الباحث القرآني

﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ الوَلِيُّ هُنا النّاصِرُ والمُعِينُ أوِ المُحِبُّ أوْ مُتَوَلِّي أُمُورَهم، ومَعْنى (آمَنُوا) أرادُوا أنْ يُؤْمِنُوا، و(الظُّلُماتِ) هُنا الكُفْرُ، و(النُّورِ) الإيمانُ، قالَهُ قَتادَةُ، والضَّحّاكُ، والرَّبِيعُ، قِيلَ: وجُمِعَتِ (الظُّلُماتِ) لِاخْتِلافِ الضَّلالاتِ، ووُحِّدَ (النُّورِ) لِأنَّ الإيمانَ واحِدٌ، والإخْراجُ هُنا إنْ كانَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِمَن كانَ كافِرًا ثُمَّ آمَنَ، وإنْ كانَ مَجازًا فَهو مَجازٌ عَنْ مَنعِ اللَّهِ إيّاهم مِن دُخُولِهِمْ في الظُّلُماتِ قالَ الحَسَنُ: مَعْنى (يُخْرِجُهم) يَمْنَعُهم، وإنْ لَمْ يَدْخُلُوا، والمَعْنى أنَّهُ لَوْ خَلا عَنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ لَوَقَعَ في الظُّلُماتِ، فَصارَ تَوْفِيقُهُ سَبَبًا لَدَفْعِ تِلْكَ الظُّلْمَةِ، قالُوا: ومِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ شائِعٌ سائِغٌ في كَلامِهِمْ، كَما قالَ طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ: ؎فَإنْ تَكُنِ الأيّامُ أحْسَنَّ مَرَّةً إلَيَّ فَقَدْ عادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ قالَ الواقِدِيُّ: كُلُّ شَيْءٍ في القُرْآنِ مِنَ الظُّلُماتِ والنُّورِ فَإنَّهُ أرادَ بِهِ الكُفْرَ والإيمانَ غَيْرَ الَّتِي في الأنْعامِ، وهو: ﴿وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] فَإنَّهُ أرادَ بِهِ اللَّيْلَ والنَّهارَ، وقالَ الواسِطِيُّ: يُخْرِجُهم مِن ظُلُماتِ نُفُوسِهِمْ إلى آدابِها: كالرِّضا والصِّدْقِ والتَّوَكُّلِ والمَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ. وقالَ أبُو عُثْمانَ: يُخْرِجُهم مِن ظُلُماتِ الوَحْشَةِ والفُرْقَةِ إلى نُورِ الوَصْلَةِ والأُلْفَةُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: آمَنُوا، أرادُوا أنْ يُؤْمِنُوا، تَلَطَّفَ بِهِمْ حَتّى يُخْرِجَهم بِلُطْفِهِ وتَأْيِيدِهِ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، أوِ اللَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ يُخْرِجُهم مِنَ الشُّبَهِ في الدِّينِ إنْ وقَعَتْ لَهم، بِما يَهْدِيهِمْ ويُوَفِّقُهم لَها مِن حَلِّها، حَتّى يَخْرُجُوا مِنها إلى نُورِ اليَقِينِ، انْتَهى. فَيَكُونُ عَلى هَذا القَوْلِ: آمَنُوا عَلى حَقِيقَتِهِ. ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ﴾ قالَ مُجاهِدٌ، وعَبَدَةُ بْنُ أبِي لُبابَةَ، نَزَلَتْ في قَوْمٍ آمَنُوا بِعِيسى، فَلَمّا جاءَ مُحَمَّدٌ، عَلَيْهِ السَّلامُ، كَفَرُوا بِهِ، فَذَلِكَ إخْراجُهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ، وقالَ الكَلْبِيُّ يُخْرِجُونَهم مِن إيمانِهِمْ بِمُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، واسْتِفْتاحِهِمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ إلى كُفْرِهِمْ بِهِ، وقِيلَ: مِن فِطْرَةِ الإسْلامِ، وقِيلَ: مِن نُورِ الإقْرارِ بِالمِيثاقِ، وقِيلَ: مِنَ الإقْرارِ بِاللِّسانِ إلى النِّفاقِ. وقِيلَ: مِن نُورِ الثَّوابِ في الجَنَّةِ إلى ظُلْمَةِ العَذابِ في النّارِ. وقِيلَ: مِن نُورِ الحَقِّ إلى ظُلْمَةِ الهَوى. وقِيلَ: مِن نُورِ العَقْلِ إلى ظُلْمَةِ الجَهْلِ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن نُورِ البَيِّناتِ الَّتِي تَظْهَرُ لَهم إلى ظُلُماتِ الشَّكِّ والشُّبْهَةِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَفْظُ الآيَةِ مُسْتَغْنٍ عَنِ التَّخْصِيصِ، بَلْ هو مُتَرَتِّبٌ في كُلِّ أُمَّةٍ كافِرَةٍ آمَنَ بَعْضُها كالعَرَبِ، وذَلِكَ أنَّ كُلَّ مَن آمَنَ مِنهم فاللَّهُ ولِيُّهُ، أخْرَجَهُ مِن ظُلْمَةِ الكُفْرِ إلى نُورِ الإيمانِ، ومَن كَفَرَ بَعْدَ وُجُودِ الدّاعِي - النَّبِيِّ المُرْسَلِ - فَشَيْطانُهُ ومُغْوِيهِ كَأنَّهُ أخْرَجَهُ مِنَ الإيمانِ، إذْ هو مُعَدٌّ وأهْلٌ لِلدُّخُولِ فِيهِ، وهَذا كَما تَقُولُ لِمَن مَنعَكَ الدُّخُولَ في أمْرٍ: أخْرَجْتَنِي يا فُلانُ مِن هَذا الأمْرِ، وإنْ كُنْتَ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ ألْبَتَّةَ، انْتَهى. والمُرادُ بِالطّاغُوتِ: الصَّنَمُ، لِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] وقِيلَ: الشَّياطِينُ والطّاغُوتُ اسْمُ جِنْسٍ، وقَرَأ الحَسَنُ: (الطَّواغِيتُ) بِالجَمْعِ. وقَدْ تَبايَنَ الإخْبارُ في هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ، فاسْتُفْتِحَتْ آيَةُ المُؤْمِنِينَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعالى، وأخْبَرَ عَنْهُ بِأنَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ تَشْرِيفًا لَهم إذْ بُدِئَ في جُمْلَتِهِمْ بِاسْمِهِ تَعالى ولِقُرْبِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦] (p-٢٨٤)واسْتُفْتِحَتْ آيَةُ الكافِرِينَ بِذِكْرِهِمْ نَعْيًا عَلَيْهِمْ، وتَسْمِيَةً لَهم بِما صَدَرَ مِنهم مِنَ القَبِيحِ ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّ أوْلِياءَهُمُ الطّاغُوتُ، ولَمْ يُصَدِّرِ الطّاغُوتَ اسْتِهانَةً بِهِ، وأنَّهُ مِمّا يَنْبَغِي أنْ لا يُجْعَلَ مُقابِلًا لِلَّهِ، تَعالى، ثُمَّ عُكِسَ الإخْبارُ فِيهِ فابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ: أوْلِياؤُهم، وجُعِلَ الطّاغُوتُ خَبَرًا، كَأنَّ الطّاغُوتَ هو مَجْهُولٌ، أعْلَمَ المُخاطَبَ بِأنَّ أوْلِياءَ الكُفّارِ هو الطّاغُوتُ، والأحْسَنُ في: (يُخْرِجُهم ويُخْرِجُونَهم) أنْ لا يَكُونَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ؛ لِأنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِلْوِلايَةِ، وكَأنَّهُ مِن حَيْثُ إنَّ اللَّهَ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ بَيَّنَ وجْهَ الوِلايَةِ والنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ بِأنَّها إخْراجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، وكَذَلِكَ في الكُفّارِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ (يُخْرِجُهم) حالًا والعامِلُ فِيهِ: (ولِيُّ)، وأنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ (يُخْرِجُونَهم) حالًا والعامِلُ فِيهِ مَعْنى الطّاغُوتِ، وهو نَظِيرُ ما قالَهُ أبُو عَلِيٍّ: مِن نَصْبِ (نَزّاعَةً) عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيها (لَظى) وسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ و(مِن وإلى)، مُتَعَلِّقانِ بِـ (يُخْرِجُ) . ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ فَأغْنى عَنْ إعادَتِهِ. وذَكَرُوا في هَذِهِ الآياتِ أنْواعًا مِنَ الفَصاحَةِ وعِلْمِ البَيانِ، مِنها في آيَةِ الكُرْسِيِّ: حُسْنُ الِافْتِتاحِ؛ لِأنَّها افْتُتِحَتْ بِأجَلِّ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، وتَكْرارُ اسْمِهِ في ثَمانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، وتَكْرِيرُ الصِّفاتِ، والقَطْعُ لِلْجُمَلِ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، ولَمْ يَصِلْها بِحَرْفِ العَطْفِ، والطِّباقِ: في قَوْلِهِ ﴿الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] فَإنَّ النَّوْمَ مَوْتٌ وغَفْلَةٌ، والحَيُّ القَيُّومُ يُناقِضُهُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم ولا يُحِيطُونَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] والتَّشْبِيهُ: في قِراءَةِ مَن قَرَأ ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [البقرة: ٢٥٥] أيْ: كَوَسَعِ، فَإنْ كانَ الكُرْسِيُّ جَرْمًا فَتَشْبِيهُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ، أوْ مَعْنًى فَتَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، ومَعْدُولُ الخِطابِ في ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ [البقرة: ٢٥٦] إذا كانَ المَعْنى لا تُكْرِهُوا عَلى الدِّينِ أحَدًا. والطِّباقُ: أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] وفي قَوْلِهِ: (آمَنُوا وكَفَرُوا) وفي قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ والتَّكْرارُ في الإخْراجِ لِتَبايُنِ تَعْلِيقِهِما، والتَّأْكِيدُ بِالمُضْمَرِ في قَوْلِهِ: ﴿هم فِيها خالِدُونَ﴾ . وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الكَرِيمَةُ الإشارَةَ إلى الرُّسُلِ المَذْكُورِينَ في قَوْلِهِ: (وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ) وأخْبَرَ تَعالى أنَّهُ فَضَّلَ بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ، فَذَكَرَ أنَّ (مِنهم مَن كَلَّمَ اللَّهُ) وفُسِّرَ بِ مُوسى، عَلَيْهِ السَّلامُ، وبُدِئَ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ في الزَّمانِ، وأخْبَرَ أنَّهُ (رَفَعَ بَعْضَهم دَرَجاتٍ) وفُسِّرَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَ ثالِثًا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ، فَجاءَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وسَطًا بَيْنَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ العَظِيمَيْنِ، فَكانَ كَواسِطَةِ العِقْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ اقْتِتالَ المُتَقَدِّمِينَ بَعْدَ مَجِيءِ البَيِّناتِ هو صادِرٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِلافَهم وانْقِسامَهَمْ إلى مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، وأنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ ما يُرِيدُ، ثُمَّ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالإنْفاقِ مِمّا رَزَقَهم مِن قَبْلِ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا يَنْفَعُ فِيهِ تَوَسُّلٌ بِصَداقَةٍ ولا شَفاعَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الكافِرِينَ هُمُ المُجاوِزُونَ الحَدَّ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ هو المُتَوَحِّدُ بِالإلَهِيَّةِ، وذَلِكَ عُقَيْبَ ذِكْرِ الكافِرِينَ، وذِكْرِ أتْباعِ مُوسى وعِيسى - عَلَيْهِما السَّلامُ - ثُمَّ سَرَدَ صِفاتِهِ العُلا وهي الَّتِي يَجِبُ أنْ تُعْتَقَدَ في اللَّهِ تَعالى مِن كَوْنِهِ واحِدًا حَيًّا قائِمًا بِتَدْبِيرِ الخَلْقِ، لا يَلْحَقُهُ آفَةٌ، مالِكًا لِلسَّمَواتِ والأرْضِ، عالِمًا بِسَرائِرِ المَعْلُوماتِ، لا يَعْلَمُ أحَدٌ شَيْئًا مِن عِلْمِهِ إلّا بِما يَشاءُ هو تَعالى، وذَكَرَ عَظِيمَ مَخْلُوقاتِهِ، وأنَّ بَعْضَها - وهو الكُرْسِيُّ - يَسَعُ السَّمَواتِ والأرْضَ، ولا يَثْقُلُ ولا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَواتِ والأرْضِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّهُ بَعْدَ وُضُوحِ صِفاتِهِ العُلا فَـ (لا إكْراهَ في الدِّينِ) إذْ قَدْ تَبَيَّنَتْ طُرُقُ الرَّشادِ مِن طُرِقِ الغَوايَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ مَن كَفَرَ بِالطّاغُوتِ وآمَنَ بِاللَّهِ فَهو مُسْتَمْسِكٌ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى، عُرْوَةُ الإيمانِ، ووَصَفَها بِالوُثْقى لِكَوْنِها لا تَنْقَطِعُ ولا تَنْفَصِمُ، واسْتَعارَ لِلْإيمانِ عُرْوَةً إجْراءً لِلْمَعْقُولِ مَجْرى المَحْسُوسِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ أخْرَجَهم مِن ظُلُماتِ الكُفْرِ إلى نُورِ الإيمانِ، وأنَّ الكافِرِينَ أوْلِياؤُهُمُ الأصْنامُ (p-٢٨٥)والشَّياطِينُ، وهم عَلى العَكْسِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنِ الكُفّارِ أنَّهم أصْحابُ النّارِ، وأنَّهم مُخَلَّدُونَ فِيها، والحالَةُ هَذِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب