ولَمّا مَدَحَهُمْ، شَرَعَ يُذَكِّرُهم شَيْئًا مِمّا أسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ لِأجْلِ هَؤُلاءِ المُهْتَدِينَ مِنَ التَّكْثِيرِ بَعْدَ القِلَّةِ والإعْزازِ بَعْدَ الذِّلَّةِ بِجَعْلِهِمْ مِمَّنْ يُؤَمُّ اسْتِعْطافًا لِغَيْرِهِمْ، ويَذْكُرُ بَعْضَ عُقُوباتِهِمْ تَرْهِيبًا فَقالَ: ﴿وقَطَّعْناهُمُ﴾ أيْ: فَرَّقْنا بَيْنَهم بِالأشْخاصِ بَعْدَ أنْ كانُوا ماءً واحِدًا مِن شَخْصٍ واحِدٍ، وهو إسْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ وصَرَّحَ بِالكَثْرَةِ بَعْدَ أنْ لَوَّحَ بِها بِالتَّقْطِيعِ بِقَوْلِهِ: ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ ومَيَّزَهُ - مَوْضِعَ المُفْرَدِ الَّذِي هو مُمَيَّزُ العَشَرَةِ - بِالجَمْعِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ كُلَّ سِبْطٍ يَشْتَمِلُ لِكَثْرَتِهِ عَلى عِدَّةِ قَبائِلَ بِقَوْلِهِ: ﴿أسْباطًا﴾ والسِّبْطُ - بِالكَسْرِ: ولَدُ الوَلَدِ، والقَبِيلَةُ مِنَ اليَهُودِ، وهَذِهِ المادَّةُ تَدُورُ عَلى الكَثْرَةِ والبَسْطِ؛ وبَيَّنَ عَظَمَتَهم وكَثْرَةَ انْتِشارِهِمْ وتَشَعُّبِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿أُمَمًا﴾ أيْ: هم أهْلٌ لِأنْ يَقْصِدَهُمُ النّاسُ لِما لَهم مِنَ الكَثْرَةِ والقُوَّةِ والدِّينِ، أوْ أنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنهم تُؤَمُّ خِلافَ ما تَؤُمُّهُ الأُخْرى مِن غَيْرِهِمْ دِينًا.
(p-١٣٣)ولَمّا وصَفَهم بِهَذِهِ الكَثْرَةِ، وكانَ ذَلِكَ مَجْرًى لِذِكْرِ الإنْعامِ عَلَيْهِمْ بِالكِفايَةِ في الأكْلِ والشُّرْبِ، ذَكَرَ نِعْمَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ في الماءِ، وبَدَأ بِهِ لِأنَّهُ الأصْلُ في الحَياةِ، وهي مِن نَوْعِ تَقْسِيمِهِمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ مُشِيرَةً إلى ظُلْمِهِمْ وإسْراعِهِمْ في المُرُوقِ فَقالَ: ﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى إذِ﴾ أيْ: حِينَ ﴿اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾ أيْ: طَلَبُوا مِنهُ في بَرِّيَّةٍ لا ماءَ بِها أنْ يَسْقِيَهُمْ، وذَلِكَ في التِّيهِ، والتَّعْبِيرُ بِالقَوْمِ إشارَةٌ إلى تَبْكِيتِهِمْ بِكَوْنِهِمْ أهْلَ قُوَّةٍ ولَمْ يَتَأسَّوْا بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في الصَّبْرِ إلى أنْ يَأْتِيَ اللَّهُ الَّذِي أمَرَهم بِهَذا المَسِيرِ بِالفَرَجِ، بَلْ طَلَبُوا مِنهُ ذَلِكَ عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ في البَقَرَةِ مِن إظْهارِ القَلَقِ والدَّمْدَمَةِ ﴿أنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ﴾ أيِ: الَّتِي جَعَلْناها لَكَ آيَةً وضَرَبْتَ بِها البَحْرَ فانْفَلَقَ ﴿الحَجَرَ﴾ أيْ: أيَّ حَجَرٍ أرَدْتَهُ مِن هَذا الجِنْسِ؛ وبَيَّنَ سُبْحانَهُ سُرْعَةَ امْتِثالِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وسُرْعَةَ التَّأْثِيرِ عَنْ ضَرْبِهِ بِحَذْفِ: فَضَرَبَهُ، وقَوْلِهِ مُشِيرًا إلَيْهِ: ﴿فانْبَجَسَتْ﴾ أيْ: فانْشَقَّتْ وظَهَرَتْ ونَبَعَتْ، [وذَلِكَ كافٍ في تَعْنِيفِهِمْ وذَمِّهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ بَعْدَ المَنِّ بِهِ، وهَذا السِّياقُ الَّذِي هو لِبَيانِ إسْراعِهِمْ في المُرُوقِ هو لا يُنافِي أنْ يَكُونَ عَلى وجْهِ الِانْفِجارِ، ويَكُونُ التَّعْنِيفُ حِينَئِذٍ أشَدَّ] ﴿مِنهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ عَلى عَدَدِ الأسْباطِ، وأشارَ إلى شِدَّةِ تَمايُزِها بِقَوْلِهِ؛ ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾ أيْ: مِنَ الأسْباطِ ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ ولَمّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْأكْلِ ذِكْرٌ ولا كانَ هَذا سِياقَ الِامْتِنانِ، لَمْ يَذْكُرْ ما أتَمَّ هَذِهِ الآيَةَ بِهِ في البَقَرَةِ.
(p-١٣٤)ولَمّا ذَكَرَ تَبْرِيدَ الأكْبادِ بِالماءِ، أتْبَعَهُ تَبْرِيدَها بِالظِّلِّ فَقالَ: ﴿وظَلَّلْنا﴾ أيْ: في التِّيهِ ﴿عَلَيْهِمُ الغَمامَ﴾ أيْ: لِئَلّا يَتَأذَّوْا بِالشَّمْسِ؛ ولَمّا أتَمَّ تَبْرِيدَ الأكْبادِ، أتْبَعَهُ غِذاءَ الأجْسادِ فَقالَ: ﴿وأنْـزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ﴾ أيْ: خُبْزًا ﴿والسَّلْوى﴾ أيْ: إدامًا؛ وقالَ السَّمَوْألُ بْنُ يَحْيى: وهو طائِرٌ صَغِيرٌ يُشْبِهُ السُّمانى، وخاصِّيَّتُهُ أنَّ أكْلَ لَحْمِهِ يُلَيِّنُ القُلُوبَ القاسِيَةَ، يَمُوتُ إذا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ كَما أنَّ الخُطّافَ يَقْتُلُهُ البَرْدُ، فَيُلْهِمُهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنْ يَسْكُنَ جَزائِرَ البَحْرِ الَّتِي لا يَكُونُ بِها مَطَرٌ ولا رَعْدٌ إلى انْفِصالِ أوانِ المَطَرِ والرَّعْدِ، فَيَخْرُجُ مِنَ الجَزائِرِ ويَنْتَشِرُ في الأرْضِ.
ولَمّا ذَكَرَ عَظَمَتَهُ في ذَلِكَ، ذَكَرَ نَتِيجَتَهُ فَقالَ: ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ أيْ: بِصِفَةِ العَظَمَةِ القاهِرَةِ لِما نُرِيدُ مِمّا لَمْ تُعالِجُوهُ نَوْعَ مُعالَجَةٍ، ودَلَّ عَلى أنَّهم قابَلُوا هَذا الإحْسانَ بِالطُّغْيانِ والظُّلْمِ والعُدْوانِ بِقَوْلِهِ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَعَدَلُوا عَنِ الطِّبِّيّاتِ المَأْذُونِ فِيها، وأكَلُوا الخَبائِثَ الَّتِي حَرَّمْناها عَلَيْهِمْ بِالِاصْطِيادِ يَوْمَ السَّبْتِ - كَما يَأْتِي - وفَعَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّماتِ، فَظَلَمُوا أنْفُسَهم بِذَلِكَ: ﴿وما ظَلَمُونا﴾ أيْ: بِشَيْءٍ مِمّا قابَلُوا فِيهِ الإحْسانَ بِالكُفْرانِ ﴿ولَكِنْ كانُوا﴾ أيْ: دائِمًا جِبِلَّةً وطَبْعًا ﴿أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿يَظْلِمُونَ﴾ وهو - مَعَ كَوْنِهِ مِن أدِلَّةِ ﴿سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ﴾ [الأعراف: ١٤٦] الآيَةَ. - دَلِيلٌ عَلى صِحَّةِ وصْفِ هَذا الرَّسُولِ بِالنَّبِيِّ؛ فَإنَّ مَن عَلِمَ هَذِهِ الدَّقائِقَ مِن أخْبارِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا ولَمْ يُخالِطْ أحَدًا مِن أحْبارِهِمْ، (p-١٣٥)كانَ صادِقًا عَنْ عَلّامِ الغُيُوبِ مِن غَيْرِ مُؤَيِّدٍ وكَذا ما بَعْدَهُ.
{"ayah":"وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡغَمَـٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"}