الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿فَإذا لَقِيْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إذا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثاقَ فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها ذَلِكَ ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهُمْ ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمالَهُمْ ﴾ [محمد: ٤].
أمَرَ اللهُ بجهادِ الكافِرِينَ والشِّدَّةِ عليهم في ذلك، وعندَ لقاءِ العدوِّ في الحربِ يُضرَبُ بما يُفْنِيهِ، ويُقدَّمُ القتلُ على الأَسْرِ، حتى يتحقَّقَ الإثخانُ فيهم، فإذا تمَّ الإثخانُ فيهم وتحقَّقَ تنكيلُهم، يُقدَّمُ الأَسْرُ، وهذه الآيةُ نظيرُ قولِهِ تعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا واللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: ٦٧]، وقد تقدَّم فيها الكلامُ على تقديمِ القتلِ على الأَسْرِ في بدايةِ القتالِ والحِكْمةِ مِن ذلك، وكذلك تقدَّم حُكْمُ ضربِ العدوِّ كيفما اتَّفَقَ وإصابتِهِ في أيِّ موضعٍ، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿فاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْناقِ واضْرِبُوا مِنهُمْ كُلَّ بَنانٍ ﴾ [الأنفال: ١٢].
حُكْمُ أسْرى المشرِكِينَ:
في قولِه تعالى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزارَها﴾ التخييرُ في التعامُلِ مع الأَسْرى: إمّا بالمَنِّ عليهم وإطلاقِهِمْ تأليفًا لهم ولقومِهم، وإمّا بمُفاداتِهم بأَسْرى المُسلِمِينَ أو بالمالِ.
وقد اختُلِفَ في نَسْخِ هذه الآيةِ:
فمنهم: مَن قال: بأنّها منسوخةٌ بقولِه تعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وبه قال قتادةُ[[«تفسير الطبري» (٢١ /١٨٤).]]، والحَكَمُ[[«تفسير القرطبي» (١٩ /٢٤٥).]]، ويُروى النسخُ عن ابنِ عبّاسٍ، رواهُ عنه العَوْفِيُّ[[«تفسير الطبري» (٢١ /١٨٥).]]، وقد خالَفَه عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ بعدمِ النَّسْخِ، وأنّ الإمامَ مخيَّرٌ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٢).]]، وهو أصحُّ.
وأكثرُ العلماءِ على عدمِ النَّسْخِ، وبه قال مِن السلفِ عطاءٌ والحسنُ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وغيرُهم[[ينظر: «تفسير الطبري» (٢١ /١٨٥ ـ ١٨٦)، و«تفسير القرطبي» (١٩ /٢٤٦).]].
وقد اختلَفَ العلماءُ في أسْرى المشركينَ بينَ التخييرِ بينَ القتلِ والمَنِّ والفِداءِ، وبينَ تقديمِ واحدٍ منها على الآخَرِ، على أقوالٍ:
قالتْ طائفةٌ: إنّه مخيَّرٌ بينَ المَنِّ والفِداءِ، وليس له القتلُ، أخذًا مِن ظاهرِ الآيةِ، وأنّ اللهَ خيَّرَ بينَهما، ولم يُخيِّرْهُ بالقتلِ، وصحَّ هذا عن عطاءِ بنِ أبي رَباحٍ والحَسَنِ[[«تفسير الطبري» (٢١ /١٨٥ ـ ١٨٦).]]، ورأَوْا أنّ الأسيرَ لا يُقتَلُ إلاَّ في الحربِ.
وقال بعضُهم: إنّه يجبُ فيهم القتلُ، وإنّ التخييرَ منسوخٌ على ما تقدَّمَ حكايتُه، وممَّن قال بهذا القولِ مَن جعَلَ الآيةَ خاصَّةً بأهلِ الأوثانِ، فلا يُفادَوْنَ ولا يُمَنُّ عليهم، وفيه نظرٌ.
ومنهم مَنِ استثنى المرأةَ، لأنّها لا تُقتَلُ، فيجوزُ الفِداءُ بها.
وبقتلِ الأُسارى قال أبو حنيفةَ، حتى لا يعُودوا لقتالِ المُسلِمِينَ.
وقال جمهورُ الفقهاءِ: بأنّه مخيَّرٌ بينَ القتلِ والمَنِّ والفِداءِ والاسترقاقِ، وهذا الأرجحُ، فقد قتَلَ النبيُّ ﷺ أقوامًا مِن أسْرى الكافرينَ، ففي بَدْرٍ قتَلَ النضرَ بنَ الحارثِ، وعُقْبةَ بنَ أبي مُعَيْطٍ، وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ أنّ ثُمامَةَ بنَ أُثالٍ قال لرسولِ اللهِ ﷺ حينَ قال له: «ما عِنْدَكَ يا ثُمامَةُ؟»: «إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلى شاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المالَ، فَسَلْ تُعْطَ مِنهُ ما شِئْتَ»[[أخرجه البخاري (٤٣٧٢)، ومسلم (١٧٦٤).]].
وإنّما لم يُذكَرِ القتلُ في الآيةِ، لظهورِهِ، وقد كان سابقًا مِن النبيِّ ﷺ في مواضعَ مِن الأَسْرى، والحاجةُ ماسَّةٌ لبيانِ الحقِّ بالفِداءِ أو المَنِّ، وقد قتَلَ النبيُّ ﷺ أسْرى في بدرٍ، وقتَلَ رجالَ بني قُرَيْظةَ، وهذا العملُ المشتهِرُ لو كان منسوخًا، لنُسِخَ بنصٍّ واضحٍ بيِّنٍ، لأنّه ليس بالأمرِ الهيِّنِ، ولَتَجَلّى في عملِ الصحابةِ.
وبالتخييرِ بينَ القتلِ والمَنِّ والفِداءِ والرِّقِّ قال جمهورُ الأئمَّةِ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عبّاسٍ، وجاء عن ابنِ عمرَ والثوريِّ والأوزاعيِّ، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، وهو قولٌ لأبي حنيفةَ حكاهُ عنه الطحاويُّ.
وقد رَوى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، في قولِهِ تعالى: ﴿ما كانَ لِنَبِيٍّ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧]، قال: ذلك يومَ بَدْرٍ والمُسْلِمونَ يَوْمَئِذٍ قليلٌ، فلمّا كَثُرُوا واشتَدَّ سُلْطانُهم، أنزَلَ اللَّهُ تعالى بعدَ هذا في الأُسارى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾، فجعَلَ اللهُ النبيَّ والمؤمنينَ في الأُسارى بالخِيارِ: إنْ شاؤوا قَتَلُوهم، وإنْ شاؤوا استعبَدُوهم، وإن شاؤوا فادَوْهم[[«تفسير الطبري» (١١ /٢٧٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٧٣٢).]].
وقد حكى الجصّاصُ الاتفاقَ على جوازِ قتلِ الأسيرِ[[«أحكام القرآن» للجصاص (٥ /٢٦٩).]]، والصوابُ: أنّه المذهبُ الصحيحُ لعامَّتِهم.
وقد تقدَّم الكلامُ على مسألةِ فَكاكِ أسْرى المُسلِمِينَ ومُفاداتِهم بأَسْرى الكفارِ، وحُكْمِ فَكاكِ أسْرى المُسلِمِينَ بهم وبالمالِ، عندَ قولِهِ تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٣]، وقولِه تعالى: ﴿والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أخْرِجْنا مِن هَذِهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها﴾ [النساء: ٧٥].
وتقدَّم الكلامُ في التعامُلِ مع الأسيرِ وتعذيبِهِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٤].
{"ayah":"فَإِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّوا۟ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَاۤءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَ ٰلِكَۖ وَلَوۡ یَشَاۤءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَا۟ بَعۡضَكُم بِبَعۡضࣲۗ وَٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ فَلَن یُضِلَّ أَعۡمَـٰلَهُمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق