الباحث القرآني

ولَمّا أرْشَدَ العَطْفُ عَلى غَيْرِ مَذْكُورٍ إلى أنَّ التَّقْدِيرَ: فَقالَ لَهم (p-٤١٤)نَبِيُّهُمْ: ألَمْ أقُلْ لَكُمْ: لا تَسْألُوا البَلاءَ ولا تَدانَوْا أمْرَ القَضاءِ فَإنَّ أكْثَرَ قَوْلِ النَّفْسِ كَذِبٌ وجُلَّ أمانِيِّها زُورٌ وأمّا أمْرُ اللَّهِ فَمَتى بَرَزَ يَجِبُ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وقالَ لَهُمْ﴾ أيْ خاصَّةً لَمْ يَكُنْ مَعَهم أحَدٌ غَيْرُهم يُحالُ عَلَيْهِمْ جَوابُهُمُ الَّذِي لا يَلِيقُ وصَرَّحَ بِالمَقْصُودِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ القائِلَ اللَّهُ وأنَّهم واجَهُوهُ بِالِاعْتِراضِ فَقالَ: ﴿نَبِيُّهُمْ﴾ أيِ الَّذِي تَقَدَّمَ أنَّهم سَألُوهُ ذَلِكَ مُؤَكَّدًا مُعَظَّمًا مُحَقَّقًا بِأداةِ التَّوَقُّعِ لِأنَّ سُؤالَهم عَلى لِسانِ نَبِيٍّ يَقْتَضِي تَوَقُّعَ الإجابَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيْ بِجَلالِهِ وعِزِّ كَمالِهِ ﴿قَدْ﴾ ولَمّا كانَ إلْباسُ الشَّخْصِ عِزَّ المُلْكِ مِثْلَ إعْزازِ الجَمادِ بِنَفْخِ الرُّوحِ كانَ التَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِالبَعْثِ ألْيَقَ فَقالَ: ﴿بَعَثَ لَكُمْ﴾ أيْ خاصَّةً (p-٤١٥)لِأجْلِ سُؤالِكم ﴿طالُوتَ﴾ اسْمٌ مَلِكٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِن سِبْطٍ لَمْ يَكُنِ المُلْكُ فِيهِمْ ﴿مَلِكًا﴾ تَنْتَهُونَ في تَدْبِيرِ الحَرْبِ إلى أمْرِهِ. قالَ الحَرالِيُّ: فَكانَ أوَّلَ ما ابْتُلُوا بِهِ أنَّ مَلِكَ عَلَيْهِمْ مَن لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ (p-٤١٦)بَيْتِ المُلْكِ عِنْدَهم فَكانَ أوَّلَ فِتْنَتِهِمْ بِما طَلَبُوا مَلِكًا فَأُجِيبُوا فَلَمْ يَرْضَوْا بِما بُعِثَ لَهُمُ - انْتَهى. ولَمّا أجابَهم إلى ما سَألُوا كانَ مِن أوَّلِ جَلافَتِهِمُ اعْتِراضُهم عَلى أمْرِ المَلِكِ الدَّيّانِ الَّذِي أوْرَدَهُ لَهم بِاسْمِهِ الأعْظَمِ الدّالِّ عَلى جَمِيعِ الكَمالِ مِنَ الجَلالِ والجَمالِ لِيَكُونَ أجْدَرَ لَهم بِقَبُولِ أمْرِهِ والوُقُوفِ عِنْدَ زَجْرِهِ وأوْرَدَ اعْتِراضَهم في جَوابِ مَن كَأنَّهُ قالَ: ما فَعَلُوا إذْ أجابَهم إلى ما سَألُوا؟ فَقالَ: ﴿قالُوا﴾ أيْ هم لا غَيْرُهم ﴿أنّى﴾ أيْ مِن أيْنَ وكَيْفَ ﴿يَكُونُ لَهُ﴾ أيْ خاصَّةً ﴿المُلْكُ عَلَيْنا ونَحْنُ﴾ أيْ والحالُ أنّا نَحْنُ ﴿أحَقُّ بِالمُلْكِ مِنهُ﴾ لِأنَّ فِينا مَن هو مِن سِبْطِ المُلُوكِ دُونَهُ. قالَ الحَرالِيُّ: فَثَنَوُا اعْتِراضَهم بِما هو أشَدُّ (p-٤١٧)وهُوَ الفَخْرُ بِما ادَّعَوْهُ مِنِ اسْتِحْقاقِ المُلْكِ عَلى مَن مَلَّكَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَكانَ فِيهِ حَظٌّ مِن فَخْرِ إبْلِيسَ حَيْثُ قالَ حِينَ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ [الأعراف: ١٢] انْتَهى. ﴿ولَمْ﴾ أيْ والحالُ أنَّهُ لَمْ ﴿يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المالِ﴾ أيْ فَصارَ لَهُ مانِعانِ: أحَدُهُما أنَّهُ لَيْسَ مِن بَيْتِ المَمْلَكَةِ، والثّانِي أنَّهُ مُمْلِقٌ والمَلِكُ لا بُدَّ لَهُ مِن مالَ يَعْتَضِدُ بِهِ. قالَ الحَرالِيُّ: فَكانَ في هَذِهِ الثّالِثَةِ فِتْنَةُ اسْتِصْنامِ المالِ وأنَّهُ مِمّا يُقامُ بِهِ مُلْكٌ وإنَّما المُلْكُ بِإيتاءِ اللَّهِ فَكانَ في هَذِهِ الفِتْنَةِ الثّالِثَةِ جَهْلٌ وشِرْكٌ، فَتَزايَدَتْ صُنُوفُ فِتْنَتِهِمْ فِيما انْبَعَثُوا إلى طَلَبِهِ مِن أنْفُسِهِمُ - انْتَهى. ولَمّا كانَ الخَلْقُ كُلُّهم مُتَساوِينَ في أصْلِ الجِسْمِيَّةِ وإنَّما جاءَ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ مِنَ اللَّهِ فَكانَ هو المَدارَ عَلَّقَ الأمْرَ بِهِ في قَوْلِهِ: ﴿قالَ﴾ أيِ النَّبِيُّ لا غَيْرُهُ مُؤَكِّدًا لِأجْلِ إنْكارِهِمْ مُعَظِّمًا عَلَيْهِمُ الحَقَّ (p-٤١٨)بِإعادَةِ الِاسْمِ الأعْظَمِ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الأمْرِ فَلا اعْتِراضَ عَلَيْهِ وهو أعْلَمُ بِالمَصالِحِ ﴿اصْطَفاهُ﴾ قالَ الحَرالِيُّ: والِاصْطِفاءُ أخْذُ الصَّفْوَةِ - انْتَهى. ولَمّا كانَ ذَلِكَ مُضَمَّنًا مَعْنى مُلْكِهِ قالَ في تَعْدِيَتِهِ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ ما أوْدَعَهُ سُبْحانَهُ مِمّا اقْتَضى ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وزادَهُ﴾ أيْ عَلَيْكم ﴿بَسْطَةً في العِلْمِ﴾ الَّذِي بِهِ تَحْصُلُ المُكْنَةُ في التَّدْبِيرِ والنَّفاذِ في كُلِّ أمْرٍ، وهو يَدُلُّ عَلى اشْتِراطِ العِلْمِ في المُلْكِ، وفي تَقْدِيمِهِ أنَّ الفَضائِلَ النَّفْسانِيَّةَ أشْرَفُ مِنَ الجُسْمانِيَّةِ وغَيْرِها، وأنَّ المُلْكَ لَيْسَ بِالإرْثِ ﴿والجِسْمِ﴾ الَّذِي بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنَ الظَّفَرِ بِمَن بارَزَهُ مِنَ الشُّجْعانِ وقَصَدَهُ مِن سائِرِ الأقْرانِ. ولَمّا كانَ مَن إلَيْهِ شَيْءٌ كانَ لَهُ الخِيارُ في إسْنادِهِ إلى غَيْرِهِ قالَ: ﴿واللَّهُ﴾ أيِ اصْطَفاهُ والحالُ أنَّ المَلِكَ الَّذِي لا أمْرَ لِغَيْرِهِ ﴿يُؤْتِي مُلْكَهُ﴾ أيِ الَّذِي هو لَهُ ولَيْسَ لِغَيْرِهِ فِيهِ شَيْءٌ ﴿مَن يَشاءُ﴾ (p-٤١٩)كَما آتاكُمُوهُ بَعْدَ أنْ كُنْتُمْ مُسْتَعْبَدِينَ عِنْدَ آلِ فِرْعَوْنَ ﴿واللَّهُ﴾ الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ الكامِلَةُ فَلا يَجُوزُ الِاعْتِراضُ عَلَيْهِ ﴿واسِعٌ﴾ أيْ في إحاطَةِ قُدْرَتِهِ وشُمُولِ عَظَمَتِهِ وكَثْرَةِ جُنُودِهِ ورِزْقِهِ ﴿عَلِيمٌ﴾ أيْ بالِغُ العِلْمِ، فَما اخْتارَهُ فَهو المُخْتارُ ولَيْسَ لِأحَدٍ مَعَهُ خِيَرَةٌ فَهو يَفْعَلُ بِما لَهُ مِنَ السَّعَةِ في القُدْرَةِ والعِلْمِ ما قَدْ لا تُدْرِكُهُ العُقُولُ ولا تَحْتَمِلُ وصْفَهُ الألْبابُ والفُهُومُ ويُؤْتِي مَن لَيْسَ لَهُ مالٌ مِن خَزائِنِ رِزْقِهِ ما يَشاءُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب