الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنهُ تُنْفِقُونَ ولَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إلاَّ أنْ تُغْمِضُوا فِيهِ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ۝﴾ [البقرة: ٢٦٧]. أمَرَ اللهُ بالإنفاقِ مِن طيِّباتِ الكسبِ، ومِن خراجِ الأرضِ، فالكسبُ كسبُ اليدِ ممّا تُخرِجُهُ مِن مالٍ، ومِن تجارةٍ وصناعةٍ وحِرْفةٍ، فكلُّ مالٍ تَكْسِبُهُ اليدُ فيه زكاةٌ عندَ دَوَرانِ الحَوْلِ عليه، وبلوغِهِ نصابًا، فالآيةُ يُقيِّدُ عمومَها أحاديثُ الحَوْلِ، كما في حديثِ عائشةَ مرفوعًا: (لا زَكاةَ فِي مالٍ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ)، رواهُ ابنُ ماجَهْ[[أخرجه ابن ماجه (١٧٩٢) (١/٥٧١).]]، ورَواهُ أحمدُ، مِن حديثِ عاصمِ بنِ ضَمْرةَ، عن عليٍّ، بنحوِهِ[[أخرجه أحمد (١٢٦٥) (١/١٤٨).]]، ورُوِيَ موقوفًا مِن هذا الوجهِ، رواهُ ابنُ أبي شَيْبةَ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٠٢١٤) (٢/٣٨٦).]]، ورُوِيَ عنِ ابنِ عمرَ مرفوعًا وموقوفًا[[أخرجه الترمذي (٦٣١) (٦٣٢) (٣/١٦ ـ ١٧).]]، والموقوفُ عنهما أصحُّ. اشتراطُ الحَوْلِ للزكاة: وإذا كسَبَ الإنسانُ مالًا يَبلُغُ نصابًا بنفسِهِ عندَ كسبِهِ، ولم يكنْ لدَيْهِ مالٌ مِن قبلُ، فلا زكاةَ عليهِ حتّى يَحُولَ عليه الحَوْلُ، ويَبدَأُ حولُهُ مِن وقتِ كَسْبِه، لعمومِ الحديثِ وعملِ الصحابةِ وفتواهُم، كأبي بكرٍ وعليٍّ وابنِ عُمرَ وعائشةَ. المالُ المكتسَبُ أثناء الحَوْلِ: ومَن كان لدَيْهِ مالٌ غيرُ المكتسَبِ وقد بلَغَ مالُهُ الذي عندَهُ نصابًا، ثمَّ اكتسَبَ مالًا في أثناءِ الحولِ، فلا يخلُو المالُ المكتسَبُ مِن أحوالٍ: الأولـى: إنْ كانَ المالُ المستفادُ مِن جِنْسِ مالِهِ الذي عندَهُ مِن قبلُ، وهو نماءٌ له، كنماءِ التِّجارةِ وكَسْبِها بالمضارَبةِ، ونماءِ الماشيةِ منها، فهذا المالُ المكتسَبُ يَتْبَعُ حَوْلَ أصلِ مالِه، لأنّ المكتسَبَ فرعٌ له، فيأخُذُ حكمَ أصلِهِ، وهذا قولُ عامَّةِ العلماءِ، ولا يُعرَفُ في السلفِ والأئمَّةِ الأربعةِ مخالِفٌ، ومثلُ هذا النماءِ في المالِ يشقُّ حسابُهُ وجعلُ حولٍ خاصٍّ به، ومِثْلُهُ: لو كان لا بُدَّ مِن نَقْلِهِ لِشِدَّةِ الحاجةِ إليه، فنماءُ الماشيةِ كثيرٌ في أثناءِ حولِها، ونماءُ التجارةِ ربما يكونُ كلَّ يومٍ عندَ أهلِ المالِ الوفيرِ والتجارةِ الواسعةِ. الثـانيةُ: إذا كان المالُ مِن غيرِ جِنسِ المالِ المكتسَبِ، كأنْ يكونَ كسَبَ عقارًا، ومالُهُ نَقْدٌ، أو اكتسَبَ نقدًا ومالُهُ عروضٌ، فقد اختلَفَ العلماءُ حولَ المالِ المكتسَبِ ونصابِهِ: هل يَتْبَعُ مالَ صاحِبِهِ، أم يَنفرِدُ المالُ المكتسَبُ بحَوْلٍ جديدٍ، ونصابٍ جديدٍ؟ ذهَبَ جمهورُ العلماءِ: إلى أنهُ يستقِلُّ بنفسِهِ بحولٍ ونصابٍ جديدَيْنِ، وهو مرويٌّ عن أبي بكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ وعليٍّ. وذهَبَ أحمدُ ـ في روايةٍ ـ: أنّه يُزكّى حينَ استفادتِهِ، وهو مرويٌّ عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، ومعاويةَ، والأوزاعيِّ. ورُوِيَ عن أحمدَ فيمَن باع دارَهُ بعَشَرةِ آلافِ دِرْهَمٍ إلى سنةٍ، فإنّه يُزَكِّيهِ إذا قبَضَهُ[[ينظر: «المغني» لابن قدامة (٢/٤٦٨).]]، وهذا منهُ، لأنّ المالَ حَقَّ له مِن أوَّلِ الحولِ، ولكنَّه أُجِّلَ كالدَّيْنِ في الذِّمَّةِ فيُزَكِّيهِ إذا قبَضَهُ، وقد رواهُ غيرُ واحدٍ عن أحمدَ بهذا المعنى. الثالثةُ: أنْ يَكتسِبَ مالًا مِن جنسِ مالِهِ الذي قام في مُلْكِه، وقامَ نصابُهُ، وبدَأَ حولُهُ، ولكنَّ المالَ المكتسَبَ ليس فرعًا لمالِهِ الأصلِ، ولا نماءً له، فَلَيْسَ رِبْحًا مِن تجارتِهِ، ولا نماءً لماشيتِهِ، وإنّما كسَبَهُ بصفةٍ أُخرى كالهِبَةِ أو اللُّقَطةِ أو الشِّراءِ مِن غيرِ مالِهِ الأصليِّ، كأنْ يكونَ لدَيْهِ ماشيةٌ أو نَقْدٌ أو عقارٌ، فيُهْدى له عقارٌ أو نقدٌ أو ماشيةٌ، فقد اختلَفَ العلماءُ في هذه الحالِ: ذهَبَ طائفةٌ: إلى أنّه يَتْبَعُ أصلَ المالِ ما دامَ مِن جِنسِهِ مطلَقًا، وهذا قولُ الشافعيِّ وأبي حنيفةَ. وقال آخَرُونَ: بأنّ حَوْلَهُ مستقِلٌّ ما دام ليس فرعًا ولا نماءً للأوَّلِ، ولو كان مِن جِنْسِهِ، أخذًا بظاهرِ النصوصِ، كما في الحديثِ: (مَنِ اسْتَفادَ مالًا...) [[أخرجه الترمذي (٦٣١) (٣/١٦).]]، والمالُ المستفادُ هو ما كان له أصلٌ، والحديثِ الآخَرِ: (لا زَكاةَ فِي مالٍ حَتّى يَحُولَ عَلَيْهِ الحَوْلُ). وعمومُ الحديثَيْنِ محتمِلٌ لكِلا القولَيْنِ يتأوَّلُهما كلٌّ على وجهِه، والأحوَطُ جعلُ المالِ المستفادِ تَبَعًا للمالِ الأصلِ إذا كان مِن جنسِهِ بكلِّ حالٍ، كان فرعًا له أو لم يَكُنْ. وتجبُ ـ أيِ: الزكاةُ ـ فيما زاد على النصابِ بالحسابِ، إلا في السائمةِ، فلها حسابٌ منصوصٌ، لا يصحُّ فيه القياسُ. دوامُ النصابِ في الحولِ كلِّهِ: ويُشترَطُ دوامُ بلوغِ النصابِ في الحَوْلِ كُلِّهِ عندَ جماهيرِ العلماءِ، خلافًا لأبي حنيفةَ، فقد جعَلَ نقصانَ النصابِ في أثناءِ الحولِ لا يُسقِطُ الزكاةَ، بشرطِ بلوغِ النصابِ في طَرَفَي الحولِ أوَّلِه وآخِرِه. والصحيحُ أنّ نقصانَ النصابِ يُسقِطُ الحولَ، لعمومِ الحديثِ، وإيجابُ الزكاةِ لتمامِ النصابِ في طرَفَي الحَوْلِ لا ضابطَ له يتحقَّقُ فيه العدلُ وعدمُ الإضرارِ، فيستوي في هذا مَن فقَدَ مالَهُ كلَّه وخَسِرَهُ، ثمَّ استأنَفَ تجارةً أو كسبًا، فبلَغَ نصابًا قبلَ بلوغِ الحولِ، فمالُهُ الذي يُزَكِّيهِ ليس هو المالَ الذي بدَأَ حولُهُ، بل هو مالٌ جديدٌ، لهلاكِ مالِهِ الأوَّلِ، وقولُ أبي حنيفةَ يستوي فيه مَن نقَصَ نصابُهُ دِرْهَمًا ومَن ذهَبَ مالُهُ كلُّه، ثمَّ استفادَ غيرَهُ. وقولُه تعالى: ﴿أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ﴾، فيه: أنّ المالَ الحرامَ لا زكاةَ فيه ما لم يُتَبْ منه، فاللهُ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلا طيِّبًا ـ كما في الحديثِ[[أخرجه مسلم (١٠١٥) (٢/٧٠٣).]] ـ فإنْ تابَ صاحِبُهُ كمَن يتوبُ مِن الرِّبا بعدَ قَبْضِهِ، فيُزَكِّيهِ، لأنّ التوبةَ الصادِقةَ ترفَعُ عنِ المالِ خَبَثَهُ. وقولُهُ تعالى: ﴿ومِمّا أخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ﴾، فيه: إخراجُ الزكاةِ مِن كلِّ ما يخرُجُ مِن الأرضِ مِن الثِّمارِ والزُّروعِ بشروطِها الثابتةِ في السُّنَّةِ. زكاةُ الخَضْراواتِ: والخَضْراواتُ والفاكِهةُ لا زكاةَ فيها على الصحيحِ، وليس فيها حديثٌ صحيحٌ يأمُرُ بذلك، ولا يمنعُهُ، وأمّا ما روى التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ معاذٍ: (ليس في الخَضْراواتِ زَكاةٌ) [[أخرجه الترمذي (٦٣٨) (٣/٢١).]]، فلا يثبُتُ، أعلَّهُ التِّرمِذيُّ وغيرُهُ، وقال: «لا يثبُتُ في هذا البابِ شيءٌ»[[«سنن الترمذي» (٣/٢١).]]. والمدينةُ لم تكنْ مَنبَتًا للخَضْراواتِ والفاكهةِ، لأرضِها، ولحاجتِها للماءِ، ولحرارةِ جوِّها، إلا في القليلِ يُزرَعُ كالدُّبّاءِ وشبهِهِ. وعملُ السلفِ على عدمِ زكاتِها، نقَلَهُ التِّرمِذيُّ وغيرُهُ[[السابق.]]، وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ، لأنّ الخَضْراواتِ والفاكهةَ لا تُقتاتُ ولا تُدَّخَرُ، بخلافِ الحبوبِ والثِّمارِ، كالشعيرِ والتمرِ، فتُدَّخَرُ سِنِينَ بلا كَبِيرِ مؤونةٍ، ولا يُنتفَعُ ـ غالبًا ـ بالخَضْراواتِ والفاكِهةِ إلا في زمانِ قَطْفِها وأيامِه، وتفسُدُ إنْ طال وقتُها، فبَيْعُ الحبوبِ والانتفاعُ منها أظهَرُ وأكثَرُ من الخَضْراواتِ، والخضراواتُ أضيَقُ، وفي إيجابِ الزكاةِ فيها إضرارٌ بأصحابِها، إلا مَن كان يَجْعَلُها تجارةً، فتأخُذُ حُكْمَ العروضِ. ولو ادَّخَرَ الناسُ الخَضْراواتِ والفاكهةَ في الآلاتِ واتَّخَذُوها قُوتًا، فلا زكاةَ فيها، لأنّهُمْ لا يَدَّخِرُونَها إلا بمؤونةٍ وكُلْفةٍ تختلِفُ عن مؤونةِ الحبوبِ، ولا يُجمَعُ على أهلِها كُلْفتانِ، كُلْفةُ الادِّخارِ، وكُلْفةُ الزَّكاةِ، فيتضرَّرَ الناسُ بذلك. وأبو حنيفةَ يقولُ بزكاةِ الخَضْراواتِ، وخالَفَهُ صاحِباهُ. وقِيلَ بزكاةِ المَعادنِ والنِّفْطِ والغاز الذي يَنتفِعُ منه الناسُ ممّا يخرُجُ مِن الأرضِ، لعمومِ الآيةِ، وهذا ظاهِرُ مذهبِ الحنفيَّةِ، لقولِهِمْ بالأخذِ بالعمومِ، والقاعِدةُ عندهم أنّ دليلَ العمومِ يدلُّ على جميعِ أجزائِهِ دَلالةً قطعيَّةً، والجمهورُ يَجْعَلُونَ دلالةَ العمومِ على جميعِ أجزائِهِ ظنِّيَّةً، وهذا هو الأرجَحُ، ما لم تَحتَفَّ قرائنُ بأحدِ الأجزاءِ، أو يَقُمْ دليلٌ مستقِلٌّ أو عملٌ يقوِّي الأخذَ بجزءٍ أو أجزاءِ العمومِ كلِّها. زكاةُ النَّفْطِ والبترول: واختلَفَ مَن قال مِن أهلِ العصرِ: بزكاةِ النفطِ والغازِ في مِقْدارِ النصابِ الذي تَجِبُ فيهِ الزكاةُ، ومِقْدارِ الزكاةِ فيهِ، على أقوالٍ: فمِنهُم: مَن يخرِّجُهُ على الرِّكازِ، ويُوجِبُ فيه الخُمسَ. ومِنهُم: مَن يقيسُهُ على الحبوبِ والثِّمارِ. ومِنهُم: مَن يَقِيسُهُ على النقدَيْنِ. والنِّفْطُ والبِتْرُولُ والغازُ إذا كان مالًا عامًّا للمسلِمينَ وخَراجُه يكونُ لبيتِ المالِ، فلا تجبُ فيه الزكاةُ. وإذا كان مالًا خاصًّا بفَرْدٍ يخرُجُ في أرضٍ له، فهل تجبُ فيه الزَّكاةُ؟ على الخلافِ السابِقِ. ويَنبغي على مَن قال بالزكاةِ فيه: أنْ يفرِّقَ بين ما يخرُجُ منهُ بمؤونةٍ ومشقَّةٍ ألاَّ يَجْعَلَهُ مساوِيًا لِما طفَحَ على الأرضِ أو قريبًا مِن سَطْحِها، فيقسَّمُ على حالَيْنِ قياسًا على الحبوبِ والثِّمارِ، فما كان بمؤونةٍ، فلا يجاوِزُ فيه رُبْعَ العُشْرِ، وما كان بلا مؤونةٍ، ففيه العُشْرُ، ففي «الصحيحِ»، عنِ ابنِ عمرَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ، قال: (فِيما سَقَتِ السَّماءُ والعُيُونُ أوْ كانَ عَثَرِيًّا: العُشْرُ، وما سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ العُشْرِ) [[أخرجه البخاري (١٤٨٣) (٢/١٢٦).]]. وقياسُهُ على الركازِ ضعيفٌ، فإنّ الركازَ فيه الخُمْسُ، والرِّكازُ لا مؤونةَ فيه غالبًا، فهو مِن لُقَطِ الجاهليَّةِ، وممّا عَمِلَتْهُ أيديهِم، فَلا كُلْفةَ بحَفْرِ الأرضِ أو نَحْتِ الصَّخْرِ لاستخراجِهِ، وإنْ خرَجَ بالحَفْرِ، فإنّه يخرُجُ تَبَعًا لا مقصودًا بالحفرِ والمؤونةِ، كمَن يَحفِرُ بئرًا لأجلِ الماءِ، أو ينقُلُ صخرًا لأجلِ البِناءِ، ثمَّ يَجِدُ مصادَفةً ذَهَبًا جاهليًّا، فهذا لم يَجِدْ مشقَّةً ومؤونةً في الرِّكازِ ذاتِهِ، ولذا القولُ في الشرعِ الخُمْسُ. ولا يقاسُ على الرِّكازِ ما يُخرِجُهُ الناسُ مِن المَعادِنِ مِن الصخورِ وحَفْرِ الأرضِ، ثمَّ تُصْهَرُ الحِجارةُ ويخرُجُ ما فيها مِن نفائسِ الأرضِ مِن الذهبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ وشبهِها، فهذا بمؤونةٍ، ولا يأخُذُ حُكْمَ الرِّكازِ، ولا زكاةَ فيه حتّى يبلُغَ نصابًا ويحولَ عليه الحَوْلُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب