الباحث القرآني

فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلُ أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكَ الْقُرَى قَبْلَ ابْتِعَاثِ الرُّسُلِ، لَا لِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنْهُ ذَلِكَ إِنْ فَعَلَ، وَلَكِنَّهُ وَعْدٌ مِنْهُ، وخلف فِي وَعْدِهِ. فَإِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ قَرْيَةٍ مَعَ تَحْقِيقِ وَعْدِهِ عَلَى مَا قَالَهُ تَعَالَى أَمَرَ مُتْرَفِيهَا بِالْفِسْقِ [[المحققون على ما قال ابن عباس كما في البحر: أمرناهم فعصوا وفسقوا وسيأتي. وهذا هو المطابق كقوله تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء. أما ما ذكره القرطبي كالزمخشري فيحتاج إلى تأويل. محققة.]] وَالظُّلْمِ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالتدمير. يعلمك أن من هلك (فإنما) [[من ج وى.]] هَلَكَ بِإِرَادَتِهِ، فَهُوَ الَّذِي يُسَبِّبُ الْأَسْبَابَ وَيَسُوقُهَا إِلَى غَايَاتِهَا لِيَحِقَّ الْقَوْلُ السَّابِقُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَمَرْنا﴾ قَرَأَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ "أَمَّرْنَا" بِالتَّشْدِيدِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْ سَلَّطْنَا شِرَارهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو عثمان النهدي "أمرنا" بتشديد الميم، جعلناهم أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ، وَقَالَهُ ابْنُ عُزَيْزٍ. وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَارَجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا "آمَرْنَا" بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ، أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: آمَرْتُهُ بِالْمَدِّ وَأَمَّرْتُهُ، لُغَتَانِ بِمَعْنَى كَثَّرْتِهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ" خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ [[السكة: الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة: الملقحة، يقال: أبرت النخلة وأبرتها، فهي مأبورة ومؤبرة. السكة سكة الحرث، والمأبورة المصلحة له. المراد: خير المال نتاج وزرع. (ابن الأثير).]] "أَيْ كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُزَيْزٍ: آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَكْثَرْنَا. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ" أَمِرْنَا "بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى فَعِلْنَا، وَرُوِيَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَحَكَى نَحْوَهُ أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ وَقَالَ: لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ، قَالَ وَأَصْلُهَا" أَأْمَرْنَا" فَخُفِّفَ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَقَالَ أَبُو الحسن أمر ماله (بالكسر) أي أكثره وَأَمِرَ الْقَوْمُ أَيْ كَثُرُوا، قَالَ الشَّاعِرُ: أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ [[هذا عجز بيت للأعشى وصدره: طرفون ولادون كل مبارك الزرف والزريف: الكثير الإباء إلى الجد الأكبر. والقعدد: القليل الإباء إلى الجد الأكبر.]] وَآمَرَ اللَّهُ مَالَهُ: (بِالْمَدِّ): الثَّعْلَبِيُّ: وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمِرٌ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ: أَمِرَ الْقَوْمُ يَأْمَرُونَ أَمْرًا إِذَا كَثُرُوا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا: أَمِرَ أَمْرُ بَنِي فُلَانٍ، قال لبيد: كل بنى حرة مَصِيرُهُمْ ... قَلَّ وَإِنْ أَكْثَرَتَ مِنَ الْعَدَدِ إِنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمِرُوا ... يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهُلْكِ والنكد [[يقول: إن غبطوا يوما فأنهم يموتون. و "يهبزوا" هاهنا يموتوا. ويروى: "إن غبطوا يعبطوا" يموتوا عبطة، كأنهم يموتون من غير مرض. (راجع الديوان). في ج وى: والفند.]] قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ:" لَقَدْ أمر أمر، ابن أبى كبشة [[يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ "ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ" شبوة بأبى كبشة، رجل من خزاعة خالف قريشا من عبادة الأوثان. أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده ﷺ من قبل أمه، لأنه كان نزع إليه في الشبه. أو كنية زوج حليمة السعدية]]، لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ "أَيْ كَثُرَ. وَكُلُّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ الْكِسَائِيُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ" أَمِرَ "فَهِيَ لُغَةٌ، وَوَجْهُ تَعْدِيَةِ" أَمِرَ" أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِعَمِرَ مِنْ حيث كانت الكثرة أقرب شي إِلَى الْعِمَارَةِ، فَعُدِّيَ كَمَا عُدِّيَ عَمِرَ [[عمر كفرح.]]. الْبَاقُونَ "أَمَرْنا" مِنَ الْأَمْرِ، أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ إِعْذَارًا وإنذارا وتخويفا ووعيدا. فَفَسَقُوا أي فأخرجوا عَنِ الطَّاعَةِ عَاصِينَ لَنَا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَوَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: "أَمَرْنا" جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ، أَيْ غَيْرُ مُؤْمَرٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بعثنا مستكبريها. قال هارون: وهى قراءة أ، بي "بَعَثْنَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا" ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى النَّحَّاسُ: وَقَالَ هَارُونُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "أَمَرْنا" بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، وَمِنْهُ "خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ" عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَأْمُورَةٌ اتِّبَاعٌ لِمَأْبُورَةٍ، كَالْغَدَايَا وَالْعَشَايَا. وَكَقَوْلِهِ: "ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ". وَعَلَى هَذَا لَا يُقَالُ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ، بِمَعْنَى كَثَّرَهُمْ، بَلْ يُقَالُ: آمَرَهُ وَأَمَرَهُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا "أَمَرْنا" لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ تَجْتَمِعُ فِيهَا مِنَ الْأَمْرِ وَالْإِمَارَةِ وَالْكَثْرَةِ. وَالْمُتْرَفُ: الْمُنَعَّمُ، وَخُصُّوا بِالْأَمْرِ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَدَمَّرْناها﴾ أي استأصلناها بالهلاك. (تَدْمِيراً) ذكر الْمَصْدَرَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْعَذَابِ الْوَاقِعِ بِهِمْ. وَفِي الصحيح [[في هامش ج: الصحيحين. خ.]] من حديث بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ" وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، انهلك وفينا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ". وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّ الْمَعَاصِيَ إِذَا ظَهَرَتْ وَلَمْ تُغَيَّرْ كَانَتْ سَبَبًا لِهَلَاكِ [[راجع ج ٧ ص ٧٩١.]] الجميع، والله اعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب