الباحث القرآني
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ الإعراب: ﴿مَا كَانَ﴾ فعل ناقص منفيٌّ، وخبره ﴿لِمُؤْمِنٍ﴾، واسمه ﴿أَنْ يَقْتُلَ﴾ على أنه مؤول بالمصدر، أي: ما كان لمؤمن قَتلُ مؤمنٍ إلا خَطَأ، وأما (إلا) فهي أداة استثناء، و﴿خَطَأً﴾ يحتمل أن تكون صفة لموصوف محذوف، أي: إلا قتلًا خطأً، كقوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ [سبأ ١١] أي: أن اعمل دروعًا سابغات، فحذْف الموصوف مع بقاء الصفة كثير في اللغة العربية وفي القرآن الكريم.
يقول الله عز وجل: ﴿مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ والمؤمن هو الذي استقر الإيمان في قلبه، والإيمان شرعًا أخص من الإيمان لغةً؛ إذ إن الإيمان شرعًا هو الإقرار بالقلب المتضمن للقبول والإذعان، أي: قبول الخبر وقبول الطلب والإذعان لذلك والانقياد وعدم الاستكبار.
وقوله: ﴿أَنْ يَقْتُلَ﴾ القتل هو: إزهاق الروح بأي وسيلة كانت، سواء بالسيف أو بالسهم أو بالإحراق أو بالإغراق أو بأي نوع من أنواع القتل.
قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ يعني: أنه لا يمكنه أن يقتله خاطئًا بل مخطئًا، والفرق بين الخاطئ والمخطئ: أن الخاطئ من ارتكب الخطأ عمدًا، والمخطِئ من ارتكبه بغير عمد، بغير قصد، ويكون الخطأ إما بالقصد وإما بالآلة، أما الخطأ بالقصد فمثل أن يرمي صيدًا رَمْيَة قاتلة فيصيب إنسانًا لم يقصده، هذا خطأ بماذا؟ بالقصد، والخطأ بالآلة مثل أن يضربه عمدًا بسوط لا يقتل مثْلُه غالبًا، فهذا خطأ في الآلة؛ لأنه لم يظن أنها تقتله؛ ولهذا لم يكن قاصدًا لقتله، عصا يُؤدَّب بها الإنسان عادة ولكن قدَّر الله عز وجل أن تسري هذه الجناية حتى يموت المضروب.
ثم قال: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ (مِن) هذه شرطية، وفعل الشرط ﴿قَتَلَ﴾، و﴿فَتَحْرِيرُ﴾ هذه جواب الشرط، وقُرنت بالفاء؛ لأنها جملة اسمية، وكلمة (تحرير) مبتدأ والخبر محذوف، والتقدير: فعليه تحرير رقبة، وتحرير الشيء هو تخليصه، والمراد بهذا التحرير تخليص الرقبة من الرق خاصَّة، لا تخليصها من الهلاك؛ ولهذا لا يعتبر من أنقذ شخصًا محرِّرًا له، بل من حرَّره من الرق وخلَّصه منه فهو المحرر، والمراد بالرقبة هنا من؟ النفس كاملة، لكن يُعَبَّر بالرقبة عنها؛ لأن الجسد لا يمكن أن يقوم بدون رقبة؛ ولهذا إذا قطعت رقبته هلك.
وقوله تعالى: ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾ المراد بالإيمان هنا ما يشمل الإسلام، وليس المراد بالإيمان الإيمان المطلق، بل المراد مطلق الإيمان؛ ولهذا لو أعتق فاسقًا لأجزأه.
﴿وَدِيَةٌ﴾ معطوفة على (تحرير)، يعني: وعليه دية مسلَّمة إلى أهلها، ولم يبين الله عز وجل من يُسلِّمها، بل قال: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ بالبناء للمفعول.
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ مستثنى من قوله: ﴿دِيَةٌ﴾ يعني: وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، أي: يتصدقوا على من وجبت عليه الدية بإسقاطها والعفو عنها فتسقط، والمراد بالتصدُّق هنا؟ المراد العفو والإسقاط؛ لأنه ليس المراد بذلًا بل إسقاط.
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أصلها: إلا أن يتصدقوا، ولكن أدغمت التاء بالصاد فصارت: إلا أن يصَّدَّقوا.
﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ﴿فَإِنْ كَانَ﴾ الضمير يعود على المقتول وهو اسم (كان).
وقوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر لقوله: ﴿كَانَ﴾ يعني: والحال أنه مؤمن، ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أي: فعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة، وعليه فيكون (تحرير) مبتدأ، والخبر أيش؟ محذوف، والتقدير: فعليه.
﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ يقول: ﴿إِنْ كَانَ﴾ المضير يعود على من؟ على المقتول، ﴿مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي: عهد، وسُمي العهد ميثاقًا؛ لأنه بمنزلة الحبل يوثق به المأسور؛ إذ إن العهد رباط بين المتعاهدين بحيث لا يجرؤ أحدهما على الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر.
وقوله: ﴿مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ يعني هل هم كفار أو مسلمون؟ كفار؛ لأن المؤمنين ذُكروا في الأول.
﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي: فعليه، أي على القاتل، ﴿دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ أي: أهل المقتول، ومَنِ المراد بالأهل في الموضعين؟ المراد بالأهل: الورثة؛ لأن الورثة هم الذين يرثون ما خلَّفه الميت والدية من مُخَلَّفَات الميت.
﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ نقول فيها كما قلنا في الأولى.
وقوله: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ من لم يجد أيش؟ الدية؟ لا، من لم يجد الرقبة، إما أن تكون الرقاب معدومة، وإما أن يكون ثمنها معدومًا؛ ولهذا جاءت في الآية الكريمة: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ ولم يذكر المفعول؛ ليكون ذلك أشمل وأعم، أي: فمن لم يجد الرقبة أو لم يجد ثمنها.
﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أي: فعليه صيام، وعلى هذا فتكون (صيام) مبتدأ والخبر محذوف والتقدير: فعليه صيام شهرين متتابعين، يعني: يتبع بعضهما بعضًا بحيث لا يفطر بينهما.
وقوله: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾ هذه مصدر لفعل محذوف أي: يتوب بذلك توبة إلى الله، والتوبة إلى الله هي الرجوع إليه من معصيته إلى طاعته، وسيأتي أن لها شروطًا.
وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أي: أن ما شرعه الله من هذه الأحكام هي توبة منه على عبده، وإلا لو شاء لشق علينا وكان الواجب بقتل الخطأ أكبر من ذلك.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (كان) هذه فعل ماضٍ ناسخ، ولفظ الجلالة اسمها، و﴿عَلِيمًا﴾ خبرها، و﴿حَكِيمًا﴾ خبر ثان، ولا يصح أن يكون صفة؛ لأن الضمير لا يوصف، الضمير لا يُوصَف ولا يوصف به، وعلى هذا فيتعين أن نعربها على أنها خبر ثانٍ، والعلم: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، هذا العلم، فإذا أدركتُ -مثلًا- أن هذه ورقة، سُمِّيَ هذا علمًا؛ لأنني أدركتُها على ما هي عليها إدراكًا جازمًا، وإذا قلت: يترجح عندي أنها ورقة، فهذا ليس بعلم؛ لأنه ليس جازمًا، وإذا قلت: لا أدري ما هي، فهذا أيضًا ليس بعلم؛ لأنني لم أدركها.
وأما (حكيم) فالحكيم مأخوذة من الحُكْم والإحكام، فهو حكيم بمعنى حاكم وبمعنى مُحكِم، فالحاكم بين عباده والحاكم على عباده هو الله، وتأمل كيف قلت: الحاكم على عباده وبين عباده، الحاكم بين عباده يعني: فصل النزاع بينهم، والحاكم عليهم يعني: الذي له الحكم على العباد يحكم فيهم بما شاء.
وهو أيضًا مشتق من الحِكمة، والحكمة قال العلماء: هي وضع الشيء في موضعه اللائق به، فيكون اسمه الحكيم مشتملًا على حكم وإحكام.
والحكم نوعان، والحكمة نوعان أيضًا، وإذا ضربت اثنين باثنين صار الحاصل أربعة، وسيأتي إن شاء الله في بيان الفوائد.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أولًا امتناع قتل المؤمن للمؤمن عمدًا، يُؤخذ من قوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾، وإذا جاءت (ما كان)، أو (لم يكن)، أو (لا ينبغي)، أو (ما ينبغي)، فإنها تفيد الامتناع، ولكن هل هذا الامتناع شرعي أو قدري؟
* طالب: شرعي.
* طالب آخر: قدري.
* الشيخ: الظاهر أنه شرعي، بل يتعين؛ لأنه قدرًا يمكن أن يقتله أيش؟ عمدًا لا خطأ، فإذن هو شرعًا لا يمكن؛ ولهذا يُعتبر من قتل المؤمن خطأ يعتبر ناقص الإيمان جدًّا، حتى إنه يصح أن ننفي عنه الإيمان، نقول: هذا ليس بمؤمن، أي: ليس بمؤمن كامل الإيمان؛ لأنه إذا كانت السرقة لا يسرق..، «لا ينتهب الإنسان نُهْبَةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين يرفعها وهو مؤمن»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٧٨)، ومسلم (٥٧ / ١٠٠) من حديث أبي هريرة، بلفظ: «حِينَ يَنْتَهِبُهَا».]]، فما بالك بمن يقتل؟
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن المؤمن قد يقتل غير المؤمن عمدًا؛ لقوله: ﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ ولكن هل هذا جائز؟ الجواب: لا، فيه تفصيل: إن كان محاربًا فقتله جائز، ثم قد يجب أو لا يجب على حسب ما تقتضيه الحال، وإن كان معاهَدًا أو مُستأْمِنًا أو ذميًّا فقتله أيش؟ حرام، نقول: ما كان له أن يقتله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حكمة الشرع حين فرق بين الخطأ والعمد؛ لأن الخطأ لا يقع عن قصد، والعمد يقع عن قصد، فالمخطئ أهل للمسامحة، والعامد ليس أهلًا لها، وهذا لا شك من الحكمة في الشرع، ولولا هذه الحكمة لاستوى العامد والمخطئ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تقسيم القتل إلى خطأ وغير خطأ؛ لأن استثناءه في قوله: ﴿إِلَّا خَطَأً﴾ يدل على أن هناك عمدًا، وهو كذلك، وسيأتي ذكر العمد في الآية التي بعدها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قتل الخطأ بنوعيه -على حسب ما فسرنا من قبل- يوجب شيئين: الأول: العتق، والثاني: الدِّيَة، يؤخذ من قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ فإن قيل: ومن قتل غير مؤمن فماذا يلزمه؟ نقول: إن الله قد بَيَّنَه فيما بعد في نفس الآية.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة العتق وعلو منزلته؛ لأنه صار كفارة لهذا الذنب وهو قتل المؤمن، وهذا يدل على فضيلته وعلو مرتبته، وأنه هام، وهو كذلك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: نظر الشريعة إلى تحرير الرقاب من الرق.
* ويتفرع على هذه الفائدة: الرد على من أنكر على المسلمين الاسترقاق، فيقال: إن الاسترقاق جاء نتيجة لأمر ضروري، ومع ذلك فإن هناك مشجعات كثيرة على التحرير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في القتل؛ لقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾.
وهل يُلْحَق بذلك كل رقبة كانت كفارة لمعصية؟ في هذا للعلماء قولان، فمنهم من قال باشتراط الإيمان في كل رقبة أعتقت كفارة، ففي قوله تعالى في كفارة اليمين: ﴿إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة ٨٩] الرقبة هنا مطلقة فهل يشترط فيها الإيمان؟ يرى بعض أهل العلم أنه يشترط، ويرى آخرون أنه لا يشترط، وهذا مبني على تخصيص النص بنص آخر.
وقد بينَّا أنه إذا اتفق السبب والحكم فإنه يخصص، وإن اختلف الحكم فإنه لا يخصص مع اتفاق السبب، وإن اتفق الحكم مع اختلاف السبب فأكثر العلماء على أنه يخصص، فالسبب في تحرير الرقبة هنا هو القتل، وفي كفارة اليمين هو الحَلِف، فالسبب مختلف لكن الحكم واحد وهو تحرير الرقبة، وأكثر العلماء على أنه يقيد المطلق في كفارة اليمين على المقيد في كفارة القتل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إعتاق الذكر والأنثى في كفارة القتل، من أين تؤخذ؟ من الإطلاق: ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ لم يقل: ذكر ولا أنثى، فيكون مطلقًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لو أعتق رقبة كافرة مثل أن يعتق عبدًا لا يصلي فإنه لا يجزئه في كفارة القتل.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الدية بالقتل الخطأ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تعظيم القتل؛ ولهذا أوجب الله به الكفارة مع أن القاعدة الشرعية: أن المخطئ لا كفارة عليه وأنه مرفوع عنه القلم «عُفِيَ لِأُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[[أخرجه ابن ماجه (٢٠٤٣) من حديث أبي ذر الغفاري.]]، لكن تعظيمًا لشأن القتل صار الذي يصدر منه القتل ولو مخطئًا عليه الكفارة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من أعتق رقبة غير مؤمنة فإنه لا تجزئه، وهل يشترط في هذه الرقبة السلامة من العيوب الجسدية كما اشتُرِطت السلامة من العيب الشرعي؟ في هذا خلاف، فيرى بعض العلماء أنه لا بد أن تكون الرقبة سليمة من العيوب الضارة بالعمل؛ لأن إعتاق من فيه عيوب ضارة بالعمل يؤدي إلى أن يكون عالة على المجتمع، فمثلًا لو كان هذا الرجل قد قُطِّعَت يداه وهو عبد، فعلى القول باشتراط السلامة: لا يجزئ، وعلى القول بعدم الاشتراط: يجزئ، وأكثر العلماء -فيما أظن- على أنه يشترط أن يكون سليمًا من العيوب الضارة بالعمل؛ لأن إعتاق مثل هذا العبد يوجب أن يكون العبد عالة على الغير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الدية في قتل الخطأ؛ لقوله: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾.
* ومن فوائدها: أنه يجب على من وجبت عليه الدية أن يرسلها إلى أهل الميت؛ لقوله: ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، وهل تؤجل أو هي على الفور؟ في هذا اختلاف بين العلماء، منهم من قال: إنها لا تُؤجَّل إلا إذا رأى الحاكم أن في تأجيلها مصلحة؛ لأن الأصل في وجوب الدين قضاؤه على الفور، فإذا رأى الحاكم التأجيل أجلها، وتُؤجَّل ثلاث سنين.
وهل الدية واجبة على القاتل بالأصالة وعلى العاقلة بالتبعية؟ أو هي واجبة على العاقلة أصلًا؟ في هذا خلاف أيضًا.
فمن العلماء من يقول: إنها واجبة على القاتل بالأصالة وعلى غيره بالتبع؛ لأن القاتل هو المباشر للقتل، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام ١٦٤]، وتحميل العاقلة إنما هو من أجل إعانته ومساعدته، فإذا قدَّرنا أن هذا الرجل الذي قتل خطأ عنده ملايين الدراهم والعاقلة أحوالهم ماشية، فإنه قد لا يكون من الحكمة أن نُحمل العاقلة ونضيق عليها في معيشتها ثم ندع هذا القاتل الذي وقعت الجريمة منه مع غناه وكثرة ماله.
ومن العلماء من يقول: هي واجبة على العاقلة بالأصالة، وعلى هذا فلا يلزم القاتلَ شيء، حتى وإن كان من أغنى الناس والعاقلة فقراء فإنه لا يُلزم بدفع شيء من الدية؛ لأنها واجبة على من؟ على العاقلة.
والظاهر لي أن نقول بالقول الوسط: إذا كان عند العاقلة قدرة ألزمناها، بمعنى أن العاقلة ذات غنًى واسع فإننا نلزمها لما في ذلك من التعاون وإشعار القرابة أن بعضهم لبعض ظهير، وأما إذا كان العاقلة لا يستطيعون تَحمُّل الدية إلا بكُلْفَة ومشقة وفقد بعض الحوائج والقاتل غنيٌّ فإننا نلزمه؛ لأنه هو الأصل.
فإن قال قائل: ما هي الدِّيَة؟ قلنا: قد بينتها السنة: مئة من الإبل للذكر الحر، وخمسون من الإبل للأنثى الحرة، وهذا هو القول الصحيح: أن الإبل هي الأصل في الدية، وأما البقر والغنم والذهب والفضة والحُلل فإنها قيم، وإلا فالأصل هو الإبل، هذا هو الصحيح.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الدية تُسَلَّم إلى أهل المقتول؛ لقوله: ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾، فمن أهله؟ أهله هم الورثة. (...)
* طالب: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾.
* الشيخ: في الآية السابقة يقول الله عز وجل: ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ هذا مستثنى من قوله: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾.
* فيستفاد منها: أن العفو عن الدية من الصدقة؛ يستفاد من الآية الكريمة: أن العفو من الصدقة، وذلك أن الصدقة إما إعطاء وإما إبراء، فالإعطاء ظاهر، والإبراء هو أن يبرئ الإنسان شخصًا مدينًا من الدين ويسقطه عنه، لكن هذا لا يجزئ في الزكاة عن زكاة العين، يعني: لو كان على إنسان زكاة وكان له دين على فقير فأبرأ الفقير من الدين واحتسبه من الزكاة، فإن ذلك لا يجزئ، أي: لا يجزئ الدين عن زكاة العين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: جواز العفو عن الجاني، ولكن هذا مقيد بما إذا كان في العفو إصلاح؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ٤٠]، فإن لم يكن فيه إصلاح فترك العفو أولى، بل قد يجب الأخذ بالحق وترك العفو؛ لأن الإصلاح أهم من المصلحة الخاصة، العفو عن الدية مصلحة خاصة، لكن الإصلاح مصلحة عامة، فإذا كان هذا الذي قتل خطأً رجلًا متهورًا لو عفونا عنه لذهب يفعل مرة أخرى وثالثة ورابعة، فإن العفو عن هذا ليس من الإصلاح فلا ينبغي العفو.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن قتل المعاهد حرام، ووجه الدلالة: أن الله أوجب في قتل من بيننا وبينهم ميثاق أوجب الدية والكفارة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن دية الكافر المعاهد ليست كدية المسلم؛ لأنه قال: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ﴾ وهذه نكرة، وإعادة الكلمة بلفظ النكرة تدل على أن الثانيَ غيرُ الأول، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح ٥، ٦] قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لن يغلب عسر يُسْرَيْنِ»[[قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٨/٧١٢): أخرجه الفراء بإسناد ضعيف عن ابن عباس قوله، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (٢/٣٠٩)، والحاكم في مستدركه (٢/٥٢٨)، من حديث الحسن البصري، عن النبي ﷺ مرسلًا.]]، ولو كانت دية المعاهد كدية المؤمن لقال: فالدية مسلَّمة إلى أهله، فالدية يعني التي سبقت، ولكن هذه دية أخرى.
فإن قال قائل: فما هي إذن؟ نقول: اختلف فيها العلماء، منهم من قال: إن ديته ثلث دية المسلم، ومنهم من قال: إن ديته نصف دية المسلم، وهذا هو الصحيح، فمثلًا إذا كانت دية المسلم مئة بعير، فدية من بيننا وبينهم ميثاق من الكتابيِّين خمسون بعيرًا على النصف.
* ومن فوائد الآية الكريمة: احترام الدين الإسلامي للعهود والمواثيق؛ ولذلك لم يهدر حق المعاهد الذي بيننا وبينه ميثاق بل أوجب الدية لأهله.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: وجوب الكفارة في قتل من بيننا وبينهم ميثاق وإن كانوا غير مسلمين؛ لقول الله تبارك وتعالى: ﴿فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾.
* ومن فوائدها: وجوب إيصال الدية إلى مستحقها، فلو قال: ديتك عندي في البيت، ائت فخذها، فإنه لا يلزمه؛ لأنه لا بد أن يسلِّمها من وجبت عليه إلى من هي له.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أن الدية في الخطأ لا تجب على القاتل؛ لأنه لم يقل: يُسَلِّمها، بل قال: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ فعلى من تجب؟ تجب على العاقلة وهم ذكور العصبة الأغنياء، ويجتهد الإمام أو القاضي في تحميل كل منهم ما يناسب حاله، فالأقرب يُحَمَّل أكثر من الأبعد، والغني يُحَمَّل أكثر من المتوسط، والفقير ليس عليه شيء؛ لأنه فقير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من لم يجد الرقبة أو ثمنها فعليه صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾.
* ومن فوائدها: أن من لم يستطع الصيام فلا شيء عليه، لا عتق رقبة لأنه لا يجد، ولا صيام لأنه لا يستطيع، كذا؟ ولا إطعام لأنه لم يُذْكَر في الآية؛ ولهذا لما أراد الله عز وجل أن يكون الإطعام بدلًا عن الصيام ذكره كما في آيات الظهار.
فإن قال قائل: أفلا يصح أن يقاس هذا على الظهار؟ قلنا: لا يصح؛ وذلك لاختلاف السبب فإن سبب الكفارة في الظهار هو الظهار، وسبب الكفارة في القتل هو القتل، وبينهما فرق؛ فالظهار سماه الله تعالى مُنْكَرًا من القول وزورًا، والقتل الخطأ لم يصف الله تعالى فاعله بما يقتضي قبح فعله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن على قاتل الخطأ مع الكفارة أن يتوب؛ لقول الله تعالى: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ﴾، وحينئذ يرد على ذلك إشكال وهو: كيف تجب عليه التوبة والكفارة مع أن فعله خطأ؟ نقول: لأن الخطأ قد يكون نتيجة للتساهل في عدم التحري، مثلًا: من الخطأ أن يرمي صيدًا فيصيب آدميًّا، نقول: هذا الرجل لو أنه تأنى حتى تحقق الأمر لسلم من هذا الخطأ؛ فلذلك لما كانت النفوس عظيمة والعدوان عليها عظيمًا وكان الإنسان قد يقصر في بعض الأحيان أوجب الله الكفارة وأوجب التوبة.
فإن قال قائل: وهل تجب الكفارة في قتل العمد؟ قلنا: لا، لا تجب في قتل العمد؛ لأن قتل العمد أعظم من أن يُكَفَّر بالعتق أو بالصيام، ومن قاسه على الخطأ فقد أخطأ، وذلك للفرق بين الجناية وبين مقتضيات الجناية، فإن مقتضى العمد أن يقتل القاتل، والخطأ؟
* طالب: (...).
* الشيخ: أو يقتل؟ لا يقتل.
كذلك العمد الدية في مال القاتل مُغلظَة، والخطأ على عاقلته مُخَفَّفَة أيضًا، فلا يمكن أن يُقاس هذا على هذا مع اختلاف السبب والمُقتضَى.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله، أحدهما: العليم، والثاني: الحكيم، وكما تعلمون أن الله تعالى يقرن بين العليم والحكيم في مواضع كثيرة ليبين أن ما يحكم به سبحانه تعالى من الأحكام الشرعية والأحكام الكونية فإنه صادر عن علم وحكمة لا عن جهل وسفه، وأصل الخطأ في الحُكْم إما من الجهل وإما من السفه، فإن كان عن غير علم فهو من الجهل، وإن كان عن غير حكمة فهو من السفه؛ ولهذا يختم الله تعالى الآيات التي تتضمن أحكامًا يختمها جل وعلا كثيرًا بهذين الاسمين: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
فإن قال قائل: إذا عفا أهل الدية عنها فهل تسقط الكفارة؟ فالجواب: لا؛ لأن الكفارة حق لله والدية حق للآدمي.
وكذلك لو عجز الإنسان عن خصال الكفارة، يعني عجز عن إعتاق الرقبة وعجز عن صيام شهرين متتابعين فهل تسقط الدية؟ الجواب: لا؛ وذلك لأن الدية حق للآدمي فلا تسقط إذا سقط حق الله عز وجل.
{"ayah":"وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن یَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـࣰٔاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـࣰٔا فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲ وَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَصَّدَّقُوا۟ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوࣲّ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱ فَدِیَةࣱ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲ مُّؤۡمِنَةࣲۖ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ شَهۡرَیۡنِ مُتَتَابِعَیۡنِ تَوۡبَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق