الباحث القرآني

* (فصل) قوله: ﴿وَإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها﴾ هذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمعنى قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة بل هو أمر ديني والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا والقول الأول أرجح لوجوده. أحدها أن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا إذا لم يكن تصحيح الكلام بدونه. الثاني أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما أمرناهم بطاعتنا الثاني فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك. الثالث أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل وأمرته فقام وأمرته فركب لا يفهم المخاطب غير هذا. الرابع أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك بل هو سبب للنجاة والفوز. فإن قيل أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك؟ قيل هذا يبطل بالوجه الخامس وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتّباع رسله المترفين وغيرهم فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين يوضحه الوجه السادس أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم نحن لم يرسل إلينا. السابع أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها غافِلُونَ﴾ فإذا أرسل الرسل فكذبوهم أراد إهلاكها فأمر رؤسائها ومترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا دينيا بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم فحينئذ جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك والمقصود ذكر الأمر الكوني والديني ومن الديني قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والأِحْسانِ﴾ وقوله: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ وهو كثير. * (فصل: في لفظ الأمر) فإنه نوعان أمر تكوين وأمر تشريع، والثاني قد يعصى ويخالف بخلاف الأول فقوله تعالى: ﴿وَإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها﴾ لا يناقض قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ﴾ ولا حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها، بل الأمر هاهنا أمر تكوين وتقدير، لا أمر تشريع لوجوه: أحدها: أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به كما تقول أمرته فقام وأمرته فأكل كما لو صرح بلفظة أفعل كقوله تعالى: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ وهذا كما تقول دعوته فأقبل وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكم فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾. الثاني: أن الأمر بالطاعة لا يخص المترفين فلا يصح حمل الآية عليه بل تسقط فائدة ذكر المترفين فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة فلا يصح أن يكون أمر المترفين علة إهلاك جميعهم. الثالث: أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما بعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه، والمعلول على علته ألا ترى أن الفسق علة حق القول عليهم، وحق القول عليهم علة لتدميرهم، فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له وذلك هو أمر التكوين لا التشريع. الرابع: أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت فأراد الله إهلاكهم فعاقبهم بأن قدر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم. فإن قيل فمعصيتهم السابقة سبب لهلاكهم فما الفائدة في قوله: ﴿أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها﴾ وقد تقدم الفسق منهم؟ قيل المعصية السابقة وإن كانت سببها للهلاك لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه أنه لا يتحتم هلاكهم بمعاصيهم فإذا أراد إهلاكهم ولا بد أحدث سببا آخر يتحتم معه الهلاك ألا ترى أن ثمود ألم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها فأهلكوا حينئذ وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات واستحكم بغيهم وعنادهم فحينئذ أهلكوا وكذلك قوم لوط لما أراد هلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف فقصدوهم بالفاحشة ونالوا من لوط وتواعدوه وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكهم أحدث لها بغيا وعدوانا يأخذها على أثره وهذه عادته مع عباده عموما وخصوصا فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله حتى إذا أراد أخذه قيض له عملا يأخذه به مضافا إلى أعماله الأولى فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده وليس كذلك بل حق عليه القول بذلك وكان قبل ذلك لم يحق عليهم القول بأعماله الأولى حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ولم يمض الحكم فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه قال تعالى: ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم فحلت العقوبة فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يقال بعدها والله المستعان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب