الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ هذا يُتَأول على وجهين: أحدهما: أنهم أُمروا بالطاعة فعصوا، وهذا قول سعيد بن جبير [[أخرجه "الطبري" 15/ 55، بنحوه، وورد في "تفسير الجصاص" 3/ 195 بنصه، و"الطوسي" 6/ 461، بنحوه.]]، والمعنى على هذا: أَمَرْناهم على لسان رسولٍ بالطاعة ففسقوا، هذا نحو قولك: أمرتُك فعَصَيْتني، فقد عُلِمَ أن المعصية مخالفة للأمر [[في المصدر: (الأمر).]]، ولذلك؛ الفسق مخالفة أمر الله [[ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، بنصه تقريبًا.]]، فقوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ يدل على أنه أمر بالطاعة وإن لم يُذْكر؛ كما تقول: أمرتك فعصيتني؛ معناه: أمرتك بطاعتي، فإن قيل: لِمَ خص المترفين بالأمر بالطاعة، وأمره بالطاعة لا يكون مقصورًا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه من مترف وغيره؟! قيل: لأنهم الرؤساء الذين من عداهم تبع لهم، كما أن موسى بُعث إلى فرعون ليأمره بطاعة الله وكان من عداه من القبط تبعًا له [[في جميع النسخ: (لها)، والصواب ما أثبته؛ لأن الضمير يرجع إلى فرعون، وورد هذا التعليل في "تفسير الجصاص" 3/ 195، بنحوه، و"الطوسي" 6/ 460 بنصه تقريبًا.]]، هذا إذا قلنا: إن قوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ من الأمر الذي هو ضد النهي. الوجه الثاني: أن معنى قوله: ﴿أَمَرْنَا﴾ أكثرنا، وهو قول مجاهد في رواية عبد الكريم [[ذكر محقق "تفسير مجاهد" 3/ 359 أن راويين اسمهما عبد الكريم رويا عن مجاهد؛ أحدهما: عبد الكريم بن مالك الجَزَري: تقدمت ترجمته. والآخر: عبد الكريم بن أبي المُخارق: هو أبو أميّة المعلِّم البصري، نزيل مكة، وهو ضعيف، قال يحيى: ليس بشيء، روى عن سعيد بن جبير، وعنه مالك والسفيانان، قال ابن حجر: وقد شارك الجَزَري في بعض المشايخ فربما التبس به على من لا فهم له، مات سنة 126 هـ انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 58 - 59، و"ميزان الاعتدال" 3/ 360 - 361، و"الكاشف" 1/ 661 (3432)، و"تقريب التهذيب" ص 361 (4156).]]، قال: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾: أكثرنا فساقها [["تفسير مجاهد" 1/ 359 بنصه، أخرجه "الطبري" 15/ 55 - 56، بنحوه عن عكرمة وسعيد، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 134 ، بنحوه عن مجاهد، و"تفسير الجصاص" 3/ 195، بنحوه عن مجاهد وعكرمة، و"الدر المنثور" ص 359 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.]]، ونحوه روى سِمَاك [[سِمَاك بن حرب بن أوس الهُذلي الكوفي، أبو المغيرة، تابعي أدرك ثمانين رجلاً من أصحاب النبي -ﷺ-، صدوق صالح من أوعية العلم، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وتغير بأخرة، مات سنة (123 هـ) انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 279، و"ميزان الاعتدال" 2/ 422، و"الكاشف" 1/ 465 (2141)، و"تقريب التهذيب" ص 255 (2624).]] عن عكرمة وعمر بن ثابت [[عمر بن ثابت الأنصاري الخزرجي، ثقة، سمع أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-، وروي عنه الزهري ومالك بن أنس. انظر: "الجرح والتعديل" 6/ 101، و"الكاشف" 2/ 56، و"تقريب التهذيب" ص 410 (4870).]] عن أبيه عن سعيد بن جبير، والعرب: تقول أَمِر القومُ إذا كثروا، وأمرهم اللهُ، أي: كَثَّرَهم، وآمَرَهم أيضًا بالمد [[ورد بنحوه في "غريب الحديث" 1/ 208، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 196، و"الحجة للقراء" 5/ 92.]]. روى الجَرْميُّ [[أبو عمر، صالح بن إسحاق الجَرْميّ البصري، مولى جَرْم بن زَبّان؛ من قبائل اليمن، إمام في النحو، ناظر الفراء ببغداد، أخذ عن الأخفش وغيره، ولقي يونس وأخذ عن أبي زيد اللغة، وعن أبي عبيدة والأصمعي. انظر، "أخبار النحويين البصريين" ص 84، و"نزهة الألباء" ص 114، و"البلغة" ص 113، و"البغية" 2/ 8.]] عن أبي زيد: أمِرَ اللهُ القومَ وآمرهم أي كَثَّرَهم، قال: مِثلُ نَضَّرَ اللهُ وجهه وأنضره، ومثل أَمِرَ القوم وأمَرَهم غيرُهم، ورَجَعَ ورَجَعْتُه، وسَلَكَ وسَلَكْتُه، قال الله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر: 42]، وشَتِرتْ [[الشَّتَرُ: انقلاب في جفن العين قلّما يكون خلقةً. انظر: "اللسان" (شتر) 4/ 2193.]] عَيْنُه وشَتَرْتُهَا [[ورد في "الحجة للقراء" 5/ 92، عن الجرمي مختصرًا، و"المحتسَب" 2/ 17، عن أبي زيد مختصرًا، والمقصود بهذه الأمثلة، التدليل على أن بعض الأفعال يعدى بالهمزة، وبعضها -الذي من باب فَعِل بكسر العين- يتعدى بفتح العين والمعنى واحد. انظر: "المُوضح في القراءات" 2/ 752، و"تفسير الطوسي" 6/ 461.]]. قال أبو عبيدة [[في جميع النسخ (أبو عبيد)، والتصويب من "الحجة للقراء" 5/ 92. وهو في "مجاز القرآن" 1/ 373 بمعناه، وورد في "الحجة للقراء" 5/ 92 بنصه، وواضح أنه نقله من "الحجة" لا من "المجاز".]]: وقد وجدنا تثبيتًا لهذه اللغة، وهو قوله -ﷺ-: "سِكّة مَأْبُورة، ومُهْرة مَأْمورة" [[وطرفه: (خيْرُ المال سِكَّة ..) أخرجه أحمد 3/ 468 بنصه عن سويد بن هبيرة عن النبي -ﷺ-، والطبري 8/ 51 بنصه، والطبراني في "الكبير" 7/ 91، بنحوه من طريقين عن سويد بن هبيرة، وورد بنصه في "غريب الحديث" 1/ 208، و"معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232، و"معاني القرآن" للنحاس 4/ 135، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365، و"علل القراءات" 1/ 317، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، و"تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ، و"الماوردي" 3/ 236، وأورده الهيثمي في "المجمع" 5/ 258 وقال: ورجال أحمد ثقات، والسيوطي في الجامع [فيض القدير] 3/ 491 ورمز له بالصحة، وفي بعض هذه المصادر تقديم مهرة على سِكَّة، (السِّكة): السَّطْر من النَّخل، (المأبورة): المُصْلَحةُ المُلقحةُ، يقال: أبَرت النخل آبُرُه أبْرًا إذا لَقَّحْته وأصلحته، (المُهْرَة): قال الليث: المُهْر ولد الرَّمَكَةِ -البرذون- والفرس، والأنثى مُهرة، والجميع مِهار، وقيل: أول ما نُتِجَ من الخيل والحُمُر الأهلية، قال ابن خالويه: يعني بالمُهرة: الكثيرة النِّتاج. انظر "أمالي القالي" 1/ 103، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365، و"تهذيب اللغة" (مهر) 4/ 3462، و"متن اللغة" 4/ 3339.]]. قال أبو زيد: هي التي قد كَثُر نَسْلُها، يقولون: أمَر اللهُ المُهْرةَ؛ أي كَثَّر ولَدَها [[ورد في "تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، بنصه.]]، وأبى قوم أن يكون (أَمَر) بمعنى أكْثَر، وقالوا: أمِرَ القوم إذا كَثُروا، وآمرهم اللهُ بالمد، أي: أكثرهم، وتأولوا في قوله: (مهرة مأمورة) أنها على الإتْبَاع لمأبورة؛ نحو الغدايا والعشايا [[ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197، و"الطوسي" 6/ 461.]]. وروى أبو العباس [[أحمد بن محمد بن عبد الله أبو العباس الليثي المعروف بختن ليث، روى القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وروى عنه هارون بن حاتم التيمي. "غاية النهاية" 1/ 121.]] -ختن ليث- عن أبي عمرو أنه قرأ ﴿أَمَّرْنا﴾ بالتشديد [[انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 317، و"الحجة للقراء" 5/ 91، و"المُوضح في وجوه القراءات" 2/ 752.]]، وهو يوافق تفسير ابن عباس فيما روى عنه الوالبي، يقول: سَلَّطنا شرارها فعَصوا [[ورد في "معاني القرآن" للفراء 2/ 119 - بمعناه، وأخرجه "الطبري" 15/ 55 بنصه من طريق ابن أبي طلحة (صحيحة)، وورد في "معاني القرآن" للنحاس 4/ 136 مختصرًا، و"تهذيب اللغة" (أمر) 1/ 197 بمعناه، و"الدر المنثور" 4/ 307 بنصه وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الأسماء والصفات" عن ابن عباس.]]. وقال أبو إسحاق: أي جعلنا لهم إمْرةً وسلطانًا [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232، بنصه.]]، وقال في رواية عطاء: يريد سَلَّطنا مُلُوكَها [[انظر: "تنوير المقباس" ص 298، بنحوه.]]. قال أبو علي الفارسي: حَمْلُ أَمَّرْنا على أنه مثل: آمَرْنا؛ نحو: كَثَّرَهُ اللهُ وأَكْثَرَه، ولا يُحْمَل أمَّرْنا على أن المعنى: جعلناهم أُمراءَ؛ لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّةُ أُمراءَ [["الحجة للقراء" 5/ 93، بنصه.]]. وهذا الذي قاله أبو علي لا يقدح في قول ابن عباس؛ لأن القريةَ الواحدة قد يكون فيها أمراء كثير تبعًا لواحد هو أكبرهم، فهم يُسَمَّون أمراء ويكونون مُسَلَّطين، وإن كان فوقهم غيرُهم هو الأعظم، فهؤلاء لا يخرجون عن سِمَة الإمارة، ويُقَوّيَ ما قاله أبو علي: أن يونس روى عن أبي عمرو أنه قال: لا يكون أمَرْنا مخففة بمعنى كثرنا [["الحجة للقراء" 5/ 92، بنحوه.]]، ولمّا أراد معنى الكثرة شَدَّد الميم ولم يقرأ بمد الألف لمّا لم يكن بالمصحف إلا ألف [[في (أ)، (د): (الألف).]] واحدة. وروى حماد بن سلمة عن ابن كثير: آمَرْنا بالمد [[انظر: "السبعة" ص 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 316، و"الحجة للقراء" 5/ 91.]]، وهي اللغة العالية [[قاله ابن قتيبة في "غريبه" 1/ 253.]]؛ يقال: أمِرَ القوم وآمرهم الله، أي: أكثرهم، فهم مؤمَّرُون [[ورد بنحوه في "إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 365.]]. ونحو هذا روى خارجة [[خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، أبو زيد، وينسب إلى جده، ضعيف الحديث، روى عن أبيه ونافع، وعنه مَعْن والقَعْنبي، مات سنة (165 هـ). انظر: "الجرح والتعديل" 3/ 374، و"الكاشف" 1/ 361 (1302)، و"ميزان الاعتدال" 1/ 625، و"تقريب التهذيب" ص 186 (1/ 16).]] عن نافع [[انظر: "السبعة" 379، و"إعراب القراءات السبع وعللها" 1/ 366، و"علل القراءات" 1/ 316، و"الحجة للقراء" 5/ 91.]]، قال أبو إسحاق: ويكون لقوله [[في جميع النسخ: (كقوله)، والصواب المثبت؛ كما يدل عليه السياق.]]: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ معنى آخر غير كثرة العدد، وهو أن تكثر [[في جميع النسخ: (أن يكون)، وهو تصحيف ظاهر، والتصويب من المصدر.]] جِدَتُهم ويَسَارُهُم [["معاني القرآن وإعرابه" 3/ 232 بنصه تقريبًا.]]. قال أبو عبيد: الوجه قراءة العامة؛ لاحتماله معنى الأمر والكثرة [[لم أجده في كتابه "غريب الحديث"، وأخرجه ابن خالويه عنه في "إعراب == القراءات السبع وعللها" 1/ 366، بنحوه، و"الثعلبي" 7/ 106 أ، بنحوه، وقد رجّح الطبري القول الأول، وعلله: بأن الأغلب من معنى أمرنا، الأمر الذي هو خلاف النهي دون غيره، ثم قال: وتوجيه معاني كلام الله جلّ ثناؤه إلى الأشهر الأعرف من معانيه أولى -ما وجد إليه سبيل- من غيره. انظر: "تفسير الطبري" 15/ 54، 57.]]، فإنه يقال: أمير غير مأمور، أي: غير مؤمّر [[ورد في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أبنصه.]]. وأما المترف فمعناه في اللغة: المُنَعَّم الذي قد أبطرته النعمة وسِعةُ العيش [[انظر: (ترف) في "المحيط في اللغة" 9/ 426، و"الصحاح" 4/ 1333، و"العباب الزاخر" [ف/ 42]، و"اللسان" 1/ 429 وانظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19، و"الفخر الرازي" 20/ 175.]]. والمفسرون يقولون في تفسيرها: الجبارين والمسلطين والملوك [[ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 263، بنحوه، و"تهذيب اللغة" (ترف) 1/ 436 بلفظه عن قتادة، و"تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ - بمعناه، و"الماوردي" 3/ 236 بلفظه، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19.]]. وقوله تعالى: ﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ أي تمردوا في كفرهم، إذ الفسق في الكفر: الخروج إلى أفحشه [[ورد في "تفسير الطوسي" 6/ 461 بنصه تقريبًا، انظر: "تفسير ابن الجوزي" 5/ 19.]]. ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ قال ابن عباس: يريد استوجبت العذاب [[انظر: "تفسير القرطبي" 10/ 234، بنحوه، وورد غير منسوب في "تفسير الثعلبي" 7/ 106 أ، بنحوه، و"الفخر الرازي" 20/ 175 بنصه.]]، يعني قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ﴾ الآية [القصص: 59]، وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} الآية [هود: 117]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فقد قال -عز وجل- وحكم بأنه لا يُهلك قرية حتى يخالفوا أمره [[في (أ)، (د): (أمر).]] في الطاعة، فإذا خالفوا الأمر حق عليهم قوله بالعذاب. وقوله تعالى: ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾، أي: أهلكناها إهلاكَ الاستئصال، والدمارُ هلاكٌ بالاستئصال. وهذه الآية تأكيد لما سبق في الآية الأولى؛ لأن الله تعالى ذَكَرَ وبَيَّنَ أن العقاب إنما يحق على الناس بعد مخالفتهم أمر الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب