الباحث القرآني
ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: هَلْ كانَ هَذا الكُفْرُ والتَّزْيِينُ مِن بَدْءِ الأمْرِ أمْ هو شَيْءٌ حَدَثَ فَيَكُونُ حُدُوثُهُ أعْجَبَ؟ فَقِيلَ: لا فَرْقَ عِنْدَ الحَكِيمِ بَيْنَ هَذا وذاكَ، فَإنَّ قُدْرَتَهُ عَلى الكَبِيرِ والصَّغِيرِ والجاهِلِ والعَلِيمِ والطّائِشِ والحَلِيمِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ عَلى أنَّ الواقِعَ أنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ حَدَثَ بَعْدَ البَيانِ والواضِحِ ﴿كانَ النّاسُ﴾ أيْ كُلُّهم ﴿أُمَّةً﴾ أيْ مُجْتَمِعِينَ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ يَؤُمُّ بَعْضُهم بَعْضًا ويَقْتَدِي بَعْضُهم بَعْضًا ثُمَّ أكَّدَ اجْتِماعَهم فَقالَ: ﴿واحِدَةً﴾ أيْ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ فَزَلَّ بَعْضُهم فاخْتَلَفُوا وتَفَرَّقَتْ بِهِمُ السُّبُلُ كَما في آيَةِ يُونُسَ ﴿وما كانَ النّاسُ إلا أُمَّةً واحِدَةً فاخْتَلَفُوا﴾ [يونس: ١٩] وعَلى هَذا أكْثَرُ المُحَقِّقِينَ كَما قالَهُ الأصْفَهانِيُّ وقَدْ رَواهُ أبُو يَعْلى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ مُتَّصِلٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: عَلى الإسْلامِ كُلُّهم.
(p-١٩٩)﴿فَبَعَثَ اللَّهُ﴾ أيِ الَّذِي لا حُكْمَ لِغَيْرِهِ ﴿النَّبِيِّينَ﴾ الَّذِينَ رَفَعَهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى بَقِيَّةِ خَلْقِهِ فَأنْبَأهم بِما يُرِيدُ مَن أمْرِهِ وأرْسَلَهم إلى خَلْقِهِ ﴿مُبَشِّرِينَ﴾ لِمَن أطاعَ، وهو جارٍ مَجْرى حِفْظِ الصِّحَّةِ، ولِأنَّهُ مَقْصُودٌ بِالذّاتِ قَدَّمَ ﴿ومُنْذِرِينَ﴾ لِمَن عَصى، وذَلِكَ جارٍ مَجْرى إزالَةِ المَرَضِ بِالدَّواءِ.
قالَ الحَرالِيُّ: فِيهِ إعْلامٌ بِأنَّهُ لَيْسَ لِلْأنْبِياءِ مِنَ الهِدايَةِ شَيْءٌ وإنَّما هم مُسْتَجْلُونَ لِأمْرِ جِبِلّاتِ الخَلْقِ وفِطَرِهِمْ فَيُبَشِّرُونَ مَن فُطِرَ عَلى خَيْرٍ ويُنْذِرُونَ مَن جُبِلَ عَلى شَرٍّ، لا يَسْتَأْنِفُونَ أمْرًا لَمْ يَكُنْ بَلْ يُظْهِرُونَ أمْرًا كانَ مَغِيبًا، وكَذَلِكَ حالُ كُلِّ إمامٍ وعالِمٍ في زَمانِهِ يَمِيزُ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطِّيبِ - انْتَهى.
﴿وأنْـزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ﴾ أيْ كَلامَهُ الجامِعَ لِلْهِدايَةِ.
قالَ الحَرالِيُّ: إبْرامًا لِثَنْيِ الأمْرِ المُضاعَفِ لِيَكُونَ الأمْرُ بِشاهِدِينَ أقْوى مِنهُ بِشاهِدٍ واحِدٍ فَقَدْ كانَ في الرَّسُولِ كِفايَةٌ وفي الكِتابِ وحْدَهُ كِفايَةٌ لَكِنَّ اللَّهَ تَعالى ثَنّى الأمْرَ وجَمَعَ الكِتابَ (p-٢٠٠)والرَّسُولَ لِتَكُونَ لَهُ الحُجَّةُ البالِغَةُ - انْتَهى.
﴿بِالحَقِّ﴾ أيِ الثّابِتِ كُلَّ ثَباتٍ ﴿لِيَحْكُمَ﴾ أيِ اللَّهُ بِواسِطَةِ الكِتابِ ﴿بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ مِنَ الدِّينِ الحَقِّ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ أُمَّةً واحِدَةً فَسَلَكُوا بِهِمْ بَعْدَ جَهْدِ السَّبِيلِ الأقْوَمِ ثُمَّ ضَلُّوا عَلى عِلْمٍ بَعْدَ مَوْتِ الرُّسُلِ فاخْتَلَفُوا في الدِّينِ لِاخْتِلافِهِمْ في الكِتابِ ﴿وما اخْتَلَفَ فِيهِ﴾ أيِ الكِتابِ الهادِي لِلْحَقِّ الَّذِي لا لَبْسَ فِيهِ المُنْزَلِ لِإزالَةِ الِاخْتِلافِ ﴿إلا الَّذِينَ﴾ ولَمّا كانَ العالِمُ يَقْبَحُ مِنهُ مُخالَفَةُ العِلْمِ مُطْلَقًا لا بِقَيْدِ كَوْنِهِ مِن مُعَلِّمٍ مَخْصُوصٍ بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ ﴿أُوتُوهُ﴾ أيْ فَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِأنْ أوْقَعُوا الخِلافَ فِيما أُنْزِلَ لِرَفْعِ الخِلافِ، فَفي هَذا غايَةُ التَّعْجِيبِ وإظْهارُ القُدْرَةِ الباهِرَةِ الَّتِي حَمَلَتْهم عَلى ذَلِكَ.
(p-٢٠١)ولَمّا كانَ الخِلافُ رُبَّما كانَ عَنْ أمْرٍ غامِضٍ بَيَّنَ أنَّ الأمْرَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ فَقالَ مُشِيرًا بِإثْباتِ الجارِّ إلى أنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقِ الزَّمانَ ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ﴾ أيِ الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ والنَّقْلِيَّةُ الَّتِي ثَبَتَتْ بِها النُّبُوَّةُ الَّتِي ثَبَتَ بِها الكِتابُ.
قالَ الحَرالِيُّ: الجامِعَةُ لِآياتِ ما في المَحْسُوسِ وآياتِ ما في المَسْمُوعِ، فَلِذَلِكَ كانَتِ البَيِّناتُ مُكَمِّلَةً لِاجْتِماعِ شاهِدَيْها - انْتَهى.
ولَمّا كانَ هَذا مَحَلَّ السُّؤالِ عَنِ السَّبَبِ بَيَّنَ أنَّهُ الحَسَدُ والِاسْتِطالَةُ عُدُولًا عَنِ الحَقِّ مَحَبَّةً لِما زَيَّنَ مِنَ الدُّنْيا وتَنافُسًا فِيها فَقالَ: ﴿بَغْيًا﴾
قالَ الحَرالِيُّ: والبَغْيُ أعْمالُ الحَسَدِ بِالقَوْلِ والفِعْلِ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ثَلاثٌ لا يَسْلَمُ مِنهُنَّ أحَدٌ ومِنهُنَّ مُتَحَلِّي الحَسَدِ والطِّيرَةِ والظَّنِّ، فَإذا حَسَدْتَ فَلا تَبْغِ» لِأنَّ الحَسَدَ واقِعٌ في النَّفْسِ كَأنَّها مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ عُذِرَتْ فِيهِ؛ فَإذا اسْتَعْمَلَتْ بِحَسَبِهِ مَقالَها وفِعالِها (p-٢٠٢)كانَتْ باغِيَةً - انْتَهى. وزادَهُ عَجَبًا بِقَوْلِهِ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ أيْ لا بَغْيًا عَلى غَيْرِهِمْ فَبَدَّلُوا مِن كُلِّ جِهَةٍ.
ولَمّا ذَكَرَ إنْزالَ الكِتابِ وسَبَّبَهُ ذَكَرَ ما تَسَبَّبَ عَنْهُ فَقالَ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَعَمُوا عَنِ البَيِّناتِ: ﴿فَهَدى اللَّهُ﴾ في إسْنادِهِ إلى الِاسْمِ الأعْظَمِ كَما قالَ الحَرالِيُّ إعْلامٌ بِأنَّهُ لَيْسَ مِن طَوْقِ الخَلْقِ إلّا بِعَوْنٍ وتَوْفِيقٍ مِنَ الحَقِّ - انْتَهى.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ بِالنَّبِيِّينَ بِبَرَكَةِ إيمانِهِمْ ﴿لِما اخْتَلَفُوا﴾ أيْ أهْلُ الضَّلالَةِ ﴿فِيهِ﴾ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الحَقِّ﴾ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَبْعِيضِيَّةً لِما عَمُوا عَنْهُ (p-٢٠٣)مِنَ الحَقِّ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الكِتابُ الَّذِي جاءَ بِهِ النَّبِيُّونَ ﴿بِإذْنِهِ﴾ أيْ بِما ارْتَضاهُ لَهم مِن عِلْمِهِ وإرادَتِهِ وتَمْكِينِهِ.
قالَ الحَرالِيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِما فَطَرَهم عَلَيْهِ مِنَ التَّمْكِينِ لِقَبُولِهِ لِأنَّ الإذْنَ أدْناهُ التَّمْكِينُ وإزالَةُ المَنعِ - انْتَهى.
﴿واللَّهُ﴾ أيِ المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ أيْ بِما لَهُ مِن أوْصافِ الكَمالِ ﴿إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
قالَ الحَرالِيُّ: هَذا هُدى أعْلى مِنَ الأوَّلِ كَأنَّ الأوَّلَ هُدًى إلى إحاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ وهَذا هُدى إلَيْهِ، وفي صِيغَةِ المُضارِعِ بُشْرى لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِدَوامِ هُداهم إلى خَتْمِ اليَوْمِ المُحَمَّدِيِّ
«لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن (p-٢٠٤)أُمَّتِي ظاهِرِينَ عَلى الحَقِّ حَتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللَّهِ» انْتَهى.
{"ayah":"كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ فِیمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِیهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق