الباحث القرآني

﴿وقالَ لَهم نَبِيُّهم إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكم طالُوتَ مَلِكًا﴾، قَوْلُ النَّبِيِّ لَهم ”إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ“ لا يَكُونُ إلّا بِوَحْيٍ؛ لِأنَّهم سَألُوهُ أنْ يَبْعَثَ لَهم مَلِكًا يُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَأخْبَرَ ذَلِكَ النَّبِيُّ أنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَهُ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسُؤالٍ مِنَ النَّبِيِّ اللَّهَ أنْ يَبْعَثَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ سُؤالِهِ، بَلْ لَمّا عَلِمَ حاجَتَهم إلَيْهِ بَعَثَهُ. وقالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّهُ سَألَ اللَّهَ أنْ يَبْعَثَ لَهم مَلِكًا، فَأتى بِعَصًا وقَرْنٍ فِيهِ دُهْنُ القُدْسِ، وقِيلَ: الَّذِي يَكُونُ مَلِكًا طُولُهُ طُولُ هَذِهِ العَصا، وقِيلَ لِلنَّبِيِّ: انْظُرِ القَرْنَ فَإذا دَخَلَ رَجُلٌ فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي هو فِيهِ فَهو مَلِكُ بَنِي إسْرائِيلَ، فَقاسُوا أنْفُسَهم بِالعَصا فَلَمْ يَكُونُوا مِثْلَها، وكانَ: طالُوتُ سَقّاءً عَلى ماءٍ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أوْ دَبّاغًا عَلى ما قالَهُ وهْبٌ، أوْ مُكارِيًا، وضاعَ حِمارٌ لَهُ، أوْ حُمُرٌ لِأهْلِهِ؛ فاجْتَمَعَ بِالنَّبِيِّ لِيَسْألَهُ عَنْ ما ضاعَ لَهُ ويَدْعُو اللَّهَ لَهُ، فَبَيْنا هو عِنْدَهُ نَشَّ ذَلِكَ القَرْنَ، وقاسَهُ النَّبِيُّ بِالعَصا، فَكانَ طُولَها، فَقالَ لَهُ: قَرِّبْ رَأْسَكَ فَقَرَّبَهُ ودَهَنَهُ بِدُهْنِ القُدْسِ، وقالَ: أمَرَنِي اللَّهُ أنْ أُمَلِّكَكَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. فَقالَ طالُوتُ: أنا ؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: أوَما عَلِمْتَ أنَّ سِبْطِي أدْنى أسْباطِ بَنِي إسْرائِيلَ ؟ قالَ: بَلى، قالَ: أفَما عَلِمْتَ أنَّ بَيْتِي أدْنى بُيُوتِ بَنِي إسْرائِيلَ ؟ قالَ: بَلى. قالَ: فَبِآيَةِ أنَّكَ تَرْجِعُ وقَدْ وجَدَ أبُوكَ حُمُرَهُ، وكانَ كَذَلِكَ. وانْتَصَبَ: مَلِكًا عَلى الحالِ، والظّاهِرُ أنَّهُ مَلَّكَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ أمِيرًا عَلى الجَيْشِ. ﴿قالُوا أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ﴾، هَذا كَلامُ مَن تَعَنَّتَ وحادَ عَنْ أمْرِ اللَّهِ، وهي عادَةُ بَنِي إسْرائِيلَ، فَكانَ يَنْبَغِي لَهم إذْ قالَ لَهُمُ النَّبِيُّ عَنِ اللَّهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكم طالُوتَ مَلِكًا﴾ أنْ يُسَلِّمُوا الأمْرَ لِلَّهِ، ولا تُنْكِرُهُ قُلُوبُهم، ولا يَتَعَجَّبُوا مِن ذَلِكَ؛ فَفي المَقادِيرِ أسْرارٌ لا تُدْرَكُ، فَقالُوا: كَيْفَ يُمَلَّكُ عَلَيْنا مَن هو دُونَنا ولَيْسَ مِن بَيْتِ المُلْكِ الَّذِي هو سِبْطُ يَهُوذا، ومِنهُ داوُدُ وسُلَيْمانُ ؟ ولَيْسَ مِن بَيْتِ النُّبُوَّةِ الَّذِي هو سِبْطُ لاوِي ومِنهُ مُوسى وهارُونُ ؟ قالَ ابْنُ السّائِبِ: وكانَ سِبْطُ طالُوتَ قَدْ عَمِلُوا ذَنْبًا عَظِيمًا، نَكَحُوا النِّساءَ نَهارًا عَلى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؛ فَنَزَعَ النُّبُوَّةَ والمُلْكَ مِنهم، وكانُوا يُسَمَّوْنَ سِبْطَ الإثْمِ. وفي قَوْلِهِمْ: ﴿أنّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا﴾ إلى آخِرِهِ، ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مَرْكُوزٌ في الطِّباعِ أنْ لا يُقَدَّمَ المَفْضُولُ عَلى الفاضِلِ، واسْتِحْقارُ مَن كانَ غَيْرَ مُوَسَّعٍ عَلَيْهِ؛ فاسْتَبْعَدُوا أنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَن هم أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ، وهو فَقِيرٌ والمُلْكُ يَحْتاجُ إلى أصالَةٍ فِيهِ؛ إذْ يَكُونُ أعْظَمَ في النُّفُوسِ، وإلى غِنًى يَسْتَعْبِدُ بِهِ الرِّجالَ، ويُعِينُهُ عَلى مَقاصِدِ المُلْكِ - لَمْ يَعْتَبِرُوا السَّبَبَ الأقْوى، وهو: قَضاءُ اللَّهِ وقَدَرُهُ، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشاءُ﴾ [آل عمران: ٢٦]، واعْتَبَرُوا السَّبَبَ الأضْعَفَ، وهو: النَّسَبُ والغِنى، ﴿ياأيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى وجَعَلْناكم شُعُوبًا وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، (لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلى عَجَمِيٍّ ولا لِعَجَمِيِّ عَلى عَرَبِيٍّ إلّا بِالتَّقْوى)، (﴿إنَّ أكْرَمَكم عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣])، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِن مُشْرِكٍ ولَوْ أعْجَبَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢١]، قالَ الشّاعِرُ: ؎وأعْجَبُ شَيْءٍ إلى عاقِلٍ فُتُوٌّ عَنِ المَجْدِ مُسْتَأْخِرَهْ ؎(p-٢٥٨)إذا سُئِلُوا ما لَهم مِن عُلًا ∗∗∗ أشارُوا إلى أعْظُمٍ ناخِرَهْ و”أنّى“ هُنا بِمَعْنى كَيْفَ، وهو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ، و”يَكُونُ“ الظّاهِرُ أنَّها ناقِصَةٌ، و”لَهُ“ في مَوْضِعِ الخَبَرِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وهو العامِلُ في ”أنّى“، و”عَلَيْنا“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”المُلْكِ“ عَلى مَعْنى الِاسْتِعْلاءِ، تَقُولُ: فُلانٌ مَلِكٌ عَلى بَنِي فُلانٍ، وقِيلَ: ”عَلَيْنا“ حالٌ مِنَ ”المُلْكُ“ . ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تامَّةً و”لَهُ“ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”يَكُونُ“، أيْ: كَيْفَ يَقَعُ أوْ يَحْدُثُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنا ؟ ”ونَحْنُ أحَقُّ“: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ اسْمِيَّةٌ عُطِفَ عَلَيْها جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وهي: ﴿ولَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ﴾، والمَعْطُوفُ عَلى الحالِ حالٌ، والمَعْنى: أنَّ مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ هَذانِ الوَصْفانِ: وُجُودُ مَن هو أحَقُّ مِنهُ، وفَقْرُهُ؛ لا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ. ويُعَلَّقُ ”بِالمُلْكِ“، و”مِنهُ“ بِـ ”أحَقُّ“، وتَعَلَّقَ ”مِنَ المالِ“ بِـ ”يُؤْتَ“، وفُتِحَتْ سِينُ السَّعَةِ لِفَتْحِها في المُضارِعِ؛ إذْ هو مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وقِياسُها الكَسْرُ؛ لِأنَّهُ كانَ أصْلُهُ: يُوسِعُ، كَوَثِقَ يَثِقُ، وإنَّما فُتِحَ عَيْنُ المُضارِعِ لِكَوْنِ لامِهِ حَرْفَ حَلْقٍ، فَهَذِهِ فَتْحَةٌ أصْلُها الكَسْرُ؛ ولِذَلِكَ حُذِفَتِ الواوُ، لِوُقُوعِها في يَسَعُ بَيْنَ ياءٍ وكَسْرَةٍ، لَكِنْ فُتِحَ لِما ذَكَرْناهُ، ولَوْ كانَ أصْلُها الفَتْحَ لَمْ يَجُزْ حَذْفُ الواوِ، ألا تَرى ثُبُوتَها في يَوْجَلُ ؟ لِأنَّها لَمْ تَقَعْ بَيْنَ كَسْرَةٍ وياءٍ، فالمَصْدَرُ والأمْرُ في الحَذْفِ مَحْمُولانِ عَلى المُضارِعِ، كَما حَمَلُوا: عِدَةً ووَعَدَ عَلى يَعِدُ. ﴿قالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ﴾، أيِ: اخْتارَهُ صَفْوَةً؛ إذْ هو أعْلَمُ تَعالى بِالمَصالِحِ؛ فَلا تَعْتَرِضُوا عَلى اللَّهِ. ﴿وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْمِ﴾، قِيلَ: في العِلْمِ بِالحُرُوبِ، والظّاهِرُ عِلْمُ الدِّياناتِ والشَّرائِعِ. وقِيلَ: قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ ونُبِّئَ، وأمّا البَسْطَةُ في الجِسْمِ؛ فَقِيلَ: أُرِيدَ بِذَلِكَ: مَعانِي الخَيْرِ، والشَّجاعَةِ، وقَهْرِ الأعْداءِ، والظّاهِرُ أنَّهُ: الِامْتِدادُ، والسَّعَةُ في الجِسْمِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ طالُوتُ يَوْمَئِذٍ أعْلَمَ رَجُلٍ في بَنِي إسْرائِيلَ، وأجْمَلَهُ وأتَمَّهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ المُفَسِّرِينَ في طُولِهِ، ونَبَّهَ عَلى اسْتِحْقاقِ طالُوتَ لِلْمُلْكِ بِاصْطِفاءِ اللَّهِ لَهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨]، وبِما أعْطاهُ مِنَ السَّعَةِ في العِلْمِ، وهو الوَصْفُ الَّذِي لا شَيْءَ أشْرَفُ مِنهُ ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] أنا أعْلَمُكم بِاللَّهِ ومِن بَسْطَةِ الجِسْمِ؛ فَإنَّ لِذَلِكَ عِظَمًا في النُّفُوسِ وهَيْبَةً وقُوَّةً، وكَثِيرًا ما تَمَدَّحَتِ العَرَبُ بِذَلِكَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كَأنَّما ∗∗∗ عِمامَتُهُ بَيْنَ الرِّجالِ لِواءُ وقالَ: ؎بَطَلٌ كَأنَّ ثِيابَهُ في سَرْحَةٍ ∗∗∗ يُحْذى نِعالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْأمِ وقالَ: ؎تَبَيَّنَ لِي أنَّ القَماءَةَ ذِلَّةٌ ∗∗∗ وأنَّ أعِزّاءَ الرِّجالِ طِيالُها وقالُوا في المَدْحِ: طَوِيلُ النِّجادِ رَفِيعُ العِمادِ. وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا ماشى الطِّوالَ طالَهم. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: كانَتْ هَذِهِ الزِّيادَةُ بَعْدَ المُلْكِ، وقالَ وهْبٌ، والسُّدِّيُّ: قَبْلَ المُلْكِ؛ فالمَعْنى: وزادَهُ عَلى غَيْرِهِ مِنَ النّاسِ بَسْطَةً، بِالسِّينِ، أبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ. وبِالصّادِ، نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ رِوايَةُ النَّقّاشِ، وزَرْعانُ، والشَّيْمُونِيُّ وزادَ: لَئِنْ بَصَطْتَ، وبِباصِطٍ، وكَباصِطٍ، ومَبْصُوطَتانِ، ولا تَبْصُطْها كُلَّ البَصْطِ، وأوْصَطِ، وفَما اصْطاعُوا، ويَصْطُونَ، والقِصْطاسِ. ورَوى نَحْوَهُ: أبُو نَشِيطٍ عَنْ قالُونَ. ﴿واللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشاءُ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾، ظاهِرُهُ أنَّهُ مِن مَعْمُولِ قَوْلِ النَّبِيِّ لَهم، لَمّا عَلِمَ بُغْيَتَهم في مَسائِلِهِمْ ومُجادَلَتِهِمْ في الحُجَجِ الَّتِي تُبْدِيها؛ أتَمَّ كَلامَهُ بِالأمْرِ القَطْعِيِّ، وهو أنَّ اللَّهَ هو الفاعِلُ المُخْتارُ، يَفْعَلُ ما يَشاءُ. ولَمّا قالُوا: ﴿ونَحْنُ أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ﴾، فَكانَ في قَوْلِهِمُ ادِّعاءُ الأحَقِّيَّةِ في المُلْكِ، حَتّى كَأنَّ المُلْكَ هو في مُلْكِهِمْ؛ أضافَ المُلْكَ إلى اللَّهِ في قَوْلِهِ: ”مَلِكًا“، فالمَلِكُ مُلْكُهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَما أرادَ؛ فَلَسْتُمْ بِأحَقَّ فِيهِ؛ لِأنَّهُ مُلْكُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. وقِيلَ: هاتانِ الجُمْلَتانِ لَيْسَتا داخِلَتَيْنِ في قَوْلِ النَّبِيِّ، بَلْ هي إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلّى (p-٢٥٩)اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَهي مُعْتَرِضَةٌ في هَذِهِ القِصَّةِ، جاءَتْ لِلتَّشْدِيدِ والتَّقْوِيَةِ لِمَن يُؤْتِيهِ اللَّهُ المُلْكَ، أيْ: فَإذا كانَ اللَّهُ تَعالى هو المُتَصَرِّفَ في مُلْكِهِ فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] . وخَتَمَ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ؛ إذْ تَقَدَّمَ دَعْواهم أنَّهم أهْلُ المُلْكِ، وأنَّهُمُ الأغْنِياءُ، وأنَّ طالُوتَ لَيْسَ مِن بَيْتِ المُلْكِ، وأنَّهُ فَقِيرٌ؛ فَقالَ تَعالى: إنَّهُ واسِعٌ؛ يُوَسِّعُ فَضْلَهُ عَلى الفَقِيرِ، عَلِيمٌ بِمَن هو أحَقُّ بِالمُلْكِ؛ فَيَضَعُهُ فِيهِ ويَخْتارُهُ لَهُ. وفي قِصَّةِ طالُوتَ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الإمامَةَ لَيْسَتْ وِراثَةً؛ لِإنْكارِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ما أنْكَرُوهُ مِنَ التَّمْلِيكِ عَلَيْهِمْ مَن لَيْسَ مِن أهْلِ النُّبُوَّةِ والمُلْكِ، وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ بِالعِلْمِ والقُوَّةِ لا بِالنَّسَبِ؛ ودَلَّ أيْضًا عَلى أنَّهُ لا حَظَّ لِلنَّسَبِ مَعَ العِلْمِ وفَضائِلِ النَّفْسِ، وأنَّها مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ لِاخْتِيارِ اللَّهِ طالُوتَ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، وإنْ كانُوا أشْرَفَ مِنهُ نَسَبًا. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ الشَّرِيفَةُ الإخْبارَ بِقِصَّةِ الخارِجِينَ مِن دِيارِهِمْ - وهم عالَمٌ لا يُحْصَوْنَ - فِرارًا مِنَ المَوْتِ، إمّا بِالقَتْلِ؛ إذْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ القِتالُ، وإمّا بِالوَباءِ؛ فَأماتَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ أحْياهم لِيَعْلَمُوا أنَّهُ لا مَفَرَّ مِمّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ لِئَلّا نَسْلُكَ ما سَلَكُوهُ؛ فَنُحْجِمَ عَنِ القِتالِ، فَأتَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُثْبِتَةً لِمَن جاهَدَ في سَبِيلِهِ. وذَكَرَ تَعالى أنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ، وذَلِكَ بِإحْيائِهِمْ والإحْسانِ إلَيْهِمْ، ومَعَ ذَلِكَ فَأكْثَرُهم لا يُؤَدِّي شُكْرَ اللَّهِ. ثُمَّ أمَرَ بِالقِتالِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وبِأنْ نَعْلَمَ أنَّهُ سَمِيعٌ لِأقْوالِنا، عَلِيمٌ بِنِيّاتِنا. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ مَن أقْرَضَ اللَّهَ فاللَّهُ يُضاعِفُهُ حَيْثُ يَحْتاجُ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ بِيَدِهِ القَبْضَ والبَسْطَ، وأنَّ مَرْجِعَ الكُلِّ إلَيْهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِقِصَّةِ المَلَأِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ؛ وذَلِكَ لِنَعْتَبِرَ بِها ونَقْتَدِيَ مِنها بِما كانَ مِن أحْوالِهِمْ حَسَنًا، ونَجْتَنِبَ ما كانَ قَبِيحًا، وهَذِهِ الحِكْمَةُ في قَصَصِ الأوَّلِينَ عَلَيْنا لِنَعْتَبِرَ بِها، وأنَّهم حِينَ اسْتَوْلى عَلَيْهِمُ العَدُوُّ، فَمَلَكَ بِلادَهم وأسَرَ أبْناءَهم، ولَمْ يَكُنْ لَهم مَلِكٌ يَسُوسُهم في أمْرِ الحَرْبِ؛ إذْ هي مُحْتاجَةٌ إلى مَن يُصْدَرُ عَنْ أمْرِهِ ويُجْتَمَعُ عَلَيْهِ؛ فَسَألُوا نَبِيَّهم أنْ يُنْهِضَ لَهم مَلِكًا بِرَسْمِ الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَوَقَّعَ النَّبِيُّ مِنهم أنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَلَيْهِمُ القِتالُ نَكَصُوا عَنْهُ، فَأجابُوهُ: بِأنّا قَدْ وُتِرْنا، وأُخْرِجْنا مِن دِيارِنا، وأبْنائِنا، وهَذا أصْعَبُ شَيْءٍ عَلى النُّفُوسِ، وهو أنْ يُخْرَجَ مِن مَسْكَنٍ ألِفَهُ، ويُفَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أبْنائِهِ؛ ولِهَذا دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (اللَّهُمَّ حَبِّبْ لَنا المَدِينَةَ كَحُبِّنا مَكَّةَ أوْ أكْثَرَ)، وكَثِيرًا ما بَكى الشُّعَراءُ المَساكِنَ والمَعاهِدَ، ألا تَرى إلى قَوْلِ بِلالٍ: ؎ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً ∗∗∗ بِوادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وجَلِيلُ وكانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ المُحَدِّثُ قَدْ رُزِقَ مِنَ النَّصِيبِ في الدُّنْيا والجَلالَةِ، وحَمَلَ النّاسُ العِلْمَ عَنْهُ، وكانَ بِبَغْدادَ، فَعَبَرَ مَرَّةً عَلى مَكانِ مَوْلِدِهِ ومَنشَئِهِ صَغِيرًا بِبَغْلانَ، قِيلَ: وهي ضَيْعَةٌ مِن أصْغَرِ الضَّياعِ؛ فَتَمَنّى أنْ لَوْ كانَ مُقِيمًا بِها، ويَتْرُكَ رِئاسَةَ بَغْدادَ دارِ الخِلافَةِ، وذَلِكَ نُزُوعٌ إلى الوَطَنِ. وذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لَمّا فُرِضَ القِتالُ عَلَيْهِمْ أعْرَضُوا عَنْ قَبُولِهِ إلّا قَلِيلًا فَإنَّهُ أخَذَ أمْرَ اللَّهِ بِالقَبُولِ. ثُمَّ عَرَّضَ تَعالى بِالظّالِمِينَ، وهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أمْرَ اللَّهِ بَعْدَ أنْ كانُوا طَلَبُوهُ؛ فَهو يُجازِيهِمْ عَلى ظُلْمِهِمْ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِمْ أنَّهُ قالَ لَهم عَنِ اللَّهِ: إنَّهُ قَدْ بَعَثَ طالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهم مِن أنْفَسِهِمْ ولا أشْرَفِهِمْ مَنصِبًا؛ إذْ لَيْسَ مِن سِبْطِ النُّبُوَّةِ، ولا مِن سِبْطِ المُلْكِ؛ فَلَمْ يَأْخُذُوا ما أخْبَرَهم عَنِ اللَّهِ بِالقَبُولِ، وشَرَعُوا يَتَعَنَّتُونَ عَلى عادَتِهِمْ مَعَ أنْبِيائِهِمْ، فاسْتَبْعَدُوا تَمْلِيكَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ فِيهِمْ مَن هو أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ عَلى زَعْمِهِمْ؛ إذْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أنْ يَكُونَ مِن آبائِهِ مَلِكٌ فَيُعَظَّمُ عِنْدَ العامَّةِ؛ ولِأنَّهُ فَقِيرٌ، وهاتانِ الخَلَّتانِ هُما يُضْعِفانِ المُلْكَ؛ إذْ سابِقُ الرِّئاسَةِ والجاهِ والمَلاءَةِ بِالأمْوالِ مِمّا يَسْتَتْبِعُ الرِّجالَ ويَسْتَعْبِدُ الأحْرارَ، وما عَلِمُوا أنَّ عِنايَةَ المَقادِيرِ تَجْعَلُ المَفْضُولَ فاضِلًا. فَأخْبَرَهم نَبِيُّهم أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدِ اخْتارَهُ عَلَيْكم، وشَرَّفَهُ بِخَصْلَتَيْنِ هُما في ذاتِهِ: إحْداهُما: الخُلُقُ العَظِيمُ، والأُخْرى: المَعْرِفَةُ الَّتِي هي الفَضْلُ الجَسِيمُ؛ واسْتَغْنى بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ الذّاتِيَّيْنِ عَنِ الوَصْفَيْنِ الخارِجَيْنِ عَنِ الذّاتِ، وهُما الفَخْرُ بِالعَظْمِ الرَّمِيمِ، والِاسْتِكْثارُ بِالمالِ الَّذِي مَرْتَعُهُ وخِيمٌ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى (p-٢٦٠)يُعْطِي مُلْكَهُ مَن أرادَ، وأنَّهُ الواسِعُ الفَضْلِ، العالِمُ بِمَصالِحِ العِبادِ؛ فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب