قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً﴾ أَيْ أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، وَكَانَ طَالُوتُ سَقَّاءً. وَقِيلَ: دَبَّاغًا. وَقِيلَ: مُكَارِيًا، وَكَانَ عَالِمًا فَلِذَلِكَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا يَأْتِي: وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي لَاوَى، وَالْمُلْكُ فِي سِبْطِ يَهُوذَا فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِشَمْوِيلَ بْنِ بَالَ مَا قَالُوا، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَلِكًا وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: انْظُرْ إِلَى الْقَرَنِ [[القرن (بالتحريك): الجعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخرز.]] الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فِي بَيْتِكَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ فَنَشَّ [[نش: صوت.]] الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرَنِ، فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَادْهُنْ رَأْسَهُ مِنْهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانَ طَالُوتُ دَبَّاغًا فَخَرَجَ فِي ابْتِغَاءِ دَابَّةٍ أَضَلَّهَا، فَقَصَدَ شَمْوِيلَ عَسَى أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي أَمْرِ الدَّابَّةِ أَوْ يَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا، فَنَشَّ الدُّهْنَ عَلَى [[في هـ وج: فيما يزعمون.]] مَا زَعَمُوا، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ شَمْوِيلُ فَأَخَذَهُ وَدَهَنَ مِنْهُ رَأْسَ طَالُوتَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْدِيمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً". وَطَالُوتُ وَجَالُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ مُعَرَّبَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفَا، وَكَذَلِكَ دَاوُدُ، وَالْجَمْعُ طَوَالِيتُ وَجَوَالِيتُ وَدَوَاوِيدُ، وَلَوْ سَمَّيْتَ رَجُلًا بِطَاوُسٍ وَرَاقُودٍ [[الراقود: الدن الكبير، أو هو دن طويل الأسفل، والجمع الرواقيد معرب.]] لَصَرَفْتَ وإن كان أَعْجَمِيَّيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّكَ تَقُولُ: الطَّاوُسُ، فَتُدْخِلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَيُمْكِنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي ذَاكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا﴾ أَيْ كَيْفَ يَمْلِكُنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟. جَرَوْا عَلَى سُنَّتِهِمْ فِي تَعْنِيتِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَحَيْدِهِمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: "أَنَّى" أَيْ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ، فَ "أَنَّى" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمُلُوكُ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ فَقِيرٌ، فَتَرَكُوا السَّبَبَ الْأَقْوَى وَهُوَ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاؤُهُ السَّابِقُ حَتَّى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ) أَيِ اخْتَارَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ تَعْلِيلَ اصْطِفَاءِ طَالُوتَ، وَهُوَ بَسْطَتُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الْإِنْسَانِ، وَالْجِسْمُ الَّذِي هُوَ مُعِينُهُ فِي الْحَرْبِ وَعُدَّتُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَتَضَمَّنَتْ بَيَانَ صِفَةِ الْإِمَامِ وَأَحْوَالِ الْإِمَامَةِ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْقُوَّةِ لَا بِالنَّسَبِ، فَلَا حَظَّ لِلنَّسَبِ فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ وَفَضَائِلِ النَّفْسِ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِنْ كَانُوا أَشْرَفَ مُنْتَسَبًا. وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ الْإِمَامَةِ وَشُرُوطِهَا مَا يَكْفِي وَيُغْنِي [[تراجع المسألة الرابعة وما بعدها ج ١ ص ٢٦٤.]]. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَزِيَادَةُ الْجِسْمِ مِمَّا يُهِيبُ الْعَدُوَّ. وَقِيلَ: سُمِّيَ طَالُوتُ لِطُولِهِ. وَقِيلَ: زِيَادَةُ الْجِسْمِ كَانَتْ بِكَثْرَةِ مَعَانِي الْخَيْرِ وَالشَّجَاعَةِ، وَلَمْ يُرِدْ عِظَمَ الْجِسْمِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ الشاعر [[هو العباس بن مرداس، كما في الحماسة وغيرها.]]:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ ... وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ [[في اللسان في مادة مزر: "مزير". والمزير. الشديد القلب القوى النافد، والهصور: الشديد الذي يفترس ويكسر.]]
وَيُعْجِبُكَ الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ ... فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ [[الطرير: ذو الرواء والمنظر. في هـ: فما يغنى بجثته.]]
وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ... فَلَمْ يستغن بالعظم البعير
قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ ﷺ لِأَزْوَاجِهِ: "أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا" فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ أَوَّلَهُنَّ مَوْتًا، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الْحَرْبِ، وَهَذَا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ قِيلَ: زِيَادَةُ الْعِلْمِ بِأَنْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ طَالُوتُ نَبِيًّا، وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ﴾ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الله عز وجل لمحمد ﷺ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ شَمْوِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا عَلِمَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي الْحُجَجِ، فَأَرَادَ أَنْ يُتْمِمَ كَلَامَهُ بِالْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ". وَإِضَافَةُ مُلْكِ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةُ مَمْلُوكٍ إِلَى مَلِكٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّغْبِيطِ وَالتَّنْبِيهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْهُمْ: "إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ". وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا سَأَلُوهُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِهِ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي أَشْبَهُ بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذَّمِيمَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ.
{"ayah":"وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكࣰاۚ قَالُوۤا۟ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَیۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ یُؤۡتِی مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ"}