الباحث القرآني
* بابُ قَتْلِ الخَطَإ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتُلِفَ في مَعْنى " كانَ " هَهُنا، فَقالَ قَتادَةُ: " مَعْناهُ ما كانَ لَهُ ذَلِكَ في حُكْمِ اللَّهِ وأمْرِهِ " . وقالَ آخَرُونَ: " ما كانَ لَهُ سَبَبُ جَوازِ قَتْلٍ " . وقالَ آخَرُونَ: " ما كانَ لَهُ ذَلِكَ فِيما سَلَفَ كَما لَيْسَ لَهُ الآنَ " . واخْتُلِفَ أيْضًا في مَعْنى " إلّا " فَقالَ قائِلُونَ: هو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنى لَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً، فَإذا وقَعَ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ كَيْتَ وكَيْتَ، وهو كَما قالَ النّابِغَةُ:
؎وقَفْتُ فِيها أُصَيْلالًا أُسائِلُها عَيَّتْ جَوابًا وما بِالرَّبْعِ مِن أحَدِ
؎إلّا الأوارِيَ لَأْيًا ما أُبَيِّنُها ∗∗∗ والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ
وقالَ آخَرُونَ: هو اسْتِثْناءٌ صَحِيحٌ قَدْ أفادَ أنَّ لَهُ أنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً في بَعْضِ الأحْوالِ، وهو أنْ يَرى عَلَيْهِ سِيما المُشْرِكِينَ أوَيَجِدَهُ في حَيِّزِهِمْ فَيَظُنَّهُ مُشْرِكًا فَجائِزٌ لَهُ قَتْلُهُ وهو خَطَأٌ؛ كَما (p-١٩٢)رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: «أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ قاتَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ فَأخْطَأ المُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ بِأبِيهِ يَحْسَبُونَهُ مِنَ العَدُوِّ وكَرُّوا عَلَيْهِ بِأسْيافِهِمْ، فَطَفِقَ حُذَيْفَةُ يَقُولُ: إنَّهُ أبِي فَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتّى قَتَلُوهُ، فَقالَ عِنْدَ ذَلِكَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكم وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ فَبَلَغَتِ النَّبِيَّ ﷺ فَزادَتْ حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ خَيْرًا» .
ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ مَعْناهُ: ولا خَطَأ؛ لِأنَّ قَتْلَ المُؤْمِنِ غَيْرُ مُباحٍ بِحالِ قِتالٍ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الِاسْتِثْناءُ مَحْمُولًا عَلى حَقِيقَتِهِ. وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ " إلّا " لَمْ تُوجَدْ بِمَعْنى " ولا " .
والثّانِي: ما أنْكَرَهُ مِنِ امْتِناعِ إباحَةِ قَتْلِ الخَطَإ مَوْجُودٌ في حَظْرِهِ لِأنَّ الخَطَأ إنْ كانَ لا تَصِحُّ إباحَتُهُ لِأنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ أنَّهُ خَطَأٌ، فَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ حَظْرُهُ ولا النَّهْيُ عَنْهُ.
وقالَ آخَرُونَ: قَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً﴾ إيجابَ العِقابِ لِقاتِلِهِ لِاقْتِضاءِ إطْلاقِ النَّهْيِ لِذَلِكَ وأفادَ بِذَلِكَ اسْتِحْقاقَ المَأْثَمِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إلا خَطَأً﴾ فَإنَّهُ لا مَأْثَمَ عَلى فاعِلِهِ، إنَّما أُدْخِلَ الِاسْتِثْناءُ عَلى ما تَضَمَّنَهُ اللَّفْظُ مِنَ اسْتِحْقاقِ المَأْثَمِ وأُخْرِجَ مِنهُ قاتِلُ الخَطَإ، والِاسْتِثْناءُ مُسْتَعْمَلٌ في مَوْضِعِهِ عَلى هَذا القَوْلِ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ وجْهِهِ، إنَّما دَخَلَ عَلى المَأْثَمِ المُسْتَحَقِّ بِالقَتْلِ وأخْرَجَ قاتِلَ الخَطَإ مِنهُ ولَمْ يَدْخُلْ عَلى فِعْلِ القاتِلِ فَيَكُونُ مُبِيحًا لِما حَظَرَهُ بِلَفْظِ الجُمْلَةِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا وجْهٌ صَحِيحٌ سائِغٌ؛ وتَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَهُ عَلى إباحَةِ قَتْلِ الخَطَإ فِيمَن يَظُنُّهُ مُشْرِكًا فَإنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلّا عَلى الصِّفَةِ المَشْرُوطَةِ إنْ كانَ ذَلِكَ إباحَةً، وهو أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَطَأً عِنْدَ القاتِلِ، وإذا كانَ قَتْلُ المُسْلِمِ الَّذِي في حَيِّزِ العَدُوِّ قُصِدَ بِالقَتْلِ لا يَكُونُ خَطَأً عِنْدَ القاتِلِ، وإنَّما عِنْدَهُ أنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ مَأْمُورٌ بِهِ، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرادَ الآيِ؛ لِأنَّ الإباحَةَ عَلى قَوْلِ هَذا القائِلِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُها وهو أنْ يَكُونَ قَتْلَ خَطَأٍ عِنْدَ القاتِلِ.
ألا تَرى أنَّهُ إذا قالَ " لا تَقْتُلْهُ عَمْدًا " اقْتَضى النَّهْيَ قَتْلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ القاتِلِ، وإذا قالَ " لا تَقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ " فَإنَّما حَظَرَ عَلَيْهِ قَتْلًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إلا خَطَأً﴾ إذا كانَ قَدِ اقْتَضى إباحَةَ قَتْلِ الخَطَإ فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ شَرْطُ الإباحَةِ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أنَّهُ خَطَأٌ، وذَلِكَ مُحالٌ لا يَجُوزُ وُقُوعُهُ؛ لِأنَّ الخَطَأ هو الَّذِي لا يَعْلَمُ القاتِلُ أنَّهُ مُخْطِئٌ فِيهِ، والحالُ الَّتِي لا يَعْلَمُها لا يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِها حَظْرٌ ولا إباحَةٌ.
وقالَ أصْحابُنا: القَتْلُ عَلى أنْحاءٍ أرْبَعَةٍ عَمْدٌ، وخَطَأٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ، وما لَيْسَ بِعَمْدٍ ولا خَطَأٍ ولا شِبْهِ عَمْدٍ.
فالعَمْدُ ما تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِسِلاحٍ مَعَ العِلْمِ بِحالِ المَقْصُودِ بِهِ. والخَطَأُ عَلى ضَرْبَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَقْصِدَ رَمْيَ (p-١٩٣)مُشْرِكٍ أوْ طائِرٍ فَيُصِيبَ مُسْلِمًا، والثّانِي: أنْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا لِأنَّهُ في حَيِّزِ أهْلِ الشِّرْكِ أوْ عَلَيْهِ لِباسُهم؛ فالأوَّلُ خَطَأٌ في الفِعْلِ والثّانِي خَطَأٌ في القَصْدِ. وشِبْهُ العَمْدِ ما تَعَمَّدَ ضَرْبَهُ بِغَيْرِ سِلاحٍ مِن حَجَرٍ أوْ عَصًا؛ وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ وسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وأمّا ما لَيْسَ بِعَمْدٍ ولا شِبْهِ عَمْدٍ ولا خَطَأٍ، فَهو قَتْلُ السّاهِي والنّائِمِ؛ لِأنَّ العَمْدَ ما قُصِدَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ، والخَطَأُ أيْضًا الفِعْلُ فِيهِ مَقْصُودٌ إلّا أنَّهُ يَقَعُ الخَطَأُ تارَةً في الفِعْلِ وتارَةً في القَصْدِ، وقَتْلُ السّاهِي غَيْرُ مَقْصُودٍ أصْلًا فَلَيْسَ هو في حَيِّزِ الخَطَإ ولا العَمْدِ، إلّا أنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الخَطَإ في الدِّيَةِ والكَفّارَةِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ أُلْحِقَ بِحُكْمِ القَتْلِ ما لَيْسَ بِقَتْلٍ في الحَقِيقَةِ لا عَمْدًا ولا غَيْرَ عَمْدٍ، وذَلِكَ نَحْوُ حافِرِ البِئْرِ وواضِعِ الحَجَرِ في الطَّرِيقِ إذا عَطِبَ بِهِ إنْسانٌ؛ هَذا لَيْسَ بِقاتِلٍ في الحَقِيقَةِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ في قَتْلِهِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ مِنّا إمّا أنْ يَكُونَ مُباشَرَةً أوْ مُتَوَلِّدًا، ولَيْسَ مِن واضِعِ الحَجَرِ وحافِرِ البِئْرِ فِعْلٌ في العاثِرِ بِالحَجَرِ والواقِعِ في البِئْرِ لا مُباشَرَةً ولا تَوَلُّدًا، فَلَمْ يَكُنْ قاتِلًا في الحَقِيقَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّهُ لا كَفّارَةَ عَلَيْهِ. وكانَ القِياسُ أنْ لا تَجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، ولَكِنَّ الفُقَهاءَ مُتَّفِقُونَ عَلى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ.
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ ولَمْ يَذْكُرْ في الآيَةِ مَن عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنَ القاتِلِ أوِ العاقِلَةِ وقَدْ ورَدَتْ آثارٌ مُتَواتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في إيجابِ دِيَةِ الخَطَإ عَلى العاقِلَةِ، واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلَيْهِ؛ مِنها ما رَوى الحَجّاجُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ كِتابًا بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ أنْ يَعْقِلُوا مَعاقِلَهم ويَفُكُّوا عانِيَهم بِالمَعْرُوفِ والإصْلاحِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ» .
ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّهُ كَتَبَ عَلى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ، ثُمَّ كَتَبَ أنَّهُ لا يَحِلُّ أنْ يَتَوَلّى مَوْلى رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ» ورَوى مُجالِدٌ عَنِ الشُّعَبِيِّ عَنْ جابِرٍ: «أنَّ امْرَأتَيْنِ مِن هُذَيْلٍ قَتَلَتْ إحْداهُما الأُخْرى ولِكُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما زَوْجٌ ووَلَدٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَةَ المَقْتُولَةِ عَلى عاقِلَةِ القاتِلَةِ وتَرَكَ زَوْجَها ووَلَدَها، فَقالَ عاقِلَةُ المَقْتُولَةِ: مِيراثُها لَنا فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: لا، مِيراثُها لِزَوْجِها ووَلَدِها؛ قالَ: وكانَتْ حُبْلى، فَألْقَتْ جَنِينًا، فَخافَ عاقِلَةُ القاتِلَةِ أنْ يُضَمِّنَهم، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ لا شَرِبَ ولا أكَلَ ولا صاحَ ولا اسْتَهَلَّ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذا سَجْعُ الجاهِلِيَّةِ فَقَضى في الجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أوْ أمَةً» .
ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ قَضى في الجَنِينِ عَبْدًا أوْ أمَةً، فَقالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ العَقْلُ: أنُودِي مَن لا شَرِبَ ولا أكَلَ ولا صاحَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ (p-١٩٤)ذَلِكَ يُطَلُّ؛ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنَّ هَذا لَقَوْلُ الشّاعِرِ، فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أوْ أمَةٌ» .
ورَوى عَبْدُ الواحِدِ بْنُ زِيادٍ عَنْ مُجالِدٍ عَنِ الشُّعَبِيِّ عَنْ جابِرٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «جَعَلَ في الجَنِينِ غُرَّةً عَلى عاقِلَةِ القاتِلِ» .
ورَوى الأعْمَشُ عَنْ إبْراهِيمَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «جَعَلَ العَقْلَ عَلى العَصَبَةِ» . وعَنْ إبْراهِيمَ قالَ: " اخْتَصَمَ عَلِيٌّ والزُّبَيْرُ في ولاءِ مَوالِي صَفِيَّةَ إلى عُمَرَ، فَقَضى بِالمِيراثِ لَلزُّبَيْرِ والعَقْلِ عَلى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعُمَرَ في قَوْمٍ أجْلَوْا عَنْ قَتِيلٍ أنَّ الدِّيَةَ عَلى بَيْتِ المالِ، وعَنْ عُمَرَ في قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ وداعَةَ وحَيٍّ آخَرَ أنَّهُ قَضى بِالدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ فَقَدْ تَواتَرَتِ الآثارُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في إيجابِ دِيَةِ الخَطَإ عَلى العاقِلَةِ واتَّفَقَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ عَلَيْهِ.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أبِيهِ ولا بِجَرِيرَةِ أخِيهِ»، وقالَ لِأبِي رَمَثَةَ وابْنِهِ: إنَّهُ «لا يَجْنِي عَلَيْكَ ولا تَجْنِي عَلَيْهِ»، والعُقُولُ أيْضًا تَمْنَعُ أخْذَ الإنْسانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ.
قِيلَ لَهُ: أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى نَفْيِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ؛ لِأنَّ الآيَةَ إنَّما نَفَتْ أنْ يُؤْخَذَ الإنْسانُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، ولَيْسَ في إيجابِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ أخْذُهم بِذَنْبِ الجانِي، إنَّما الدِّيَةُ عِنْدَنا عَلى القاتِلِ وأمْرُ هَؤُلاءِ القَوْمِ بِالدُّخُولِ مَعَهُ في تَحَمُّلِها عَلى وجْهِ المُواساةِ لَهُ مِن غَيْرِ أنْ يَلْزَمَهم ذَنْبُ جِنايَتِهِ، وقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ في أمْوالِ الأغْنِياءِ حُقُوقًا لِلْفُقَراءِ مِن غَيْرِ إلْزامِهِمْ ذَنْبًا لَمْ يُذْنِبُوهُ بَلْ عَلى وجْهِ المُواساةِ، وأمَرَ بِصِلَةِ الأرْحامِ بِكُلِّ وجْهٍ أمْكَنَ ذَلِكَ، وأمَرَ بِبِرِّ الوالِدَيْنِ؛ وهَذِهِ كُلُّها أُمُورٌ مَندُوبٌ إلَيْها لِلْمُواساةِ وصَلاحِ ذاتِ البَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ أُمِرَتِ العاقِلَةُ بِتَحَمُّلِ الدِّيَةِ عَنْ قاتِلِ الخَطَإ عَلى جِهَةِ المُواساةِ مِن غَيْرِ إجْحافٍ بِهِمْ وبِهِ، وإنَّما يَلْزَمُ كُلُّ رِجْلٍ مِنهم ثَلاثَةَ دَراهِمَ أوْ أرْبَعَةَ دَراهِمَ ويُجْعَلُ ذَلِكَ في أُعْطِيّاتِهِمْ إذا كانُوا مِن أهْلِ الدِّيوانِ ومُؤَجَّلَةً ثَلاثَ سِنِينَ؛ فَهَذا مِمّا نُدِبُوا إلَيْهِ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ.
وقَدْ كانَ تَحَمُّلُ الدِّياتِ مَشْهُورًا في العَرَبِ قَبْلَ الإسْلامِ، وكانَ ذَلِكَ مِمّا يُعَدُّ مِن جَمِيلِ أفْعالِهِمْ ومَكارِمِ أخْلاقِهِمْ؛ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ»، فَهَذا فِعْلٌ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُولِ مَقْبُولٌ في الأخْلاقِ والعاداتِ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ أبِيهِ ولا بِجَرِيرَةِ أخِيهِ» «ولا يَجْنِي عَلَيْكَ ولا تَجْنِي عَلَيْهِ» . لا يَنْفِي وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ عَلى هَذا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن مَعْنى الآيَةِ مِن غَيْرِ أنْ يُلامَ عَلى فِعْلِ الغَيْرِ أوْ يُطالَبَ بِذَنْبِ سِواهُ.
ولِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ وُجُوهٌ سائِغَةٌ (p-١٩٥)مُسْتَحْسَنَةٌ في العُقُولِ:
أحَدُها: أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهَ بَدِيًّا بِإيجابِ المالِ عَلَيْهِمْ لِهَذا الرَّجُلِ مِن غَيْرِ قَتْلٍ كانَ مِنهُ، كَما أوْجَبَ الصَّدَقاتِ في مالِ الأغْنِياءِ لِلْفُقَراءِ.
والثّانِي: أنَّ مَوْضُوعَ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ إنَّما هو عَلى النُّصْرَةِ والمَعُونَةِ، ولِذَلِكَ أوْجَبَها أصْحابُنا عَلى أهْلِ دِيوانِهِ دُونَ أقْرِبائِهِ لِأنَّهم أهْلُ نُصْرَتِهِ ألا تَرى أنَّهم يَتَناصَرُونَ عَلى القِتالِ والحِمايَةِ والذَّبِّ عَنِ الحَرِيمِ ؟ فَلَمّا كانُوا مُتَناصِرِينَ في القِتالِ والحِمايَةِ أُمِرُوا بِالتَّناصُرِ والتَّعاوُنِ عَلى تَحَمُّلِ الدِّيَةِ لِيَتَساوَوْا في حَمْلِها كَما تَساوَوْا في حِمايَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ القِتالِ.
والثّالِثُ: أنَّ في إيجابِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ زَوالَ الضَّغِينَةِ والعَداوَةِ مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذا كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وهو داعٍ إلى الأُلْفَةِ وصَلاحِ ذاتِ البَيْنِ ألا تَرى أنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ كانَتْ بَيْنَهُما عَداوَةٌ فَتَحَمَّلَ أحَدُهُما عَنْ صاحِبِهِ ما قَدْ لَحِقَهُ لَأدّى ذَلِكَ إلى زَوالِ العَداوَةِ وإلى الأُلْفَةِ وصَلاحِ ذاتِ البَيْنِ ؟ كَما لَوْ قَصَدَهُ إنْسانٌ بِضَرَرٍ فَعاوَنَهُ وحَماهُ عَنْهُ انْسَلَّتْ سَخِيمَةُ قَلْبِهِ وعادَ إلى سَلامَةِ الصَّدْرِ والمُوالاةِ والنُّصْرَةِ.
والرّابِعُ: أنَّهُ إذا تَحَمَّلَ عَنْهُ جِنايَتَهُ حَمَلَ عَنْهُ القاتِلُ إذا جَنى أيْضًا، فَلَمْ يَذْهَبْ حَمْلُهُ لِلْجِنايَةِ عَنْهُ ضَياعًا بَلْ كانَ لَهُ أثَرٌ مَحْمُودٌ يُسْتَحَقُّ مِثْلُهُ عَلَيْهِ إذا وقَعَتْ مِنهُ جِنايَةٌ. فَهَذِهِ وُجُوهٌ كُلُّها مُسْتَحْسَنَةٌ في العُقُولِ غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ، وإنَّما يُؤْتى المُلْحِدُ المُتَعَلِّقُ بِمِثْلِهِ مِن ضِيقِ عَقْلِهِ وقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ وإعْراضِهِ عَنِ النَّظَرِ والفِكْرِ؛ والحَمْدُ لِلَّهِ عَلى حُسْنِ هِدايَتِهِ وتَوْفِيقِهِ.
ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في وُجُوبِ دِيَةِ الخَطَإ في ثَلاثِ سِنِينَ، قالَ أصْحابُنا: " كُلُّ دِيَةٍ وجَبَتْ مِن غَيْرِ صُلْحٍ فَهي في ثَلاثِ سِنِينَ " .
ورَوى أشْعَثُ عَنِ الشُّعَبِيِّ والحَكَمُ عَنْ إبْراهِيمَ قالا: " أوَّلُ مَن فَرَضَ العَطاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وفَرَضَ فِيهِ الدِّيَةَ كامِلَةً في ثَلاثِ سِنِينَ وثُلُثَيِ الدِّيَةِ في سَنَتَيْنِ والنِّصْفَ في سَنَتَيْنِ وما دُونَ ذَلِكَ في عامِهِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: اسْتَفاضَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ولَمْ يُخالِفْهُ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ واتَّفَقَ فُقَهاءُ الأمْصارِ عَلَيْهِ فَصارَ إجْماعًا لا يَسَعُ خِلافُهُ. واخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ في العاقِلَةِ مَن هم، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وسائِرُ أصْحابِنا: " الدِّيَةُ في قَتْلِ الخَطَإ عَلى العاقِلَةِ في ثَلاثِ سِنِينَ مِن يَوْمِ يُقْضى بِها، والعاقِلَةُ هم أهْلُ دِيوانِهِ إنْ كانَ مِن أهْلِ الدِّيوانِ يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن أُعْطِيّاتِهِمْ حَتّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنهم مِنَ الدِّيَةِ كُلِّها ثَلاثَةَ دَراهِمَ أوْ أرْبَعَةَ دَراهِمَ، فَإنْ أصابَهُ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أقْرَبُ القَبائِلِ في النَّسَبِ مِن أهْلِ الدِّيوانِ، وإنْ كانَ القاتِلُ لَيْسَ مِن أهْلِ الدِّيوانِ فُرِضَتِ الدِّيَةُ عَلى عاقِلَتِهِ الأقْرَبُ فالأقْرَبُ في ثَلاثِ سِنِينَ مِن يَوْمِ يَقْضِي بِها القاضِي، فَيُؤْخَذُ في كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ ويَضُمُّ إلَيْهِمْ (p-١٩٦)أقْرَبَ القَبائِلِ مِنهم في النَّسَبِ حَتّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنهم مِنَ الدِّيَةِ ثَلاثَةَ دَراهِمَ أوْ أرْبَعَةً " . قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ: " ويَعْقِلُ عَنِ الحَلِيفِ حُلَفاؤُهُ ولا يَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ " . وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: " لَيْسَ أهْلُ الدِّيوانِ أوْلى بِها مِن سائِرِ العاقِلَةِ " .
وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " الدِّيَةُ عَلى القَبائِلِ عَلى الغَنِيِّ عَلى قَدْرِهِ ومَن دُونَهُ عَلى قَدْرِهِ حَتّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنها مِائَةَ دِرْهَمٍ ونِصْفًا " وحُكِيَ عَنْهُ أنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِن أُعْطِيّاتِهِمْ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: " تُجْعَلُ الدِّيَةُ ثُلُثًا في العامِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ الرَّجُلُ ولَكِنْ تَكُونُ عِنْدَ الأعْطِيَةِ عَلى الرِّجالِ " . وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " العَقْلُ عَلى رُءُوسِ الرِّجالِ في أعْطِيَةِ المُقاتِلَةِ " وقالَ اللَّيْثُ: " العَقْلُ عَلى القاتِلِ وعَلى القَوْمِ الَّذِينَ يَأْخُذُ مَعَهُمُ العَطاءَ ولا يَكُونُ عَلى قَوْمِهِ مِنهُ شَيْءٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَن يَحْمِلُ العَقْلَ ضَمَّ إلى ذَلِكَ أقْرَبَ القَبائِلِ إلَيْهِمْ " .
ورَوى المُزَنِيُّ في مُخْتَصَرِهِ عَنِ الشّافِعِيِّ: " أنَّ العَقْلَ عَلى ذَوِي الأنْسابِ دُونَ أهْلِ الدِّيوانِ والحُلَفاءِ عَلى الأقْرَبِ فالأقْرَبِ مِن بَنِي أبِيهِ ثُمَّ مِن بَنِي جَدِّهِ ثُمَّ مِن بَنِي جَدِّ أبِيهِ، فَإنْ عَجَزُوا عَنِ البَعْضِ حَمَلَ المَوالِي المُعْتَقُونَ الباقِيَ، فَإنْ عَجَزُوا عَنْ بَعْضٍ ولَهم عَواقِلُ عَقَلَتْهم عَواقِلُهم، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهم ذُو نَسَبٍ ولا مَوْلًى مِن أعْلى حَمَلَ عَلى المَوالِي مِن أسْفَلَ، ويَحْمِلُ مَن كَثُرَ مالُهُ نِصْفَ دِينارٍ ومَن كانَ دُونَهُ رُبْعَ دِينارٍ ولا يُزادُ عَلى هَذا ولا يُنْقَصُ مِنهُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: حَدِيثُ جابِرٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ عَلى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ وقالَ: لا يَتَوَلّى مَوْلى قَوْمٍ إلّا بِإذْنِهِمْ» يَدُلُّ عَلى سُقُوطُ اعْتِبارِ الأقْرَبِ فالأقْرَبِ، وأنَّ القَرِيبَ والبَعِيدَ مِنَ الجانِي سَواءٌ في ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ لِسَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ حِينَ قَتَلَ مُسْلِمًا وهو يَظُنُّهُ كافِرًا: " إنَّ عَلَيْكَ وعَلى قَوْمِكَ الدِّيَةَ " ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ القَرِيبِ والبَعِيدِ مِنهم، وهَذا يَدُلُّ عَلى تَساوِي القَرِيبِ والبَعِيدِ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهم فِيما يَلْزَمُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم مِن غَيْرِ اعْتِبارِ الغَنِيِّ والفَقِيرِ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ القاتِلَ يَدْخُلُ في العَقْلِ مَعَ العاقِلَةِ لِأنَّهُ قالَ: «عَلَيْكَ وعَلى قَوْمِكَ الدِّيَةُ» .
وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَتَعاقَلُونَ بِالنُّصْرَةِ، ثُمَّ جاءَ الإسْلامُ فَجَرى الأمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ الدَّواوِينَ فَجَمَعَ بِها النّاسَ وجَعَلَ أهْلَ كُلِّ رايَةٍ وجُنْدٍ يَدًا واحِدَةً وجَعَلَ عَلَيْهِمْ قِتالَ مَن يَلِيهِمْ مِنَ الأعْداءِ، فَصارُوا يَتَناصَرُونَ بِالرّاياتِ والدَّواوِينِ وعَلَيْها يَتَعاقَلُونَ، وإذا لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ الدِّيوانِ فَعَلى القَبائِلِ لِأنَّ التَّناصُرَ في هَذِهِ الحالِ بِالقَبائِلِ؛ فالمَعْنى الَّذِي تَعاقَلُوا بِهِ في الجاهِلِيَّةِ والإسْلامِ مَعْنًى واحِدٌ وهو النُّصْرَةُ، فَإذا كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ النُّصْرَةُ بِالرّاياتِ والدَّواوِينِ تَعاقَلُوا بِها لِأنَّهم في هَذِهِ الحالِ أخَصُّ بِالنُّصْرَةِ مِنَ القَبِيلَةِ، فَإذا فُقِدَتِ الرّاياتُ تَناصَرُوا (p-١٩٧)بِالقَبائِلِ وبِها يَتَعاقَلُونَ أيْضًا. والدَّلِيلُ عَلى أنَّ العَقْلَ تابِعٌ لِلنُّصْرَةِ أنَّ النِّساءَ لا يَدْخُلْنَ في العَقْلِ لِعَدَمِ النُّصْرَةِ فِيهِنَّ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى صِحَّةِ اعْتِبارِ النُّصْرَةِ في العَقْلِ. وأمّا العَقْلُ بِالحِلْفِ فَإنَّ سَعْدَ بْنَ إبْراهِيمَ رَوى عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ وأيُّما حِلْفٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الإسْلامُ إلّا شِدَّةً» فَأثْبَتَ النَّبِيُّ ﷺ حِلْفَ الجاهِلِيَّةِ، وقَدْ كانَ الحِلْفُ عِنْدَهم كالقَرابَةِ في النُّصْرَةِ والعَقْلِ، ثُمَّ أكَّدَهُ الإسْلامُ.
ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَوْلى القَوْمِ مِن أنْفُسِهِمْ وحَلِيفُهم مِنهم» . «وقَدْ كانَتْ ظَهَرَتْ خَيْلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلى رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَرَبَطَهُ إلى سارِيَةٍ مِن سِوارِي المَسْجِدِ، فَقالَ: عَلامَ أُحْبَسُ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: بِجَرِيرَةِ حُلَفائِكَ» .
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ نَفى النَّبِيُّ ﷺ حِلْفَ الإسْلامِ بِقَوْلِهِ: «لا حِلْفَ في الإسْلامِ» . قِيلَ لَهُ: مَعْناهُ نَفْيُ التَّوارُثِ بِهِ مَعَ ذَوِي الأرْحامِ لِأنَّهم كانُوا يُورِثُونَ الحَلِيفَ دُونَ ذَوِي الأرْحامِ، فَأمّا حُكْمُ الحِلْفِ في العَقْلِ والنُّصْرَةِ فَباقٍ ثابِتٌ؛ وكَذَلِكَ الوَلاءُ ثابِتٌ يُعْقَلُ بِهِ، لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الأخْبارِ المُتَقَدِّمَةِ. وإنَّما ألْزَمَ أصْحابُنا كُلَّ واحِدٍ ثَلاثَةَ دَراهِمَ أوْ أرْبَعَةَ دَراهِمَ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى لُزُومِهِ هَذا القَدْرَ، وما زادَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ لَمْ تَقُمِ الدَّلالَةُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْزَمْ.
ويَدْخُلُ القاتِلُ مَعَهم في العَقْلِ، وهو قَوْلُ أصْحابِنا ومالِكٍ وابْنِ شُبْرُمَةَ واللَّيْثِ والشّافِعِيِّ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ والأوْزاعِيُّ: " لا يَدْخُلُ فِيهِ " .
ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ: " أنَّهُ يَعْقِلُ مَعَهم " وما رُوِيَ عَنْ أحَدٍ مِنَ السَّلَفِ خِلافُهُ. ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ الدِّيَةَ إنَّما تَلْزَمُ القاتِلَ والعاقِلَةُ تَعْقِلُ عَنْهُ عَلى جِهَةِ المُواساةِ والنُّصْرَةِ، فَواجِبٌ أنْ لا يَلْزَمَ العاقِلَةَ إلّا المُتَيَقِّنُ؛ وقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ ما عَدا حِصَّةَ الواحِدِ مِنهم لازِمٌ لِلْعاقِلَةِ واخْتَلَفُوا في المِقْدارِ الَّذِي هو نَصِيبُ أحَدِهِمْ هَلْ تَحْمِلُهُ العاقِلَةُ، فَواجِبٌ أنْ لا يَكُونَ لازِمًا لِعَدَمِ الدَّلالَةِ عَلى لُزُومِهِ العاقِلَةَ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ العاقِلَةَ إنَّما تَعْقِلُ عَنْهُ، فَعَقْلُهُ عَنْ نَفْسِهِ أوْلى، فَيَنْبَغِي أنْ يَدْخُلَ مَعَهم. وأيْضًا لَوْ كانَ غَيْرُهُ هو الجانِيَ لَدَخَلَ مَعَ سائِرِ العاقِلَةِ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهم، فَإذا كانَ هو الجانِيَ فَهو أوْلى بِالدُّخُولِ مَعَهم لِلتَّخْفِيفِ عَنْهم لِأنَّهم مُتَساوُونَ في التَّناصُرِ والمُواساةِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزَفَرُ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " يُجْزِي في كَفّارَةِ القَتْلِ الصَّبِيُّ إذا كانَ أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمًا " وهو قَوْلُ عَطاءٍ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وإبْراهِيمَ والشُّعَبِيِّ: " لا يُجْزِي إلّا مَن صامَ وصَلّى " . ولَمْ يَخْتَلِفُوا في جَوازِهِ في رَقَبَةِ (p-١٩٨)الظِّهارِ. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ وهَذِهِ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانِهِ» فَأثْبَتَ لَهُ حُكْمَ الفِطْرَةِ عِنْدَ الوِلادَةِ، فَوَجَبَ جَوازُهُ بِإطْلاقِ اللَّفْظِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ مُنْتَظِمٌ لِلصَّبِيِّ كَما يَتَناوَلُ الكَبِيرَ، فَوَجَبَ أنْ يَتَناوَلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ولَمْ يَشْرِطِ اللَّهُ عَلَيْها الصِّيامَ والصَّلاةَ فَلا تَجُوزُ الزِّيادَةُ فِيهِ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ في النَّصِّ مُوجِبُ النَّسْخِ؛ ولَوْ أنَّ عَبْدًا أسْلَمَ فَأعْتَقَهُ مَوْلاهُ عَنْ كَفّارَتِهِ قَبْلَ حُضُورِ وقْتِ الصَّلاةِ والصِّيامِ كانَ مُجْزِيًا عَنِ الكَفّارَةِ لِحُصُولِ اسْمِ الإيمانِ، فَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذا كانَ داخِلًا في إطْلاقِ اسْمِ الإيمانِ.
فَإنْ قِيلَ: العَبْدُ المُعْتَقُ بَعْدَ إسْلامِهِ لا يُجْزِي إلّا أنْ يَكُونَ قَدْ صامَ وصَلّى.
قِيلَ لَهُ: لا يَخْتَلِفُ المُسْلِمُونَ في إطْلاقِ اسْمِ الإيمانِ عَلى العَبْدِ الَّذِي أسْلَمَ قَبْلَ حُضُورِ وقْتِ الصَّلاةِ أوِ الصَّوْمِ، فَمِن أيْنَ شَرَطْتَ مَعَ الإيمانِ فِعْلَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ واَللَّهُ سُبْحانَهُ لَمْ يَشْرِطْهُما ؟ ولِمَ زِدْتَ في الآيَةِ ما لَيْسَ فِيها وحَظَرْتَ ما أباحَتْهُ مِن غَيْرِ نَصٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ وفِيهِ إيجابُ نَسْخِ القُرْآنِ ؟ وأيْضًا لَمّا كانَ حُكْمُ الصَّبِيِّ حُكْمَ الرَّجُلِ في بابِ التَّوارُثِ والصَّلاةِ عَلَيْهِ ووُجُوبِ الدِّيَةِ عَلى قاتِلِهِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ في جَوازِهِ عَنِ الكَفّارَةِ، إذْ كانَتْ رَقَبَةً تامَّةً لَها حُكْمُ الإيمانِ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ رَقَبَةٍ بالِغَةٍ مُعْتَقِدَةٍ لِلْإيمانِ لا مَن لَها حُكْمُ الإيمانِ مِن غَيْرِ اعْتِقادٍ، ولا خِلافَ مَعَ ذَلِكَ أيْضًا أنَّ الرَّقَبَةَ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُها مُرادَةً بِالآيَةِ؛ فَلا يَدْخُلُ فِيها مَن لا تَلْحَقُهُ هَذِهِ السِّمَةُ إلّا عَلى وجْهِ المَجازِ وهو الطِّفْلُ الَّذِي لا اعْتِقادَ لَهُ. قِيلَ لَهُ: لا خِلافَ بَيْنَ السَّلَفِ أنَّ غَيْرَ البالِغِ جائِزٌ في كَفّارَةِ الخَطَإ إذا كانَ قَدْ صامَ وصَلّى، ولَمْ يَشْرِطْ أحَدٌ وُجُودَ الإيمانِ مِنهُ حَقِيقَةً ألا تَرى أنَّ مَن لَهُ سَبْعُ سِنِينَ مَأْمُورٌ بِالصَّلاةِ عَلى وجْهِ التَّعْلِيمِ ولَيْسَ لَهُ اعْتِقادٌ صَحِيحٌ لِلْإيمانِ ؟ فَثَبَتَ بِذَلِكَ سُقُوطُ اعْتِبارِ وُجُودِ حَقِيقَةِ الإيمانِ لِلرَّقَبَةِ؛ ولَمّا ثَبَتَ ذَلِكَ بِاتِّفاقِ السَّلَفِ عَلِمْنا أنَّ الِاعْتِبارَ فِيهِ بِمَن لَحِقَتْهُ سِمَةُ الإيمانِ عَلى أيِّ وجْهٍ سُمِّيَ، والصَّبِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذا كانَ أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمًا، فَوَجَبَ جَوازُهُ عَنِ الكَفّارَةِ.
تَصِحُّ البَراءَةُ ما لَمْ يَرُدَّها المُبَرَّأُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: يَعْنِي واَللَّهُ أعْلَمُ إلّا أنْ يُبَرِّئَ أوْلِياءُ القَتِيلِ مِنَ الدِّيَةِ؛ فَسُمِّيَ الإبْراءُ مِنها صَدَقَةً. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن كانَ لَهُ عَلى آخَرَ دَيْنٌ فَقالَ: " قَدْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْكَ " أنَّ ذَلِكَ بَراءَةٌ صَحِيحَةٌ وأنَّهُ لا يُحْتاجُ في صِحَّةِ هَذِهِ البَراءَةِ إلى (p-١٩٩)قَبُولِ المُبَرَّأِ مِنهُ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّ البَراءَةَ واقِعَةٌ ما لَمْ يَرُدَّها المُبَرَّأُ مِنهُ. وقالَ زَفَرُ: " لا يُبْرِئُ الغَرِيمُ مِنَ الدَّيْنِ إلّا أنْ يَقْبَلَ البَراءَةَ وكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ " وجَعْلَهُ بِمَنزِلَةِ هِبَةِ الأعْيانِ.
وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا لِأنَّهُ لَمْ يَشْرِطِ القَبُولَ ولِأنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ فَيَصِحُّ إسْقاطُهُ كالعَفْوِ عَنْ دَمِ العَمْدِ والعِتْقِ ولا يَحْتاجُ إلى قَبُولٍ وقالَ أصْحابُنا: " إذا رَدَّ المُبَرَّأُ مِنهُ البَراءَةَ مِنَ الدَّيْنِ عادَ الدَّيْنُ " وقالَ غَيْرُهم: " لا يَعُودُ " وجَعَلُوهُ كالعِتْقِ والعَفْوِ عَنْ دَمِ العَمْدِ. والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا أنَّ البَراءَةَ مِنَ الدَّيْنِ يَلْحَقُها الفَسْخُ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ صالَحَهُ عَلى ثَوْبٍ بَرِئَ فَإنْ هَلَكَ الثَّوْبُ قَبْلَ القَبْضِ بَطَلَتِ البَراءَةُ وعادَ الدَّيْنُ ؟ والعِتْقُ والعَفْوُ عَنِ الدَّمِ لا يَنْفَسِخانِ بِحالٍ.
ويَدُلُّ أيْضًا عَلى وُقُوعِ البَراءَةِ مِنَ الدَّيْنِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ أنَّ الصَّدَقَةَ مِن ألْفاظِ التَّمْلِيكِ، وقَدْ حُكِمَ بِصِحَّةِ البَراءَةِ بِها، وأنَّهُ لَيْسَ بِمَنزِلَةِ الأعْيانِ إذا مَلَكَها غَيْرُهُ بِلَفْظِ الإبْراءِ، فَلا يَمْلِكُ، مِثْلُ أنْ يَقُولَ: " قَدْ أبْرَأْتُكَ مِن هَذا العَبْدِ " فَلا يَمْلِكُهُ وإنْ قَبِلَ البَراءَةَ، وإذا قالَ: " قَدْ تَصَدَّقْتُ بِما لِي عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ، أوْ قَدْ وهَبْتُ لَكَ ما لِي عَلَيْكَ " صَحَّتِ البَراءَةُ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ مَن لَهُ عَلى غَيْرِهِ دَيْنٌ وهو غَنِيٌّ فَقالَ: " قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْكَ " بَرِئَ مِنهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الغَنِيِّ والفَقِيرِ في ذَلِكَ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الأهْلَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الأوْلِياءِ والوَرَثَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ مَعْناهُ: إلى ورَثَتِهِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ فِيمَن أوْصى لِأهْلِ فُلانٍ: " إنَّ القِياسَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِزَوْجاتِهِ، إلّا أنِّي قَدْ تَرَكْتُ القِياسَ وجَعَلْتُهُ لِكُلِّ مَن كانَ في عِيالِهِ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: الأهْلُ اسْمٌ يَقَعُ عَلى الزَّوْجَةِ وعَلى جَمِيعِ مَن يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَنزِلُهُ وعَلى أتْباعِ الرَّجُلِ وأشْياعِهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنّا مُنَجُّوكَ وأهْلَكَ إلا امْرَأتَكَ﴾ [العنكبوت: ٣٣] فَكانَ ذَلِكَ عَلى جَمِيعِ أهْلِ مَنزِلِهِ مِن أوْلادِهِ وغَيْرِهِمْ، وقالَ: ﴿فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ﴾ [الشعراء: ١٧٠] ويَقَعُ عَلى مَنِ اتَّبَعَهُ في دِينِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ونُوحًا إذْ نادى مِن قَبْلُ فاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ العَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦] فَسَمّى أتْباعَهُ في دِينِهِ أهْلَهُ؛ وقالَ في ابْنِهِ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ [هود: ٤٦] فاسْمُ الأهْلِ يَقَعُ عَلى مَعانِيَ مُخْتَلِفَةٍ، وقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الأهْلِ ويُرادُ بِهِ الآلُ وهو قَراباتُهُ مِن قِبَلِ الأبِ، كَما يُقالُ آلُ النَّبِيِّ وأهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ " وهُما سَواءٌ
* * *
مَطْلَبٌ: في دِيَةِ المَقْتُولِ في الحَرَمِ والشَّهْرِ الحَرامِ. (p-٢١٠)واخْتَلَفَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ في المَقْتُولِ في الحَرَمِ والشَّهْرِ الحَرامِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ وابْنُ أبِي لَيْلى ومالِكٌ: " القَتْلُ في الحَرَمِ والشَّهْرِ الحَرامِ كَهو في غَيْرِهِ فِيما يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ والقَوَدِ " . وسُئِلَ الأوْزاعِيُّ عَنِ القَتْلِ في الشَّهْرِ الحَرامِ والحَرَمِ هَلْ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ ؟ قالَ: " بَلَغَنا أنَّهُ إذا قُتِلَ في الحَرَمِ أوِ الشَّهْرِ الحَرامِ زِيدَ عَلى العَقْلِ ثُلُثَهُ ويُزادُ في شِبْهِ العَمْدِ في أسْنانِ الإبِلِ " .
وذَكَرَ المُزَنِيُّ عَنِ الشّافِعِيِّ في مُخْتَصَرِهِ، وذَكَرَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ في شِبْهِ العَمْدِ وقالَ: " الدِّيَةُ في هَذا عَلى العاقِلَةِ، وكَذَلِكَ الجِراحُ، وكَذَلِكَ التَّغْلِيظُ في النَّفْسِ والجِراحُ في الشَّهْرِ الحَرامِ والبَلَدِ الحَرامِ وذَوِي الرَّحِمِ " ورُوِيَ عَنْ عُثْمانَ أنَّهُ قَضى في دِيَةِ امْرَأةٍ قُتِلَتْ بِمَكَّةَ بِدِيَةٍ وثُلُثٍ ورَوى إبْراهِيمُ عَنِ الأسْوَدِ أنَّ رَجُلًا أُصِيبَ عِنْدَ البَيْتِ، فَسَألَ عُمَرُ عَلِيًّا، فَقالَ لَهُ عَلِيٌّ: " دِيَتُهُ مِن بَيْتِ المالِ " فَلَمْ يَرَ فِيهِ عَلِيٌّ أكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ، ولَمْ يُخالِفْهُ عُمَرُ.
وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ وهو عامٌّ في الحِلِّ والحَرَمِ، ولَمّا كانَتِ الكَفّارَةُ في الحَرَمِ كَهي في الحِلِّ لا فَرْقَ بَيْنَهُما وإنْ كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعالى، وجَبَ أنْ تَكُونَ الدِّيَةُ كَذَلِكَ؛ إذِ الدِّيَةُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ولا تَعَلُّقَ لَها بِالحَرَمِ ولا بِالشَّهْرِ الحَرامِ؛ لِأنَّ حُرْمَةَ الحَرَمِ والشَّهْرِ الحَرامِ إنَّما هي حَقٌّ لِلَّهِ تَعالى، فَلَوْ كانَ لِحُرْمَةِ الحَرَمِ والأشْهُرِ تَأْثِيرٌ في إلْزامِ الغُرْمِ لَكانَ تَأْثِيرُهُ في الكَفّارَةِ الَّتِي هي حَقُّ اللَّهِ تَعالى أوْلى. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «ألا إنَّ قَتِيلَ خَطَإ العَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الحِلِّ والحَرَمِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ التّابِعُونَ في ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وأبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وخارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ: " الدِّيَةُ في الحَرَمِ كَهي في غَيْرِهِ، وكَذَلِكَ الشَّهْرُ الحَرامُ " . ورُوِيَ عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وسالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: " أنَّ مَن قُتِلَ في الحَرَمِ زِيدَ عَلى دِيَتِهِ مِثْلُ ثُلُثِها " واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الدِّيَةِ مِن غَيْرِ الإبِلِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ: " الدِّيَةُ مِنَ الإبِلِ والدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ، فَمِنَ الدَّراهِمِ عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ ومِنَ الدَّنانِيرِ ألْفُ دِينارٍ " .
وأبُو حَنِيفَةَ لا يَرى الدِّيَةَ إلّا مِنَ الإبِلِ والوَرِقِ والذَّهَبِ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " مِنَ الوَرِقِ اثْنا عَشَرَ ألْفًا ومِنَ الذَّهَبِ ألْفُ دِينارٍ " . وقالَ مالِكٌ: " أهْلُ الذَّهَبِ أهْلُ الشّامِ ومِصْرَ، وأهْلُ الوَرِقِ أهْلُ العِراقِ، وأهْلُ الإبِلِ أهْلُ البَوادِي " . وقالَ مالِكٌ: " ولا يُقْبَلُ مِن أهْلِ الإبِلِ إلّا الإبِلُ ومِن أهْلِ الذَّهَبِ إلّا الذَّهَبُ ومِن أهْلِ الوَرِقِ إلّا الوَرِقُ " .
وقالَ (p-٢١١)أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " الدِّيَةُ مِنَ الوَرِقِ عَشَرَةُ آلافٍ وعَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفُ دِينارٍ وعَلى أهْلِ الإبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ وعَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتا بَقَرَةٍ وعَلى أهْلِ الشّاءِ ألْفا شاةٍ وعَلى أهْلِ الحُلَلِ مِائَتا حُلَّةٍ يَمانِيَّةٍ، ولا يُؤْخَذُ مِنَ الغَنَمِ والبَقَرِ في الدِّيَةِ إلّا الثَّنِيُّ فَصاعِدًا، ولا تُؤْخَذُ مِنَ الحُلَلِ إلّا اليَمانِيَّةُ قِيمَةُ كُلِّ حُلَّةٍ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَصاعِدًا " . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى عَنِ الشُّعَبِيِّ عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمانِيِّ عَنْ عُمَرَ: " أنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ وعَلى أهْلِ الوَرِقِ عَشَرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ وعَلى أهْلِ البَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ وعَلى أهْلِ الشّاءِ ألْفَيْ شاةٍ وعَلى أهْلِ الحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ وعَلى أهْلِ الإبِلِ مِائَةً مِنَ الإبِلِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: الدِّيَةُ قِيمَةُ النَّفْسِ، وقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ لَها مِقْدارًا مَعْلُومًا لا يُزادُ عَلَيْهِ ولا يُنْقَصُ مِنهُ، وأنَّها غَيْرُ مَوْكُولَةٍ إلى اجْتِهادِ الرَّأْيِ كَقِيَمِ المُتْلَفاتِ ومُهُورِ المِثْلِ ونَحْوِهِما؛ وقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى إثْباتِ عَشَرَةِ آلافٍ واخْتَلَفُوا فِيما زادَ، فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُهُ إلّا بِتَوْقِيفٍ. وقَدْ رَوى هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ عَنِ الحَسَنِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَوَّمَ الإبِلَ في الدِّيَةِ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، قَوَّمَ كُلَّ بَعِيرٍ بِمِائَةٍ وعِشْرِينَ دِرْهَمًا اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ في الدِّيَةِ عَشْرَةُ آلافٍ. وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مَن رَوى اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا عَلى أنَّها وزْنُ سِتَّةٍ فَتَكُونُ عَشَرَةَ آلافٍ وزْنِ سَبْعَةٍ.
وذَكَرَ الحَسَنُ في هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنَ الوَرِقِ قِيمَةَ الإبِلِ لا أنَّهُ أصْلٌ في الدِّيَةِ، وفي غَيْرِ هَذا الحَدِيثِ أنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنَ الوَرِقِ ورَوى عِكْرِمَةُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ في الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِما رَوى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الطّائِفِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الدِّيَةُ اثْنا عَشَرَ ألْفًا» وبِما رَوى ابْنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ عُمَرَ قَضى في الدِّيَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا، ورَوى نافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِثْلَهُ، والشُّعَبِيُّ عَنِ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. قِيلَ لَهُ: أمّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَإنَّهُ يَرْوِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنُ عَبّاسٍ؛ ويُقالُ إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ غَلِطَ في وصْلِهِ
وعَلى أنَّهُ لَوْ ثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ احْتَمَلَ أنْ يُرِيدَ بِها اثْنَيْ عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ وزْنُ سِتَّةٍ، وإذا احْتَمَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إثْباتُ الزِّيادَةِ بِالِاحْتِمالِ ويَثْبُتُ عَشَرَةُ آلافٍ بِالِاتِّفاقِ.
وأيْضًا قَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّها مِنَ الذَّهَبِ ألْفُ دِينارٍ، وقَدْ جَعَلَ في الشَّرْعِ كُلَّ عَشَرَةِ دَراهِمَ قِيمَةً لِدِينارٍ، ألا تَرى أنَّ الزَّكاةَ في عِشْرِينَ مِثْقالًا وفي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ مِائَتا الدِّرْهَمِ نِصابًا بِإزاءِ العِشْرِينَ دِينارًا ؟ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَجْعَلَ بِإزاءِ كُلِّ دِينارٍ مِنَ الدِّيَةِ عَشَرَةَ دَراهِمَ وإنَّما لَمْ يَجْعَلْ أبُو حَنِيفَةَ الدِّيَةَ مِن غَيْرِ الأصْنافِ (p-٢١٢)الثَّلاثَةِ مِن قِبَلِ أنَّ الدِّيَةَ لَمّا كانَتْ قِيمَةَ النَّفْسِ كانَ القِياسُ أنْ لا تَكُونَ إلّا مِنَ الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ كَقِيَمِ سائِرِ المُتْلَفاتِ، إلّا أنَّهُ لَمّا جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ قِيمَتَها مِنَ الإبِلِ اتَّبَعَ الأثَرَ فِيها ولَمْ يُوجِبْها مِن غَيْرِها؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ دِياتِ أهْلِ الكُفْرِ. قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ وعُثْمانُ البَتِّيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ دِيَةُ الكافِرِ مِثْلُ دِيَةِ المُسْلِمِ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ والمَجُوسِيِّ والمُعاهَدِ والذِّمِّيِّ سَواءٌ " .
وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ دِيَةُ أهْلِ الكِتابِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ ودِيَةُ المَجُوسِيِّ ثَمانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ودِياتُ نِسائِهِمْ عَلى النِّصْفِ مِن ذَلِكَ " . وقالَ الشّافِعِيُّ دِيَةُ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ ودِيَةُ المَجُوسِيِّ ثَمانِمِائَةٍ والمَرْأةُ عَلى النِّصْفِ "
قالَ أبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلى مُساواتِهِمُ المُسْلِمِينَ في الدِّياتِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ والدِّيَةُ اسْمٌ لَمِقْدارٍ مَعْلُومٍ مِنَ المالِ بَدَلًا مِن نَفْسِ الحُرِّ؛ لِأنَّ الدِّياتِ قَدْ كانَتْ مُتَعالِمَةً مَعْرُوفَةً بَيْنَهم قَبْلَ الإسْلامِ وبَعْدَهُ، فَرَجَعَ الكَلامُ إلَيْها في قَوْلِهِ في قَتْلِ المُؤْمِنِ خَطَأً ثُمَّ لَمّا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ كانَتْ هَذِهِ الدِّيَةُ هي الدِّيَةَ المَذْكُورَةَ بَدِيًّا؛ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَما كانَتْ دِيَةً؛ لِأنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدارٍ مَعْلُومٍ مِن بَدَلِ النَّفْسِ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ.
وقَدْ كانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَقادِيرَ الدِّياتِ ولَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الفَرْقَ بَيْنَ دِيَةِ المُسْلِمِ والكافِرِ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ الدِّيَةُ المَذْكُورَةُ لِلْكافِرِ هي الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُسْلِمِ، وأنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ راجِعًا إلَيْها، كَما عَقَلَ مِن دِيَةِ المُسْلِمِ أنَّها المُعْتادُ المُتَعارَفُ عِنْدَهم، ولَوْلا أنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلى البَيانِ، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ لا يَدُلُّ عَلى أنَّها مِثْلُ دِيَةِ المُسْلِمِ، كَما أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ عَلى النِّصْفِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ ولا يُخْرِجُها ذَلِكَ مِن أنْ تَكُونَ دِيَةً كامِلَةً لَها. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما ذَكَرَ الرَّجُلَ في الآيَةِ فَقالَ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ فَكَما اقْتَضى فِيما ذَكَرَهُ لِلْمُسْلِمِ كَمالَ الدِّيَةِ كَذَلِكَ دِيَةُ المُعاهَدِ لِتَساوِيهِما في اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ التَّعارُفِ عِنْدَهم في مِقْدارِ الدِّيَةِ.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ لا يُطْلَقُ عَلَيْها اسْمُ الدِّيَةِ (p-٢١٣)وإنَّما يَتَناوَلُها الِاسْمُ مُقَيَّدًا ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ دِيَةُ المَرْأةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وإطْلاقُ اسْمِ الدِّيَةِ إنَّما يَقَعُ عَلى المُتَعارَفِ المُعْتادِ وهو كَمالُها ؟ .
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ: وإنْ كانَ المَقْتُولُ المُؤْمِنُ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ؛ فاكْتَفى بِذِكْرِ الإيمانِ لِلْقَتِيلَيْنِ الأوَّلَيْنِ عَنْ إعادَتِهِ في القَتِيلِ الثّالِثِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الخِطابِ ذِكْرُ القَتِيلِ المُؤْمِنِ خَطَأً وحُكْمُهُ، وذَلِكَ عُمُومٌ يَقْتَضِي سائِرَ المُؤْمِنِينَ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَغَيْرُ جائِزٍ إعادَةُ ذِكْرِ المُؤْمِنِ بِذَلِكَ الحُكْمِ في سِياقِ الآيَةِ مَعَ شُمُولِ أوَّلِ الآيَةِ لَهُ ولِغَيْرِهِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدِ المُؤْمِنَ مِمَّنْ كانَ بَيْنَنا وبَيْنَهم مِيثاقٌ.
والثّانِي: لَمّا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذِكْرِ الإيمانِ وجَبَ إجْراؤُهُ في الجَمِيعِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ مِن قَوْمٍ بَيْنَنا وبَيْنَهم مِيثاقٌ، وغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُهُ بِالمُؤْمِنِينَ دُونَ الكافِرِينَ بِغَيْرِ دَلالَةٍ. والثّالِثُ: أنَّ إطْلاقَ القَوْلِ بِأنَّهُ مِنَ المُعاهَدِينَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ مُعاهَدًا مِثْلَهم، ألا تَرى أنَّ قَوْلَ القائِلِ: " إنَّ هَذا الرَّجُلَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ " يُفِيدُ أنَّهُ ذِمِّيٌّ مِثْلُهم ؟ وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ مُعاهَدًا مِثْلَهم ألا تَرى أنَّهُ لَمّا أرادَ بَيانَ حُكْمِ المُؤْمِنِ إذا كانَ مِن ذَوِي أنْسابِ المُشْرِكِينَ قالَ: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فَقَيَّدَهُ بِذِكْرِ الإيمانِ ؟ لِأنَّهُ لَوْ أطْلَقَهُ لَكانَ المَفْهُومُ مِنهُ أنَّهُ كافِرٌ مِثْلُهم.
والرّابِعُ: أنَّهُ لَوْ كانَ كَما قالَ هَذا القائِلُ لَما كانَتِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةً إلى أهْلِهِ؛ لِأنَّ أهْلَهُ كُفّارٌ لا يَرِثُونَهُ. فَهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها تَقْتَضِي المُساواةَ وفَسادَ هَذا التَّأْوِيلِ ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا أيْضًا ما رَواهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ داوُدَ بْنِ الحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ: ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهُمْ﴾ [المائدة: ٤٢] الآيَةَ، قالَ: " كانَ إذا قَتَلَ بَنُو النَّضِيرِ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ قَتِيلًا أدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وإذا قَتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِن بَنِي النَّضِيرِ أدَّوُا الدِّيَةَ إلَيْهِمْ، قالَ: فَسَوّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَهم في الدِّيَةِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا قالَ: " أدُّوا الدِّيَةَ " ثُمَّ قالَ: " سَوّى بَيْنَهم في الدِّيَةِ " دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ راجِعٌ إلى الدِّيَةِ المَعْهُودَةِ المَبْدُوءِ بِذِكْرِها؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ رَدَّ بَنِي النَّضِيرِ إلى نِصْفِها لَقالَ: سَوّى بَيْنَهم في نِصْفِ الدِّيَةِ، ولَمْ يَقُلْ: سَوّى بَيْنَهم في الدِّيَةِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» وهو عامٌّ في الكافِرِ والمُسْلِمِ.
ورَوى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ ودى العامِرِيَّيْنِ وكانا مُشْرِكَيْنِ دِيَةَ الحُرَّيْنِ المُسْلِمَيْنِ» .
ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو بَكْرٍ قالَ: سَمِعْتُ نافِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أنَّهُ «ودى ذِمِّيًّا دِيَةَ مُسْلِمٍ» . وهَذانِ الخَبَرانِ يُوجِبانِ (p-٢١٤)مُساواةَ الكافِرِ لِلْمُسْلِمِ في الدِّيَةِ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وداهُما بِما في الآيَةِ في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَةِ دِيَةُ المُسْلِمِ.
وأيْضًا لَمّا لَمْ يَكُنْ مِقْدارُ الدِّيَةِ مُبَيَّنًا في الكِتابِ، كانَ فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ وارِدًا مَوْرِدَ البَيانِ، وفِعْلُهُ ﷺ إذا ورَدَ مَوْرِدَ البَيانِ فَهو عَلى الوُجُوبِ.
ورَوى أبُو حَنِيفَةَ عَنِ الهَيْثَمِ عَنْ أبِي الهَيْثَمِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأبا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمانَ قالُوا «دِيَةُ المُعاهَدِ دِيَةُ الحُرِّ المُسْلِمِ» .
ورَوى إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: " كانَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ يَجْعَلُونَ دِيَةَ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ إذا كانُوا مُعاهَدَيْنِ مِثْلَ دِيَةِ المُسْلِمِ " .
ورَوى سَعِيدُ بْنُ أبِي أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ أنَّ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحَكَمِ أخْبَرَهُ: أنَّ رِفاعَةَ بْنَ السَّمَوْألِ اليَهُودِيَّ قُتِلَ بِالشّامِّ، فَجَعَلَ عُمَرُ دِيَتَهُ ألْفَ دِينارٍ " .
ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ أبانَ بْنِ صالِحٍ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ دِيَةُ أهْلِ الكِتابِ مِثْلُ دِيَةِ المُسْلِمِينَ " وهو قَوْلُ عَلْقَمَةَ وإبْراهِيمَ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ والشُّعَبِيِّ.
ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ: " أنَّ مُسْلِمًا قَتَلَ كافِرًا مِن أهْلِ العَقْدِ، فَقَضى عَلَيْهِ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ بِدِيَةِ المُسْلِمِ " . فَهَذِهِ الأخْبارُ وما ذَكَرْنا مِن أقاوِيلِ السَّلَفِ مَعَ مُوافَقَتِها لِظاهِرِ الآيَةِ تُوجِبُ مُساواةَ الكافِرِ لِلْمُسْلِمِ في الدِّياتِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قالَ دِيَةُ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ أرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ ودِيَةُ المَجُوسِيِّ ثَمانِمِائَةٍ " . قالَ سَعِيدٌ: " وقَضى عُثْمانُ في دِيَةِ المُعاهَدِ بِأرْبَعَةِ آلافٍ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدْ رُوِيَ عَنْهُما خِلافُ ذَلِكَ وقَدْ ذَكَرْناهُ. واحْتَجَّ المُخالِفُ بِما رَواهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ لَمّا دَخَلَ مَكَّةَ عامَ الفَتْحِ قالَ في خُطْبَتِهِ: ودِيَةُ الكافِرِ نِصْفُ دِيَةِ المُسْلِمِ» وبِما رَوى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ عَنْ أبِي الخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «دِيَةُ المَجُوسِ ثَمانِمِائَةٍ» .
قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلِمْنا حُضُورَ هَؤُلاءِ الصَّحابَةِ الَّذِينَ ذَكَرْنا عَنْهم مِقْدارَ الدِّيَةِ خُطْبَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ، فَلَوْ كانَ ذَلِكَ ثابِتًا لَعَرَفَهُ هَؤُلاءِ ولَما عَدَلُوا عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وأيْضًا قَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ «دِيَةُ المُعاهَدِ مِثْلُ دِيَةِ المُسْلِمِ» وأنَّهُ ودى العامِرِيَّيْنِ دِيَةَ الحُرَّيْنِ المُسْلِمَيْنِ؛ وهَذا أوْلى لِما فِيهِ مِنَ الزِّيادَةِ، ولَوْ تَعارَضَ الخَبَرانِ لَكانَ ما اقْتَضاهُ ظاهِرُ الكِتابِ وما ورَدَ بِهِ النَّقْلُ المُتَواتِرُ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ في أنَّ الدِّيَةَ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ فِيهِ بَيْنَ المُسْلِمِ والكافِرِ أوْلى فَوَجَبَ تَساوِيهِما في الدِّياتِ. وأمّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ في دِيَةِ المَجُوسِيِّ فَإنَّهُ حَدِيثٌ واهٍ لا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ؛ لِأنَّ ابْنَ (p-٢١٥)لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ لا سِيَّما مِن رِوايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صالِحٍ عَنْهُ
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ عَطْفًا عَلى ما ذُكِرَ في دِيَةِ المُسْلِمِ لا يَدُلُّ عَلى تَساوِي الدِّيَتَيْنِ، كَما لَوْ قالَ: مَن قَتَلَ عَبْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ومَنِ اسْتَهْلَكَ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، لَمْ يَدُلَّ عَلى تَساوِي القِيمَتَيْنِ. قِيلَ لَهُ: الفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدارٍ مِنَ المالِ بَدَلًا مِن نَفْسِ الحُرِّ كانَتْ مَعْلُومَةَ المِقْدارِ عِنْدَهم وهي مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ، فَمَتى أُطْلِقَتْ كانَ مِن مَفْهُومِ اللَّفْظِ هَذا القَدْرُ، فَإطْلاقُ لَفْظِ الدِّيَةِ قَدْ أنْبَأ عَنْ هَذا المَعْنى، وعَطْفُها عَلى الدِّيَةِ المُتَقَدِّمَةِ مَعَ تَساوِي اللَّفْظِ فِيهِما بِأنَّها دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ قَدِ اقْتَضى ذَلِكَ أيْضًا؛ واَللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ.
* * *
بابُ المُسْلِمِ يُقِيمُ في دارِ الحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ إلَيْنا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ رَوى إسْرائِيلُ عَنْ سِماكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ﴾ قالَ: " يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وقَوْمُهُ كُفّارًا فَلا دِيَةَ لَهُ ولَكِنْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا مَحْمُولٌ عَلى الَّذِي يُسْلِمُ في دارِ الحَرْبِ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ إلَيْنا؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ في المُؤْمِنِ في دارِ الإسْلامِ إذا قُتِلَ ولَهُ أقارِبُ كُفّارٌ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ عَلى قاتِلِهِ الدِّيَةَ لِبَيْتِ المالِ، وأنَّ كَوْنَ أقْرِبائِهِ كُفّارًا لا يُوجِبُ سُقُوطَ دِيَتِهِ لِأنَّهم بِمَنزِلَةِ الأمْواتِ حَيْثُ لا يَرِثُونَهُ.
ورَوى عَطاءُ بْنُ السّائِبِ عَنْ أبِي يَحْيى عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ الآيَةَ، قالَ: " كانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ ﷺ فَيُسْلِمَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى قَوْمِهِ فَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُصِيبُهُ المُسْلِمُونَ خَطَأً في سَرِيَّةٍ أوْ غَزاةٍ، فَيَعْتِقُ الَّذِي يُصِيبُهُ رَقَبَةً " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: إذا أسْلَمَ في دارِ الإسْلامِ لَمْ تَسْقُطْ دِيَتُهُ بِرُجُوعِهِ إلى دارِ الحَرْبِ كَسائِرِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ مِنَ القَرابَةِ لا تَأْثِيرَ لَهُ في إسْقاطِ قِيمَةِ دَمِهِ، كَسائِرِ أهْلِ دارِ الإسْلامِ إذا دَخَلُوا دارَ الحَرْبِ بِأمانٍ، عَلى القاتِلِ الدِّيَةُ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي عِياضٍ مِثْلُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ قَتادَةُ: " هو المُسْلِمُ يَكُونُ في المُشْرِكِينَ فَيَقْتُلُهُ المُؤْمِنُ ولا يَدْرِي فَفِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ولَيْسَ فِيهِ دِيَةٌ " . وهَذا عَلى أنْ يُقْتَلَ قَبْلَ الهِجْرَةِ إلى دارِ الإسْلامِ.
ورَوى مُغِيرَةُ عَنْ إبْراهِيمَ: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ قالَ: " هو المُؤْمِنُ يُقْتَلُ وقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ لَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ، فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وإنْ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَهْدٌ أدّى دِيَتَهُ إلى قَرابَتِهِ الَّذِينَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَهْدٌ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا لا مَعْنى لَهُ، مِن قِبَلِ أنَّ أقْرِباءَهُ لا يَرِثُونَهُ لِأنَّهم كُفّارٌ (p-٢١٦)وهُوَ مُسْلِمٌ فَكَيْفَ يَأْخُذُونَ دِيَتَهُ وإنْ كانَ قَوْمُهُ أهْلَ حَرْبٍ وهو مِن أهْلِ دارِ الإسْلامِ فالدِّيَةُ واجِبَةٌ لِبَيْتِ المالِ كَمُسْلِمٍ قُتِلَ في دارِ الإسْلامِ ولا وارِثَ لَهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ فِيمَن قُتِلَ في دارِ الحَرْبِ وهو مُؤْمِنٌ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ في الرِّوايَةِ المَشْهُورَةِ ومُحَمَّدٌ في الحَرْبِيِّ يُسْلِمُ. فَيَقْتُلُهُ مُسْلِمٌ مُسْتَأْمَنٌ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ إلّا الكَفّارَةُ في الخَطَإ، وإنْ كانا مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلا دارَ الحَرْبِ فَقَتَلَ أحَدُهُما صاحِبَهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ في العَمْدِ والخَطَإ والكَفّارَةُ في الخَطَإ خاصَّةً، وإنْ كانا أسِيرَيْنِ فَلا شَيْءَ عَلى القاتِلِ إلّا الكَفّارَةُ في الخَطَإ، في قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ. وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " عَلَيْهِ الدِّيَةُ في العَمْدِ والخَطَإ " .
ورَوى بِشْرُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ أبِي يُوسُفَ في الحَرْبِيِّ يُسْلِمُ في دارِ الحَرْبِ فَيَقْتُلَهُ رِجْلٌ مُسْلِمٌ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَيْنا أنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ اسْتِحْسانًا، ولَوْ وقَعَ في بِئْرٍ حَفَرَها أوْ وقَعَ عَلَيْهِ مِيزابٌ عَمِلَهُ لَمْ يَضْمَن شَيْئًا. وهَذا خِلافُ المَشْهُورِ مِن قَوْلِهِ وخِلافُ القِياسِ أيْضًا.
وقالَ مالِكٌ: وإذا أسْلَمَ في دارِ الحَرْبِ فَقُتِلَ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَيْنا فَعَلى قاتِلِهِ الدِّيَةُ والكَفّارَةُ إنْ كانَ خَطَأً قالَ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ إنَّما كانَ في صُلْحِ النَّبِيِّ ﷺ أهْلَ مَكَّةَ؛ لِأنَّ مَن لَمْ يُهاجِرْ لَمْ يُورَثْ؛ لِأنَّهم كانُوا يَتَوارَثُونَ بِالهِجْرَةِ؛ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكم مِن ولايَتِهِمْ مِن شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] فَلَمْ يَكُنْ لِمَن لَمْ يُهاجِرْ ورَثَةٌ يَسْتَحِقُّونَ مِيراثَهُ، فَلَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٧٥]
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " مَن أقامَ في أرْضِ العَدُوِّ وإنِ انْتَحَلَ الإسْلامَ وهو يَقْدِرُ عَلى التَّحَوُّلِ إلى المُسْلِمِينَ فَأحْكامُهُ أحْكامُ المُشْرِكِينَ، وإذا أسْلَمَ الحَرْبِيُّ فَأقامَ بِبِلادِهِمْ وهو يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ يُحْكَمُ فِيهِ بِما يُحْكَمُ عَلى أهْلِ الحَرْبِ في مالِهِ ونَفْسِهِ " . وقالَ الحَسَنُ: " إذا لَحِقَ الرَّجُلُ بِدارِ الحَرْبِ ولَمْ يَرْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ فَهو مُرْتَدٌّ بِتَرْكِهِ دارَ الإسْلامِ.
وقالَ الشّافِعِيُّ: " إذا قَتَلَ المُسْلِمُ مُسْلِمًا في دارِ الحَرْبِ في الغارَةِ أوِ الحَرْبِ وهو لا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلا عَقْلَ فِيهِ ولا قَوَدَ وعَلَيْهِ الكَفّارَةُ، وسَواءٌ كانَ المُسْلِمُ أسِيرًا أوْ مُسْتَأْمَنًا أوْ رَجُلًا أسْلَمَ هُناكَ؛ وإنْ عَلِمَهُ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ القَوَدُ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لا يَخْلُو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ مِن أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الحَرْبِيَّ الَّذِي يُسْلِمُ فَيُقْتَلُ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ عَلى ما قالَهُ أصْحابُنا، أوِ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ قَراباتٌ مِن أهْلِ الحَرْبِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِأنْ يَكُونَ مِن (p-٢١٧)أهْلِ دارِ الحَرْبِ وبِأنْ يَكُونَ ذا نَسَبٍ مِن أهْلِ الحَرْبِ، فَلَوْ خَلَّيْنا والظّاهِرَ لَأسْقَطْنا دِيَةَ مَن قُتِلَ في دارِ الإسْلامِ مِنَ المُسْلِمِينَ إذا كانَ ذا قَرابَةٍ مِن أهْلِ الحَرْبِ لِاقْتِضاءِ الظّاهِرِ ذَلِكَ، فَلَمّا اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ كَوْنِهِ ذا قَرابَةٍ مِن أهْلِ الحَرْبِ لا يُسْقِطُ حُكْمَ دَمِهِ في إيجابِ الدِّيَةِ أوِ القَوَدِ إذا قُتِلَ في دارِ الإسْلامِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ: مَن كانَ مُسْلِمًا مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ لَمْ يُهاجِرْ إلى دارِ الإسْلامِ، فَيَكُونُ الواجِبُ عَلى قاتِلِهِ خَطَأً الكَفّارَةَ دُونَ الدِّيَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما أوْجَبَ فِيهِ الكَفّارَةَ ولَمْ يُوجِبِ الدِّيَةَ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُزادَ في النَّصِّ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ إذْ كانَتِ الزِّيادَةُ في النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ.
فَإنْ قِيلَ: هَلّا أوْجَبْتَ الدِّيَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ قِيلَ لَهُ: غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ هَذا المُؤْمِنُ مُرادًا بِالمُؤْمِنِ المَذْكُورِ في أوَّلِ الآيَةِ؛ لِأنَّ فِيها إيجابَ الدِّيَةِ والرَّقَبَةِ، فَيَمْتَنِعُ أنْ نَعْطِفَهُ عَلَيْهِ ونَشْرِطُ كَوْنَهُ مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ ونُوجِبُ فِيهِ الرَّقَبَةَ وهو قَدْ أوْجَبَها بَدِيًّا مَعَ الدِّيَةِ في ابْتِداءِ الخِطابِ.
وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ﴾ اسْتِئْنافُ كَلامٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ في الخِطابِ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: " أعْطِ هَذا رَجُلًا وإنْ كانَ رَجُلًا فَأعْطِهِ " هَذا كَلامٌ فاسِدٌ لا يَتَكَلَّمُ بِهِ حَكِيمٌ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا المُؤْمِنَ المَعْطُوفَ عَلى الأوَّلِ غَيْرُ داخِلٍ في أوَّلِ الخِطابِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا هَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُعاوِيَةَ عَنْ إسْماعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً إلى خَثْعَمٍ، فاعْتَصَمَ ناسٌ مِنهم بِالسُّجُودِ، فَأسْرَعَ فِيهِمُ القَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَأمَرَ لَهم بِنِصْفِ العَقْلِ، وقالَ: أنا بَرِيءٌ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أظْهُرِ المُشْرِكِينَ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ؟ قالَ: لا تَراءى ناراهُما» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ عائِشَةَ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ الحَجّاجِ عَنْ إسْماعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أقامَ مَعَ المُشْرِكِينَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنهُ الذِّمَّةُ أوْ قالَ: لا ذِمَّةَ لَهُ»؛ قالَ ابْنُ عائِشَةَ: هو الرَّجُلُ يُسْلِمُ فَيُقِيمُ مَعَهم فَيُغْزَوْنَ، فَإنْ أُصِيبَ فَلا دِيَةَ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنهُ الذِّمَّةُ. وقَوْلُهُ: " أنا بَرِيءٌ مِنهُ " يَدُلُّ عَلى أنْ لا قِيمَةَ لِدَمِهِ كَأهْلِ الحَرْبِ الَّذِينَ لا ذِمَّةَ لَهم، ولَمّا أمَرَ لَهم بِنِصْفِ العَقْلِ في الحَدِيثِ الأوَّلِ كانَ ذَلِكَ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ المَوْضِعُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ كانَ مَشْكُوكًا في أنَّهُ مِن دارِ الحَرْبِ أوْ مِن دارِ الإسْلامِ، أوْ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ تَبَرَّعَ (p-٢١٨)بِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ جَمِيعُهُ واجِبًا لَما اقْتَصَرَ عَلى نِصْفِهِ.
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنا شَيْبانُ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ يَعْنِي ابْنَ المُغِيرَةِ قالَ: حَدَّثَنا حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ قالَ: أتانِي أبُو العالِيَةِ وصاحِبٌ لِي، فانْطَلَقْنا حَتّى أتَيْنا بِشْرَ بْنَ عاصِمٍ اللَّيْثِيَّ، فَقالَ أبُو العالِيَةِ حَدِّثْ هَذَيْنِ فَقالَ بِشْرٌ: حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مالِكٍ اللَّيْثِيُّ وكانَ مِن رَهْطِهِ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ سَرِيَّةً فَأغارَتْ عَلى قَوْمٍ، فَشَذَّ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ واتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ ومَعَهُ السَّيْفُ شاهِرَهُ، فَقالَ الشّاذُّ: إنِّي مُسْلِمٌ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَنَما الحَدِيثُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَقالَ القاتِلُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما قالَ إلّا تَعَوُّذًا مِنَ القَتْلِ، فَأعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِرارًا تُعْرَفُ المَساءَةُ في وجْهِهِ، وقالَ: إنَّ اللَّهَ أبى عَلَيَّ أنْ أقْتُلَ مُؤْمِنًا ثَلاثَ مَرّاتٍ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِإيمانِ المَقْتُولِ ولَمْ يُوجِبْ عَلى قاتِلِهِ الدِّيَةَ؛ لِأنَّهُ كانَ حَرْبِيًّا لَمْ يُهاجِرْ بَعْدَ إسْلامِهِ. وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وعُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالا: حَدَّثَنا يَعْلى بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي ظَبْيانَ قالَ: حَدَّثَنا أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ قالَ: «بَعَثَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً إلى الحُرُقاتِ فَنُذِرُوا بِنا فَهَرَبُوا، فَأدْرَكْنا رَجُلًا، فَلَمّا غَشِيناهُ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَضَرَبْناهُ حَتّى قَتَلْناهُ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: مَن لَكَ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّما قالَها مَخافَةَ السِّلاحِ، قالَ: أفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتّى تَعْلَمَ مِن أجْلِ ذَلِكَ قالَها أمْ لا ؟ مَن لَكَ بِلا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ فَما زالَ يَقُولُها حَتّى أنِّي ودِدْتُ أنِّي لَمْ أُسْلِمْ إلّا يَوْمَئِذٍ» .
وهَذا الحَدِيثُ أيْضًا يَدُلُّ عَلى ما قُلْنا لِأنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا. وهو حُجَّةٌ عَلى الشّافِعِيِّ في إيجابِهِ القَوَدَ عَلى قاتِلِ المُسْلِمِ في دارِ الحَرْبِ إذا عَلِمَ أنَّهُ مُسْلِمٌ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أُخْبِرَ بِإسْلامِ هَذا الرَّجُلِ ولَمْ يُوجِبْ عَلى أُسامَةَ دِيَةً ولا قَوَدًا. وأمّا قَوْلُ مالِكٍ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ إنَّما كانَ حُكْمًا لِمَن أسْلَمَ ولَمْ يُهاجِرْ وهو مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُولُو الأرْحامِ بَعْضُهم أوْلى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥] فَإنَّهُ دَعْوى لِنَسْخِ حُكْمٍ ثابِتٍ في القُرْآنِ بِلا دَلالَةٍ، ولَيْسَ في نَسْخِ التَّوارُثِ بِالهِجْرَةِ وإثْباتِهِ بِالرَّحِمِ ما يُوجِبُ نَسْخَ هَذا الحُكْمِ، بَلْ هو حُكْمٌ ثابِتٌ بِنَفْسِهِ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالمِيراثِ.
وعَلى أنَّهُ في حالِ ما كانَ التَّوارُثُ بِالهِجْرَةِ قَدْ كانَ مَن لَمْ يُهاجِرْ مِنَ القَراباتِ يَرِثُ بَعْضُهم بَعْضًا، وإنَّما كانَتِ الهِجْرَةُ قاطِعَةً لِلْمِيراثِ بَيْنَ المُهاجِرِ وبَيْنَ مَن لَمْ يُهاجِرْ، فَأمّا مَن لَمْ يُهاجِرْ فَقَدْ كانُوا يَتَوارَثُونَ بِأسْبابٍ أُخَرَ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَهُ مالِكٌ لَوَجَبَ أنْ تَكُونَ دِيَةً واجِبَةً لِمَن لَمْ يُهاجِرْ مِن أقْرِبائِهِ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ (p-٢١٩)لَمْ يَكُنْ مِيراثُ مَن لَمْ يُهاجِرْ مُهْمَلًا لا مُسْتَحِقَّ لَهُ، فَلَمّا لَمْ يُوجِبِ اللَّهُ تَعالى لَهُ دِيَةً قَبْلَ الهِجْرَةِ لا لِلْمُهاجِرِينَ ولا لِغَيْرِهِمْ عَلِمْنا أنَّهُ كانَ مُبْقًى عَلى حُكْمِ الحَرْبِ لا قِيمَةَ لِدَمِهِ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ يُفِيدُ أنَّهُ ما لَمْ يُهاجِرْ فَهو مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ باقٍ عَلى حُكْمِهِ الأوَّلِ في أنْ لا قِيمَةَ لِدَمِهِ وإنْ كانَ دَمُهُ مَحْظُورًا؛ إذْ كانَتِ النِّسْبَةُ إلَيْهِمْ قَدْ تَصِحُّ بِأنْ يَكُونَ مِن بَلَدِهِمْ وإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَهم رَحِمٌ بَعْدَ أنْ يَجْمَعَهم في الوَطَنِ بَلَدٌ أوْ قَرْيَةٌ أوْ صُقْعٌ، فَنَسَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ بَعْدَ الإسْلامِ؛ إذْ كانَ مِن أهْلِ دِيارِهِمْ، ودَلَّ ذَلِكَ عَلى أنْ لا قِيمَةَ لِدَمِهِ.
وأمّا قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ في أنَّ المُسْلِمَ إذا لَحِقَ بِدارِ الحَرْبِ فَهو مُرْتَدٌّ، فَإنَّهُ خِلافُ الكِتابِ والإجْماعِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكم مِن ولايَتِهِمْ مِن شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا﴾ [الأنفال: ٧٢] فَجَعَلَهم مُؤْمِنِينَ مَعَ إقامَتِهِمْ في دارِ الحَرْبِ بَعْدَ إسْلامِهِمْ، وأوْجَبَ عَلَيْنا نُصْرَتَهم بِقَوْلِهِ: ﴿وإنِ اسْتَنْصَرُوكم في الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: ٧٢] ولَوْ كانَ ما قالَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ لَلتِّجّارِ دُخُولُ دارِ الحَرْبِ بِأمانٍ وأنْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ، ولَيْسَ هَذا قَوْلَ أحَدٍ. فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ وعَبْدانُ المَرْوَزِيُّ قالا: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قالَ: حَدَّثَنا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنِ الشُّعَبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ قالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «إذا أبَقَ العَبْدُ إلى المُشْرِكِينَ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ» فَإنَّ هَذا مَحْمُولٌ عِنْدَنا عَلى أنَّهُ قَدْ لَحِقَ بِهِمْ مُرْتَدًّا عَنِ الإسْلامِ؛ لِأنَّ إباقَ العَبْدِ لا يُبِيحُ دَمَهُ، واللَّحاقُ بِدارِ الحَرْبِ كَدُخُولِ التّاجِرِ إلَيْها بِأمانٍ فَلا يُبِيحُ دَمَهُ.
وأمّا قَوْلُ الشّافِعِيِّ في أنَّ مَن أصابَ مُسْلِمًا في دارِ الحَرْبِ وهو لا يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وإنْ عَلِمَ بِإسْلامِهِ أُقِيدَ بِهِ؛ فَإنَّهُ مُتَناقِضٌ مِن قِبَلِ أنَّهُ إذا ثَبَتَ أنَّ لِدَمِهِ قِيمَةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ العَمْدِ والخَطَإ في وُجُوبِ بَدَلِهِ في العَمْدِ ودِيَتِهِ في الخَطَإ، فَإذا لَمْ يَجِبْ في الخَطَإ شَيْءٌ كَذَلِكَ حُكْمُ العَمْدِ فِيهِ. ولَمّا ثَبَتَ بِما قَدَّمْنا أنَّهُ لا قِيمَةَ لِدَمِ المُقِيمِ في دارِ الحَرْبِ بَعْدَ إسْلامِهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ إلَيْنا وكانَ مُبْقًى عَلى حُكْمِ الحَرْبِ وإنْ كانَ مَحْظُورَ الدَّمِ أجْرَوْهُ أصْحابُنا مُجْرى الحَرْبِيِّ في إسْقاطِ الضَّمانِ عَنْ مُتْلِفِ مالِهِ؛ لِأنَّ دَمَهُ أعْظَمُ حُرْمَةً مِن مالِهِ، ولا ضَمانَ عَلى مُتْلِفِ نَفْسِهِ. فَمالُهُ أحْرى أنْ لا يَجِبَ فِيهِ ضَمانٌ، وأنْ يَكُونَ كَمالِ الحَرْبِيِّ مِن هَذا الوَجْهِ؛ ولِذَلِكَ أجازَ أبُو حَنِيفَةَ مُبايَعَتَهُ عَلى سَبِيلِ ما يَجُوزُ مُبايَعَةُ الحَرْبِيِّ مِن بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ في دارِ الحَرْبِ. وأمّا الأسِيرُ في دارِ الحَرْبِ فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ أجْراهُ مُجْرى الَّذِي أسْلَمَ هُناكَ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ وذَلِكَ لِأنَّ (p-٢٢٠)إقامَتَهُ هُناكَ لا عَلى وجْهِ الأمانِ وهو مَقْهُورٌ مَغْلُوبٌ، فَلَمّا اسْتَوَيا مِن هَذا الوَجْهِ اسْتَوى حُكْمُهُما في سُقُوطِ الضَّمانِ عَنْ قاتِلِهِما؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ذِكْرُ أقْسامِ القَتْلِ وأحْكامِهِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: القَتْلُ يَنْقَسِمُ إلى أرْبَعَةِ أنْحاءٍ: واجِبٌ، ومُباحٌ، ومَحْظُورٌ، وما لَيْسَ بِواجِبٍ ولا مَحْظُورٍ ولا مُباحٍ.
فَأمّا الواجِبُ فَهو قَتْلُ أهْلِ الحَرْبِ المُحارِبِينَ لَنا قَبْلَ أنْ يَصِيرُوا في أيْدِينا بِالأسْرِ أوْ بِالأمانِ أوِ العَهْدِ، وذَلِكَ في الرِّجالِ مِنهم دُونَ النِّساءِ اللّاتِي لا يُقاتِلْنَ ودُونَ الصِّغارِ الَّذِينَ لا يُقاتِلُونَ، وقَتْلُ المُحارِبِينَ إذا خَرَجُوا مُمْتَنِعِينَ وقُتِلُوا وصارُوا في يَدِ الإمامِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وقَتْلُ أهْلِ البَغْيِ إذا قاتَلُونا، وقَتْلُ مَن قَصَدَ إنْسانًا مَحْظُورَ الدَّمِ بِالقَتْلِ فَعَلَيْنا قَتْلُهُ، وقَتْلُ السّاحِرِ والزّانِي المُحْصَنِ رَجْمًا، وكُلُّ قَتْلٍ وجَبَ عَلى وجْهِ الحَدِّ؛ فَهَذِهِ ضُرُوبُ القَتْلِ الواجِبِ.
وأمّا المُباحُ فَهو القَتْلُ الواجِبُ لِوَلِيِّ الدَّمِ عَلى وجْهِ القَوَدِ، فَهو مُخَيَّرٌ بَيْنَ القَتْلِ والعَفْوِ، فالقَتْلُ هَهُنا مُباحٌ لَيْسَ بِواجِبٍ؛ وكَذَلِكَ قَتْلُ أهْلِ الحَرْبِ إذا صارُوا في أيْدِينا، فالإمامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ القَتْلِ والِاسْتِبْقاءِ، وكَذَلِكَ مَن دَخَلَ دارَ الحَرْبِ وأمْكَنَهُ القَتْلُ والأسْرُ فَهو مُخَيَّرٌ بَيْنَ أنْ يَقْتُلَ وبَيْنَ أنْ يَأْسِرَ. وأمّا المَحْظُورُ فَإنَّهُ يَنْقَسِمُ إلى أنْحاءٍ: مِنها ما يَجِبُ فِيهِ القَوَدُ، وهو قَتْلُ المُسْلِمِ عَمْدًا في دارِ الإسْلامِ العارِي مِنَ الشُّبْهَةِ، فَعَلى القاتِلِ القَوَدُ في ذَلِكَ؛ ومِنها ما تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ دُونَ القَوَدِ، وهو قَتْلُ شِبْهِ العَمْدِ وقَتْلُ الأبِ ابْنَهُ وقَتْلُ الحَرْبِيِّ المُسْتَأْمَنِ والمُعاهَدِ وما يَدْخُلُهُ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ القَوَدُ وتَجِبُ الدِّيَةُ؛ ومِنها ما لا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ، وهو قَتْلُ المُسْلِمِ في دارِ الحَرْبِ قَبْلَ أنْ يُهاجِرَ وقَتْلُ الأسِيرِ في دارِ الحَرْبِ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلى قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ وقَتْلُ المَوْلى لِعَبْدِهِ؛ هَذِهِ ضُرُوبٌ مِنَ القَتْلِ مَحْظُورَةٌ ولا يَجِبُ عَلى القاتِلِ فِيها شَيْءٌ غَيْرُ التَّعْزِيرِ.
وأمّا ما لَيْسَ بِواجِبٍ ولا مُباحٍ ولا مَحْظُورٍ فَهو قَتْلُ المُخْطِئِ والسّاهِي والنّائِمِ والمَجْنُونِ والصَّبِيِّ، وقَدْ بَيَّنّا حُكْمَهُ فِيما سَلَفَ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والشَّعْبِيُّ وقَتادَةُ والزُّهْرِيُّ: " هو الرَّجُلُ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ يُقْتَلُ خَطَأً فَتَجِبُ عَلى قاتِلِهِ الدِّيَةُ والكَفّارَةُ "، وهو قَوْلُ أصْحابِنا. وقالَ إبْراهِيمُ والحَسَنُ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ: " أرادَ وإنْ كانَ المُؤْمِنُ المَقْتُولُ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وكانُوا لا يُوجِبُونَ الكَفّارَةَ عَلى قاتِلِ الذِّمِّيِّ " وهو مَذْهَبُ مالِكٍ.
وقَدْ بَيَّنّا فِيما سَلَفَ أنَّ ظاهِرَ (p-٢٢١)الآيَةِ مُقْتَضٍ أنْ يَكُونَ المَقْتُولُ المَذْكُورُ في الآيَةِ كافِرًا ذا عَهْدٍ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إضْمارُ الإيمانِ لَهُ إلّا بِدَلالَةٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمّا أرادَ مُؤْمِنًا مِن أهْلِ دارِ الحَرْبِ ذَكَرَ الإيمانَ فَقالَ: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فَوَصَفَهُ بِالإيمانِ؛ لِأنَّهُ لَوْ أطْلَقَ لاقْتَضى الإطْلاقُ أنْ يَكُونَ كافِرًا مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنا؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ الكافِرَ المُعاهَدَ تَجِبُ عَلى قاتِلِهِ الدِّيَةُ، وذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الآيَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ الكافِرَ المُعاهَدَ؛ واَللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ القَتْلِ العَمْدِ هَلْ فِيهِ كَفّارَةٌ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فَنَصَّ عَلى إيجابِ الكَفّارَةِ في قَتْلِ الخَطَإ؛ وذَكَرَ قَتْلَ العَمْدِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] وقالَ: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] وخَصَّهُ بِالعَمْدِ؛ فَلَمّا كانَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ القَتِيلَيْنِ مَذْكُورًا بِعَيْنِهِ ومَنصُوصًا عَلى حُكْمِهِ لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نَتَعَدّى ما نَصَّ اللَّهُ تَعالى عَلَيْنا فِيهِما،؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ قِياسُ المَنصُوصاتِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ؛ وهَذا قَوْلُ أصْحابِنا جَمِيعًا.
وقالَ الشّافِعِيُّ: " عَلى قاتِلِ العَمْدِ الكَفّارَةُ "؛ ومَعَ ذَلِكَ فَفي إثْباتِ الكَفّارَةِ في العَمْدِ زِيادَةٌ في حُكْمِ النَّصِّ، وغَيْرُ جائِزٍ الزِّيادَةُ في النَّصِّ إلّا بِمِثْلِ ما يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ؛ وأيْضًا فَغَيْرُ جائِزٍ إثْباتُ الكَفّاراتِ قِياسًا وإنَّما طَرِيقُها التَّوْقِيفُ أوِ الِاتِّفاقُ. وأيْضًا لَمّا نَصَّ اللَّهُ عَلى حُكْمِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ القَتِيلَيْنِ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن أدْخَلَ في أمْرِنا ما لَيْسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ» فَمُوجِبُ الكَفّارَةِ عَلى العامِدِ مُدْخِلٌ في أمْرِهِ ما لَيْسَ مِنهُ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا وجَبَتِ الكَفّارَةُ في الخَطَإ فَهي في العَمْدِ أوْجَبُ؛ لِأنَّهُ أغْلَظُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الكَفّارَةُ مُسْتَحَقَّةً بِالمَأْثَمِ فَيُعْتَبَرُ عِظَمُ المَأْثَمِ فِيها؛ لِأنَّ المُخْطِئَ غَيْرُ آثِمٍ، فاعْتِبارُ المَأْثَمِ فِيهِ ساقِطٌ؛ وأيْضًا قَدْ أوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ سُجُودَ السَّهْوِ عَلى السّاهِي، ولا يَجِبُ عَلى العامِدِ وإنْ كانَ العَمْدُ أغْلَظَ. فَإنِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ ضَمْرَةَ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَبْلَةَ عَنِ العَرِيفِ بْنِ الدِّيلِيِّ عَنْ واثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ قالَ: «أتَيْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في صاحِبٍ لَنا قَدْ أوْجَبَ يَعْنِي النّارَ بِالقَتْلِ، فَقالَ: أعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنهُ عُضْوًا مِنَ النّارِ» . قِيلَ لَهُ رَواهُ ابْنُ المُبارَكِ وهانِئُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أخِي إبْراهِيمَ بْنِ أبِي عَبْلَةَ هَذا الحَدِيثُ عَنْ أبِي عَبْلَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ أوْجَبَ بِالقَتْلِ؛ وهَؤُلاءِ أثْبَتُ مِن ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ.
ومَعَ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ الحَدِيثُ عَلى ما رَواهُ ضَمْرَةُ لَمْ يَدُلَّ عَلى قَوْلِ المُخالِفِ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: (p-٢٢٢)أنَّهُ تَأْوِيلٌ مِنَ الرّاوِي في قَوْلِهِ: " أوْجَبَ النّارَ بِالقَتْلِ " لِأنَّهُ قالَ: يَعْنِي بِالقَتْلِ.
والثّانِي: أنَّهُ لَوْ أرادَ رَقَبَةَ القَتْلِ لَذَكَرَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَلَمّا لَمْ يَشْرِطْ لَهُمُ الإيمانَ فِيها دَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِن كَفّارَةِ القَتْلِ؛ وأيْضًا فَإنَّما أمَرَهم بِأنْ يُعْتِقُوا عَنْهُ، ولا خِلافَ أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ عِتْقُها عَنْهُ؛ وأيْضًا فَإنَّ عِتْقَ الغَيْرِ عَنِ القاتِلِ لا يُجْزِيهِ عَنِ الكَفّارَةِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ جَعَلَ اللَّهُ مِن صِفَةِ رَقَبَةِ القَتْلِ الإيمانَ، ولا خِلافَ أنَّها لا تُجْزِي إلّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ المُؤْمِنَةِ أفْضَلُ مِنَ الكافِرَةِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ قَدْ صارَتْ شَرْطًا في الفَرْضِ، وكَذَلِكَ مَن نَذَرَ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً لَمْ تُجْزِهِ الكافِرَةُ لِأنَّهُ أوْجَبَها مَقْرُونَةً بِصِفَةٍ هي قُرْبَةٌ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الصَّدَقَةَ عَلى المُسْلِمِينَ أفْضَلُ مِنها عَلى الكُفّارِ الذِّمِّيِّينَ وإنْ كانَتْ تَطَوُّعًا، وكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ التَّتابُعَ في صَوْمِ كَفّارَةِ القَتْلِ صِفَةً زائِدَةً، ولا خِلافَ أنَّهُ لا يُجْزِي إلّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ الإمْكانِ؛ وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن أوْجَبَ صَوْمَ شَهْرٍ مُتَتابِعٍ أنَّهُ لا يُجْزِيهِ التَّفْرِيقُ لِإيجابِهِ إيّاهُ بِصِفَةٍ هي قُرْبَةٌ، فَوَجَبَتْ حِينَ أوْجَبَها كَما وجَبَ المَنذُورُ مِنَ الصَّوْمِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الفُقَهاءُ أنَّهُ إذا صامَ بِالأهِلَّةِ أنَّهُ لا يُعْتَبَرُ فِيهِ النُّقْصانُ، وأنَّها إنْ كانَتْ ناقِصَةً أوْ تامَّةً أجْزَأتْهُ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَعُدُّوا ثَلاثِينَ»، فَأمَرَ بِاعْتِبارِ الشُّهُورِ بِالأهِلَّةِ وأمَرَ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِاعْتِبارِ الثَّلاثِينَ؛ وإنِ ابْتَدَأ صِيامَ الشَّهْرَيْنِ مِن بَعْضِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَ الشَّهْرُ الثّانِي بِالهِلالِ وبَقِيَّةُ الشَّهْرِ الأوَّلِ بِالعَدَدِ تَمامَ ثَلاثِينَ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ.
ورَوى أبُو يُوسُفَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ لا يَعْتَبِرُ الأهِلَّةَ إلّا أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ صَوْمِهِ بِالهِلالِ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ. والأوَّلُ أصَحُّ؛ لِأنَّهُ قَدْ رُوِيَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] أنَّها بَقِيَّةُ ذِي الحِجَّةِ والمُحَرَّمِ وصَفَرٍ ورَبِيعٍ الأوَّلِ وبَقِيَّةٍ مِن رَبِيعٍ الآخِرِ، فاعْتُبِرَ الكَسْرُ بِالأيّامِ عَلى التَّمامِ وسائِرُ الشُّهُورِ بِالأهِلَّةِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ مَعْلُومٌ أنَّهُ كَلَّفَنا التَّتابُعَ عَلى حَسَبِ الإمْكانِ، وفي العادَةِ أنَّ المَرْأةَ لا تَخْلُو مِن حَيْضٍ في كُلِّ شَهْرٍ، ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ (p-٢٢٣)لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ: «تَحَيَّضِي في عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أوْ سَبْعًا كَما تَحِيضُ النِّساءُ في كُلِّ شَهْرٍ»، فَأخْبَرَ أنَّ عادَةَ النِّساءِ حَيْضَةٌ في كُلِّ شَهْرٍ؛ فَإذا كانَ تَكْلِيفُ صَوْمِ التَّتابُعِ عَلى حَسَبِ الإمْكانِ وكانَتِ المَرْأةُ إذا كانَ عَلَيْها صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ في وُسْعِها في العادَةِ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ لا حَيْضَ فِيهِما سَقَطَ حُكْمُ أيّامِ الحَيْضِ ولَمْ يَقْطَعْ حُكْمَ التَّتابُعِ وصارَتْ أيّامُ الحَيْضِ بِمَنزِلَةِ اللَّيْلِ الَّذِي لا يَقْطَعُ التَّتابُعَ؛ وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ، ورُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ أنَّها تُسْتَقْبَلُ.
وقالَ أصْحابُنا: " إذا مَرِضَ في الشَّهْرَيْنِ فَأفْطَرَ اسْتَقْبَلَ " وقالَ مالِكٌ: " يَصِلُ ويُجْزِيهِ " وفَرَّقُوا بَيْنَ الحَيْضِ والمَرَضِ لِأنَّهُ يُمْكِنُهُ في العادَةِ صِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ بِلا مَرَضٍ ولا يُمْكِنُها ذَلِكَ بِلا حَيْضٍ. ووَجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّ حُدُوثَ المَرَضِ لا يُوجِبُ الإفْطارَ بَلِ الإفْطارُ بِفِعْلِهِ، والحَيْضُ يُنافِي الصَّوْمَ لا بِفِعْلِها، فَأشْبَهَ اللَّيْلَ ولَمْ يَقْطَعِ التَّتابُعَ.
قَوْلُهُ تَعالى ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْناهُ اعْمَلُوا بِما أوْجَبَهُ اللَّهُ لِلتَّوْبَةِ مِنَ اللَّهِ؛ أيْ لِيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَكم فِيما اقْتَرَفْتُمُوهُ مِن ذُنُوبِكم. وقِيلَ إنَّهُ خاصٌّ في سَبَبِ القَتْلِ، فَأمَرَ بِالتَّوْبَةِ مِنهُ. وقِيلَ مَعْناهُ تَوْسِعَةً ورَحْمَةً مِنَ اللَّهِ، كَما قالَ: ﴿فَتابَ عَلَيْكم وعَفا عَنْكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] والمَعْنى: وسَّعَ عَلَيْكم وسَهَّلَ عَلَيْكم.
{"ayah":"وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـࣰٔاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـࣰٔا فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲ وَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَصَّدَّقُوا۟ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوࣲّ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱ فَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ تَوۡبَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق