَتَهُ الَّتِي في التَّوْراةِ، أوْ طَلَبُهُمُ الدُّنْيا والرِّئاسَةَ، فِيها أقْوالٌ: فالأوَّلانِ يَخْتَصّانِ بِمَن يَحْضُرُهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن أهْلِ الكِتابِ وغَيْرِهِمْ، والثّالِثُ: يَكُونُ لِسائِرِ الأُمَمِ المُخْتَلِفِينَ، وإنْزالُ الكُتُبِ كانَ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلافِ الأوَّلِ؛ ولِذَلِكَ قالَ: ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، والِاخْتِلافُ الثّانِي المَعْنِيُّ بِهِ ازْدِيادُ الِاخْتِلافِ، أوْ دَيْمُومَةُ الِاخْتِلافِ - إذا فَسَّرْنا أُوتُوهُ بِأُوتُوا الكِتابَ - فَهَذا الِاخْتِلافُ يَكُونُ بَعْدَ إيتاءِ الكِتابِ، وقِيلَ: بِجُحُودِ ما فِيهِ، وقِيلَ: بِتَحْرِيفِهِ. وفِي قَوْلِهِ ”بَغْيًا“ إشارَةٌ إلى حَصْرِ العِلَّةِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ الِاخْتِلافَ بَعْدَ إنْزالِ الكِتابِ كانَ لِيَزُولَ بِهِ الِاخْتِلافُ الَّذِي كانَ قَبْلَهُ. وفي قَوْلِهِ: ”البَيِّناتُ“ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الدَّلائِلَ العَقْلِيَّةَ المُرَكَّبَةَ في الطِّباعِ السَّلِيمَةِ، والدَّلائِلَ السَّمْعِيَّةَ الَّتِي جاءَتْ في الكِتابِ قَدْ حَصَلا، ولا عُذْرَ في العُدُولِ والإعْراضِ عَنِ الحَقِّ، لَكِنْ عارَضَ هَذا الدَّلِيلَ القَطْعِيَّ ما رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ البَغْيِ والحَسَدِ والحِرْصِ عَلى الِاسْتِيثارِ بِالدُّنْيا، وإلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ: اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ، وهو فاعِلُ اخْتَلَفَ، ومِن بَعْدِ ما جاءَهم، مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ، وبَغْيًا مَنصُوبٌ بِاخْتَلَفَ، هَذا قَوْلُ بَعْضِهِمْ، قالَ: ولا يُمْنَعُ إلّا مِن ذَلِكَ، كَما تَقُولُ: ما قامَ زَيْدٌ إلّا يَوْمَ الجُمُعَةِ. انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا فِيهِ نَظَرٌ؛ وذَلِكَ أنَّ المَعْنى عَلى الِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ في الفاعِلِ، وفي المَجْرُورِ، وفي المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ؛ إذِ المَعْنى: وما اخْتَلَفَ فِيهِ إلّا الَّذِينَ أُوتُوهُ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ إلّا بَغْيًا بَيْنَهم. فَكُلُّ واحِدٍ مِنَ الثَّلاثَةِ مَحْصُورٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صارَتْ أداةُ الِاسْتِفْهامِ مُسْتَثْنى بِها (p-١٣٨)شَيْئانِ دُونَ الأوَّلِ مِن غَيْرِ عَطْفٍ، وهو لا يَجُوزُ، وإنَّما جازَ مَعَ العَطْفِ لِأنَّ حَرْفَ العَطْفِ يَنْوِي بَعْدَها إلّا، فَصارَتْ كالمَلْفُوظِ بِها، فَإنْ جاءَ ما يُوهِمُ ذَلِكَ جُعِلَ عَلى إضْمارِ عامِلٍ؛ ولِذَلِكَ تَأوَّلُوا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] ﴿بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ [النحل: ٤٤]، عَلى إضْمارِ فِعْلِ التَّقْدِيرِ: أرْسَلْناهم بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ، ولَمْ يَجْعَلُوا بِالبَيِّناتِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وما أرْسَلْنا، لِئَلّا يَكُونَ: إلّا، قَدِ اسْتُثْنِيَ بِها شَيْئانِ: أحَدُهُما رِجالًا، والآخَرُ بِالبَيِّناتِ، مِن غَيْرِ عَطْفٍ. وقَدْ مَنَعَ أبُو الحَسَنِ وأبُو عَلِيٍّ: ما أخَذَ أحَدٌ إلّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، وما ضَرَبَ القَوْمُ إلّا بَعْضُهم بَعْضًا، واخْتَلَفا في تَصْحِيحِها، فَصَحَّحَها أبُو الحَسَنِ بِأنْ يُقَدَّمَ عَلى المَرْفُوعِ الَّذِي بَعْدَها فَيَقُولُ: ما أخَذَ أحَدٌ زَيْدٌ إلّا دِرْهَمًا، فَيَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِن أحَدٍ، ويَكُونُ إلّا قَدِ اسْتُثْنِيَ بِها شَيْءٌ واحِدٌ، وهو الدِّرْهَمُ، ويَكُونُ إلّا دِرْهَمًا اسْتِثْناءً مُفَرَّغًا مِنَ المَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ، ويَصِيرُ المَعْنى: ما أخَذَ زَيْدٌ شَيْئًا إلّا دِرْهَمًا. وتَصْحِيحُها عِنْدَ أبِي عَلِيٍّ بِأنْ يَزِيدَ فِيها مَنصُوبًا قَبْلَ إلّا فَيَقُولُ: ما أخَذَ أحَدٌ شَيْئًا إلّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، و: ما ضَرَبَ القَوْمُ أحَدًا إلّا بَعْضُهم بَعْضًا؛ فَيَكُونُ المَرْفُوعُ بَدَلًا مِنَ المَرْفُوعِ، والمَنصُوبُ بَدَلًا مِنَ المَنصُوبِ، هَكَذا خَرَّجَهُ بَعْضُهم. قالَ ابْنُ السَّرّاجِ: أعْطَيْتُ النّاسَ دِرْهَمًا إلّا عَمْرًا، جائِزٌ، ولا يَجُوزُ أعْطَيَتُ النّاسَ دِرْهَمًا إلّا عَمْرًا الدَّنانِيرا، لِأنَّ الحَرْفَ لا يُسْتَثْنى بِهِ إلّا واحِدٌ، فَإنْ قُلْتَ: ما أعْطَيْتُ النّاسَ دِرْهَمًا إلّا عَمْرًا دانِقًا، عَلى الِاسْتِثْناءِ لَمْ يَجُزْ، أوْ عَلى البَدَلِ جازَ، فَتُبْدِلُ عَمْرًا مِنَ النّاسِ، ودانِقًا مِن دِرْهَمٍ، كَأنَّكَ قُلْتَ: ما أعْطَيْتُ إلّا عَمْرًا دانِقًا. ويَعْنِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى عَلى الحَصْرِ في المَفْعُولَيْنِ. قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: ما قالَهُ ابْنُ السَّرّاجِ فِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأنَّ البَدَلَ في الِاسْتِثْناءِ لا بُدَّ مِنَ اقْتِرانِهِ بِإلّا، فَأشْبَهَ المَعْطُوفَ بِحَرْفٍ، فَكَما لا يَقَعُ بَعْدَهُ مَعْطُوفانِ لا يَقَعُ بَعْدَ إلّا بَدَلانِ. انْتَهى كَلامُهُ. وأجازَ قَوْمٌ أنْ يَقَعَ بَعْدَ إلّا مُسْتَثْنَيانِ دُونَ عَطْفٍ، والصَّحِيحُ أنَّهُ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ إلّا هي مِن حَيْثُ المَعْنى مُعَدَّيَةٌ، ولَوْلا إلّا لَما جازَ لِلِاسْمِ بَعْدَها أنْ يَتَعَلَّقَ بِما قَبْلَها، فَهي كَواوِ مَعَ، وكالهَمْزَةِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلتَّعْدِيَةِ في بِنْيَةِ الفِعْلِ، فَكَما أنَّهُ لا تُعَدّى واوُ مَعَ ولا الهَمْزَةُ لِغَيْرِ مَطْلُوبِها الأوَّلِ إلّا بِحَرْفِ عَطْفٍ، فَكَذَلِكَ إلّا، وعَلى هَذا الَّذِي مَهَّدْناهُ يَتَعَلَّقُ: مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ، ويَنْتَصِبُ: بَغْيًا، بِعامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ، وتَقْدِيرُهُ: اخْتَلَفُوا فِيهِ مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَيْنَهم. * * * ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإذْنِهِ﴾، الَّذِينَ آمَنُوا: هم مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ والضَّمِيرُ: فِيما اخْتَلَفُوا، عائِدٌ عَلى الَّذِينَ أُوتُوهُ، أيْ: لَمّا اخْتَلَفَ فِيهِ مَنِ اخْتَلَفَ، ومِنَ الحَقِّ تَبْيِينُ المُخْتَلَفِ فِيهِ، و”مَن“ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ؛ لِأنَّها في مَوْضِعِ الحالِ مِن ”ما“ فَتَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ عَلى قَوْلِ مَن يَرى ذَلِكَ، التَّقْدِيرُ: لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ الَّذِي هو الحَقُّ. والأحْسَنُ أنْ يُحْمَلَ المُخْتَلَفُ فِيهِ هُنا عَلى الدِّينِ والإسْلامِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الإسْلامِ. وقَدْ حُمِلَ هَذا المُخْتَلَفُ فِيهِ عَلى غَيْرِ هَذا، وفي تَعْيِينِهِ خِلافٌ: أهُوَ الجُمُعَةُ ؟ جَعَلَها اليَهُودُ السَّبْتَ، والنَّصارى الأحَدَ، وكانَتْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَما فُرِضَتْ عَلَيْنا ؟ وفي الصَّحِيحَيْنِ: (نَحْنُ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ القِيامَةِ؛ بَيْدَ أنَّهم أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ) . فَهَذا اليَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدانا اللَّهُ لَهُ، قالَ: يَوْمُ الجُمُعَةِ: فاليَوْمُ لَنا وغَدًا لِلْيَهُودِ، وبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصارى. أوِ الصَّلاةُ ؟ فَمِنهم مَن يُصَلِّي إلى المَشْرِقِ، ومِنهم مَن يُصَلِّي إلى المَغْرِبِ، فَهَدى اللَّهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ إلى القِبْلَةِ، قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. أوْ إبْراهِيمُ - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ. قالَتِ النَّصارى: كانَ نَصْرانِيًّا، وقالَتِ اليَهُودُ: كانَ يَهُودِيًّا، فَهَدى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ لِدِينِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا﴾ [آل عمران: ٦٧]، أوْ عِيسى - عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِ السَّلامُ. جَعَلَتْهُ اليَهُودُ لَعْنَةً، وجَعَلَتْهُ النَّصارى إلَهًا، فَهَدانا اللَّهُ تَعالى لِقَوْلِ الحَقِّ فِيهِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. أوِ الكُتُبُ الَّتِي آمَنُوا بِبَعْضِها وكَفَرُوا بِبَعْضِها. أوِ الصِّيامُ. اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدانا اللَّهُ لِشَهْرِ رَمَضانَ. فَهَذِهِ سِتَّةُ (p-١٣٩)أقْوالٍ غَيْرِ الأوَّلِ. وقالَ الفَرّاءُ: في الكَلامِ قَلْبٌ، وتَقْدِيرُهُ: فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِلْحَقِّ مِمّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ودَعاهُ إلى هَذا التَّقْدِيرِ خَوْفُ أنْ يُحْتَمَلَ اللَّفْظُ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في الحَقِّ، فَهَدى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ، وعَساهُ غَيْرَ الحَقِّ في نَفْسِهِ، قالَ: وادِّعاءُ القَلْبِ عَلى لَفْظِ كِتابِ اللَّهِ دُونَ ضَرُورَةٍ تَدْفَعُ إلى ذَلِكَ عَجْزٌ وسُوءُ نَظَرٍ؛ وذَلِكَ أنَّ الكَلامَ يَتَخَرَّجُ عَلى وجْهِهِ ورَصْفِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ”فَهَدى“ يَقْتَضِي أنَّهم أصابُوا الحَقَّ، وتَمَّ المَعْنى في قَوْلِهِ ”فِيهِ“، وتَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ ”مِنَ الحَقِّ“ جِنْسُ ما وقَعَ الخِلافُ فِيهِ. قالَ المَهْدَوِيُّ: وقَدَّمَ لَفْظَ الخِلافِ عَلى لَفْظِ الحَقِّ اهْتِمامًا؛ إذِ العِنايَةُ إنَّما هي بِذِكْرِ الخِلافِ. انْتَهى كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ، وهو حَسَنٌ. والقَلْبُ عِنْدَ أصْحابِنا يَخْتَصُّ بِضَرُورَةِ الشِّعْرِ؛ فَلا نُخَرِّجُ كَلامَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وبِإذْنِهِ: مَعْناهُ بِعِلْمِهِ، قالَهُ الزَّجّاجُ، أوْ: بِأمْرِهِ وتَوْفِيقِهِ، أوْ بِتَمْكِينِهِ، أقْوالٌ مَرَّتْ مُشْبِعًا الكَلامَ عَلَيْها، في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٩٧]، ويَتَعَلَّقُ بِإذْنِهِ بِقَوْلِهِ: ”فَهَدى اللَّهُ“، وأبْعَدَ مَن أضْمَرَ لَهُ فِعْلًا مُطاوِعًا تَقْدِيرُهُ: ”فاهْتَدَوْا بِإذْنِهِ“، وهو قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ؛ إذْ لا حاجَةَ لِهَذا الإضْمارِ. * * * ﴿واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، في هَذِهِ الجُمْلَةِ وما قَبْلَها دَلِيلٌ عَلى أنَّ هُدى العَبْدِ إنَّما يَكُونُ مِنَ اللَّهِ لِمَن يَشاءُ لَهُ الهِدايَةَ، ورُدَّ عَلى المُعْتَزِلَةِ في زَعْمِهِمْ أنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِهُدى نَفْسِهِ، وتَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ في قَوْلِهِ: واللَّهُ، جاءَ عَلى الطَّرِيقَةِ الفُصْحى الَّتِي هي اسْتِقْلالُ كُلِّ جُمْلَةٍ، وذَلِكَ أوْلى مِن أنْ يَفْتَقِرَ بِالإضْمارِ إلى ما قَبْلَها مِن مُفَسِّرِ ذَلِكَ المُضْمَرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لِذَلِكَ نَظائِرُ. وفي قَوْلِهِ: ”مَن يَشاءُ“ إشْعارٌ، بَلْ دَلالَةٌ عَلى أنَّ هِدايَتَهُ تَعالى مَنشَؤُها الإرادَةُ فَقَطْ، لا وصْفٌ ذاتِيٌّ في الَّذِي يَهْدِيهِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الهِدايَةَ، بَلْ ذَلِكَ مَغْدُوقٌ بِإرادَتِهِ تَعالى فَقَطْ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] . ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٤]، نَزَلَتْ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ حِينَ أصابَ المُسْلِمِينَ ما أصابَ مِنَ الجَهْدِ وشِدَّةِ الخَوْفِ والبَرْدِ وأنْواعِ الأذى، كَما قالَ تَعالى: ﴿وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾ [الأحزاب: ١٠]، قالَهُ قَتادَةُ، والسُّدِّيُّ. أوْ في حَرْبِ أُحُدٍ، قُتِلَ فِيها جَماعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وجَرَتْ شَدائِدُ حَتّى قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ: إلى مَتى تَقْتُلُونَ أنْفُسَكم وتُهْلِكُونَ أمْوالَكم ؟ لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَما سُلِّطَ عَلَيْكُمُ القَتْلُ والأسْرُ. فَقالُوا: لا جَرَمَ، مَن قُتِلَ مِنّا دَخَلَ الجَنَّةَ. فَقالَ: إلى مَتى تَسْألُونَ أنْفُسَكم بِالباطِلِ ؟ أوْ: في أوَّلِ ما هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ، دَخَلُوها بِلا مالٍ، وتَرَكُوا دِيارَهم وأمْوالَهم بِأيْدِي المُشْرِكِينَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم، فَأظْهَرَتِ اليَهُودُ العَداوَةَ، وأسَرَّ قَوْمٌ النِّفاقَ. قالَهُ عَطاءٌ. قِيلَ: ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ قالَ: يَهْدِي مَن يَشاءُ، والمُرادُ إلى الحَقِّ الَّذِي يُفْضِي اتِّباعُهُ إلى الجَنَّةِ، فَبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِاحْتِمالِ الشَّدائِدِ والتَّكْلِيفِ؛ أوْ: لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ هَداهم بَيَّنَ أنَّهُ بَعْدَ تِلْكَ الهِدايَةِ احْتَمَلُوا الشَّدائِدَ في إقامَةِ الحَقِّ، فَكَذا أنْتُمْ - أصْحابَ مُحَمَّدٍ - لا تَسْتَحِقُّونَ الفَضِيلَةَ في الدِّينِ إلّا بِتَحَمُّلِ هَذِهِ المِحَنِ. و”أمْ“ هُنا مُنْقَطِعَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِبَلْ والهَمْزَةِ فَتَتَضَمَّنُ إضْرابًا، وهو انْتِقالٌ مِن كَلامٍ إلى كَلامٍ، ويَدُلُّ عَلى اسْتِفْهامٍ لَكِنَّهُ اسْتِفْهامُ تَقْرِيرٍ، وهي الَّتِي عَبَّرَ عَنْها أبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ ”أمْ“ قَدْ تَجِيءُ ابْتِداءَ كَلامٍ - وإنْ لَمْ يَكُنْ تَقْسِيمٌ ولا مُعادَلَةٌ - ألِفَ اسْتِفْهامٍ. فَقَوْلُهُ ”قَدْ يَجِيءُ“ ابْتِداءُ كَلامٍ لَيْسَ كَما ذَكَرَ؛ لِأنَّها تَتَقَدَّرُ بِبَلْ والهَمْزَةِ، فَكَما أنَّ ”بَلْ“ لا بُدَّ أنْ يَتَقَدَّمَها كَلامٌ حَتّى يَصِيرَ في حَيِّزِ عَطْفِ الجُمَلِ، فَكَذَلِكَ ما تَضَمَّنَ مَعْناهُ. وزَعَمَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أنَّها تَأْتِي بِمَنزِلَةِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، ويُبْتَدَأُ بِها؛ فَهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أحَسِبْتُمْ ؟ وقالَ الزَّجّاجُ: بِمَعْنى بَلْ، قالَ: ؎بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحى وصَوَّرْتَها أمْ أنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ ؟ ورامَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنْ يَجْعَلَها مُتَّصِلَةً، ويَجْعَلَ قَبْلَها جُمْلَةً مُقَدَّرَةً تَصِيرُ بِتَقْدِيرِها أمْ مُتَّصِلَةً، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ: فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ، فَصَبَرُوا عَلى اسْتِهْزاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهم ؟ أمْ تَحْسَبُونَ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ مِن غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ ؟ فَتَلَخَّصَ في أمْ هُنا أرْبَعَةُ أقْوالٍ: الِانْقِطاعُ (p-١٤٠)عَلى أنَّها بِمَعْنى بَلْ والهَمْزَةِ، والِاتِّصالُ عَلى إضْمارِ جُمْلَةٍ قَبْلَها، والِاسْتِفْهامُ بِمَعْنى الهَمْزَةِ، والإضْرابُ بِمَعْنى بَلْ؛ والصَّحِيحُ هو القَوْلُ الأوَّلُ. ومَفْعُولا ”حَسِبْتُمْ“ سَدَّتْ ”أنَّ“ مَسَدَّهُما عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وأمّا أبُو الحَسَنِ فَسَدَّتْ عِنْدَهُ مَسَدَّ المَفْعُولِ الأوَّلِ، والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٤٦] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب