الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا رَغَّبَ في مُقاتَلَةِ الكُفّارِ، وحَرَّضَ عَلَيْها، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضَ ما يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المُحارَبَةِ، فَمِنها أنَّهُ تَعالى لَمّا أذِنَ في قَتْلِ الكُفّارِ فَلا شَكَّ أنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ أنْ يَرى الرَّجُلُ رَجُلًا يَظُنُّهُ كافِرًا حَرْبِيًّا فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أنَّهُ كانَ مُسْلِمًا، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعالى حُكْمَ هَذِهِ الواقِعَةِ في هَذِهِ الآيَةِ وهَهُنا مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: رَوى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ «أنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ كانَ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ فَأخْطَأ المُسْلِمُونَ وظَنُّوا أنَّ أباهُ اليَمانَ واحِدٌ مِنَ الكُفّارِ، فَأخَذُوهُ وضَرَبُوهُ بِأسْيافِهِمْ وحُذَيْفَةُ يَقُولُ: إنَّهُ أبِي فَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ إلّا بَعْدَ أنْ قَتَلُوهُ، فَقالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكم وهو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، فَلَمّا سَمِعَ الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ ازْدادَ وقْعُ حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
الرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ الآيَةَ «نَزَلَتْ في أبِي الدَّرْداءِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ في سَرِيَّةٍ فَعَدَلَ إلى شِعْبٍ لِحاجَةٍ لَهُ فَوَجَدَ رَجُلًا في غَنَمٍ لَهُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ، فَقالَ الرَّجُلُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَقَتَلَهُ وساقَ غَنَمَهُ ثُمَّ وجَدَ في نَفْسِهِ شَيْئًا، فَذَكَرَ الواقِعَةَ لِلرَّسُولِ ﷺ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”هَلّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ“» ونَدِمَ أبُو الدَّرْداءِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ.
(p-١٨١).
الرِّوايَةُ الثّالِثَةُ: رُوِيَ أنَّ عَيّاشَ بْنَ أبِي رَبِيعَةَ، وكانَ أخًا لِأبِي جَهْلٍ مِن أُمِّهِ، أسْلَمَ وهاجَرَ خَوْفًا مِن قَوْمِهِ إلى المَدِينَةِ، وذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ ﷺ، فَأقْسَمَتْ أُمُّهُ لا تَأْكُلُ ولا تَشْرَبُ ولا تَجْلِسُ تَحْتَ سَقْفٍ حَتّى يَرْجِعَ، فَخَرَجَ أبُو جَهْلٍ ومَعَهُ الحَرْثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ فَأتَياهُ وطَوَّلا في الأحادِيثِ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: ألَيْسَ أنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُكَ بِبِرِّ الأُمِّ فانْصَرِفْ وأحْسِنْ إلى أُمِّكَ وأنْتَ عَلى دِينِكَ فَرَجَعَ، فَلَمّا دَنَوْا مِن مَكَّةَ قَيَّدُوا يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، وجَلَدَهُ أبُو جَهْلٍ مِائَةَ جَلْدَةٍ، وجَلَدَهُ الحَرْثُ مِائَةً أُخْرى، فَقالَ لِلْحَرْثِ: هَذا أخِي فَمَن أنْتَ يا حَرْثُ، لِلَّهِ عَلَيَّ إنْ وجَدْتُكَ خالِيًا أنْ أقْتُلَكَ. ورُوِيَ أنَّ الحَرْثَ قالَ لِعَيّاشٍ حِينَ رَجَعَ: إنْ كانَ دِينُكَ الأوَّلُ هُدًى فَقَدْ تَرَكْتَهُ وإنْ كانَ ضَلالًا فَقَدْ دَخَلْتَ الآنَ فِيهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى عَيّاشٍ وحَلَفَ أنْ يَقْتُلَهُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلى أُمِّهِ حَلَفَتْ أُمُّهُ لا يَزُولُ عَنْهُ القَيْدُ حَتّى يَرْجِعَ إلى دِينِهِ الأوَّلِ فَفَعَلَ، ثُمَّ هاجَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وأسْلَمَ الحَرْثُ أيْضًا وهاجَرَ، فَلَقِيَهُ عَيّاشٌ خالِيًا ولَمْ يَشْعُرْ بِإسْلامِهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمّا أُخْبِرَ بِأنَّهُ كانَ مُسْلِمًا نَدِمَ عَلى فِعْلِهِ وأتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وقالَ: قَتَلْتُهُ ولَمْ أشْعُرْ بِإسْلامِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما كانَ﴾ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أيْ وما كانَ فِيما أتاهُ مِن رَبِّهِ وعَهِدَ إلَيْهِ.
الثّانِي: ما كانَ لَهُ في شَيْءٍ مِنَ الأزْمِنَةِ ذَلِكَ، والغَرَضُ مِنهُ بَيانُ أنَّ حُرْمَةَ القَتْلِ كانَتْ ثابِتَةً مِن أوَّلِ زَمانِ التَّكْلِيفِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إلّا خَطَأً﴾ فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، والذّاهِبُونَ إلى هَذا القَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ ورَدَ عَلى طَرِيقِ المَعْنى، لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً﴾ [النِّساءِ: ٩٢ ] مَعْناهُ أنَّهُ يُؤاخِذُ الإنْسانَ عَلى القَتْلِ إلّا إذا كانَ القَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ فَإنَّهُ لا يُؤاخَذُ بِهِ.
الثّانِي: أنَّ الِاسْتِثْناءَ صَحِيحٌ أيْضًا عَلى ظاهِرِ اللَّفْظِ، والمَعْنى أنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا البَتَّةَ إلّا عِنْدَ الخَطَأِ. وهو ما إذا رَأى عَلَيْهِ شِعارَ الكُفّارِ، أوْ وجَدَهُ في عَسْكَرِهِمْ فَظَنَّهُ مُشْرِكًا، فَهَهُنا يَجُوزُ قَتْلُهُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا خَطَأٌ، فَإنَّهُ ظَنَّ أنَّهُ كافِرٌ مَعَ أنَّهُ ما كانَ كافِرًا.
الثّالِثُ: أنَّ في الكَلامِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، والتَّقْدِيرُ: وما كانَ مُؤْمِنٌ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلّا خَطَأً، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلَّهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ﴾ [مريم: ٣٥] تَأْوِيلُهُ: ما كانَ اللَّهُ لِيَتَّخِذَ مِن ولَدٍ، لِأنَّهُ تَعالى لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إنَّما يَنْفِي عَنْهُ ما لا يَلِيقُ بِهِ، وأيْضًا قالَ تَعالى: ﴿ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾ [النمل: ٦٠] مَعْناهُ ما كُنْتُمْ لِتُنْبِتُوا، لِأنَّهُ تَعالى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أنْ يُنْبِتُوا الشَّجَرَ، إنَّما نَفى عَنْهم أنْ يُمْكِنَهم إنْباتَها، فَإنَّهُ تَعالى هو القادِرُ عَلى إنْباتِ الشَّجَرِ.
الرّابِعُ: أنَّ وجْهَ الإشْكالِ في حَمْلِ هَذا الِاسْتِثْناءِ عَلى الِاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ، وهو أنْ يُقالَ: الِاسْتِثْناءُ مِنَ النَّفْيِ إثْباتٌ، وهَذا يَقْتَضِي الإطْلاقَ في قَتْلِ المُؤْمِنِ في بَعْضِ الأحْوالِ، وذَلِكَ مُحالٌ، إلّا أنَّ هَذا الإشْكالَ إنَّما يَلْزَمُ إذا سَلَّمْنا أنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ النَّفْيِ إثْباتٌ، وذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الأُصُولِيِّينَ، والصَّحِيحُ أنَّهُ لا يَقْتَضِيهِ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ يَقْتَضِي صَرْفَ الحُكْمِ عَنِ المُسْتَثْنى لا صَرْفَ المَحْكُومِ بِهِ عَنْهُ، وإذا كانَ تَأْثِيرُ الِاسْتِثْناءِ في صَرْفِ الحُكْمِ فَقَطْ بَقِيَ المُسْتَثْنى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لا بِالنَّفْيِ ولا بِالإثْباتِ، وحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الإشْكالُ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِثْناءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإثْباتٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لا صَلاةَ إلّا بِطَهُورٍ ولا نِكاحَ إلّا بِوَلِيٍّ» “ ويُقالُ: لا مُلْكَ إلّا بِالرِّجالِ ولا رِجالَ إلّا بِالمالِ، والِاسْتِثْناءُ في جُمْلَةِ هَذِهِ الصُّوَرِ لا يُفِيدُ أنْ يَكُونَ الحُكْمُ المُسْتَثْنى مِنَ النَّفْيِ إثْباتًا واللَّهُ أعْلَمُ.
الخامِسُ: قالَ أبُو هاشِمٍ وهو أحَدُ رُؤَساءِ المُعْتَزِلَةِ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: وما كانَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فَيَبْقى مُؤْمِنًا، إلّا أنْ يَقْتُلَهُ (p-١٨٢)خَطَأً فَيَبْقى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، قالَ: والمُرادُ أنَّ قَتْلَ المُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا، إلّا أنْ يَكُونَ خَطَأً فَإنَّهُ لا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا. واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ بِناءً عَلى أنَّ الفاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وهو أصْلٌ باطِلٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنى لَكِنْ، ونَظِيرُهُ في القُرْآنِ كَثِيرٌ. قالَ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ [النساء: ٢٩] وقالَ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ إلّا اللَّمَمَ﴾ [النجم: ٣٢] وقالَ: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ [الواقعة: ٢٥] واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في انْتِصابِ قَوْلِهِ: ﴿خَطَأً﴾ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، والتَّقْدِيرُ ما يَنْبَغِي أنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ، إلّا لِكَوْنِهِ خَطَأً.
الثّانِي: أنَّهُ حالٌ، والتَّقْدِيرُ: لا يَقْتُلُهُ البَتَّةَ إلّا حالَ كَوْنِهِ خَطَأً.
الثّالِثُ: أنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ. والتَّقْدِيرُ: إلّا قَتْلًا خَطَأً.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ .
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: القَتْلُ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: عَمْدٌ، وخَطَأٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ.
أمّا العَمْدُ: فَهو أنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يُعْلَمُ إفْضاءُهُ إلى المَوْتِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ جارِحًا أوْ لَمْ يَكُنْ، وهَذا قَوْلٌ لِلشّافِعِيِّ.
وأمّا الخَطَأُ فَضَرْبانِ:
أحَدُهُما: أنْ يَقْصِدَ رَمْيَ المُشْرِكِ أوِ الطّائِرِ فَأصابَ مُسْلِمًا.
والثّانِي: أنْ يَظُنَّهُ مُشْرِكًا بِأنْ كانَ عَلَيْهِ شِعارُ الكُفّارِ، والأوَّلُ خَطَأٌ في الفِعْلِ، والثّانِي خَطَأٌ في القَصْدِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ: القَتْلُ بِالمُثْقَلِ لَيْسَ بِعَمْدٍ مَحْضٍ، بَلْ هو خَطَأٌ وشِبْهُ عَمْدٍ، فَيَكُونُ داخِلًا تَحْتَ هَذِهِ الآيَةِ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ والكَفّارَةُ، ولا يَجُبْ فِيهِ القِصاصُ. وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ يَجِبُ فِيهِ القِصاصُ. أمّا بَيانُ أنَّهُ قَتْلٌ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ القُرْآنُ والخَبَرُ، أمّا القُرْآنُ فَهو أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ وكَزَ القِبْطِيَّ فَقَضى عَلَيْهِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الوَكْزَ يُسَمّى بِالقَتْلِ، بِدَلِيلِ أنَّهُ حَكى أنَّ القِبْطِيَّ قالَ في اليَوْمِ الثّانِي: ﴿أتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ﴾ [القصص: ١٩] وكانَ الصّادِرُ عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالأمْسِ لَيْسَ إلّا الوَكْزَ، فَثَبَتَ أنَّ القِبْطِيَّ سَمّاهُ قَتْلًا، وأيْضًا أنَّ مُوسى صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ سَمّاهُ قَتْلًا حَيْثُ قالَ: ﴿رَبِّ إنِّي قَتَلْتُ مِنهم نَفْسًا فَأخافُ أنْ يَقْتُلُونِ﴾ [القصص: ٣٣] وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ مِنهُ قَتْلُ ذَلِكَ القِبْطِيِّ بِذَلِكَ الوَكْزِ، وأيْضًا أنَّ اللَّهَ تَعالى سَمّاهُ قَتْلًا حَيْثُ قالَ: ﴿وقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الغَمِّ وفَتَنّاكَ فُتُونًا﴾ [طه: ٤٠] فَثَبَتَ أنَّ الوَكْزَ قَتْلٌ بِقَوْلِ القِبْطِيِّ وبِقَوْلِ مُوسى وبِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى، وأمّا الخَبَرُ فَقَوْلُهُ ﷺ: ”«ألا إنَّ قَتِيلَ الخَطَأِ العَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» “ فَسَمّاهُ قَتْلًا، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ أنَّهُ حَصَلَ القَتْلُ، وأمّا أنَّهُ عَمْدٌ فالشّاكُّ فِيهِ داخِلٌ في السَّفْسَطَةِ فَإنَّ مَن ضَرَبَ رَأْسَ إنْسانٍ بِحَجَرِ الرَّحا، أوْ صَلَبَهُ أوْ غَرَّقَهُ، أوْ خَنَقَهُ ثُمَّ قالَ: ما قَصَدْتُ بِهِ قَتْلَهُ كانَ ذَلِكَ إمّا كاذِبًا أوْ مَجْنُونًا، وإمّا أنَّهُ عُدْوانٌ فَلا يُنازِعُ فِيهِ مُسْلِمٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ عُدْوانٌ، فَوَجَبَ أنْ يَجِبَ القِصاصُ بِالنَّصِّ والمَعْقُولِ. (p-١٨٣)أمّا النَّصُّ: فَهو جَمِيعُ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى وُجُوبِ القِصاصِ، كَقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] .
وأمّا المَعْقُولُ: فَهو أنَّ المَقْصُودَ مِن شَرْعِ القِصاصِ صِيانَةُ النُّفُوسِ والأرْواحِ عَنِ الإهْدارِ. قالَ تَعالى: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] وإذا كانَ المَقْصُودُ مِن شَرْعِ القِصاصِ صِيانَةُ النُّفُوسِ والأرْواحِ عَنِ الإهْدارِ، والإهْدارُ مِنَ المُثْقَلِ كَهو في المُحَدَّدِ كانَتِ الحاجَةُ إلى شَرْعِ الزّاجِرِ في إحْدى الصُّورَتَيْنِ كالحاجَةِ إلَيْهِ في الصُّورَةِ الأُخْرى، ولا تَفاوُتَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ في نَفْسِ الإهْدارِ، إنَّما التَّفاوُتُ حاصِلٌ في آلَةِ الإهْدارِ، والعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حاصِلٌ بِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، والكَلامُ في الفِقْهِيّاتِ إذا وصَلَ إلى هَذا الحَدِّ فَقَدْ بَلَغَ الغايَةَ القُصْوى في التَّحْقِيقِ لِمَن تَرَكَ التَّقْلِيدَ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﷺ: ”«ألا إنَّ قَتِيلَ الخَطَأِ العَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ والعَصا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الإبِلِ» “ وهو عامٌّ سَواءٌ كانَ السَّوْطُ والعَصا صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا.
والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ”قَتِيلُ الخَطَأِ“ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَعْنى الخَطَأِ حاصِلًا فِيهِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ مَن خَنَقَ إنْسانًا أوْ ضَرَبَ رَأْسَهُ بِحَجَرِ الرَّحا، ثُمَّ قالَ: ما كُنْتُ أقْصِدُ قَتْلَهُ، فَإنَّ كُلَّ عاقِلٍ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ يَعْلَمُ أنَّهُ كاذِبٌ في هَذا المَقالِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذا الضَّرْبِ عَلى الضَّرْبِ بِالعَصا الصَّغِيرَةِ حَتّى يَبْقى مَعْنى الخَطَأِ فِيهِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ: القَتْلُ العَمْدُ لا يُوجِبُ الكَفّارَةَ، وقالَ الشّافِعِيُّ: يُوجِبُ. احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا﴾ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الكَفّارَةِ وعِنْدَ انْتِفاءِ الشَّرْطِ لا يَحْصُلُ المَشْرُوطُ، فَيُقالُ لَهُ: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] فَقَوْلُهُ: ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ﴾ [النساء: ٢٥] ما كانَ شَرْطًا لِجَوازِ نِكاحِ الأمَةِ عَلى قَوْلِكم، فَكَذَلِكَ هَهُنا. ثُمَّ نَقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الكَفّارَةِ في القَتْلِ العَمْدِ الخَبَرُ والقِياسُ.
أمّا الخَبَرُ فَهو ما رَوى واثِلَةُ بْنُ الأسْقَعِ قالَ: «أتَيْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في صاحِبٍ لَنا أوْجَبَ النّارَ بِالقَتْلِ، فَقالَ: أعْتِقُوا عَنْهُ يَعْتِقِ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنهُ عُضْوًا مِنهُ مِنَ النّارِ» .
وأمّا القِياسُ: فَهو أنَّ الغَرَضَ مِن إعْتاقِ العَبْدِ هو أنْ يَعْتِقَهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ، والحاجَةُ إلى هَذا المَعْنى في القَتْلِ العَمْدِ أتَمُّ، فَكانَتِ الحاجَةُ فِيهِ إلى إيجابِ الكَفّارَةِ أتَمَّ واللَّهُ أعْلَمُ.
وذَكَرَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُجَّةً أُخْرى مِن قِياسِ الشَّبَهِ فَقالَ: لَمّا وجَبَتِ الكَفّارَةُ في قَتْلِ الصَّيْدِ في الإحْرامِ سَوَّيْنا بَيْنَ العامِدِ وبَيْنَ الخاطِئِ إلّا في الإثْمِ، فَكَذا في قَتْلِ المُؤْمِنِ، ولِهَذا الكَلامِ تَأْكِيدٌ آخَرُ وهو أنْ يُقالَ: نَصَّ اللَّهُ تَعالى هُناكَ في العامِدِ، وأوْجَبْنا عَلى الخاطِئِ. فَهَهُنا نَصَّ عَلى الخاطِئِ، فَبِأنْ نُوجِبَهُ عَلى العامِدِ مَعَ أنَّ احْتِياجَ العامِدِ إلى الإعْتاقِ المُخْلِصِ لَهُ عَنِ النّارِ أشَدُّ كانَ ذَلِكَ أوْلى.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ: لا تَجْزِي الرَّقَبَةُ إلّا إذا صامَ وصَلّى، وقالَ الشّافِعِيُّ ومالِكٌ والأوْزاعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم: يَجْزِي الصَّبِيَّ إذا كانَ أحَدُ أبَوَيْهِ مُسْلِمًا.
حُجَّةُ ابْنِ عَبّاسٍ هَذِهِ الآيَةُ، فَإنَّهُ تَعالى أوْجَبَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ المُؤْمِنَةِ، والمُؤْمِنُ مَن يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالإيمانِ، (p-١٨٤)والإيمانُ إمّا التَّصْدِيقُ وإمّا العَمَلُ وإمّا المَجْمُوعُ، وعَلى التَّقْدِيراتِ فالكُلُّ فائِتٌ عَنِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، فَوَجَبَ أنْ لا يَجْزِيَ.
حُجَّةُ الفُقَهاءُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ، فَكَذا قَوْلُهُ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ الصَّغِيرُ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الدِّيَةُ في العَمْدِ المَحْضِ وفي شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مُثَلَّثَةٌ ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ جَذَعَةً، وأرْبَعُونَ خَلِفَةً في بُطُونِها أوْلادُها.
وأمّا في الخَطَأِ المَحْضِ فَمُخَفَّفَةٌ: عِشْرُونَ بَناتِ مَخاضٍ، وعِشْرُونَ بَناتِ لَبُونٍ، وعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ، وعِشْرُونَ حِقَّةً، وعِشْرُونَ جَذَعَةً. وأمّا أبُو حَنِيفَةَ فَهو أيْضًا هَكَذا يَقُولُ في الكُلِّ إلّا في شَيْءٍ واحِدٍ فَإنَّهُ أوْجَبَ بَنِي مَخاضٍ بَدَلًا عَنْ بَناتٍ لَبُونٍ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ الدِّيَةَ في القُرْآنِ ولَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الدِّيَةِ فَرَجَعْنا في مَعْرِفَةِ الكَيْفِيَّةِ إلى السُّنَّةِ والقِياسِ، فَلَمْ نَجِدْ في السُّنَّةِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وأمّا القِياسُ فَإنَّهُ لا مَجالَ لِلْمُناسَباتِ والتَّعْلِيلاتِ المَعْقُولَةِ في تَعْيِينِ الأسْبابِ وتَعْيِينِ الأعْدادِ، فَلَمْ يَبْقَ هَهُنا مَطْمَعٌ إلّا في قِياسِ الشَّبَهِ، ونَرى أنَّ الدِّيَةَ وجَبَتْ بِسَبَبٍ أقْوى مِنَ السَّبَبِ المُوجِبِ لِلزَّكاةِ، ثُمَّ إنّا رَأيْنا أنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْ لِبَنِي مَخاضٍ دَخْلًا في بابِ الزَّكاةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ لَها دَخْلٌ في بابِ الدِّيَةِ أيْضًا. وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ البَراءَةَ كانَتْ ثابِتَةٌ، والأصْلُ في الثّابِتِ البَقاءُ، فَكانَتِ البَراءَةُ الأصْلِيَّةُ باقِيَةً، ولا يُعْدَلُ عَنْ هَذا الدَّلِيلِ إلّا لِدَلِيلٍ أقْوى مِنهُ فَنَقُولُ: الأوَّلُ هو المُتَّفَقُ عَلَيْهِ فاعْتَرَفْنا بِوُجُوبِهِ: وأمّا الزّائِدُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أنْ يَبْقى عَلى النَّفْيِ الأصْلِيِّ.
والجَوابُ: أنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ، والأصْلُ في الثّابِتِ البَقاءُ، وقَدْ رَأيْنا حُصُولَ الِاتِّفاقِ عَلى السُّقُوطِ بِأداءِ أكْثَرِ ما قِيلَ فِيهِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ ذَلِكَ السُّقُوطُ عِنْدَ أداءِ أقَلِّ ما فِيهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا لَمْ تُوجَدِ الإبِلُ، فالواجِبُ إمّا ألْفُ دِينارٍ، أوِ اثْنا عَشَرَ ألْفَ دِرْهَمٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: بَلِ الواجِبُ عَشَرَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ: ما رَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ. قالَ: «كانَتْ قِيمَةُ الدِّيَةِ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَمانِمِائَةِ دِينارٍ، وثَمانِيَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَلَمّا اسْتَخْلَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قامَ خَطِيبًا. وقالَ: إنَّ الإبِلَ قَدْ غَلَتْ أثْمانُها، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ فَرَضَها عَلى أهْلِ الذَّهَبِ ألْفَ دِينارٍ، وعَلى أهْلِ الوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفًا»، وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ في مَجْمَعِ الصَّحابَةِ وما أنْكَرَ عَلَيْهِ أحَدٌ فَكانَ إجْماعًا. حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ: أنَّ الأخْذَ بِالأقَلِّ أوْلى، وقَدْ سَبَقَ جَوابُهُ.
* * *
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ وجُمْهُورُ الخَوارِجِ: الدِّيَةُ واجِبَةٌ عَلى القاتِلِ، قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لا شَكَّ أنَّهُ إيجابٌ لِهَذا التَّحْرِيرِ، والإيجابُ لا بُدَّ فِيهِ مِن شَخْصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الفِعْلُ، والمَذْكُورُ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ هو القاتِلُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ فَهَذا التَّرْتِيبُ يُوجِبُ القَطْعَ بِأنَّ هَذا التَّحْرِيرَ إنَّما أوْجَبَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ لا عَلى غَيْرِهِ.
والثّانِي: أنَّ هَذِهِ الجِنايَةَ صَدَرَتْ مِنهُ، والمَعْقُولُ هو أنَّ الضَّمانَ لا يَجِبُ إلّا عَلى المُتْلِفِ، أقْصى ما في البابِ أنَّ هَذا الفِعْلَ صَدَرَ عَنْهُ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ. ولَكِنَّ الفِعْلَ الخَطَأ قائِمٌ في قِيَمِ المُتْلَفاتِ وأُرُوشِ الجِناياتِ، مَعَ أنَّ تِلْكَ الضَّماناتِ لا تَجِبُ إلّا عَلى المُتْلِفِ، فَكَذا هَهُنا.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ في هَذِهِ الآيَةِ شَيْئَيْنِ: تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ المُؤْمِنَةِ، وتَسْلِيمُ الدِّيَةِ الكامِلَةِ، ثُمَّ انْعَقَدَ الإجْماعُ عَلى أنَّ التَّحْرِيرَ واجِبٌ عَلى الجانِي، فَكَذا الدِّيَةُ يَجِبُ أنْ تَكُونَ (p-١٨٥)واجِبَةً عَلى القاتِلِ، ضَرُورَةَ أنَّ اللَّفْظَ واحِدٌ في المَوْضِعَيْنِ.
. الرّابِعُ: أنَّ العاقِلَةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهم جِنايَةٌ ولا ما يُشْبِهُ الجِنايَةَ، فَوَجَبَ أنْ لا يَلْزَمَهم شَيْءٌ لِلْقُرْآنِ والخَبَرِ، أمّا القُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ٢٩] وقالَ: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] وأمّا الخَبَرُ فَما رُوِيَ «أنَّ أبا رِمْثَةَ دَخَلَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ ومَعَهُ ابْنُهُ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: مَن هَذا ؟ فَقالَ ابْنِي، قالَ: إنَّهُ لا يَجْنِي عَلَيْكَ ولا تَجْنِي عَلَيْهِ»، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ الإخْبارَ عَنْ نَفْسِ الجِنايَةِ إنَّما المَقْصُودُ بَيانُ أنَّ أثَرَ جِنايَتِكَ لا يَتَعَدّى إلى ولَدِكَ وبِالعَكْسِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ إيجابَ الدِّيَةِ عَلى الجانِي أوْلى مِن إيجابِها عَلى الغَيْرِ.
الخامِسُ: أنَّ النُّصُوصَ تَدُلُّ عَلى أنَّ مالَ الإنْسانِ مَعْصُومٌ وأنَّهُ لا سَبِيلَ لِأحَدٍ أنْ يَأْخُذَهُ مِنهُ. قالَ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ [النساء: ٢٩] وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«كُلُّ امْرِئٍ أحَقُّ بِكَسْبِهِ» “ وقالَ: ”«حُرْمَةُ مالِ المُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» “ وقالَ: ”«لا يَحِلُّ مالُ المُسْلِمِ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ» “ تَرَكْنا العَمَلَ بِهَذِهِ العُمُوماتِ في الأشْياءِ الَّتِي عَرَفْنا بِنَصِّ القُرْآنِ كَوْنَها مُوجِبَةً لِجَوازِ الأخْذِ كَما قُلْنا في الزَّكَواتِ، وكَما قُلْنا في أخْذِ الضَّماناتِ. وأمّا في إيجابِ الدِّيَةِ عَلى العاقِلَةِ فالمُعْتَمَدُ فِيهِ عَلى خَبَرِ الواحِدِ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ، لِأنَّ القُرْآنَ مَعْلُومٌ، وخَبَرَ الواحِدِ مَظْنُونٌ، وتَقْدِيمُ المَظْنُونِ غَيْرُ جائِزٍ، ولِأنَّ هَذا خَبَرٌ واحِدٌ ورَدَ فِيما تَعُمُّ بِهِ البَلْوى فَيُرَدُّ، ولِأنَّهُ خَبَرٌ واحِدٌ ورَدَ عَلى مُخالَفَةِ جَمِيعِ أُصُولِ الشَّرائِعِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ، وأمّا الفُقَهاءُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِالخَبَرِ والأثَرِ والآيَةِ: أمّا الخَبَرُ: فَما رَوى المُغِيرَةُ «أنَّ امْرَأةً ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأةٍ أُخْرى فَألْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى عاقِلَةِ الضّارِبَةِ بِالغِرَّةِ، فَقامَ حَمَلُ بْنُ مالِكٍ فَقالَ: كَيْفَ نَدِي مَن لا شَرِبَ ولا أكَلَ، ولا صاحَ ولا اسْتَهَلَّ، ومِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَذا مِن سَجْعِ الجاهِلِيَّةِ»، وأمّا الأثَرُ: فَهو أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضى عَلى عَلِيٍّ بِأنْ يَعْقِلَ عَنْ مَوْلى صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ حِينَ جَنى مَوْلاها، وعَلِيٌّ كانَ ابْنَ أخِي صَفِيَّةَ، وقَضى لِلزُّبَيْرِ بِمِيراثِها، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الدِّيَةَ إنَّما تَجِبُ عَلى العاقِلَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: مَذْهَبُ أكْثَرِ الفُقَهاءِ أنَّ دِيَةَ المَرْأةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ. وقالَ الأصَمُّ وابْنُ عَطِيَّةَ: دِيَتُها مِثْلُ دِيَةِ الرَّجُلِ.
حُجَّةُ الفُقَهاءِ أنَّ عَلِيًّا وعُمَرَ وابْنَ مَسْعُودٍ قَضَوْا بِذَلِكَ، ولِأنَّ المَرْأةَ في المِيراثِ والشَّهادَةِ عَلى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ، فَكَذَلِكَ في الدِّيَةِ.
وحُجَّةُ الأصَمِّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ وأجْمَعُوا عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دَخَلَ فِيها حُكْمُ الرَّجُلِ والمَرْأةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الحُكْمُ فِيها ثابِتًا بِالسَّوِيَّةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلى أنَّ دِيَةَ الخَطَأِ مُخَفَّفَةٌ في ثَلاثِ سِنِينَ: الثُّلُثُ في السَّنَةِ، والثُّلُثانِ في السَّنَتَيْنِ، والكُلُّ في ثَلاثِ سِنِينَ. اسْتَفاضَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ولَمْ يُخالِفْهُ فِيهِ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ فَكانَ إجْماعًا.
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: لا فَرْقَ في هَذِهِ الدِّيَةِ بَيْنَ أنْ يُقْضى مِنها الدَّيْنُ وتُنَفَّذَ مِنها الوَصِيَّةُ، ويُقَسَّمَ الباقِي بَيْنَ الوَرَثَةِ عَلى فَرائِضِ اللَّهِ تَعالى. رُوِيَ «أنَّ امْرَأةً جاءَتْ تَطْلُبُ نَصِيبَها مِن دِيَةِ الزَّوْجِ فَقالَ عُمَرُ: لا أعْلَمُ لَكِ شَيْئًا، إنَّما الدِّيَةُ لِلْعُصْبَةِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَشَهِدَ بَعْضٌ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ أمَرَهُ أنْ يُورِثَ الزَّوْجَةَ مِن دِيَةِ زَوْجِها، فَقَضى عُمَرُ بِذَلِكَ»، وإذْ قَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسائِلَ فَلْنَرْجِعْ إلى تَفْسِيرِ الآيَةِ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ مَعْناهُ فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، والتَّحْرِيرُ عِبارَةٌ عَنْ جَعْلِهِ حُرًّا، والحُرُّ هو الخالِصُ، ولَمّا كانَ الإنْسانُ في (p-١٨٦)أصْلِ الخِلْقَةِ خُلِقَ لِيَكُونَ مالِكًا لِلْأشْياءِ كَما قالَ تَعالى: ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] فَكَوْنُهُ مَمْلُوكًا يَكُونُ صِفَةَ تَكَدُّرِ مُقْتَضى الإنْسانِيَّةِ وتَشَوُّشِها، فَلا جَرَمَ سُمِّيَتْ إزالَةُ المُلْكِ تَحْرِيرًا، أيْ تَخْلِيصًا لِذَلِكَ الإنْسانِ عَمّا يُكَدِّرُ إنْسانِيَّتَهُ، والرَّقَبَةُ عِبارَةٌ عَنِ النَّسَمَةِ كَما قَدْ يُجْعَلُ الرَّأْسُ أيْضًا عِبارَةً عَنْ نَسَمَةٍ في قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يَمْلِكُ كَذا رَأْسًا مِنَ الرَّقِيقِ، والمُرادُ بِرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كُلُّ رَقَبَةٍ كانَتْ عَلى حُكْمِ الإسْلامِ عِنْدَ الفُقَهاءِ، وعِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ لا تُجْزِي إلّا رَقَبَةٌ قَدْ صَلَّتْ وصامَتْ، وقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ. وقَوْلُهُ: ﴿ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: الدِّيَةُ مِنَ الوَدْيِ كالشِّيَةِ مِنَ الوَشْيِ، والأصْلُ ودِيَةٌ فَحُذِفَتِ الواوُ يُقالُ: ودى فُلانٌ فُلانًا، أيْ أدّى دِيَتَهُ إلى ولِيِّهِ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ خَصَّصَ هَذا اللَّفْظَ بِما يُؤَدّى في بَدَلِ النَّفْسِ دُونَ ما يُؤَدّى في بَدَلِ المُتْلَفاتِ، ودُونَ ما يُؤَدّى في بَدَلِ الأطْرافِ والأعْضاءِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إلّا أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أصْلُهُ يَتَصَدَّقُوا فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الصّادِ، ومَعْنى التَّصَدُّقِ الإعْطاءُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وتَصَدَّقْ عَلَيْنا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف: ٨٨] والمَعْنى: إلّا أنْ يَتَصَدَّقُوا بِالدِّيَةِ فَيَعْفُوا ويَتْرُكُوا الدِّيَةَ. قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: وتَقْدِيرُ الآيَةِ، ويَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وتَسْلِيمُها إلى حِينِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿أنْ يَصَّدَّقُوا﴾ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الظَّرْفِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن أهْلِهِ بِمَعْنى إلّا مُتَصَدِّقِينَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ كانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم وهو مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ .
فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولى: أنَّ مَن قَتَلَ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ مُؤْمِنًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وتَسْلِيمُ الدِّيَةِ، وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ مَن قَتَلَ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ مُؤْمِنًا مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَنا فَعَلَيْهِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ وسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الدِّيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدُ أنَّ المَقْتُولَ إنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ وجَبَتِ الدِّيَةُ، والسُّكُوتُ عَنْ إيجابِ الدِّيَةِ في هَذِهِ الآيَةِ مَعَ ذِكْرِها فِيما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، وفِيما بَعْدَها يَدُلُّ عَلى أنَّ الدِّيَةَ غَيْرُ واجِبَةٍ في هَذِهِ الصُّورَةِ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: كَلِمَةُ ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها كَوْنُ هَذا المَقْتُولِ مِن سُكّانِ دارِ الحَرْبِ، أوِ المُرادُ كَوْنُهُ ذا نَسَبٍ مِنهم، والثّانِي باطِلٌ لِانْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّ المُسْلِمَ السّاكِنَ في دارِ الإسْلامِ، وجَمِيعَ أقارِبِهِ يَكُونُونَ كُفّارًا، فَإذا قُتِلَ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ وجَبَتِ الدِّيَةُ في قَتْلِهِ، ولَمّا بَطَلَ هَذا القِسْمُ تَعَيَّنَ الأوَّلُ فَيَكُونُ المُرادُ: وإنْ كانَ المَقْتُولُ خَطَأً مِن سُكّانِ دارِ الحَرْبِ وهو مُؤْمِنٌ، فالواجِبُ بِسَبَبِ قَتْلِهِ الواقِعِ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ هو تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ، فَأمّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلا. قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وكَما دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذا المَعْنى فالقِياسُ يُقَوِّيهِ، أمّا أنَّهُ لا تَجِبُ الدِّيَةَ فَلِأنّا لَوْ أوْجَبْنا الدِّيَةَ في قَتْلِ المُسْلِمِ السّاكِنِ في دارِ الحَرْبِ لاحْتاجَ مَن يُرِيدُ غَزْوَ دارِ الحَرْبِ إلى أنْ يَبْحَثَ عَنْ كُلِّ أحَدٍ أنَّهُ هَلْ هو مِنَ المُسْلِمِينَ أمْ لا، وذَلِكَ مِمّا يَصْعُبُ ويَشِفُّ فَيُفْضِي ذَلِكَ إلى احْتِرازِ النّاسِ عَنِ الغَزْوِ، فالأوْلى سُقُوطُ الدِّيَةِ عَنْ قاتِلِهِ لِأنَّهُ هو الَّذِي أهْدَرَ دَمَ نَفْسِهِ بِسَبَبِ اخْتِيارِهِ السُّكْنى في دارِ الحَرْبِ، وأمّا الكَفّارَةُ فَإنَّها حَقُّ اللَّهِ تَعالى، لِأنَّهُ لَمّا صارَ ذَلِكَ الإنْسانُ مَقْتُولًا فَقَدْ هَلَكَ إنْسانٌ كانَ مُواظِبًا عَلى عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى، والرَّقِيقُ لا يُمْكِنُهُ المُواظَبَةَ عَلى عِبادَةِ اللَّهِ، فَإذا أعْتَقَهُ فَقَدْ أقامَهُ مَقامَ ذَلِكَ المَقْتُولِ في المُواظَبَةِ عَلى العِباداتِ، فَظَهَرَ أنَّ القِياسَ يَقْتَضِي سُقُوطَ الدِّيَةِ، ويَقْتَضِي بَقاءَ الكَفّارَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
(p-١٨٧)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ، فِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ المُسْلِمُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أوَّلًا حالَ المُسْلِمِ القاتِلِ خَطَأً ثُمَّ ذَكَرَ حالَ المُسْلِمِ المَقْتُولِ خَطَأً إذا كانَ فِيما بَيْنَ أهْلِ الحَرْبِ، ثُمَّ ذَكَرَ حالَ المُسْلِمِ المَقْتُولِ خَطَأً إذا كانَ فِيما بَيْنَ أهْلِ العَهْدِ وأهْلِ الذِّمَّةِ ولا شَكَّ أنَّ هَذا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ فَكانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ جائِزًا، والَّذِي يُؤَكِّدُ صِحَّةَ هَذا القَوْلِ أنَّ قَوْلَهُ ﴿وإنْ كانَ﴾ لا بُدَّ مِن إسْنادِهِ إلى شَيْءٍ جَرى ذِكْرُهُ فِيما تَقَدَّمَ، والَّذِي جَرى ذِكْرُهُ فِيما تَقَدَّمَ هو المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً. فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِنهُ الذِّمِّيُّ، والتَّقْدِيرُ: وإنْ كانَ المَقْتُولُ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ ومَعْنى كَوْنِ المَقْتُولِ مِنهم أنَّهُ عَلى دِينِهِمْ ومَذْهَبِهِمْ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ طَعَنُوا في القَوْلِ الأوَّلِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المُسْلِمَ المَقْتُولَ خَطَأً سَواءٌ كانَ مِن أهْلِ الحَرْبِ أوْ كانَ مِن أهْلِ الذِّمَّةِ فَهو داخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ فَلَوْ كانَ المُرادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ هو المُؤْمِنُ لَكانَ هَذا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ وأنَّهُ لا يَجُوزُ، بِخِلافِ ما إذا كانَ المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً مِن سُكّانِ دارِ الحَرْبِ، فَإنَّهُ تَعالى إنَّما أعادَهُ لِبَيانِ أنَّهُ لا تَجِبُ الدِّيَةُ في قَتْلِهِ، وأمّا في هَذِهِ الآيَةِ فَقَدْ أوْجَبَ الدِّيَةَ والكَفّارَةَ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ هو المُؤْمِنُ لَكانَ هَذا إعادَةً وتَكْرارًا مِن غَيْرِ فائِدَةٍ وإنَّهُ لا يَجُوزُ.
الثّانِي: أنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ ما ذَكَرْتُمْ لَما كانَتِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةً إلى أهْلِهِ لِأنَّ أهْلَهُ كُفّارٌ لا يَرِثُونَهُ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونُوا مِن ذَلِكَ القَوْمِ في الوَصْفِ الَّذِي وقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ وهو حُصُولُ المِيثاقِ بَيْنَهُما، فَإنَّ كَوْنَهُ مِنهم مُجْمَلٌ لا يَدْرِي أنَّهُ مِنهم في أيِّ الأُمُورِ، وإذا حَمَلْناهُ عَلى كَوْنِهِ مِنهم في ذَلِكَ الوَصْفِ زالَ الإجْمالُ فَكانَ ذَلِكَ أوْلى، وإذا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ مِنهم في كَوْنِهِ مُعاهَدًا وجَبَ أنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أوْ مُعاهَدًا مِثْلَهم ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ:
أمّا الأوَّلُ: فَجَوابُهُ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ حُكْمَ المُؤْمِنِ المَقْتُولِ عَلى سَبِيلِ الخَطَأِ، ثُمَّ ذَكَرَ أحَدَ قِسْمَيْهِ وهو المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً الَّذِي يَكُونُ مِن سُكّانِ دارِ الحَرْبِ، فَبَيَّنَ أنَّ الدِّيَةَ لا تَجِبُ في قَتْلِهِ، وذَكَرَ القِسْمَ الثّانِيَ وهو المُؤْمِنُ المَقْتُولُ خَطَأً الَّذِي يَكُونُ مِن سُكّانِ مَواضِعِ أهْلِ الذِّمَّةِ، وبَيَّنَ وُجُوبَ الدِّيَةِ والكَفّارَةِ في قَتْلِهِ، والغَرَضُ مِنهُ إظْهارُ الفَرْقِ بَيْنَ هَذا القِسْمِ وبَيْنَ ما قَبْلَهُ.
وأمّا الثّانِي: فَجَوابُهُ أنَّ أهْلَهُ هُمُ المُسْلِمُونَ الَّذِينَ تُصْرَفُ دِيَتُهُ إلَيْهِمْ.
وأمّا الثّالِثُ: فَجَوابُهُ أنَّ كَلِمَةَ ”مِن“ صارَتْ مُفَسَّرَةً في الآيَةِ السّابِقَةِ بِكَلِمَةِ ”في“ يَعْنِي في قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكم، فَكَذا هَهُنا يَجِبُ أنْ يَكُونَ المَعْنى ذَلِكَ لا غَيْرَ.
واعْلَمْ أنَّ فائِدَةَ هَذا البَحْثِ تَظْهَرُ في مَسْألَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وهي أنَّ مَذْهَبَ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ مِثْلَ دِيَةِ المُسْلِمِ، وقالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: دِيَةُ اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ المَجُوسِيِّ، ودِيَةُ المَجُوسِيِّ ثُلُثا عُشْرِ دِيَةِ المُسْلِمِ. واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ عَلى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ: ﴿وإنْ كانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم مِيثاقٌ﴾ المُرادُ بِهِ الذِّمِّيُّ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهْلِهِ﴾ فَأوْجَبَ تَعالى فِيهِمْ تَمامَ الدِّيَةِ، ونَحْنُ نَقُولُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ (p-١٨٨)فِي حَقِّ المُؤْمِنِينَ لا في حَقِّ أهْلِ الذِّمَّةِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلالُ، وأيْضًا بِتَقْدِيرِ أنْ يَثْبُتَ لَهم أنَّها نازِلَةٌ في أهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ تَدُلَّ عَلى مَقْصُودِهِمْ، لِأنَّهُ تَعالى أوْجَبَ في هَذِهِ الآيَةِ دِيَةً مُسَلَّمَةً، فَهَذا يَقْتَضِي إيجابَ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تُسَمّى دِيَةً، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الدِّيَةَ الَّتِي أوْجَبَها في حَقِّ الذِّمِّيِّ هي الدِّيَةُ الَّتِي أوْجَبَها في حَقِّ المُسْلِمِ ؟ ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ دِيَةُ المُسْلِمِ مِقْدارًا مُعَيَّنًا. ودِيَةُ الذِّمِّيِّ مِقْدارًا آخَرَ ؟ فَإنَّ الدِّيَةَ لا مَعْنى لَها إلّا المالُ الَّذِي يُؤَدّى في مُقابَلَةِ النَّفْسِ، فَإنِ ادَّعَيْتُمْ أنَّ مِقْدارَ الدِّيَةِ في حَقِّ المُسْلِمِ وفي حَقِّ الذِّمِّيِّ واحِدٌ فَهو مَمْنُوعٌ، والنِّزاعُ ما وقَعَ إلّا فِيهِ، فَسَقَطَ هَذا الِاحْتِجاجُ واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ قَدَّمَ تَحْرِيرَ الرَّقَبَةِ عَلى الدِّيَةِ في الآيَةِ الأُولى وهَهُنا عَكْسُ هَذا التَّرْتِيبِ، إذْ لَوْ أفادَهُ لَتَوَجَّهَ الطَّعْنُ في إحْدى الآيَتَيْنِ فَصارَ هَذا كَقَوْلِهِ: ﴿وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨] وفي آيَةٍ أُخْرى ﴿وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ﴾ [الأعراف: ١٦١] واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في هَؤُلاءِ الَّذِينَ بَيْنَنا وبَيْنَهم مِيثاقٌ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هم أهْلُ الذِّمَّةِ مِن أهْلِ الكِتابِ.
الثّانِي: قالَ الحَسَنُ: هُمُ المُعاهَدُونَ مِنَ الكُفّارِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ بَدَلًا عَنِ الرَّقَبَةِ إذا كانَ فَقِيرًا، وقالَ مَسْرُوقٌ إنَّهُ بَدَلٌ عَنْ مَجْمُوعِ الكَفّارَةِ والدِّيَةِ، والتَّتابُعُ واجِبٌ حَتّى لَوْ أفْطَرَ يَوْمًا وجَبَ الِاسْتِئْنافُ إلّا أنْ يَكُونَ الفِطْرُ بِحَيْضٍ أوْ نِفاسٍ، وقَوْلُهُ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ انْتَصَبَ بِمَعْنى صِيامِ ما تَقَدَّمَ، كَأنَّهُ قِيلَ: اعْمَلُوا بِما أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْكم لِأجْلِ التَّوْبَةِ مِنَ اللَّهِ، أيْ لِيَقْبَلَ اللَّهُ تَوْبَتَكم، وهو كَما يُقالُ: فَعَلْتُ كَذا حَذَرَ الشَّرِّ.
فَإنْ قِيلَ: قَتْلُ الخَطَأِ لا يَكُونُ مَعْصِيَةً، فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ ؟ .
قُلْنا فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ فِيهِ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّقْصِيرِ، فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ لَوْ بالَغَ في الِاحْتِياطِ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ ذَلِكَ الفِعْلُ، ألا تَرى أنَّ مَن قَتَلَ مُسْلِمًا عَلى ظَنِّ أنَّهُ كافِرٌ حَرْبِيٌّ، فَلَوْ أنَّهُ بالَغَ في الِاحْتِياطِ والِاسْتِكْشافِ فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يَقَعُ فِيهِ، ومَن رَمى إلى صَيْدٍ فَأخْطَأ وأصابَ إنْسانًا فَلَوِ احْتاطَ فَلا يَرْمِي إلّا في مَوْضِعٍ يَقْطَعُ بِأنَّهُ لَيْسَ هُناكَ إنْسانٌ فَإنَّهُ لا يَقَعُ في تِلْكَ الواقِعَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ كانَ مُقَصِّرًا في تَرْكِ الِاحْتِياطِ.
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ راجِعٌ إلى أنَّهُ تَعالى أذِنَ لَهُ في إقامَةِ الصَّوْمِ مَقامَ الإعْتاقِ عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إذا تابَ عَلى المُذْنِبِ فَقَدْ خَفَّفَ عَنْهُ، فَلَمّا كانَ التَّخْفِيفُ مِن لَوازِمِ التَّوْبَةِ أطْلَقَ لَفْظَ التَّوْبَةِ لِإرادَةِ التَّخْفِيفِ إطْلاقًا لِاسْمِ المَلْزُومِ عَلى اللّازِمِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ: أنَّ المُؤْمِنَ إذا اتَّفَقَ لَهُ مِثْلُ هَذا الخَطَأِ فَإنَّهُ يَنْدَمُ ويَتَمَنّى أنْ لا يَكُونَ ذَلِكَ مِمّا وقَعَ فَسَمّى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ النَّدَمَ وذَلِكَ التَّمَنِّيَ تَوْبَةً.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى عَلِيمٌ بِأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ولَمْ يَتَعَمَّدْ، حَكِيمٌ في أنَّهُ ما يُؤاخِذُهُ بِذَلِكَ الفِعْلِ الخَطَأِ، فَإنَّ الحِكْمَةَ تَقْتَضِي أنْ لا يُؤاخَذَ الإنْسانُ إلّا بِما يَخْتارُ ويَتَعَمَّدُ.
واعْلَمْ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ لَمّا اعْتَقَدُوا أنَّ أفْعالَ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِرِعايَةِ المَصالِحِ قالُوا: مَعْنى كَوْنِهِ تَعالى (p-١٨٩)حَكِيمًا كَوْنُهُ عالِمًا بِعَواقِبِ الأُمُورِ. وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تُبْطِلُ هَذا القَوْلَ لِأنَّهُ تَعالى عَطَفَ الحَكِيمَ عَلى العَلِيمِ، فَلَوْ كانَ الحَكِيمُ هو العَلِيمُ لَكانَ هَذا عَطْفًا لِلشَّيْءِ عَلى نَفْسِهِ وهو مُحالٌ.
والجَوابُ: أنَّ في كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ ورَدَ فِيهِ لَفْظُ الحَكِيمِ مَعْطُوفًا عَلى العَلِيمِ كانَ المُرادُ مِنَ الحَكِيمِ كَوْنَهُ مُحْكِمًا في أفْعالِهِ، فالإحْكامُ والإعْلامُ عائِدانِ إلى كَيْفِيَّةِ الفِعْلِ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـࣰٔاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـࣰٔا فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲ وَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَصَّدَّقُوا۟ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوࣲّ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱ فَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ تَوۡبَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق