﴿وقَطَّعْناهُمُ﴾ أيْ: قَوْمَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لا الأُمَّةَ المَذْكُورَةَ كَما يُوهِمُهُ القُرْبُ (وقَطَّعَ) يُقْرَأُ مُشَدَّدًا ومُخَفَّفًا، والأوَّلُ هو المُتَواتِرُ، ويَتَعَدّى لِواحِدٍ، وقَدْ يُضَمَّنُ مَعْنى صَيَّرَ، فَيَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ حالٌ أوْ مَفْعُولٌ ثانٍ، أيْ: فَرَّقْناهم مَعْدُودِينَ بِهَذا العَدَدِ، أوْ صَيَّرْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً يَتَمَيَّزُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أسْباطًا﴾ كَما قالَ ابْنُ الحاجِبِ في شَرْحِ المُفَصَّلِ بَدَلٌ مِنَ العَدَدِ لا تَمْيِيزَ لَهُ، وإلّا لَكانُوا سِتَّةً وثَلاثِينَ، وعَلَيْهِ فالتَّمْيِيزُ مَحْذُوفٌ أيْ: فِرْقَةً أوْ نَحْوَهُ، قالَ الحُوفِيُّ: إنَّ صِفَةَ التَّمْيِيزِ أُقِيمَتْ مَقامَهُ، والأصْلُ: فِرْقَةً أسْباطًا، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا لِأنَّهُ مُفْرَدٌ تَأْوِيلًا، فَقَدْ ذَكَرُوا أنَّ السِّبْطَ مُفْرَدًا ولَدُ الوَلَدِ، أوْ ولَدُ البِنْتِ أوِ الوَلَدِ، أوِ القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، أقْوالٌ ذَكَرَها ابْنُ الأثِيرِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ جَماعَةٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ كالقَبِيلَةِ في العَرَبِ، ولَعَلَّهُ تَسْمِيَةٌ لَهم بِاسْمِ أصْلِهِمْ كَتَمِيمٍ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنهم أسْباطٌ أيْضًا كَما غَلَبَ الأنْصارُ عَلى جَمْعٍ مَخْصُوصٍ فَهو حِينَئِذٍ بِمَعْنى الحَيِّ والقَبِيلَةِ، فَلِهَذا وقَعَ مَوْقِعَ المُفْرَدِ في التَّمْيِيزِ، وهَذا كَما ثَنّى الجَمْعَ في قَوْلِ أبِي النَّجْمِ يَصِفُ رَمْكَةً تَعَوَّدَتِ الحَرْبَ:
؎تَبَقَّلَتْ في أوَّلِ التَّبَقُّلِ بَيْنَ رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ
وتَأْنِيثُ اثْنَتَيْ مَعَ أنَّ المَعْدُودَ مُذَكَّرٌ وما قَبْلَ الثَّلاثَةِ يَجْرِي عَلى أصْلِ التَّأْنِيثِ والتَّذْكِيرِ لِتَأْوِيلِ ذَلِكَ بِمُؤَنَّثٍ وهو ظاهِرٌ مِمّا قَرَّرْنا، وقَرَأ الأعْمَشُ وغَيْرُهُ (عَشِرَةَ) بِكَسْرِ الشِّينِ ورُوِيَ عَنْهُ فَتْحُها أيْضًا، والكَسْرُ لُغَةُ تَمِيمٍ، والسُّكُونُ لُغَةُ الحِجازِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أُمَمًا﴾ بَدَلٌ بَعْدَ بَدَلٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لا مِن أسْباطٍ عَلى تَقْدِيرِ أنْ (p-88)يَكُونَ بَدَلًا؛ لِأنَّهُ لا يُبْدَلُ مِنَ البَدَلِ، وجُوِّزَ كَوْنُهُ بَدَلًا مِنهُ إذا لَمْ يَكُنْ بَدَلًا ونَعْتًا إنْ كانَ كَذَلِكَ أوْ لَمْ يَكُنْ.
﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾ حِينَ اسْتَوْلى عَلَيْهِ العَطَشُ في التِّيهِ: ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ﴾ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ الإيحاءِ (فَأنْ) بِمَعْنى أيْ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَها مَصْدَرِيَّةً.
﴿فانْبَجَسَتْ﴾ أيِ انْفَجَرَتْ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ الِانْبِجاسَ خُرُوجُ الماءِ بِقِلَّةٍ، والِانْفِجارَ خُرُوجُهُ بِكَثْرَةٍ، والتَّعْبِيرُ بِهَذا تارَةً وبِالأُخْرى أُخْرى بِاعْتِبارِ أوَّلِ الخُرُوجِ وما انْتَهى إلَيْهِ، والعَطْفُ عَلى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ، أيْ: فَضَرَبَ فانْبَجَسَتْ، وحُذِفَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الإلْباسِ، ولِلْإشارَةِ إلى سُرْعَةِ الِامْتِثالِ حَتّى كَأنَّ الإيحاءَ وضَرْبَهُ أمْرٌ واحِدٌ، وأنَّ الِانْبِجاسَ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى حَتّى كَأنَّ فِعْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لا دَخْلَ فِيهِ.
وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ هَذِهِ الفاءَ عَلى ما قُرِّرَ فَصِيحَةٌ، وبَعْضُهم يُقَدِّرُ شَرْطًا في الكَلامِ فَإذا ضَرَبْتَ فَقَدِ انْبَجَسَتْ ﴿مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾، وهو غَيْرُ لائِقٍ بِالنَّظْمِ الجَلِيلِ.
﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾ أيْ: سِبْطٌ، والتَّعْبِيرُ عَنْهم بِذَلِكَ لِلْإيذانِ بِكَثْرَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأسْباطِ، وأُناسٌ إمّا جَمْعٌ أوِ اسْمُ جَمْعٍ، وذَكَرَ السَّعْدُ أنَّ أهْلَ اللُّغَةِ يُسَمُّونَ اسْمَ الجَمْعِ جَمْعًا، و(عَلِمَ) بِمَعْنى عَرَفَ، النّاصِبِ مَفْعُولًا واحِدًا أيْ: قَدْ عَرَفَ.
﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ أيْ: عَيْنَهُمُ الخاصَّةَ بِهِمْ، ووَجْهُ الجَمْعِ ظاهِرٌ.
﴿وظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ﴾ أيْ: جَعَلْنا ذَلِكَ بِحَيْثُ يُلْقِي عَلَيْهِمْ ظِلَّهُ لِيَقِيَهم مِن حَرِّ الشَّمْسِ، وكانَ يَسِيرُ بِسَيْرِهِمْ ويَسْكُنُ بِإقامَتِهِمْ.
﴿وأنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى﴾ أيِ التَّرَنْجَبِينَ والسُّمانى، فَكانَ الواحِدُ مِنهم يَأْخُذُ ما يَكْفِيهِ مِن ذَلِكَ.
﴿كُلُوا﴾ أيْ: قُلْنا، أوْ قائِلِينَ لَهُمْ: كُلُوا.
﴿مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ أيْ: مُسْتَلَذّاتِهُ، و(ما) مَوْصُولَةٌ كانَتْ أوْ مَوْصُوفَةً، عِبارَةٌ عَنِ المَنِّ والسَّلْوى.
﴿وما ظَلَمُونا﴾ عُطِفَ عَلى مَحْذُوفٍ لِلْإيجازِ والإشْعارِ بِأنَّهُ أمْرٌ مُحَقَّقٌ غَنِيٌّ عَنِ التَّصْرِيحِ. أيْ: فَظَلَمُوا بِأنْ كَفَرُوا بِهَذِهِ النِّعَمِ الجَلِيلَةِ.
﴿وما ظَلَمُونا﴾ بِذَلِكَ.
﴿ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ بِالكُفْرِ إذْ لا يَتَخَطّاهم ضَرَرُهُ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِإفادَةِ القَصْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ السّابِقُ، وفي الكَلامِ مِنَ التَّهَكُّمِ والإشارَةِ إلى تَمادِيهِمْ عَلى ما فِيهِمْ ما لا يَخْفى.
{"ayah":"وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡغَمَـٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}