الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الله ولي الذين آمنوا"، نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه= [[انظر تفسيره"الولى" فيما سلف ٢: ٤٨٨، ٤٨٩ / ثم: ٥٦٣، ٥٦٤.]] "يخرجهم من الظلمات" يعني بذلك: [[انظر القول في"الظلمات" فيما سلف ١: ٣٣٨.]] . يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب"الظلمات" في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل"الظلمات" للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن] أبصار القلوب. [[الزيادة بين القوسين، لا غنى عنها، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.]] . ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به، فقال:"والذين كفروا"، يعني الجاحدين وحدانيته="أولياؤهم"، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم="الطاغوت"، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يعني ب"النور" الإيمان، على نحو ما بينا="إلى الظلمات"، ويعني ب"الظلمات" ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: ٥٨٥٦ - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الضلالة إلى الهدى="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، الشيطان: ="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الهدى إلى الضلالة. ٥٨٥٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. [[في المخطوطة: "من الظلمات إلى الكفر"، وهو خطأ بين جدا.]] . ٥٨٥٨ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله تعالى ذكره:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الكفر إلى الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الإيمان إلى الكفر. ٥٨٥٩- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول الله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا ﷺ آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى= أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد ﷺ= [[في المطبوعة: "أي: يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد ... "، وهو لايستقيم، وفي المخطوطة: "فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان بمحمد ... " سقط من الناسخ لعجلته: "أي يخرج الذين كفروا بعيسى"، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام، ومن الأثر بالتالي، على خطئه فيه، ومن الدر المنثور ١: ٢٣٠، وانظر التعليق على الأثر التالي.]] "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد ﷺ= قال:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات". [[الأثر: ٥٨٥٩، -"عبدة بن أبي لبابة الأسدي" روي عن ابن عمر وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة. مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع"عبد الله بن أبي لبابة""، وهو خطأ، وسيأتي فيهما على الصواب في الأثر التالي.]] . ٥٨٦٠ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، إلى"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد ﷺ كفروا به، وأنزلت فيهم هذه الآية. [[في المطبوعة والمخطوطة: "فلما جاءهم محمد صلى الله عليه آمنوا به". والصواب ما أثبت، أخطأ في نسخه وعجل. وانظر الدر المنثور ١: ٢٣٠، ففيه الصواب، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري فيما سيأتي أيضًا.]] . * * * قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها -إذ كان الأمر كما وصفنا- نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد ﷺ، وفيمن آمن بمحمد ﷺ من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى. * * * فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد ﷺ فكذَّبوا به؟ قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم ﷺ فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦] . * * * فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله:"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات"، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة: [[في المطبوعة: "مجاهد وغيره". وهي في المخطوطة: "عنده" غير منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة، كما في الآثار السالفة، وما بعدها.]] أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى، أو غير أهل الردة والإسلام؟ [[في المخطوطة والمطبوعة: "الردة والإسلام" وهو هنا عطف لا يستقيم، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام.]] . قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل، كقول الرجل:" أخرجني والدي من ميراثه"، إذا ملك ذلك في حياته غيره، فحرمه منه حظَّه= [[في المطبوعة: "فحرمه منه خطيئة"، وهو كلام خلو من المعنى. وفي المخطوطة: "فحرمه منه حطه" غير منقوطة، وكلها فاسدة. أن المعنى: إذا ملك الميراث غير أبيه، فحرمه حظه من ميراث أبيه. والحظ: النصيب.]] ولم يملك ذلك القائل هذا الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل:"أخرجه منه"، وكقول القائل:"أخبرني فلان من كتيبته"، يعني لم يجعلني من أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى، [[في المطبوعة: "يحتمل" بالياء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة.]] وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. [[في المطبوعة والمخطوطة معا: "مجاهد وغيره"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف: ص: ٤٢٧ تعليق: ١.]] . * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور"، فجمع خبر"الطاغوت" بقوله:"يخرجونهم"، و"الطاغوت" واحد؟ قيل: إن"الطاغوت" اسم لجماع وواحد، وقد يجمع"طواغيت". وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم:"رجل عدل، وقوم عدل" و"رجل فطر وقوم فطر"، [[أي رجل مفطر، وقوم مفطرون.]] وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، [[في المطبوعة: "التي تأتي موحدة في اللفظ ... "، وفي المخطوطة: "التي يأتي موحد في اللفظ"والصواب ما أثبت.]] وكما قال العباس بن مرداس: فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ [[سيرة ابن هشام ٤: ٩٥ واللسان (أخو) ومجاز القرآن ١: ٧٩، من قصيدة له طويلة في يوم حنين، وفي هزيمة هوازن: ويذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت، وبعد البيت: كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم - عور وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة، إخوة سليم بن منصور، وهم قوم العباس بن مرداس السلمي. وهذا البيت يجعلونه شاهدا على جمع"أخ" بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري: وكان بنو فزارة شر عم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا فقوله: "أخوكم"، أي: إخوتكم. فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر: "أنتم الوالد ونحن الولد". والإحن جمع إحنة: وهي الحقد الغالب.]] * * * القول في تأويل قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٧) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين كفروا="أصحاب النار"، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. [[انظر تفسير"أصحاب النار""وخالدون" فيما سلف ٢: ٢٨٦، ٢٨٧/ ٤: ٣١٧.]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" ألم تر، يا محمد، بقلبك [[انظر تفسير"الرؤية"فيما سلف ٣: ٧٥ -٧٩ /٣: ١٦٠ / وهذا الجزء: ٢٦٦، ٢٩١.]] . ="الذي حاج إبراهيم"، يعني الذي خاصم [[انظر معنى"حاج" فيما سلف ٣: ١٢١ -٢٠٠.]] "إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله ﷺ =" في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك. * * * وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا ﷺ، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت"إلى" في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا:"ما ترى إلى هذا"؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٧٠.]] . * * * وقيل: إن" الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح = وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. * ذكر من قال ذلك: ٥٨٦١ - حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن كنعان. ٥٨٦٢ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٥٨٦٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. ٥٨٦٤ - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، مثله. [[الأثر: ٥٨٦٤ -"النضر بن عربي الباهلي" مضت ترجمته في: ١٣٠٧، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن عدي"، وهو خطأ.]] . ٥٨٦٥ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، [[في المطبوعة والمخطوطة: "كنا نتحدث"، وما أثبت هو الصواب.]] وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل. ٥٨٦٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه. ٥٨٦٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل. ٥٨٦٨ - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان. ٥٨٦٩ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ. ٥٨٧٠ - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله. ٥٨٧١ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله. ٥٨٧٢ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمرود= قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك في الأرض.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب