﴿وقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسْباطًا أُمَمًا﴾
عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٩] إلَخْ، فَإنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ وقَعَ في الأُمَّةِ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالحَقِّ.
والتَّقْطِيعُ شِدَّةٌ في القَطْعِ وهو التَّفْرِيقُ، والمُرادُ بِهِ التَّقْسِيمُ، ولَيْسَ المُرادُ بِهَذا الخَبَرِ الذَّمَّ، ولا بِالتَّقْطِيعِ العِقابَ. لِأنَّ ذَلِكَ التَّقْطِيعَ مِنَّةٌ مِنَ اللَّهِ، وهو مِن مَحاسِنِ سِياسَةِ الشَّرِيعَةِ المُوسَوِيَّةِ، ومِن مُقَدِّماتِ نِظامِ الجَماعَةِ كَما فَصَّلَهُ السِّفْرُ الرّابِعُ، وهو سِفْرُ عَدَدِ بَنِي إسْرائِيلَ وتَقْسِيمِهِمْ، وهو نَظِيرُ ما فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ مِن تَدْوِينِ (p-١٤٣)الدِّيوانِ، وهم كانُوا مُنْتَسِبِينَ إلى أسْباطِ إسْحاقَ، ولَكِنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُقَسَّمِينَ عَشائِرَ لَمّا كانُوا في مِصْرَ، ولَمّا اجْتازُوا البَحْرَ، فَكانَ التَّقْسِيمُ بَعْدَ اجْتِيازِهِمُ البَحْرَ الأحْمَرَ، وقَبْلَ انْفِجارِ العُيُونِ، وهو ظاهِرُ القُرْآنِ في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي هَذِهِ السُّورَةِ لِقَوْلِهِ فِيهِما ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾ وذِكْرُهُ هُنا الِاسْتِسْقاءَ عَقِبَ الِانْقِسامِ إلى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةً، وذَلِكَ ضَرُورِيٌّ أنْ يَكُونَ قَبْلَ الِاسْتِسْقاءِ؛ لِأنَّهُ لَوْ وقَعَ السَّقْيُ قَبْلَ التَّقْسِيمِ لَحَصَلَ مِنَ التَّزاحُمِ عَلى الماءِ ما يُفْضِي إلى الضُّرِّ بِالقَوْمِ، وظاهِرُ التَّوْراةِ أنَّهم لَمّا مَرُّوا بِحُورِيبَ، وجاءَ شُعَيْبٌ لِلِقاءِ مُوسى: أنَّ شُعَيْبًا أشارَ عَلى مُوسى أنْ يُقِيمَ لَهم رُؤَساءَ أُلُوفٍ، ورُؤَساءَ مِئاتٍ، ورُؤَساءَ خَماسِينَ، ورُؤَساءَ عَشَراتٍ، حَسَبَ الإصْحاحِ ١٨ مِنَ الخُرُوجِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ الأُمَّةَ كانَتْ مُنْتَسِبَةً قَبائِلَ مِن قَبْلُ، لِيَسْهُلَ وضْعُ الرُّؤَساءِ عَلى الأعْدادِ، ووَقَعَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِن خُرُوجِهِمْ أنَّ اللَّهَ أمَرَ مُوسى أنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ بَنِي إسْرائِيلَ، وأنَّ مُوسى وهارُونَ جَمَعا جَمِيعَ بَنِي إسْرائِيلَ فانْتَسَبُوا إلى عَشائِرِهِمْ وبُيُوتِ آبائِهِمْ، كَما في الإصْحاحِ الأوَّلِ مِن سِفْرِ العَدَدِ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الأسْباطِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾ [البقرة: ١٣٦] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وجِيءَ بِاسْمِ العَدَدِ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ في قَوْلِهِ ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ لِأنَّ السِّبْطَ أُطْلِقَ هُنا عَلى الأُمَّةِ فَحُذِفَ تَمْيِيزُ العَدَدِ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ أُمَمًا عَلَيْهِ.
و(أسْباطًا) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ في وقَطَّعْناهم ولا يَجُوزُ كَوْنُهُ تَمْيِيزًا لِأنَّ تَمْيِيزَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ونَحْوِهِ لا يَكُونُ إلّا مُفْرَدًا.
وقَوْلُهُ (أُمَمًا) بَدَلٌ مِن (أسْباطًا) أوْ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وعُدِلَ عَنْ جَعْلِ أحَدِ الحالَيْنِ تَمْيِيزًا في الكَلامِ إيجازًا وتَنْبِيهًا عَلى قَصْدِ المِنَّةِ بِكَوْنِهِمْ أُمَمًا مِن آباءٍ إخْوَةٍ، وأنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِن أُولَئِكَ قَدْ صارَ أُمَّةً قالَ - تَعالى - ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] مَعَ ما يُذْكَرُ بِهِ لَفْظُ أسْباطٍ مِن تَفْضِيلِهِمْ لِأنَّ الأسْباطَ أسْباطُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
* * *
﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾
هَذا مَظْهَرٌ مِن مَظاهِرِ حِكْمَةِ تَقْسِيمِهِمْ إلى اثْنَيْ عَشَرَ سِبْطًا ولَمْ يُعْطَفْ هَذا الخَبَرُ بِالفاءِ لِإفادَةِ أنَّهُ مِنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
(p-١٤٤)وتَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ مَضى في مُشابِهَتِها عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿وإذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة: ٦٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
و(انْبَجَسَتْ) مُطاوِعُ بَجَسَ إذا شَقَّ. والتَّعْقِيبُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الفاءُ تَعْقِيبٌ مَجازِيٌّ تَشْبِيهًا لِقِصَرِ المُهْلَةِ بِالتَّعْقِيبِ، ونَظايِرُهُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ ومِنهُ ما وقَعَ في خَبَرِ الشُّرْبِ إلى أُمِّ زَرْعٍ قَوْلُها ”فَلَقِيَ امْرَأةً مَعَها ولَدانِ كالفَهْدَيْنِ يَلْعَبانِ مِن تَحْتِ خَصْرِها بِرُمّانَتَيْنِ فَطَلَّقَنِي ونَكَحَها“ إذِ التَّقْدِيرُ: فَأعْجَبَتْهُ فَطَلَّقَنِي ونَكَحَها.
* * *
﴿وظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ وأنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم وما ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾
ضَمائِرُ الغَيْبَةِ راجِعَةٌ إلى قَوْمِ مُوسى، وهَذِهِ الآيَةُ نَظِيرُ ما في سُورَةِ البَقَرَةِ سِوى اخْتِلافٍ بِضَمِيرَيِ الغَيْبَةِ هُنا وضَمِيرَيِ الخِطابِ هُناكَ لِأنَّ ما هُنالِكَ قُصِدَ بِهِ التَّوْبِيخُ.
وقَدْ أُسْنِدَ فِعْلُ (قِيلَ) في قَوْلِهِ ﴿وإذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ﴾ [الأعراف: ١٦١] إلى المَجْهُولِ وأُسْنِدَ في سُورَةِ البَقَرَةِ إلى ضَمِيرِ الجَلالَةِ وإذْ قُلْنا لِظُهُورِ أنَّ هَذا القَوْلَ لا يَصْدُرُ إلّا مِنَ اللَّهِ - تَعالى - .
{"ayah":"وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡغَمَـٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}