الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسْباطًا أُمَمًا وأَوْحَيْنا إلى مُوسى إذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الحَجَرَ فانْبَجَسَتْ مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الغَمامَ وأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ والسَّلْوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وما ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۝﴾ [الأعراف: ١٦٠]. لمّا دخَلَ بنو إسرائيلَ في التِّيهِ، أعطاهُمُ اللهُ الطعامَ والشرابَ، وقد جعَل اللهُ الشرابَ بعَدَدِهِمْ، فقد كانوا اثنَيْ عشَرَ سِبْطًا، لكلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشرَبُ منها هو ومَن معه، رَوى عِكْرِمةُ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «ذَلِكَ فِي التِّيهِ، ضَرَبَ لَهُمْ مُوسى الحَجَرَ، فَصارَ فِيهِ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا مِن ماءٍ، لِكُلِّ سِبْطٍ مِنهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنها»[[«تفسير الطبري» (٢ /٧).]]. ورَوى النَّسائيُّ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «فانْفَجَرَتْ مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ ناحِيَةٍ ثَلاثَةُ أعْيُنٍ، وأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنها»[[أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (١١٢٦٣).]]. وبنحوِه قال مجاهدٌ وجُوَيْبِرٌ وغيرُهما[[ينظر: «تفسير الطبري» (٢ /٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١ /١٢٢).]]. وفي هذا: أنّ الأصلَ مساواةُ الرعيَّةِ في العطيَّةِ، فإنّ هذا أقوَمُ لصفاءِ نفوسِهم، وقضاءِ وطَرِهم، وقطعًا للنِّزاعِ بينَهُمْ وبينَ مَن يَلِي أمْرَهم. اتخاذُ العُرَفاء والنُّقَباء: وفي ذلك: مشروعيَّةُ جعلِ العُرَفاءِ والنُّقَباءِ على الناسِ، يَقُومُونَ بشأنِهم، ويَرْعَوْنَ قِسْمةَ عطاياهُم بينَهم، كما فعَلَ الأسباطُ مع مَن كان معهم، كما قال تعالى: ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ ۝ وقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أسْباطًا أُمَمًا﴾ [الأعراف: ١٥٩ ـ ١٦٠]. ومِن السياسةِ الشرعيَّةِ: جعلُ نُقَباءَ في المجتَمَعاتِ، على كلِّ جهةٍ وناحيةٍ وجماعةٍ مِن الناسِ واحدٌ يبيِّنُ للسُّلْطانِ حالَهم، ويَرْفَعُ حاجتَهم، ويَدْفَعُ فِتْنَتَهم، ولا تكونُ للواحدِ منهم شَوْكةٌ يَفتئِتُ بها على إمامِ المُسلِمينَ. ومِن ذلك: تمييزُ ما لكلِّ بلدةٍ وجماعةٍ عمّا للأُخرى، حتى لا تتنازَعَ مع غيرِها، فإنّ الناسَ تتنافَسُ على الدُّنيا وتتقاتَلُ عليها، وفي فصلِ الحقوقِ وتمييزِها قطعٌ للنِّزاعِ والخلافِ، ولذا قال تعالى مُظهِرًا مِنَّتَهُ: ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾، وقد قال يحيى بنُ النضرِ: قلتُ لجُوَيْبِرٍ: كيف عَلِمَ كلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهم؟ قال: كان موسى يَضَعُ الحَجَرَ ويقومُ مِن كلِّ سِبْطٍ رجلٌ، ويضربُ موسى الحجرَ فينفجِرُ منه اثنتا عشْرةَ عينًا، فيَنْضَحُ مِن كلِّ عَيْنٍ على رجلٍ، فيَدْعُو ذلك الرجلُ سِبْطَهُ إلى تلك العَينِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١ /١٢٢).]]. ومِثلُ هذا العدلِ والتمييزِ يَدفَعُ الفسادَ والبَغْيَ والظُّلْمَ، ولمّا كان ذلك كذلك، أقامَ اللهُ بقِسْمةِ الحقوقِ والرِّزْقِ العَدْلَ، قال كما في البقرة: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا مِن رِزْقِ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ۝﴾ [٦٠]. حكمُ أخذِ السلطانِ مِن بيتِ المالِ وحدودُهُ: ويأخُذُ الحاكمُ مِن بيتِ المالِ ما يَكْفِيهِ ويُغنيهِ عن الاشتغالِ بالتكسُّبِ، حتى لا تتعطَّلَ مصالحُ المُسلِمينَ باشتغالِهِ عنهم، وبهذا القَدْرِ كان يأخُذُ أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ ـ عليهم رضوانُ اللهِ ـ لأنّ المالَ مِلْكٌ للمُسلِمينَ ومَصالِحِهم، لا مِلْكٌ يخُصُّ السُّلْطانَ. ولذا قال أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ: «إنِّي ما أصَبْتُ مِن دُنياكُم بشيءٍ، ولقد أقمتُ نفسي في مالِ اللهِ وفَيْءِ المُسلِمينَ مُقامَ الوَصِيِّ في مالِ اليتيمِ، إنِ استغنى تعفَّفَ، وإنِ افتقَرَ أكَلَ بالمعروفِ»[[«تاريخ اليعقوبي» (٢ /٢٤).]]. ورُوي عن عمرَ بنِ الخطّابِ قولُهُ: «واللهِ، ما كنتُ أرى هذا المالَ يَحِقُّ لي مِن قَبْلِ أنْ ألِيَهُ إلاَّ بحقِّه، وما كان قطُّ أحْرَمَ عليَّ منه إذْ ولِيتُهُ، فأصبَحَ أمانتي»[[«الطبقات الكبرى» (٣ /٢٧٧).]]. وفي هذا المعنى عنهما شيءٌ غيرُ قليلٍ. قِسْمَةُ المالِ العامِّ: والأصلُ: أنّ العطيَّةَ تكونُ بينَ الرعيَّةِ بالسَّواءِ، إلاَّ لمصلحةٍ عامَّةٍ راجحةٍ تَقتضيهِ، فيكونُ مِن بابِ تأليفِ القلبِ، ودفعِ شرِّ ذي الشرِّ. ومِن واجباتِ السُّلْطانِ في المالِ: قِسْمةُ المالِ في مهمّاتِه، فلا يُقدِّمُ حقًّا على أحَقَّ منه، فضلًا عن تقديمِ شرٍّ على خيرٍ، وباطلٍ على حقٍّ، فالمالُ أمانةٌ، ومَن وضَعَهُ في موضعٍ وهو يَعلَمُ موضعًا أوجَبَ منه وأحَقَّ، فقد تخوَّضَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ، كما قال ﷺ: (إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النّارُ يَوْمَ القِيامَةِ) [[أخرجه البخاري (٣١١٨).]]. ومَن تصرَّفَ في مالِ المُسلِمينَ بغيرِ وجْهِه، ففيه صِفَةٌ مِن المُلُوكِ، ومَن صرَفَهُ بعدلٍ بينَ الناسِ بالعدلِ وعلى حقِّ اللهِ، فهو خليفةٌ على مِنهاجِ النبوَّةِ، فقد سأَل عمرُ سَلْمانَ الفارسيَّ: «أمَلِكٌ أنا أمْ خَلِيفَةٌ؟ قال: إنْ أنْتَ جَبَيْتَ مِن أرْضِ المُسْلِمِينَ دِرْهَمًا أوْ أقَلَّ أوْ أكْثَرَ، ثُمَّ وضَعْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، فَأَنْتَ مَلِكٌ»[[«الطبقات الكبرى» (٣ /٣٠٦).]]. إعطاءُ الحاكِمِ مالًا لأحدٍ دُونَ غيرِهِ: وللحاكمِ أنْ يُعطيَ مِن المالِ لأحدٍ ما لا يُعطِي غيرَهُ، إذا قامتْ مصلحةٌ عامَّةٌ، لا مصلحةٌ خاصَّةٌ يتضرَّرُ بها غيرُهُ، فردًا كان أو جماعةً، وقد أعطى النبيُّ ﷺ أقوامًا، وترَكَ آخَرِينَ، لمصلَحَةِ تأليفِهم، لا لمصلحةِ أشخاصِهم ودُنْياهم يَنتفِعُونَ بها ويَتضرَّرُ بذلك غيرُهم، والحاكمُ نائبٌ عن المُسلِمينَ في التصرُّفِ في المالِ بما يُصلِحُ دِينَهُمْ ودُنياهم، وفي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ سعدٍ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أعْطى رَهْطًا وسَعْدٌ جالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ رَجُلًا هُوَ أعْجَبُهُمْ إلَيَّ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ما لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَواللهِ إنِّي لَأَراهُ مُؤْمِنًا، فَقالَ: (أوْ مُسْلِمًا)، فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنهُ، فَعُدتُّ لِمَقالَتِي، فَقُلْتُ: ما لَكَ عَنْ فُلانٍ؟ فَواللهِ إنِّي لَأَراهُ مُؤْمِنًا، فَقالَ: (أوْ مُسْلِمًا)، ثُمَّ غَلَبَنِي ما أعْلَمُ مِنهُ فَعُدتُّ لِمَقالَتِي، وعادَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قالَ: (يا سَعْدُ، إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وغَيْرُهُ أحَبُّ إلَيَّ مِنهُ، خَشْيَةَ أنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النّارِ) [[أخرجه البخاري (٢٧)، ومسلم (١٥٠).]]. وقد قال النبيُّ ﷺ: (ما أُعْطِيكُمْ ولا أمْنَعُكُمْ، إنَّما أنا قاسِمٌ، أضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ) [[أخرجه البخاري (٣١١٧).]]، وفي لفظٍ: (إنْ أنا إلاَّ خازِنٌ) [[أخرجه أحمد (٢ /٣١٤)، وأبو داود (٢٩٤٩).]]. فجعَلَ ﷺ مِن نفسِهِ خازِنًا قاسِمًا بينَهم ما يُؤمَرُ به مِن ربِّه، وما يقومُ به قائمُ العَدْلِ في الميزانِ الذي أنزَلَهُ اللهُ في الأرضِ، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥]، فإذا لم يكنْ ذلك للأنبياءِ، فليس لغيرِهم مِن السلاطينِ والحُكّامِ. وإذا لم يَتضرَّرْ بالعطيَّةِ أحدٌ، ووجَدَ الحاكمُ في بعضِ المُسلِمينَ قدرةً على الانتِفاعِ ونفعِ الناسِ باستِصْلاحِ أراضِي المُسلِمينَ ونفعِهم بها، فله أنْ يُعْطِيَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب