الباحث القرآني
﴿وأُولَئِكم جَعَلْنا لَكم عَلَيْهِمْ سُلْطانًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٩١]؛ أيْ عَلى أخْذِهِمْ وقَتْلِهِمْ حُجَّةً واضِحَةً؛ وذَلِكَ لِظُهُورِ عَداوَتِهِمْ وانْكِشافِ حالِهِمْ في الكُفْرِ والغَدْرِ وإضْرارِهِمْ بِأهْلِ الإسْلامِ، أوْ حُجَّةً ظاهِرَةً حَيْثُ أذِنّا لَكم في قَتْلِهِمْ. قالَ عِكْرِمَةُ: حَيْثُما وقَعَ السُّلْطانُ في كِتابِ اللَّهِ فالمُرادُ بِهِ الحُجَّةُ.
﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾ رُوِيَ «أنَّ عَيّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ، وكانَ أخا أبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ؛ أسْلَمَ وهاجَرَ خَوْفًا مِن قَوْمِهِ إلى المَدِينَةِ، وذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأقْسَمَتْ أُمُّهُ لا تَأْكُلُ ولا تَشْرَبُ ولا يُؤْوِيها سَقْفٌ حَتّى يَرْجِعَ؛ فَخَرَجَ أبُو جَهْلٍ ومَعَهُ الحارِثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ؛ فَأتَياهُ وهو في أُطُمٍ؛ فَفَتَكَ مِنهُ أبُو جَهْلٍ في الزَّرُودِ والغارِبِ، وقالَ: ألَيْسَ مُحَمَّدٌ يَحُثُّكَ عَلى صِلَةِ الرَّحِمِ ؟ انْصَرِفْ وبِرَّ أُمَّكَ، وأنْتَ عَلى دِينِكَ؛ حَتّى نَزَلَ وذَهَبَ مَعَهُما؛ فَلَمّا أبْعَدا عَنِ المَدِينَةِ كَتَّفاهُ وجَلَدَهُ كُلُّ واحِدٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ؛ فَقالَ لِلْحارِثِ: هَذا أخِي فَمَن أنْتَ يا حارِثُ للَّهِ عَلَيَّ إنْ وجَدْتُكَ خالِيًا أنْ أقْتُلَكَ. وقَدِما بِهِ عَلى أُمِّهِ فَحَلَفَتْ لا تُحَلُّ كِتافُهُ أوْ يَرْتَدَّ؛ فَفَعَلَ. (p-٣٢٠)ثُمَّ هاجَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وأسْلَمَ الحارِثُ وهاجَرَ فَلَقِيَهُ عَيّاشٌ بِظَهْرِ قُباءَ، ولَمْ يَشْعُرْ بِإسْلامِهِ، فَأنْحى عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أُخْبِرَ بِإسْلامِهِ، فَأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: قَتَلْتُهُ ولَمْ أشْعُرْ بِإسْلامِهِ؛ فَنَزَلَتْ» . وقِيلَ نَزَلَتْ في رَجُلٍ كانَ يَرْعى غَنَمًا؛ فَقَتَلَهُ في بَعْضِ السَّرايا أبُو الدَّرْداءِ وهو يَتَشَهَّدُ، وساقَ غَنَمَهُ، فَعَنَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ نَزَلَتْ في أبِي حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ حِينَ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ خَطَأً. وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، انْتَهى.
ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها: أنَّهُ تَعالى لَمّا رَغَّبَ في مُقاتَلَةِ الكُفّارِ؛ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَتَعَلَّقُ بِالمُحارَبَةِ، ومِنها أنْ يَظُنَّ رَجُلًا حَرْبِيًّا، وهو مُسْلِمٌ فَيَقْتُلَهُ. وهَذا التَّرْكِيبُ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها إلّا خائِفِينَ﴾ [البقرة: ١١٤]، وفي قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]، وكانَ يُغْنِي الكَلامُ هُناكَ عَنِ الكَلامِ هُنا، ولَكِنْ رَأيْنا جَمْعَ ما قالَهُ مَن وقَفْنا عَلى كَلامِهِ مِنَ المُفَسِّرِينَ هُنا.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما كانَ لِمُؤْمِنٍ: ما صَلُحَ لَهُ، ولا اسْتَقامَ ولا لاقَ بِحالِهِ؛ كَقَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَغُلَّ﴾ [آل عمران: ١٦١]، وما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ، أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ابْتِداءً غَيْرَ قِصاصٍ إلّا خَطَأً عَلى وجْهِ الخَطَأِ. فَإنْ قُلْتَ: بِما انْتَصَبَ خَطَأٌ ؟ قُلْتُ: بِأنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ؛ أيْ ما يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ إلّا لِلْخَطَأِ وحْدَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا بِمَعْنى: لا يَقْتُلُهُ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ الخَطَأِ، وأنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ؛ أيْ إلّا قَتْلًا خَطَأً.
والمَعْنى: أنَّ مِن شَأْنِ المُؤْمِنِ أنْ تَنْتَفِيَ عَنْهُ وُجُوهُ قَتْلِ المُؤْمِنِ ابْتِداءً البَتَّةَ؛ إلّا إذا وُجِدَ مِنهُ خَطَأٌ مِن غَيْرِ قَصْدٍ بِأنْ يَرْمِيَ كافِرًا فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أوْ يَرْمِيَ شَخْصًا عَلى أنَّهُ كافِرٌ فَإذا هو مُسْلِمٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالَ جُمْهُورُ أهْلِ التَّفْسِيرِ: ما كانَ في إذَنْ اللَّهِ، ولا في أمْرِهِ لِلْمُؤْمِنِ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِوَجْهٍ، ثُمَّ اسْتَثْنى اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ، وهو الَّذِي يَكُونُ فِيهِ إلّا بِمَعْنى (لَكِنْ) والتَّقْدِيرُ: ولَكِنَّ الخَطَأ قَدْ يَقَعُ، ويَتَّجِهُ وجْهًا آخَرَ؛ وهو أنْ تُقَدَّرَ كانَ بِمَعْنى اسْتَقَرَّ ووُجِدَ. كَأنَّهُ قالَ: وما وُجِدَ ولا تَقَرَّرَ، ولا ساغَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً إذْ هو مَغْلُوبٌ فِيهِ أحْيانًا؛ فَيَجِيءُ الِاسْتِثْناءُ عَلى هَذا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، وتَتَضَمَّنُ الآيَةُ عَلى هَذا إعْظامَ العَهْدِ وبَشاعَةَ شَأْنِهِ كَما تَقُولُ: ما كانَ لَكَ يا فُلانُ أنْ تَتَكَلَّمَ بِهَذا إلّا ناسِيًا إعْظامًا لِلْعَمْدِ والقَصْدِ، مَعَ حَظْرِ الكَلامِ بِهِ البَتَّةَ.
وقالَ الرّاغِبُ: إنْ قِيلَ أيَجُوزُ أنْ يُقْتَلَ المُؤْمِنُ خَطَأً حَتّى يُقالَ: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾، قِيلَ قَوْلُكَ يَجُوزُ أوْ لا يَجُوزُ ؟ إنَّما يُقالُ في الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ المَقْصُودَةِ؛ فَأمّا الخَطَأُ فَلا يُقالُ فِيهِ ذَلِكَ، وما كانَ لَكَ أنْ تَفْعَلَ كَذا وما كُنْتَ لِتَفْعَلَ كَذا مُتَقارِبانِ، وهُما لا يُقالانِ بِمَعْنًى؛ وإنْ كانَ أكْثَرُ ما يُقالُ الأوَّلَ لَمّا كانَ الإحْجامُ عَنْهُ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ؛ أيْ ما كانَ المُؤْمِنُ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً؛ ولِهَذا المَعْنى أرادَ مَن قالَ مَعْناهُ: ما يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؛ لَكِنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنهُ خَطَأً. وكَذا مَن قالَ: لَيْسَ في حُكْمِ اللَّهِ أنْ يُقْتَلَ المُؤْمِنُ إلّا خَطَأً. وقالَ الأصَمُّ: مَعْناهُ لَيْسَ القَتْلُ لِمُؤْمِنٍ بِمَتْرُوكٍ أنْ يَقْتَضِيَ لَهُ؛ إلّا أنْ يَكُونَ قَتْلُهُ خَطَأً.
وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: وما كانَ؛ أيْ فِيما آتاهُ اللَّهُ أوْ عَهِدَ إلَيْهِ، أوْ ما كانَ لَهُ في شَيْءٍ مِنَ الأزْمِنَةِ ذَلِكَ والغَرَضُ مِنهُ بَيانُ أنَّ حُرْمَةَ القَتْلِ كانَتْ ثابِتَةً مِن أوَّلِ زَمانِ التَّكْلِيفِ. وقالَ أبُو هاشِمٍ: تَقْدِيرُ الآيَةِ؛ وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا ويَبْقى مُؤْمِنًا إلّا أنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً؛ فَيَبْقى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، وهَذا الَّذِي قالَهُ أبُو هاشِمٍ قالَهُ السُّدِّيُّ. قالَ السُّدِّيُّ: قَتْلُ المُؤْمِنِ المُؤْمِنَ يُخْرِجُهُ عَنْ أنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا؛ إلّا أنْ يَكُونَ خَطَأً، ولَيْسَ هَذا مُعْتَقَدَ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ. وقِيلَ هو نَفْيُ جَوازِ قَتْلِ المُؤْمِنِ؛ ومَعْناهُ: النَّهْيُ، وأفادَ دُخُولُ كانَ أنَّهُ لَمْ يَزَلْ حُكْمَ اللَّهِ. وقالَ الماتُرِيدِيُّ: الإشْكالُ أنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى المُؤْمِنَ عَنِ القَتْلِ مُطْلَقًا، واسْتَثْنى الخَطَأ والِاسْتِثْناءُ مِنَ النَّفْيِ إثْباتٌ، ومِنَ التَّحْرِيمِ إباحَةٌ. وقَتْلُ الخَطَأِ لَيْسَ بِمُباحٍ بِالإجْماعِ؛ وفي كَوْنِهِ حَرامًا كَلامٌ، انْتَهى.
ومُلَخَّصُ ما بُنِيَ عَلى هَذا أنَّهُ إنْ كانَ نَفْيًا، وأُرِيدَ بِهِ مَعْنى النَّهْيِ كانَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا؛ إذْ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ المَعْنى: (p-٣٢١)إلّا خَطَأً فَلَهُ قَتْلُهُ. وإنْ كانَ نَفْيًا أُرِيدَ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ فَيَكُونُ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا؛ إذْ يَصِيرُ المَعْنى: إلّا خَطَأً بِأنْ عَرَفَهُ كافِرًا فَقَتَلَهُ، وكَشَفَ الغَيْبُ أنَّهُ كانَ مُؤْمِنًا؛ فَيَكُونُ قَدْ أُبِيحَ الإقْدامُ عَلى قَتْلِ الكَفَرَةِ؛ وإنْ كانَ فِيهِمْ مَن أسْلَمَ؛ إذا لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ؛ فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مِنَ الحَظْرِ إباحَةً. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: المَعْنى، وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا ولا خَطَأً فَيَكُونُ إلّا بِمَعْنى (ولا) . وأنْكَرَ الفَرّاءُ هَذا القَوْلَ، وقالَ: مِثْلُ هَذا لا يَجُوزُ؛ إلّا إذا تَقَدَّمَ اسْتِثْناءٌ آخَرُ، ويَكُونُ الثّانِي عَطْفَ اسْتِثْناءٍ عَلى اسْتِثْناءٍ، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎ما بِالمَدِينَةِ دارٌ غَيْرَ واحِدَةٍ دارُ الخَلِيفَةِ إلّا دارَ مَرْوانا
ورَوى أبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أنَّهُ سَألَ رُؤْبَةَ بْنَ العَجّاجِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: لَيْسَ لَهُ أنْ يَقْتُلَهُ عَمْدًا ولا خَطَأً؛ ولَكِنَّهُ أقامَ (إلّا) مَقامَ الواوِ، وهو كَقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎وكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ∗∗∗ لَعَمْرُ أبِيكِ إلّا الفَرْقَدانِ
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: إلّا خَطَأً اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ مِنهم: أبانُ بْنُ تَغْلِبَ. والمَعْنى: لَكِنَّ المُؤْمِنَ قَدْ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ خَطَأً والقَتْلُ عِنْدَ مالِكٍ عَمْدٌ وخَطَأٌ؛ فَيُقادُ بِاللَّطْمَةِ والعَضَّةِ، وضَرْبِ السَّوْطِ مِمّا لا يَقْتُلُ غالِبًا. وعِنْدَ الشّافِعِيِّ: عَمْدٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ. ولا قِصاصَ في شِبْهِ العَمْدِ ولا الخَطَأِ. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ: عَمْدٌ وخَطَأٌ وشِبْهُ عَمْدٍ وما لَيْسَ بِخَطَأٍ ولا عَمْدٍ ولا شِبْهِ عَمْدٍ. والخَطَأُ ضَرْبانِ: أنْ يَقْصِدَ رَمْيَ مُشْرِكٍ أوْ طائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، أوْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا؛ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ سِيما أهْلِ الشِّرْكِ، أوْ في حَيِّزِهِمْ. وشِبْهُ العَمْدِ ما يُعْمَدُ بِما لا يَقْتُلُ غالِبًا مِن حَجَرٍ أوْ عَصًا، وما لَيْسَ بِخَطَأٍ ولا عَمْدٍ ولا شِبْهِ عَمْدٍ قَتْلُ السّاهِي والنّائِمِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ خَطّاءً عَلى وزْنِ بَنّاءٍ. وقَرَأ الحَسَنُ والأعْمَشُ: عَلى وزْنِ سَماءٍ مَمْدُودًا. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: عَلى وزْنِ عَصًا مَقْصُورًا؛ لِكَوْنِهِ خَفَّفَ الهَمْزَةَ بِإبْدالِها ألِفًا أوْ إلْحاقًا بِدَمٍ، أوْ حَذَفَ الهَمْزَةَ حَذْفًا كَما حَذَفَ لامَ (دَمٍ) . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وُجُوهُ الخَطَأِ كَثِيرَةٌ، ومَرْبِطُها عَدَمُ القَصْدِ.
﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ التَّحْرِيرُ: الإعْتاقُ، والعَتِيقُ: الكَرِيمُ؛ لِأنَّ الكَرَمَ في الأحْرارِ كَما أنَّ اللُّؤْمَ في العَبِيدِ. ومِنهُ عِتاقُ الطَّيْرِ، وعِتاقُ الخَيْلِ لِكِرامِها. وحُرُّ الوَجْهِ أكْرَمُ مَوْضِعٍ (p-٣٢٢)مِنهُ والرَّقَبَةُ عُبِّرَ بِها عَنِ النَّسَمَةِ؛ كَما عُبِّرَ عَنْها بِالرَّأْسِ في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يَمْلِكُ كَذا رَأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ. والظّاهِرُ أنَّ كُلَّ رَقَبَةٍ اتَّصَفَتْ بِأنْ يُحْكَمَ لَها بِالإيمانِ مُنْتَظِمٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، انْتِظامَ عُمُومِ البَدَلِ؛ فَيَنْدَرِجُ فِيها مَن وُلِدَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ، ومَن أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمٌ؛ صَغِيرًا كانَ أوْ كَبِيرًا، ومَن سَباهُ مُسْلِمٌ مِن دارِ الحَرْبِ قَبْلَ البُلُوغِ.
وقالَ إبْراهِيمُ: لا يُجْزِئُ إلّا البالِغُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ وغَيْرُهم: لا يُجْزِئُ إلّا الَّتِي صامَتْ وعَقَلَتِ الأيْمانَ، لا يُجْزِئُ في ذَلِكَ الصَّغِيرَةُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، والأوْزاعِيُّ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ وزُفَرُ: يُجْزِئُ في كَفّارَةِ القَتْلِ الصَّبِيُّ إذا كانَ أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمًا. وقالَ عَطاءٌ: يُجْزِئُ الصَّغِيرُ المَوْلُودُ بَيْنَ المُسْلِمَيْنِ. وقالَ مالِكٌ: مَن صَلّى وصامَ أحَبُّ إلَيَّ، ولا خِلافَ أنَّ قَوْلَهُ: ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا؛ يَنْتَظِمُ الصَّغِيرَ والكَبِيرَ؛ وكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ في ”فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ“ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ النّاقِصَ النُّقْصانَ الكَبِيرَ كَقَطْعِ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ والأعْمى لا يُجْزِئُ فِيما حَفِظْتُ؛ فَإنْ كانَ يَسِيرًا يُمْكِنُ مَعَهُ المَعِيشَةُ والتَّحَرُّفُ كالعَرَجِ ونَحْوِهِ؛ فَفِيهِ قَوْلانِ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لا خِلافَ بَيْنَ الأُمَّةِ أنَّهُ لا يُجْزِئُ في الكَفّارَةِ أعْمى ولا مُقْعَدٌ ولا مَقْطُوعُ اليَدَيْنِ أوِ الرِّجْلَيْنِ، ولا أشَلُّهُما، واخْتَلَفُوا في الأعْرَجِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: يُجْزِئُ مَقْطُوعُ إحْدى اليَدَيْنِ أوِ الرِّجْلَيْنِ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ والأكْثَرُونَ: لا يُجْزِئُ عِنْدَ أكْثَرِهِمُ المَجْنُونُ المُطْبَقُ، ولا عِنْدَ مالِكٍ الَّذِي يُجَنُّ ويُفِيقُ، ولا المُعْتَقُ إلى سِنِينَ، ويُجْزِئانِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ. ولا يُجْزِئُ المُدَبَّرُ عِنْدَ مالِكٍ، والأوْزاعِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْيِ، ويُجْزِئُ في قَوْلِ الشّافِعِيِّ وأبِي ثَوْرٍ، واخْتارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ. وقالَ مالِكٌ: لا يَصِحُّ مَن أُعْتِقَ بَعْضُهُ. واخْتَلَفُوا في سَبَبِ وُجُوبِ الكَفّارَةِ في قَتْلِ الخَطَأِ. فَقِيلَ تَمْحِيصًا، وطُهْرًا لذَنْبِ القاتِلِ؛ حَيْثُ تَرَكَ الِاحْتِياطَ والتَّحَفُّظَ حَتّى هَلَكَ عَلى يَدَيْهِ امْرُؤٌ مَحْقُونُ الدَّمِ. وقِيلَ لَمّا أخْرَجَ نَفْسًا مُؤْمِنَةً عَنْ جُمْلَةِ الأحْياءِ لَزِمَهُ أنْ يُدْخِلَ نَفْسًا مِثْلَها في جُمْلَةِ الأحْرارِ؛ لِأنَّ إطْلاقَها مِن قَيْدِ الرِّقِّ حَياتُها مِن قِبَلِ أنَّ الرَّقِيقَ مَمْنُوعٌ مِن تَصَرُّفِ الأحْرارِ.
والظّاهِرُ أنَّ وُجُوبَ التَّحْرِيرِ والدِّيَةِ عَلى القاتِلِ؛ لِأنَّهُ مُسْتَقِرٌّ في الكِتابِ والسُّنَّةِ: أنَّ مَن فَعَلَ شَيْئًا يَلْزَمُ فِيهِ أمْرٌ مِنَ الغَراماتِ مِثْلَ الكَفّاراتِ؛ إنَّما يَجِبُ ذَلِكَ عَلى فاعِلِهِ. فَأمّا التَّحْرِيرُ فَفي مالِ القاتِلِ. وأمّا الدِّيَةُ فَعَلى العاقِلَةِ كُلِّها في قَوْلِ طائِفَةٍ مِنهُمُ: الأوْزاعِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ. وما جاوَزَ الثُّلُثَ في قَوْلِ الجُمْهُورِ أبِي حَنِيفَةَ ومالِكٍ والشّافِعِيِّ واللَّيْثِ وابْنِ شُبْرُمَةَ وغَيْرِهِمْ. وأمّا الثُّلُثُ فَفي مالِ الجانِي، ولَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ إلّا عَلى سَبِيلِ المُواساةِ. وهي خِلافُ قِياسِ الأُصُولِ في الغَراماتِ والمُتْلَفاتِ. والدِّيَةُ كانَتْ مُسْتَقِرَّةً في الجاهِلِيَّةِ. قالَ الشّاعِرُ:
؎نَأْسُوا بِأمْوالِنا آثارَ أيْدِينا
ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِمِقْدارِ ما يُعْطى في الدِّيَةِ، ولا مِن أيِّ شَيْءٍ تَكُونُ. فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ: إلى أنَّها مِنَ الإبِلِ مِائَةٌ عَلى ما يَأْتِي تَفْصِيلُها والدَّنانِيرُ والدَّراهِمُ ألْفُ دِينارٍ، أوْ عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. وقالَ أبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: ومِنَ البَقَرِ والشّاةِ والحُلَلِ، وبِهِ قالَتْ طائِفَةٌ مِنَ التّابِعِينَ، وهو قَوْلُ الفُقَهاءِ السَّبْعَةِ المَدَنِيِّينَ. فَمِنَ البَقَرِ مِائَتا بَقَرَةٍ، ومِنَ الشّاةِ ألْفُ شاةٍ، ومِنَ الحُلَلِ مِائَتا حُلَّةٍ، وذَلِكَ فِعْلُ عُمَرَ. وجَعَلَهُ عَلى كُلِّ أهْلِ صِنْفٍ مِن ذَلِكَ ما ذَكَرَ.
وقالَ مالِكٌ: أهْلُ الذَّهَبِ أهْلُ الشّامِ ومِصْرَ، وأهْلُ الوَرِقِ أهْلُ العِراقِ، وأهْلُ الإبِلِ أهْلُ البَوادِي، فَلا يُقْبَلُ مِن أهْلِ الإبِلِ إلّا الإبِلُ، ولا مِن أهْلِ الذَّهَبِ إلّا الذَّهَبُ، ولا مِن أهْلِ الوَرِقِ إلّا الوَرَقُ. وقالَتْ طائِفَةٌ مِنهم طاوُسُ والشّافِعِيُّ: هي مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ لا غَيْرُ. قالَ الشّافِعِيُّ: والدَّراهِمُ والدَّنانِيرُ بَدَلٌ عَنْها إذا عُدِمَتْ، ولَهُ قَوْلٌ آخَرُ: إنَّهُ يَجِبُ اثْنا عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ، أوْ ألْفُ دِينارٍ. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: أجْمَعَ فُقَهاءُ الأمْصارِ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ، ومالِكٌ أنَّ دِيَةَ الخَطَأِ أخْماسٌ، واخْتَلَفُوا في الأسْنانِ. فَقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا: (p-٣٢٣)عِشْرُونَ بَنِي مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بَناتِ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً، وهو مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ. وقالَ مالِكٌ: عِشْرُونَ حِقاقًا، وعِشْرُونَ جِذاعًا، وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ. وحُكِيَ هَذا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ والزُّهْرِيِّ ورَبِيعَةَ واللَّيْثِ.
وقالَ الشّافِعِيُّ: الدِّيَةُ قِسْمانِ؛ مُغَلَّظَةٌ أثْلاثًا؛ ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذْعَةً، وأرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِها أوْلادُها، ومُخَفَّفَةٌ أخْماسًا كَقَوْلِ مالِكٍ. ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ أنَّ دِيَةَ الخَطَأِ أرْبَعٌ؛ خَمْسٌ وعِشْرُونَ حِقَّةً، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ جَذْعَةً، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ، وخَمْسٌ وعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ مِثْلَ أسْنانِ الذُّكُورِ. وقالَ عُمَرُ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: في الخَطَأِ ثَلاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بِنْتَ مَخاضٍ. ورُوِيَ عَنْهُما مَكانَ الجِذاعِ الحِقّاتُ.
والظّاهِرُ أنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ القَتْلِ خَطَأً في الحَرَمِ، وفي شَهْرٍ حَرامٍ وبَيْنَهُ في الحِلِّ، وفي شَهْرٍ غَيْرِ حَرامٍ. وسُئِلَ الأوْزاعِيُّ عَنِ القَتْلِ في الشَّهْرِ الحَرامِ، أوْ في الحَرَمِ هَلْ تُغَلَّظُ فِيهِ الدِّيَةُ ؟ فَقالَ: بَلَغَنا أنَّهُ إذا قَتَلَ في الشَّهْرِ الحَرامِ أوْ في الحَرَمِ زِيدَ عَلى القاتِلِ الثُّلُثُ، ويُزادُ في شِبْهِ العَمْدِ في أسْنانِ الإبِلِ.
وأمّا مَنِ العاقِلَةِ فَقِيلَ هُمُ العَصَباتُ الأرْبَعَةُ: الأبُ، والجَدُّ وإنْ عَلا، والِابْنُ، وابْنُ الِابْنِ، وإنْ سَفُلَ. وهو قَوْلُ مالِكٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: هم أهْلُ دِيوانِهِ دُونَ أقْرِبائِهِ؛ فَإنْ لَمْ يَكُنِ القاتِلُ مِن أهْلِ الدِّيوانِ فُرِضَتْ عَلى عاقِلَتِهِ الأقْرَبَ فالأقْرَبَ، ويُضَمُّ إلَيْهِمُ القَبائِلُ في النَّسَبِ. وقالَ الشّافِعِيُّ فِيما رَوى عَنْهُ المُزَنِيُّ في مُخْتَصَرِهِ: العَقْلُ عَلى ذَوِي الأنْسابِ دُونَ أهْلِ الدِّيوانِ والحُلَفاءِ، عَلى الأقْرَبِ فالأقْرَبِ مِن بَنِي أبِيهِ ثُمَّ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنِي جَدِّ أبِيهِ.
وأمّا المُدَّةُ الَّتِي تُؤَدّى فِيها الدِّيَةُ فَقَدِ انْعَقَدَ الإجْماعُ ووَرَدَتْ بِهِ الأحادِيثُ الصِّحاحُ: أنَّها تَتَأدّى في ثَلاثِ سِنِينَ، وفي الدِّيَةِ والعاقِلَةِ أحْكامٌ كَثِيرَةٌ تَعَرَّضَ لَها بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، وهي مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ.
ومَعْنى ﴿مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ أيْ مُؤَدّاةٌ مَدْفُوعَةٌ إلى أهْلِ المَقْتُولِ؛ أيْ أوْلِيائِهِ الَّذِينَ يَرِثُونَهُ يَقْتَسِمُونَها كالمِيراثِ، لا فَرْقَ بَيْنَها وبَيْنَ سائِرِ التَّرِكَةِ في كُلِّ شَيْءٍ يُقْضى مِنها الدَّيْنُ، وتُنَفَّذُ الوَصِيَّةُ. وإذا لَمْ يَكُنْ وارِثٌ فَهي لِبَيْتِ المالِ. وقالَ شَرِيكٌ: لا يُقْضى مِنَ الدِّيَةِ دَيْنٌ، ولا تُنَفَّذُ مِنها وصِيَّةٌ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَرِثُ كُلُّ وارِثٍ مِنها غَيْرَ القاتِلِ؛ ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾؛ أيَ إلّا أنْ يَعْفُوَ وُرّاثُهُ عَنِ الدِّيَةِ فَلا دِيَةَ. وجاءَ بِلَفْظِ التَّصَدُّقِ تَنْبِيهًا عَلى فَضِيلَةِ العَفْوِ وحَضًّا عَلَيْهِ، وأنَّهُ جارٍ مَجْرى الصَّدَقَةِ، واسْتِحْقاقِ الثَّوابِ الآجِلِ بِهِ دُونَ طَلَبِ العَرَضِ العاجِلِ، وهَذا حُكْمُ مَن قُتِلَ في دارِ الإسْلامِ خَطَأً. وفي قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ البَراءَةِ مِنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، ودَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ القَبُولُ في الإبْراءِ خِلافًا لِزُفَرَ؛ فَإنَّهُ قالَ: لا يَبْرَأُ الغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ إلّا أنْ يَقْبَلَ البَراءَةَ. والظّاهِرُ أنَّ الجَماعَةَ إذا اشْتَرَكُوا في قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلّا كَفّارَةٌ واحِدَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ومَن قَتَلَ، وتَرْتِيبُ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ واحِدَةٍ ودِيَةٍ عَلى ذَلِكَ. وبِهِ قالَتْ طائِفَةٌ هَكَذا قالَ أبُو ثَوْرٍ، وحُكِيَ عَنِ الأوْزاعِيِّ ذَلِكَ. وقالَ الحَسَنُ، وعِكْرِمَةُ، والنَّخَعِيُّ، والحارِثُ ومالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ وأصْحابُ الرَّأْيِ: عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُمُ الكَفّارَةُ.
وهَذا الِاسْتِثْناءُ قِيلَ مُنْقَطِعٌ، وقِيلَ إنَّهُ مُتَّصِلٌ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): بِمَ تَعَلَّقَ ﴿أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ ؟ وما مَحَلُّهُ ؟ قُلْتُ: تَعَلَّقَ بِعَلَيْهِ، أوْ بِـ (مُسَلَّمَةٌ) . كَأنْ قِيلَ: وتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ أوْ يُسَلِّمُها، إلّا حِينَ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، ومَحَلُّها النَّصْبُ عَلى الظَّرْفِ بِتَقْدِيرِ حَذْفِ الزَّمانِ كَقَوْلِهِمُ: اجْلِسْ ما دامَ زَيْدٌ جالِسًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن أهْلِهِ بِمَعْنى: إلّا مُتَصَدِّقِينَ، انْتَهى كَلامُهُ. وكِلا التَّخْرِيجَيْنِ خَطَأٌ؛ أمّا جَعْلُ أنْ وما بَعْدَها ظَرْفًا فَلا يَجُوزُ، نَصَّ النَّحْوِيُّونَ عَلى ذَلِكَ، وأنَّهُ مِمّا انْفَرَدَتْ بِهِ (ما) المَصْدَرِيَّةُ، ومَنَعُوا أنْ تَقُولَ: أجِيئُكَ أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، يُرِيدُ وقْتَ صِياحِ الدِّيكِ. وأمّا أنْ يَنْسِبَكَ مِنها (p-٣٢٤)مَصْدَرٌ؛ فَيَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ فَنَصُّوا أيْضًا عَلى أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ. قالَ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِ العَرَبِ: أنْتَ الرَّجُلُ أنْ تُنازِلَ أوْ أنْ تُخاصِمَ في مَعْنى أنْتَ الرَّجُلُ نِزالًا وخُصُومَةً: إنَّ انْتِصابَ هَذا انْتِصابَ المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ؛ لِأنَّ المُسْتَقْبَلَ لا يَكُونُ حالًا؛ فَعَلى هَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ يَكُونُ كَوْنُهُ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا هو الصَّوابُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يَصَّدَّقُوا﴾؛ وأصْلُهُ يَتَصَدَّقُوا؛ فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الصّادِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وعَبْدُ الوارِثِ، عَنْ أبِي عَمْرٍو: (تَصَّدَّقُوا) بِالتّاءِ عَلى المُخاطِبَةِ لِلْحاضِرَةِ. وقُرِئَ: تَصَدَّقُوا بِالتّاءُ وتَخْفِيفِ الصّادِ؛ وأصْلُهُ تَتَصَدَّقُوا؛ فَحَذَفَ إحْدى التّاءَيْنِ عَلى الخِلافِ في أيِّهِما هي المَحْذُوفَةُ. وفي حَرْفِ أُبَيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ: يَتَصَدَّقُوا بِالياءِ والتّاءِ.
* * *
﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ، والنَّخَعِيُّ، والسُّدِّيُّ، وعِكْرِمَةُ وغَيْرُهم: المَعْنى إنْ كانَ هَذا المَقْتُولُ خَطَأً رَجُلًا مُؤْمِنًا قَدْ آمَنَ، وبَقِيَ في قَوْمِهِ، وهم كَفَرَةٌ عَدُوٌّ لَكم فَلا دِيَةَ فِيهِ؛ وإنَّما كَفّارَتُهُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. والسَّبَبُ عِنْدَهم في نُزُولِها: أنَّ جُيُوشَ المُسْلِمِينَ كانَتْ تَمُرُّ بِقَبائِلِ الكَفَرَةِ؛ فَرُبَّما قُتِلَ مَن آمَنَ ولَمْ يُهاجِرْ، أوْ مَن هاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْمِهِ؛ فَيُقْتَلُ في حَمَلاتِ الحَرْبِ عَلى أنَّهُ مِنَ الكُفّارِ؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وسَقَطَتِ الدِّيَةُ عِنْدَ هَؤُلاءِ؛ لِأنَّ أوْلِياءَ المَقْتُولِ كَفَرَةٌ؛ فَلا يُعْطَوْنَ ما يَتَقَوَّوْنَ بِهِ. ولِأنَّ حُرْمَتَهُ إذا آمَنَ ولَمْ يُهاجِرْ قَلِيلَةٌ فَلا دِيَةَ. وإذا قُتِلَ مُؤْمِنٌ في بِلادِ المُسْلِمِينَ، وقَوْمُهُ حَرْبٌ، فَفِيهِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ المالِ والكَفّارَةُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الوَجْهُ في سُقُوطِ الدِّيَةِ أنَّ أوْلِياءَهُ كُفّارٌ؛ سَواءٌ أكانَ القَتْلُ خَطَأً بَيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ وبَيْنَ قَوْمِهِ، ولَمْ يُهاجِرْ أوْ هاجَرَ ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْمِهِ، وكَفّارَتُهُ لَيْسَ إلّا التَّحْرِيرَ؛ لِأنَّهُ إنْ قُتِلَ بَيْنَ أظْهُرِ قَوْمِهِ فَهو مُسَلِّطٌ عَلى نَفْسِهِ، أوْ بَيْنَ أظْهُرِ المُسْلِمِينَ؛ فَأهْلُهُ لا يَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ، ولا المُسْلِمُونَ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا أهْلَهُ، فَلا تَجِبُ عَلى الحالَيْنِ؛ هَذا قَوْلُ مالِكٍ، والأوْزاعِيِّ، والثَّوْرِيِّ، والشّافِعِيِّ وأبِي ثَوْرٍ. وقالَ إبْراهِيمُ: المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً إنْ كانَ قَوْمُهُ المُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ؛ فَعَلى قاتِلِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أوْ كانَ فَتُؤَدّى دِيَتُهُ لِقَرابَتِهِ المُعاهَدِينَ.
قالَ بَعْضُ المُصَنِّفِينَ: اخْتَلَفَتْ فُقَهاءُ الأمْصارِ في مَن أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ وقُتِلَ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ في المَشْهُورِ عَنْهُ: إنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ فَكَفّارَةُ الخَطَأِ، أوْ كانا مُسْتَأْمَنَيْنِ فَعَلى القاتِلِ الدِّيَةُ وكَفّارَةُ الخَطَأِ، أوْ أسِيرَيْنِ فَعَلى القاتِلِ كَفّارَةُ الخَطَأِ في قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ. وقالَ مُحَمَّدٌ وأبُو يُوسُفَ: الدِّيَةُ في العَمْدِ والخَطَأِ. وقالَ مالِكٌ: عَلى قاتِلِ مَن أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ ولَمْ يَخْرُجِ الدِّيَةُ والكَفّارَةُ إنْ كانَ خَطَأً. والآيَةُ إنَّما كانَتْ في صُلْحِ النَّبِيِّ ﷺ أهْلَ مَكَّةَ؛ لِأنَّهُ مَن لَمْ يُهاجِرْ لَمْ يُوَرَّثْ؛ لِأنَّهم كانُوا يَتَوارَثُونَ بِالهِجْرَةِ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: إذا أقامَ بِدارِ الحَرْبِ، وهو قادِرٌ عَلى الخُرُوجِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِما يُحْكَمُ عَلى أهْلِ الحَرْبِ في نَفْسِهِ، ومالِهِ؛ وإذا لَحِقَ بِدارِ الحَرْبِ، ولَمْ يَرْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ فَهو مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دارَ الإسْلامِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا قَتَلَ مُسْلِمًا في دارِ الحَرْبِ في الغارَةِ، وهو لا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلا عَقْلَ فِيهِ ولا قَوْدَ، وعَلَيْهِ الكَفّارَةُ. وسَواءٌ أكانَ المُسْلِمُ أسِيرًا، أوْ مُسْتَأْمَنًا أوْ رَجُلًا أسْلَمَ هُناكَ؛ وإنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ القَوْدُ انْتَهى ما نَقَلَهُ هَذا المُصَنِّفُ. والَّذِي يَظْهَرُ مِن مَدْلُولِ هَذِهِ الجُمَلِ أنَّ اللَّهَ تَعالى بَيَّنَ أحْكامَ المُؤْمِنِ المَقْتُولِ خَطَأً في هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ؛ ولِذَلِكَ قابَلَها بِقَوْلِهِ: ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؛ فَهو المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً إنْ كانَ أهْلُهُ مُؤْمِنِينَ أوْ مُعاهَدِينَ؛ فالتَّحْرِيرُ والدِّيَةُ. ونَزَلَ المُعاهَدُونَ في أخْذِ الدِّيَةِ مَنزِلَةَ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ أحْكامَ المُؤْمِنِينَ جارِيَةٌ عَلَيْهِمْ، وإنْ كانَ أهْلُهُ حَرْبِيِّينَ، فالتَّحْرِيرُ فَقَطْ.
﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قالَ الحَسَنُ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وإبْراهِيمُ وغَيْرُهم: وإنْ كانَ المَقْتُولُ خَطَأً (p-٣٢٥)مُؤْمِنًا مِن قَوْمٍ مُعاهَدِينَ لَكم؛ فَعَهْدُهم يُوجِبُ أنَّهم أحَقُّ بِدِيَةِ صاحِبِهِمْ؛ وكَفّارَتُهُ التَّحْرِيرُ وأداءُ الدِّيَةِ إلَيْهِمْ. وقالَ النَّخَعِيُّ: مِيراثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وقَرَأها الحَسَنُ، وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ، وهو مُؤْمِنٌ. وبِهَذا قالَ مالِكٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيُّ، وإبْراهِيمُ أيْضًا والزُّهْرِيُّ: المَقْتُولُ مِن أهْلِ العَهْدِ خَطَأً؛ كانَ مُؤْمِنًا أوْ كافِرًا عَلى عَهْدِ قَوْمِهِ فِيهِ الدِّيَةُ كَدِيَةِ المُسْلِمِ والتَّحْرِيرُ.
واخْتُلِفَ عَلى هَذا في دِيَةِ المُعاهَدِ. فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وغَيْرُهُ: دِيَتُهُ كَدِيَةِ المُسْلِمِ. ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ. وقالَ مالِكٌ وأصْحابُهُ: نِصْفُ دِيَةِ المُسْلِمِ. وقالَ الشّافِعِيُّ وأبُو ثَوْرٍ: ثُلُثُ دِيَةِ المُسْلِمِ. والَّذِي يَظْهَرُ مِن دَلالَةِ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ أنَّها قَيْدٌ في الجُمْلَةِ الأوْلى بِكَوْنِهِ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ، وقَيْدٌ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ بِكَوْنِهِ مِن قَوْمٍ مُعاهَدِينَ؛ والمَعْنى في النَّسَبِ لا في الدِّينِ؛ لِأنَّهُ مُؤْمِنٌ وهم كُفّارٌ. فَإذا تَقَيَّدَتْ هاتانِ الجُمْلَتانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى تَقْيِيدِ الأُولى بِأنْ يَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في النَّسَبِ، وهي مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً؛ كَأنَّهُ قالَ: وأهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لا حَرْبِيُّونَ ولا مُعاهَدُونَ. ولا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى الإطْلاقِ لِلتَّعارُضِ والتَّعانُدِ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ الآيَتَيْنِ بَعْدُ.
وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمُ﴾ اسْتِئْنافُ كَلامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ في الخِطابِ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أعْطِ هَذا رَجُلًا وإنْ كانَ رَجُلًا فَأعْطِهِ؛ فَهَذا كَلامٌ فاسِدٌ لا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ؛ فَثَبَتَ أنَّ هَذا المُؤْمِنَ المَعْطُوفَ عَلى الأوَّلِ غَيْرُ داخِلٍ في الخِطابِ. ثُمَّ قالَ: ظاهِرُ الآيَةِ يَعْنِي: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المَقْتُولُ المَذْكُورُ في الآيَةِ ذا عَهْدٍ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إضْمارُ الإيمانِ لَهُ إلّا بِدَلالَةٍ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ: أنَّهُ لَمّا أرادَ مُؤْمِنًا مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ، ذَكَرَ الإيمانَ، فَقالَ: وهو مُؤْمِنٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ أطْلَقَ لاقْتَضى الإطْلاقُ أنْ يَكُونَ كافِرًا مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم. انْتَهى كَلامُهُ.
أمّا قَوْلُهُ: اسْتِئْنافٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ في الخِطابِ؛ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ في الخِطابِ في قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ ولَكِنَّهُ لَيْسَ اسْتِئْنافًا؛ إنَّما هو مِن بابِ التَّقْسِيمِ كَما ذَكَرْناهُ. بَدَأ أوَّلًا بِالأشْرَفِ، وهو المُؤْمِنُ وأهْلُهُ مُؤْمِنُونَ لَيْسُوا بِحَرْبِيِّينَ ولا مُعاهَدِينَ. وأمّا قَوْلُهُ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أعْطِ هَذا رَجُلًا، وإنْ كانَ رَجُلًا فَأعْطِهِ؛ فَهَذا لَيْسَ نَظِيرَ الآيَةِ بِوَجْهٍ؛ وإنَّما الضَّمِيرُ في كانَ عائِدٌ عَلى المَقْتُولِ خَطَأً المُؤْمِنُ إذا كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم. وجاءَ قَوْلُهُ: وهو مُؤْمِنٌ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لا سَبِيلِ التَّقْيِيدِ؛ إذِ القَيْدُ مَفْهُومٌ مِمّا قَبْلَهُ في الِاسْتِثْناءِ، وفي جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وقَوْلُهُ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ إلى آخِرِهِ، لا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِما ذَكَرْنا أنَّ الحالَ مُؤَكِّدَةٌ؛ وفائِدَةُ تَأْكِيدِها أنْ لا يُتَوَهَّمَ أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلى مُطْلَقِ المَقْتُولِ، لا بِقَيْدِ الإيمانِ. وقَوْلُهُ لِأنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ لاقْتَضى الإطْلاقُ أنْ يَكُونَ كافِرًا مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ لَكانَ الضَّمِيرُ الَّذِي في كانَ عائِدًا عَلى المَقْتُولِ خَطَأً؛ لِأنَّهُ لَمْ يُجَرِّدْ ذِكْرَ لِغَيْرِهِ؛ فَلا يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى غَيْرِ مَن لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، ويُتْرَكُ عَوْدُهُ عَلى ما يَجْرِي عَلَيْهِ ذِكْرٌ.
﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ يَعْنِي رَقَبَةً لَمْ يَمْلِكْها، ولا وجَدَ ما يُتَوَصَّلُ بِهِ إلى مِلْكِها؛ فَعَلَيْهِ صِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ. وظاهِرُ الآيَةِ يَقْضِي أنَّهُ لا يَجِبُ غَيْرُ ذَلِكَ؛ إذْ لَوْ وجَبَتِ الدِّيَةُ لِعَطَفَها عَلى الصِّيامِ وإلى هَذا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ ومَسْرُوقٌ، وذَهَبَ الجُمْهُورُ: إلى وُجُوبِ الدِّيَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما قالَهُ الشَّعْبِيُّ ومَسْرُوقٌ وهْمٌ؛ لِأنَّ الدِّيَةَ إنَّما هي عَلى العاقِلَةِ؛ ولَيْسَتْ عَلى القاتِلِ انْتَهى. ولَيْسَ بِوَهْمٍ؛ بَلْ هو ظاهِرُ الآيَةِ كَما ذَكَرْناهُ.
ومَعْنى التَّتابُعِ: لا يَتَخَلَّلُها فِطْرٌ. فَإنْ عَرَضَ حَيْضٌ في أثْنائِهِ لَمْ يُعَدَّ قاطِعًا بِإجْماعٍ. ولَيْسَ لَهُ أنْ يُسافِرَ فَيُفْطِرَ، والمَرَضُ كالحَيْضِ عِنْدَ: ابْنِ المُسَيَّبِ، وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، والحَسَنِ، والشَّعْبِيِّ، وعَطاءٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، وطاوُسٍ، ومالِكٍ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، والنَّخَعِيُّ، والحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وعَطاءٌ الخُراسانِيُّ، والحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: يَسْتَأْنِفُ إذا أفْطَرَ لِمَرَضٍ. ولِلشّافِعِيِّ القَوْلانِ. وقالَ (p-٣٢٦)ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَقْضِي ذَلِكَ اليَوْمَ وحْدَهُ إنْ كانَ عُذْرٌ غالِبٌ كَصَوْمِ رَمَضانَ.
﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ انْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِ أيْ رُجُوعًا مِنهُ إلى التَّسْهِيلِ والتَّخْفِيفِ؛ حَيْثُ نَقَلَكم مِنَ الرَّقَبَةِ إلى الصَّوْمِ. أوْ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ؛ أيْ قَبُولًا مِنهُ ورَحْمَةَ مَن تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذا قَبِلَ تَوْبَتَهُ. ودَعا تَعالى قاتِلَ الخَطَأِ إلى التَّوْبَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّزْ، وكانَ مِن حَقِّهِ أنْ يَتَحَفَّظَ.
﴿وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أيْ عَلِيمًا بِمَن قَتَلَ خَطَأً، حَكِيمًا حَيْثُ رَتَّبَ ما رَتَّبَ عَلى هَذِهِ الجِنايَةِ عَلى ما اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ تَعالى.
{"ayah":"وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـࣰٔاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـࣰٔا فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲ وَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَصَّدَّقُوا۟ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوࣲّ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱ فَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ تَوۡبَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق