الباحث القرآني

﴿وقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسْباطًا أُمَمًا﴾، أيْ: وقَطَّعْنا قَوْمَ مُوسى، ومَعْناهُ: فَرَّقْناهم ومَيَّزْناهم، وفي ذَلِكَ رُجُوعُ أمْرِ كُلِّ سِبْطٍ إلى رَئِيسِهِ لِيَخِفَّ أمْرُهم عَلى مُوسى، ولِئَلّا يَتَحاسَدُوا فَيَقَعَ الهَرْجُ، ولِهَذا فَجَّرَ لَهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا لِئَلّا يَتَنازَعُوا ويَقْتَتِلُوا عَلى الماءِ، ولِهَذا جَعَلَ لِكُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا لِيُرْجَعَ بِأمْرِهِمْ إلَيْهِ، وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الأسْباطِ، وقَرَأ أبانُ بْنُ تَغْلِبَ عَنْ عاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الطّاءِ، وابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ عَشِرَةَ بِكَسْرِ الشِّينِ، وعَنْهُمُ الفَتْحُ أيْضًا، وأبُو حَيْوَةَ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالكَسْرِ، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ، والجُمْهُورُ بِالإسْكانِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ واثْنَتَيْ عَشْرَةَ حالٌ، وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ قَطَّعْنا بِمَعْنى صَيَّرْنا، وأنْ يَنْتَصِبَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِقَطَّعْناهم، ولَمْ يَعُدَّ النَّحْوِيُّونَ قَطَّعْنا في بابِ ظَنَنْتُ، وجَزَمَ بِهِ الحَوْفِيُّ فَقالَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَفْعُولٌ لِـ قَطَّعْناهم، أيْ: جَعَلْنا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (p-٤٠٧)وتَمْيِيزُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى، تَقْدِيرُهُ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً وأسْباطًا، بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وأُمَمًا. قالَ أبُو البَقاءِ: نَعْتٌ لِأسْباطًا، أوْ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أسْباطًا تَمْيِيزًا؛ لِأنَّهُ جَمْعٌ، وتَمْيِيزُ هَذا النَّوْعِ لا يَكُونُ إلّا مُفْرَدًا، وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّ أسْباطًا تَمْيِيزٌ، قالَ: (فَإنْ قُلْتَ): مُمَيَّزُ ما بَعْدَ العَشَرَةِ مُفْرَدٌ فَما وجْهُ مَجِيئِهِ مَجْمُوعًا، وهَلّا قِيلَ: اثْنَتَيْ عَشَرَ سِبْطًا، (قُلْتُ): لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ تَحْقِيقًا؛ لِأنَّ المُرادَ: وقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قَبِيلَةً، وكُلُّ قَبِيلَةٍ أسْباطٌ لا سِبْطٌ، فَوَضَعَ أسْباطًا مَوْضِعَ قَبِيلَةٍ، ونَظِيرُهُ: ؎بَيْنَ رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ وأُمَمًا بَدَلٌ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، بِمَعْنى وقَطَّعْناهم أُمَمًا؛ لِأنَّ كُلَّ أسْباطٍ كانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً وجَماعَةً كَثِيفَةَ العَدَدِ، وكُلَّ واحِدَةٍ تَؤُمُّ خِلافَ ما تَؤُمُّهُ الأُخْرى لا تَكادُ تَأْتَلِفُ، انْتَهى، وما ذَهَبَ إلَيْهِ مِن أنَّ كُلَّ قَبِيلَةٍ أسْباطٌ خِلافُ ما ذَكَرَ النّاسُ ذَكَرُوا أنَّ الأسْباطَ في بَنِي إسْرائِيلَ كالقَبائِلِ في العَرَبِ، وقالُوا: الأسْباطُ جَمْعُ سِبْطٍ وهُمُ الفِرَقُ، والأسْباطُ مِن ولَدِ إسْحاقَ بِمَنزِلَةِ القَبائِلِ مِن ولَدِ إسْماعِيلَ ويَكُونُ عَلى زَعْمِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ﴾ [البقرة: ١٣٦] مَعْناهُ القَبِيلَةُ، وقَوْلُهُ: ونَظِيرُهُ: ؎بَيْنَ رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ لَيْسَ نَظِيرَهُ؛ لِأنَّ هَذا مِن تَثْنِيَةِ الجَمْعِ، وهو لا يَجُوزُ إلّا في الضَّرُورَةِ، وكَأنَّهُ يُشِيرُ إلى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْحَظْ في الجَمْعِ كَوْنَهُ أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنَ الرِّماحِ لَمْ يَصِحَّ تَثْنِيَتُهُ كَذَلِكَ هُنا، لَحَظَ هُنا الأسْباطَ وإنْ كانَ جَمْعًا مَعْنى القَبِيلَةِ فَمَيَّزَ بِهِ، كَما يُمَيِّزُ بِالمُفْرَدِ، وقالَ الحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى الحَذْفِ، والتَّقْدِيرُ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، ويَكُونَ أسْباطًا نَعْتًا لِفِرْقَةٍ، ثُمَّ حُذِفَ المَوْصُوفُ وأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقامَهُ، وأُمَمًا نَعْتٌ لِأسْباطٍ، وأنَّثَ العَدَدَ، وهو واقِعٌ عَلى الأسْباطِ، وهو مُذَكَّرٌ لِأنَّهُ بِمَعْنى الفِرْقَةِ أوِ الأُمَّةِ، كَما قالَ: ثَلاثَةُ أنْفُسٍ، يَعْنِي رِجالًا وعَشَرَ أبْطُنٍ بِالنَّظَرِ إلى القَبِيلَةِ، انْتَهى، ونَظِيرُ وصْفِ التَّمْيِيزِ المُفْرَدِ بِالجَمْعِ مُراعاةً لِلْمَعْنى. قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فِيها اثْنَتانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً ∗∗∗ سُودًا كَحافَّتِهِ الغُرابِ الأسْحَمِ ولَمْ يَقُلْ سَوْداءَ. وقِيلَ: جَعَلَ كُلَّ واحِدَةٍ مِنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسْباطًا، كَما تَقُولُ: لِزَيْدٍ دَراهِمُ، ولِفُلانٍ دَراهِمُ، ولِعُمَرَ دَراهِمُ، فَهَذِهِ عِشْرُونَ دَراهِمَ؛ وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: وقَطَّعْناهم فِرَقًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَلا يُحْتاجُ إلى تَمْيِيزٍ، وقالَ البَغَوِيُّ: في الكَلامِ تَأْخِيرٌ وتَقْدِيمٌ، تَقْدِيرُهُ: وقَطَّعْناهم أسْباطًا أُمَمًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وهَذِهِ كُلُّها تَقادِيرُ مُتَكَلِّفَةٌ، والأجْرى عَلى قَواعِدِ العَرَبِ القَوْلُ الَّذِي بَدَأْنا بِهِ. ﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهم وظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ وأنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم وما ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الجُمَلِ في البَقَرَةِ، وانْبَجَسَتْ: إنْ كانَ مَعْناهُ ما قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ، فَقِيلَ: كانَ يَظْهَرُ عَلى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الحَجَرِ فَضَرَبَهُ مُوسى، مِثْلَ ثَدْيِ (p-٤٠٨)المَرْأةِ فَيَعْرَقُ أوَّلًا ثُمَّ يَسِيلُ، وإنْ كانَ مُرادِفًا لانْفَجَرَتْ فَلا فَرْقَ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنا الأُناسُ اسْمُ جَمْعٍ غَيْرِ تَكْسِيرٍ، نَحْوَ رُخاءٍ وثُناءٍ وثُؤامٍ وأخَواتٍ لَها، ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ الأصْلَ الكَسْرُ والتَّكْسِيرُ، والضَّمَّةُ بَدَلٌ مِنَ الكَسْرِ، كَما أُبْدِلَتْ في نَحْوِ سُكارى وغُيارى مِنَ الفَتْحَةِ، انْتَهى، ولا يَجُوزُ ما قالَ؛ لِوَجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّهُ لَمْ يَنْطِقْ بِإناسٍ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، فَيَكُونَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ حَتّى تَكُونَ الضَّمَّةُ بَدَلًا مِنَ الكَسْرَةِ، بِخِلافِ سُكارى وغُيارى، فَإنَّ القِياسَ فِيهِ فَعالى بِفَتْحِ فاءِ الكَلِمَةِ، وهو مَسْمُوعٌ فِيهِما، (والثّانِي): أنَّ سُكارى وغُيارى وعُجالى وما ورَدَ مِن نَحْوِها لَيْسَتِ الضَّمَّةُ فِيهِ بَدَلًا مِنَ الفَتْحَةِ، بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ عَلى أنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرِ أصْلٍ، كَما أنَّ فُعالى جَمْعُ تَكْسِيرِ أصْلٍ وإنْ كانَ لا يَنْقاسُ الضَّمُّ، كَما يَنْقاسُ الفَتْحُ، قالَ سِيبَوَيْهِ في حَدِّ تَكْسِيرِ الصِّفاتِ: وقَدْ يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هَذا عَلى فُعالى، وذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: سُكارى وعُجالى، وقالَ سِيبَوَيْهِ في الأبْنِيَةِ أيْضًا: ويَكُونُ فُعالى في الِاسْمِ نَحْوَ حُبارى وسُمانى ولُبادى، ولا يَكُونُ وصْفًا إلّا أنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الواحِدُ لِلْجَمْعِ، نَحْوُ عُجالى وكُسالى وسُمانى، فَهَذانِ نَصّانِ مِن سِيبَوَيْهِ عَلى أنَّهُ جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وإذا كانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ أصْلًا لَمْ يَسُغْ أنْ يَدَّعِيَ أنَّ أصْلَهُ فُعالى، وأنَّهُ أُبْدِلَتِ الحَرَكَةُ فِيهِ، وذَهَبَ المُبَرِّدُ إلى أنَّهُ اسْمٌ جامِعٌ - أعْنِي فُعالى بِضَمِّ الفاءِ -، ولَيْسَ بِجَمْعِ تَكْسِيرٍ فالزَّمَخْشَرِيُّ لَمْ يَذْهَبْ إلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، ولا إلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ المُبَرِّدُ؛ لِأنَّهُ عِنْدَ المُبَرِّدِ اسْمُ جَمْعٍ، فالضَّمَّةُ في فائِهِ أصْلٌ لَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ الفَتْحَةِ، بَلْ أحْدَثَ قَوْلًا ثالِثًا. وقَرَأ عِيسى الهَمْدانِيُّ: (مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْتُكم) مُوَحِّدًا لِلضَّمِيرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب