الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهُمْ يَخشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: ٧٧].
هذه الآيةُ إخبارٌ عمّا كان عليه النبيُّ ﷺ في أمرِ الجهادِ زمنَ مكةَ قبلَ الهجرةِ، وذلك أنّ المُسلِمينَ كانوا في ضَعْفٍ، فكان مَن أسلَمَ شَعَرَ باستذلالِ المُشرِكِينَ للمُسلِمِينَ، فاستثقَلُوا الذِّلَّةَ على الإسلامِ بعدَ العِزَّةِ على الكفرِ، فأخَذَتْ بعضَهُمُ الحَمِيَّةُ ليَنتصِرُوا لأنفسِهِمْ وللإسلامِ، فاستأذَنُوا النبيَّ في القتالِ، وكانوا في زمنِ ضَعفٍ وقِلَّةِ عددٍ، فأنزَلَ اللَّهُ على نبيِّه ﷺ هذه الآيةَ: ﴿كُفُّوا أيْدِيَكُمْ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾، فقد روى النَّسائيُّ في «سُننِه»، وابنُ جريرٍ، وغيرُهما، مِن حديثِ عِكْرِمةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وأَصْحابًا لَهُ أتَوُا النَّبِيَّ ﷺ بِمَكَّةَ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، إنّا كُنّا فِي عِزٍّ ونَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمّا آمَنّا، صِرْنا أذِلَّةً؟! فَقالَ: (إنِّي أُمِرْتُ بِالعَفْوِ، فَلا تُقاتِلُوا)[[أخرجه النسائي (٣٠٨٦) (٦/٢)، والطبري في «تفسيره» (٧/٢٣١)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (٣/١٠٠٥).]].
وقال بعضُ السلفِ: إنّ الآيةَ نزَلَتْ في اليهودِ، فقد روى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهدٍ، قال: «نزلَتْ في اليهودِ»، رواهُ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٣٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٠٣).]].
ورواهُ ابنُ المُنذِرِ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن مجاهِدٍ، به[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٣).]].
والأصحُّ: أنّها في المُسلِمِينَ بمكةَ، لِما تقدَّمَ عن ابنِ عبّاسٍ، وبنحوِه صحَّ عن قتادةَ، رواهُ ابنُ المُنذِرِ وابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٣٢)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٤).]]، وصحَّ عن عِكْرِمةَ، رواهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٢٣٢).]].
ويُؤيِّدُ هذا: أنّ ابنَ عبّاسٍ قد فسَّرَ الزكاةَ في الآيةِ بغيرِ النفقةِ، لأنّ الزكاةَ لم تُفرَضْ بعدُ، فروى عليُّ بنُ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: ﴿وآتُوا الزَّكاةَ﴾، يعني: طاعةَ اللهِ والإخلاصَ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/١٠٠٤).]].
أسبابُ النصرِ والتمكينِ، وأنواعُها:
وفي هذه الآيةِ: وجوبُ اجتماعِ أسبابِ النصرِ والتمكينِ عندَ مجاهَدةِ العدوِّ، والأسبابُ في ذلك على نوعَيْنِ: أسبابٌ شرعيَّةٌ، وأسبابٌ كونيَّةٌ، وقد اجتمَعَ للنبيِّ ﷺ في مكةَ الأسبابُ الشرعيَّةُ، ولم تجتمِعْ له الأسبابُ الكونيَّةُ:
أمّا الأسبابُ الشرعيَّةُ: فهي الصِّدْقُ مع اللهِ، والعدلُ في حقِّه وحقِّ الخَلْقِ، ومَن كانوا مع النبيِّ في مكةَ هم أفضلُ أهلِ الأرضِ في زمانِهم، وأفضلُ الصحابةِ الذين جاؤُوا مِن بَعْدِهم، ولكنَّ عَدَدَهم قليلٌ وعُدَّتَهم ضعيفةٌ، فما حَمَلَهم كمالُ إيمانِهم وتمامُ فَضْلِهم على تركِ السببِ الكونيِّ، وهو القوةُ والقُدْرةُ، ولمّا قَصَرُوا عنها قال اللَّهُ لهم: ﴿كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾، لأنّه قد يُهزَمُ المؤمِنُ الصادِقُ، لِضَعْفِ عُدَّتِه، وقلةِ عَدَدِه، مِن الكافرِ الظالمِ، لقوةِ عُدَّتِه، وكثرةِ عَدَدِه، لأنّ اللهَ الذي أنزَلَ الأسبابَ الشرعيَّةَ، هو الذي أوجَدَ الأسبابَ المادِّيَّةَ، والأخذُ بهما مِن الإيمانِ باللهِ، وليس المأمورُ به مساواةَ العدوِّ بالعَدَدِ والعُدَّةِ أو غَلَبَتَهُ بها، بل أنْ يكونَ في المُسلِمينَ قوةُ عُدَّةٍ وكثرةُ عَدَدٍ، يَقْوَوْنَ بإيمانِهم مِن غَلَبَةِ العدوِّ ولو كان أكثَرَ منهم.
والأسبابُ الشرعيَّةُ كثيرةٌ، أصلُها الإيمانُ باللهِ، والتزوُّدُ بالعملِ الصالحِ، فإنّ العباداتِ تُثَبِّتُ عندَ الشدائدِ، وقد كان اللهُ يأمُرُ بها كلَّ نبيٍّ، فلا يكونُ الاستِخلافُ والتمكينُ إلاَّ لمَن أطاعَهُ وعدَلَ مع خَلْقِهِ: ﴿وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥].
وبمقدارِ الإيمانِ والطاعةِ يكونُ الاستخلافُ والتمكينُ، والطاعةُ هي الخضوعُ للهِ والتذلُّلُ لأمرِه، وهي باعتبارِ التمكينِ والنصرِ على نوعَيْنِ:
الأولُ: طاعةٌ في حقِّ اللهِ الخالِصِ كتوحيدِهِ وعبادتِه، مِن صلاةٍ وصيامٍ، وحجٍّ وعُمْرةٍ، وذِكْرٍ وبِرٍّ، فهذا النوعُ وعَدَ اللهُ الأفرادَ والجماعاتِ التي تقومُ به بالعِزَّةِ والرِّفعةِ، وهي في الأفرادِ آكَدُ وأقرَبُ وأشَدُّ مِن الجماعاتِ، فالفردُ موعودٌ بسَعَةِ الصدرِ واليقينِ والثباتِ والرِّضا، وكلَّما استزادَ مِن العبادةِ، زادَهُ اللهُ مِن وعْدِهِ له بذلك، قال تعالى: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: ٩٧]، والحياةُ الطيِّبةُ شاملةٌ للدُّنيا والآخِرةِ، كما في قولِه تعالى في ضدِّ ذلك: ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى ﴾ [طه: ١٢٤].
وكذلك: فإنّ الجماعاتِ المؤمِنةَ باللهِ يجعَلُ اللهُ لها مِن الرحمةِ ما ليس للجماعاتِ والأُمَمِ الكافرةِ، ولو نزَلَ بالمؤمنةِ بلاءٌ، فهو تطهيرٌ وتمييزٌ لها مِن خَبَثِها.
ولكنَّ العِباداتِ المُتعلِّقةَ بحقِّ اللهِ الخالصِ تتعلَّقُ في الدُّنيا بقِوامِ الأفرادِ وثَباتِهِمْ أعظَمَ مِن تعلُّقِها بقِوامِ الدُّوَلِ والجماعاتِ، وتعلُّقُ قِوامِ الجماعاتِ والدولِ بالنوعِ الثاني مِن عِبادةِ اللهِ أعظَمُ، وهو ما يلي:
النوعُ الثاني: طاعةُ اللهِ في حقِّ العِبادِ، مِن إقامةِ الحدودِ، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ورفعِ الظُّلْمِ والجَوْرِ الذي أوجَدَ اللهُ في الفِطْرةِ نُفُورًا منه، فلا يُمَكِّنُ اللهُ لدولةٍ مؤمنةٍ به ظالمةٍ لخَلْقِه، لأنّ حقَّ اللهِ يُؤَجِّلُهُ في الآخِرةِ، وحَقَّ عِبادِه يُعَجِّلُهُ في الدُّنيا، وهذا مُقتضى عدلِه في الخَلْقِ، فيُمَكِّنُ للحاكِمِ العادلِ مع الخَلْقِ ولو كان كافرًا بالخالقِ، ولا يُمكِّنُ للحاكِمِ الظالمِ مع الخَلْقِ ولو كان مؤمنًا بالخالقِ.
والأسبابُ الشرعيَّةُ ـ وخاصَّةً العباداتِ ـ إنْ غابتْ مِن القلبِ واللِّسانِ والجوارحِ، لم يكنْ للإنسانِ تعلُّقٌ بربِّه، ولم يكنْ رَبُّهُ مُعِينًا له، لهذا يكونُ ميزانُ النصرِ ماديًّا كونيًّا فقطْ، إذْ لا عَوْنَ ربانيًّا له، وإذا وُجِدَتِ الأسبابُ الشرعيَّةُ، عَوَّضَتِ النقصَ والتفاوُتَ الكونيَّ المادِّيَّ بينَ أهلِ الحقِّ وأهلِ الباطلِ، حتى ربَّما ينتصِرُ أهلُ القِلَّةِ الشديدةِ على أهلِ الكثرةِ الكبيرةِ، والحدُّ الفاصلُ في ذلك: مرهونٌ لاعتبارِ الموجودِ والمفقودِ مِن السببَيْنِ الشرعيِّ والكونيِّ، ووزنُ ذلك بما لا يخرُجُ عن الوحيِ والحسِّ، فمَراتبُ الناسِ تتبايَنُ، فقد تَقْوى الأسبابُ الشرعيَّةُ جِدًّا حتى يكونَ أدنى الأسبابِ الكونيَّةِ وأقلُّها معها كافيًا في النصرِ، كمُوسى وعَصاهُ، فإنّ اللهَ نَصَرَهُ بها، وليس كلُّ الناسِ كمُوسى، وموسى لو لم يُؤمَرْ مِن ربِّه بالاكتِفاءِ بالعَصا، لم يَكْتَفِ بها، فإنّ الإنسانَ مأمورٌ بالمُوازَنةِ بينَ الأسبابِ الكونيَّةِ والشرعيَّةِ.
ولكنِ الذي لا خلافَ فيه: أنّ اللهَ لا ينصُرُ أحدًا ولو كان نبيًّا مِن أنبيائِهِ إلاَّ بسببٍ كونيٍّ ولو كان يسيرًا، وهذا مُقتضى إحكامِ الكونِ وعدمِ عشوائيَّتِهِ ودَوَرانِهِ في فَلَكٍ سببيٍّ دقيقٍ لا يخرُجُ عنه، ولهذا لم يَفْلِقِ اللهُ لموسى البحرَ إلاَّ بضربِ العَصا، واللهُ قادرٌ على فَلْقِهِ بلا عَصًا، ولم يُسقِطِ التمرَ على مريمَ إلا بِهَزِّ جِذْعِ النخلةِ، وهو قادرٌ على أنْ يُدْنِيَهُ بلا هَزٍّ، وسدَّدَ اللهُ رَمْيَ النبيِّ محمدٍ ﷺ فلم يُخطِئْ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ [الأنفال: ١٧]، واللهُ قادرٌ على هزيمتِهم بلا رميٍ، ولكنَّ الأسبابَ لا بدَّ مِن وجودِها، وربَّما تَدِقُّ جِدًّا حتى يظُنَّ الإنسانُ في الدُّنيا أنْ لا وجودَ لها في حادثةٍ بعينِها، وهي موجودةٌ، لكنَّها خفيَّةٌ.
التلازُمُ بين أسبابِ النصر الشرعيَّةِ والكونيَّةِ:
وإذا قَوِيَتِ الأسبابُ الشرعيَّةُ، عوَّضَ اللهُ بها ضَعْفَ الأسبابِ الكونيَّةِ، ولكنْ لا تُغني الأسبابُ الشرعيَّةُ ولو اجتمَعَتْ، عن الأسبابِ الكونيَّةِ إذا انتفَتْ، فإنّ حدوثَ الحوادثِ في الكونِ بلا أسبابِها يَقْدَحُ في إحكامِ الكونِ، وقد يغترُّ الناسُ بمَن يَجري على يدَيْهِ ذلك مِن الأولياءِ ويظنُّونَهم آلِهةً، فلا يُقَدِّرُ الحوادثَ بلا سببٍ إلا مُوجِدُها بعدَ العَدَمِ، وهو اللهُ.
ولمّا كان الذي يُباشِرُ الحوادِثَ هم الخَلْقَ، أمَرَهُمُ اللهُ بالأَخْذِ بالأسبابِ التي أوجَدَها شرعيَّةً وكونيَّةً، فإنْ ضعُفَتِ الأسبابُ الكونيَّةُ، أكثَرُوا مِن الأسبابِ الشرعيَّةِ، لِيُعوِّضَهم اللهُ عنها، لِيُحْدِثَ اللهُ أسبابًا كونيَّةً أضعَفَ بالأخذِ وأيسَرَ بالإمكانِ ولو كانتْ خفيَّةً لطيفةً تُؤَثِّرُ أعظَمَ مِن الأسبابِ الظاهرةِ، كما كان النبيُّ ﷺ يُكثِرُ مِن الدعاءِ، ويُلِحُّ في الشدائدِ بالدعاءِ، كما في أُحُدٍ وبَدْرٍ والأحزابِ بالدعاءِ يستجلِبُ عونَ اللهِ وتسديدَهُ ونَصْرَهُ، لهذا ما مِن نبيٍّ إلا وأخَذَ بالأسبابِ الشرعيَّةِ والكونيَّةِ للنصرِ جميعًا.
الذنوبُ وأثرُها على النصرِ:
ومِن الأسبابِ الشرعيَّةِ: التخلِّي عن الذُّنُوبِ، كما في قولِه تعالى: ﴿رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وإسْرافَنا فِي أمْرِنا وثَبِّتْ أقْدامَنا وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ ﴾ [آل عمران: ١٤٧]، فسأَلُوا اللهَ الغُفْرانَ قبلَ سؤالِهِ الثباتَ والنصرَ، فإنّ الذُّنُوبَ تُؤخِّرُ النصرَ وتَحِيقُ بأهلِها، كما قال نبيُّ اللهِ: ﴿فَمَن يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ﴾ [هود: ٦٣].
ومنها: الإكثارُ مِن الدعاءِ، وطلبُ النصرِ مِن اللهِ، والتوكُّلُ عليه، كقولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
ومنها: إقامةُ العدلِ، ودفعُ الظُّلْمِ، فالظالِمُ لا يُنصَرُ، وإنْ غَلَبَ لا يتمكَّنُ، فاللهُ لا يُمكِّنُ للظالمِ وإنْ جعَلَ له الغَلَبَةَ، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: ١٣٥]، وقد يتمكَّنُ الظالمُ على مَن هو أشَدُّ ظُلْمًا منه عندَ غيابِ العادلِ، فالله يُمكِّنُ للأَعْدَلِ والأخَفِّ ظُلْمًا.
وأمّا الأسبابُ الكونيَّةُ: فهي ما أوْجَدَهُ اللهُ في الكونِ مِن قوةٍ لازمةٍ لحدوثِ حادثٍ تابعٍ للأخذِ بها، وهي مختلِفةٌ، فلا حَدَّ لها ولا حَصْرَ، ولا يعلَمُ حدَّها، ونوعَها وعدَدَها، وقُوَّتَها وأثَرَها، ومُبتداها ومُنتهاها، إلاَّ مُوجِدُها، وهو اللهُ، وما خَفِيَ مِن الأسبابِ أعظَمُ مما ظهَرَ وأكثَرُ، والإنسانُ مأمورٌ بالأخذِ بما ظهَرَ له، وقد تتحقَّقُ النتائجُ غالبًا بالأسبابِ الظاهرةِ، وقد لا يُحقِّقُها اللهُ لحِكْمةٍ بأسبابٍ خفيَّةٍ أقوى مِن الظاهرةِ، وكلٌّ في الدُّنيا يَجري بسببٍ، ولكنَّ الناسَ يأخُذُونَ ما يرَوْنَ وقد يكونُ ضعيفَ الأثرِ بالنسبةِ لِما خَفِيَ عنهم.
وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى الأخذِ بالسببِ الكونيِّ، ولو كان ثمَّةَ كفايةٌ في السببِ الشرعيِّ، فحينَما طلَبَ الصحابةُ بمكَّةَ إلى النبيِّ ﷺ قتالَ المشرِكِينَ، أمَرَهُمْ بالعفوِ والكَفِّ، والكفُّ والعفوُ عندَ الضَّعْفِ مع التربُّصِ والإعدادِ: مِن سُنَنِ اللهِ في خَلْقِهِ كونًا وشرعًا.
طبائعُ النفوسِ، وأثَرُها على اختيارِ الحقِّ:
وقد يكونُ في بعضِ النفوسِ شجاعةٌ وإقدامٌ تُخالِفُ الأمرَ الشرعيَّ، فيجبُ على أصحابِها مُجاهَدةُ أنفسِهِمْ للنزولِ لحُكْمِ اللهِ، فطبائعُ النفوسِ تُؤثِّرُ في قناعاتِها، فمَن جَبَلَهُ اللهُ على الشجاعةِ، يظُنُّ الإقدامَ هو الحقَّ، ومَن جَبَلَهُ اللهُ جَبانًا، يظُنُّ أنّ الركونَ والسلامةَ هي الحقُّ، وقد لا يُوافِقُ الحقُّ الطبعَ، فيجبُ على الشجاعِ مجاهَدةُ نفسِهِ ليَرجِعَ إذا أمَرَهُ اللهُ بالرجوعِ، ويجبُ على الجبانِ مجاهَدةُ نفسِه ليُقدِمَ إذا أمَرَهُ اللهُ بالإقدامِ، وطبائعُ النفوسِ بلاءٌ تُبتلى به تحتاجُ معه إلى مجاهَدةٍ، وبمقدارِ قوةِ إيمانِ العبدِ وتسليمِهِ للهِ يكونُ وقوفُهُ عندَ أوامرِ اللهِ ومجاهدتُهُ لنفسِه، وإذا ضعُفَ إيمانُ الإنسانِ، عَمِلَ الشيءَ بما يُشبِعُ طَبْعَهُ وهواهُ ويَظُنُّ أنّه للهِ، فعمرُ بنُ الخطّابِ جُبِلَ شجاعًا، فكان جهادُهُ لنفسِهِ في الإحجامِ أكثَرَ مِن الإقدامِ، فكان وقّافًا على أمرِ اللهِ، لقوةِ إيمانِهِ يَغلِبُ قوةَ طبعِه، وهذا كما أنّه في القتالِ والجهادِ، فكذلك طبائعُ النفوسِ في السَّرَفِ في الإنفاقِ والبخلِ، فمَن جُبِلَ باذلًا ولا يَحسُبُ، يُؤمَرُ بمُجاهَدةِ نفسِه حتى لا يُسرِفَ، ومَن جُبِلَ بخيلًا يُؤمَرُ بمجاهَدةِ النفسِ بالبَذْلِ، حتى يَعْدِلَ المُسْرِفُ والمُمْسِكُ وفْقَ أمرِ الله، لا وفْقَ كلِّ واحدٍ وما يَهْواه.
والنفوسُ المطبوعةُ على شيءٍ إنْ كانتْ عالِمةً بالأدلَّةِ، تَحفَظُ وتَجمَعُ مِن الأدلَّةِ ما يُوافِقُ هواها ولا تَشعُرُ، وتتغافَلُ عن نصوصٍ تُخالِفُ طَبْعَها، فتجدُ الشجاعَ يَحفَظُ أدلةَ الإقدامِ وتَلتقِطُها نفسُهُ ولا يشعُرُ وتغفُلُ عمّا يُخالِفُها، ومِثلُهُ الجبانُ يَحفَظُ أدلَّةَ السلامةِ وتَلتقِطُها نفسُه ولا يشعُرُ وتغفُلُ عمّا يُخالِفُها ولو سَمِعَتْهُ مِرارًا.
والأسبابُ الكونيَّةُ التي أمَرَ اللهُ بها كثيرةٌ:
منها: الاجتماعُ، فإنّ الكثرةَ تُرهِبُ العدوَّ، وتشُدُّ مِن عزائمِ أهلِها، وهذا أمرٌ فِطريٌّ مُؤثِّرٌ في كلِّ نفسٍ مُدْرِكَةٍ ولو كانتْ حيوانًا، ففي «السُّننِ»، مِن حديثِ أبي الدَّرْداءِ، قال ﷺ: (عَلَيْكُمْ بِالجَماعَةِ، فَإنَّما يَأْكُلُ الذِّئْبُ القاصِيَةَ) [[أخرجه أبو داود (٥٤٧) (١/١٥٠)، والنسائي (٨٤٧) (٢/١٠٦).]]، ولذا أمَرَ اللهُ بهذا السببِ، فقال: ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وبيَّنَ أنّ الفُرْقةَ سببٌ للهزيمةِ، فقال: ﴿ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦]، فقِلَّةٌ مجتمِعةٌ أقرَبُ إلى النصرِ مِن كثرةٍ متفرِّقةٍ.
ومنها: التريُّثُ وعدمُ العَجَلَةِ، فإنّ العَجَلَةَ تُنافي الصبرَ، فلا ينتصرُ أحدٌ إلاَّ بصبرٍ، وقد قال اللهُ عن الأنبياءِ: ﴿فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتّى أتاهُمْ نَصْرُنا﴾ [الأنعام: ٣٤]، وقال تعالى: ﴿وما يُلَقّاها إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ [فصلت: ٣٥]، وقال تعالى: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ [آل عمران: ١٢٠].
وكثيرًا ما تُستعجَلُ النتائجُ بلا صبرٍ، فيُحرَمُ الناسُ النصرَ، فالصابرُ ولو كان على باطلٍ أقرَبُ إلى النصرِ مِن المُستعجِلِ ولو كان على حقٍّ، وربَّما يُهزَمُ الصادقُ بسببِ عَجَلَتِه، وينتصِرُ الكاذبُ لصبرِه، فيَشُكُّ الصادقُ في طريقِه، وسببُ الهزيمةِ العَجَلَةُ لا الحقُّ الذي معه.
أثَرُ طلبِ النصر بلا صَبْرٍ:
فإنّ المُستعجِلَ في طلبِ النصرِ بلا صبرٍ، لا بدَّ أنْ يُبتلى بإحدى ثلاثٍ:
ـ إمّا أنْ يَستبطئَ النصرَ، فيَنقطِعَ ويترُكَ السيرَ وينعزِلَ، ويَرى أنّ الركونَ والعُزْلةَ بما معه مِن حقٍّ خيرٌ مِن سَيْرِهِ في طريقٍ لا نهايةَ له، وهذا أحْسَنُهم حالًا.
ـ وإمّا أنْ يُبدِّلَ طريقَهُ ويتنازَلَ عن رسالتِه، فيُغَيِّرَهُ كلَّهُ أو بعضَهُ بحسَبِ ثباتِهِ ويقينِهِ بما معه، لأنّه يظُنُّ أنّ عدمَ وصولِه إلى النصرِ بسببِ شائبةٍ في الحقِّ الذي معه، فيتنازَلُ عن بعضِهِ أو يترُكُهُ كلَّه، وأكثرُ المُنتكِسِينَ عن الحقِّ طلَبُوا النصرَ بلا صبرٍ.
ـ وإمّا أنْ يَستعجِلَ السيرَ بما معه مِن حقٍّ كاملٍ فيَتَّخِذَ أسبابًا لا تُؤخَذُ، كما لو استعجَلَ أهلُ مكةَ قتالَ قريشٍ وهم بمَكَّةَ، ولكنَّ اللهَ عصَمَهُمْ بالنبيِّ ﷺ وما معه مِن الوحيِ، ومَن استعجَلُوا السيرَ بما معهم مِن حقٍّ كاملٍ: يُعْمِيهِم كمالُ الحقِّ الذي معهم عن سبيلِ السلامةِ لوصولِه، فيَنهزِمُونَ ويَفْتِنُونَ عدوَّهم ويَفْتِنُونَ أتْباعَهم، كما قال تعالى: ﴿فَقالُوا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ ﴾ [يونس: ٨٥]، وقال: ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الممتحنة: ٥]، يعني: لا تَهْزِمْنا بأيدِيهِم فيُفْتَنُوا بهزيمتِنا، فيَظُنُّوا أنّهم على الحقِّ، كما جاء عن ابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ وغيرِهما[[«تفسير الطبري» (٢٢/٥٦٩).]].
وهزيمةُ أهلِ الحقِّ فتنةٌ لأهلِ الباطلِ ومَن في قلبِهِ مرضٌ مِن أهلِ الحقِّ، وهذه الفتنةُ يجبُ دفعُها بدفعِ أسبابِها:
ومنها: عدمُ الإقدامِ في زمنِ الضعفِ، وتركِ الإعدادِ والقتالِ في زمنِ القوَّةِ.
ومنها: معرفةُ أنواعِ الأعداءِ، وقوَّتِهم وضَعْفِهم، وقُرْبِهم وبُعْدِهم مكانًا ودينًا بالنسبةِ لقوةِ المُسلِمِينَ معهم، فمِن السُّنَّةِ الكونيَّةِ: ألاَّ يُواجِهَ أهلُ الحقِّ أهلَ الباطلِ جميعًا، حتى لا يَتواطَؤوا عليهم مرةً واحدةً، فمَنِ اسْتَعْدى جميعَ أهلِ الباطلِ، اجتمَعُوا عليه، ولذا فإنّ النبيَّ ﷺ فرَّقَ بينَ البَراءِ وبينَ الاستعداءِ، فالبراءُ عقيدةٌ، والاستعداءُ سياسةٌ يَقبَلُ التعجيلَ والتأجيلَ، ولكنَّه لا يقبلُ الإلغاءَ، والبراءُ لا يقبلُ التأجيلَ فضلًا عن الإلغاءِ.
التفريقُ بين الخصومِ، وعدَمُ جَعْلِهم في مرتبةٍ واحدةٍ:
وقد كان النبيُّ ﷺ في عَهْدَيْهِ بمكةَ والمدينةِ يُفرِّقُ بينَ خصومِهِ ولو اجتمَعُوا في المِلَّةِ، ففي مكةَ فرَّقَ بينَ كافرٍ مُناصِرٍ كأبي طالبٍ، وبينَ كافرٍ مُعادٍ كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ وصَفْوانَ وأُبَيِّ بنِ خَلَفٍ وغيرِهم، فتبرَّأَ مِن عقيدةِ الجميعِ، ولم يَسْتَعْدِ أبا طالبٍ لنُصْرَتِه.
وعندَما هاجَرَ إلى المدينةِ كَثُرَ أعداؤُهُ، وكَثُرَ أصحابُهُ، والأعداءُ يُفرِّقُ بينَهم بحسَبِ بُعْدِهم وقُرْبِهم، وشدةِ عداوتِهم وخِفَّتِها، فباعتبارِ القُرْبِ والبُعْدِ: فالقريبُ: كاليهودِ والمُنافِقِينَ، والبعيدُ: كالمشرِكِينَ بمكةَ، ثمَّ النَّصارى في الشامِ وطَيِّئٍ ونَجْرانَ وغيرِها، والمَجُوسِ في فارسَ وما وراءَها.
وباعتبارِ شِدَّةِ العداوةِ وخِفَّتِها: فأشدُّهم عداوةً اليهودُ والمشركونَ، كما قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [المائدة: ٨٢]، والمشركونَ أبعَدُ مِن اليهودِ، وأقرَبُهم مودَّةً الذين قالوا: إنّا نصارى.
والنَّصارى بعيدون.
الفرقُ بين عقيدةِ البَراء وسياسةِ الاستعداءِ:
وسياسةُ النبيِّ ﷺ ألاَّ يَسْتَعْدِيَ جميعَ خصومِه، وإنْ تبرَّأَ مِن دِينِهم كلِّه، وفرقٌ بينَ البَراءِ والاستعداءِ، وذلك أنّ البراءَ مِن الدِّينِ لا يُورِثُ صاحِبَهُ خوفًا مِن العزمِ على مُقاتَلَتِه، فالبراءُ لا يَلْزَمُ معه المُقاتَلةُ، وأمّا الاستعداءُ: فيُورِثُ خوفًا وترقُّبًا مِن تَبْيِيتِهِ ومُقاتَلَتِه، فيُعِدُّ العُدَّةَ، ويتحالَفُ مع جميعِ الخصومِ على أهلِ الحقِّ، ومَن تأمَّلَ حالَ النبيِّ ﷺ في المدينةِ، وجَدَ أنّه انشغَلَ بالعدوِّ الأقرَبِ، وهم اليهودُ والمُنافِقونَ، ولم يُكاتِبْ فارسَ والرومَ ولا ملوكَ العربِ إلاَّ بعدَ صلحِ الحُدَيْبِيَةِ حينَما أمِنَ قريشًا بالعهدِ عَشْرَ سِنِينَ، وما كتَبَ سوداءَ في بيضاءَ إليهم، لأنّ مُكاتَبَتَهُم تُشعِرُهُمْ بالاستعداءِ، وأهلُ المدينةِ في زمنِ قلةِ عَدَدٍ، وضَعفِ عُدَدٍ، وعدوٍّ قريبٍ أحَقَّ بالانشغالِ به.
فانشغَلَ النبيُّ بالمُنافِقينَ وتَبْيِينِ صِفاتِهم، ونزَلَتْ عليه سورتانِ وأربعونَ آيةً لمعالجةِ شرِّهم ونِفاقِهم القوليِّ والعمليِّ، حتى أصبَحُوا أشَدَّ احترازًا في إظهارِ مخالفاتِهم، ويَخافُونَ مِن الوحيِ أنْ يَنْزِلَ فيَفضَحَهم، لشدةِ تَتَبُّعِهِ لأقوالِهم وأفعالِهم، حتى بلَغَ تتبُّعَ حركاتِهم وملامحِ وُجُوهِهم، كما قال تعالى: ﴿وإذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِن أحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٧]، وكقولِهِ: ﴿فَإذا جاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أعْيُنُهُمْ كالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [الأحزاب: ١٩]، وكقولِهِ: ﴿فَإذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيها القِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ﴾ [محمد: ٢٠]، وهذه كلُّها تعابيرُ أوْرَثَتْهُم خوفًا وترقُّبًا وقلقًا، فلم تُحاصَرِ الأعمالُ والأقوالُ فحَسْبُ، بل حُوصِرَتْ تعابيرُ الوجوهِ، وأحوالُ العيونِ، حتى حُوصِرَتِ السرائرُ، كما قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ٦٤]، حتى بلَغَ بخِيارِ الصحابةِ ـ مع فَضْلِهم وسَبْقِهم ـ أنْ خافوا على أنفسِهِمْ مِن أوصافِ النِّفاقِ، فأخَذَ يَسألُ بعضُهُمْ بعضًا، حتى سأَلَ الفاروقُ عمرُ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمانِ أمِينَ سِرِّ النبيِّ ﷺ عن نفسِه.
وانشغَلَ النبيُّ ﷺ حِينَها باليهودِ، وهم العدوُّ القريبُ مع المُنافِقينَ، فكانتِ الآياتُ والأحكامُ في اليهودِ والمنافِقينَ في السِّتِّ السنواتِ الأُولى مِن الهجرةِ أكثَرَ مِن أحكامِ غيرِهم مِن المُشرِكِينَ والنصارى، ولم يَخرُجِ النبيُّ ﷺ إلى مكةَ مُعتمِرًا في السنةِ السادسةِ إلاَّ وقد حَصَرَ النِّفاقَ، وشتَّتَ يهودَ وأَضْعَفَها.
ولمّا كان اليهودُ مِلَّةً واحِدةً يَسْتَقْوِي بعضُهم ببعضٍ، فَرَّقَ بينَهم، فعاهَدَ قومًا وسالَمَهُمْ، وعادى آخَرِينَ وحارَبَهم، وكان أولَ ما بدَأَ به يهودُ بَني قَيْنُقاعَ، فحارَبَهم في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ، ثمَّ بَعْدَهم بنو النَّضِيرِ في السنةِ الرابعةِ، ثمَّ بنو قُرَيْظَةَ في السنةِ الخامسةِ، ولمّا شَتَّتَ يهودَ وأضعَفَهم وكسَرَ شَوْكَتَهم، توجَّهَ إلى مكةَ مُعتمِرًا، لِيُظهِرَ حقَّ المُسلِمِينَ في المسجدِ الحرامِ، ثمَّ مَنَعَتْهُ قريشٌ مِن الدخولِ إليها، وقد تحقَّقَ مقصودُهُ مِن إظهارِ قوَّتِه، وكثرةِ أتباعِه، حتى رأتْهُ قريشٌ فهابَتْهُ، فدخَلَ بعدَها بعامٍ بقوةٍ وعزةٍ وأكثَرَ تمكينًا.
وكلُّ غزواتِ النبيِّ ﷺ قبلَ ذلك كانت دفعًا لِصَوْلَةِ قريشٍ، فبَدْرٌ في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ، وأُحُدٌ في السنةِ الثالثةِ، والخَنْدَقُ في السنةِ الخامسةِ.
ومِن ذلك: تَبْيِيتُ النبيِّ ﷺ لأهلِ دُومَةِ الجَنْدَلِ في السنةِ الخامسةِ لمّا عَلِمَ بكيدِهِمْ والإغارةِ على قوافلِ المُسلِمينَ، ومِن ثمَّ العزمُ على غزوِ المدينةِ، فعاجَلَهُم النبيُّ ﷺ قبلَ استطارةِ شرِّهم، فدفَعَهُمْ في مكانِهم قبلَ أنْ يُبَيِّتُوهُ.
ولمّا أمِنَ النبيُّ ﷺ مِن عدوِّه القريبِ، كاتَبَ عدوَّه البعيدَ، فبدَأَ بعدَ الحُدَيْبِيَةِ بإرسالِ الرُّسُلِ وترغيبِهم في الحقِّ، وترهيبِهم مِن الباطلِ، وتخويفِهم مِن أمرِ اللهِ عليهم الذي يُجْرِيهِ على يَدَيْهِ إنْ خالَفُوه.
وقبلَ هذه المُكاتَباتِ كلِّها كان النبيُّ ﷺ يُظهِرُ البراءَ مِن المشرِكِينَ ودِينِهم لأُمَّتِه، والوَلاءَ للمؤمنينَ ودِينِهم، ويُعظِّمُ الجهادَ ويُعِدُّ العُدَّةَ، ولذلك فمِنَ الفتنةِ في الدِّينِ: ألاَّ يُفَرِّقَ الحاكِمُ بينَ سياسةِ النبيِّ ﷺ وحِكْمَتِهِ في مُهادَنةِ خصومِهِ ومُسالَمَتِهم، مع إعدادِ العُدَّةِ وتعظيمِ الجهادِ، انتظارًا لاجتماعِ القوةِ والقدرةِ، وبينَ مَن يتَّخِذُ مِن هذه السياسةِ بابًا لتعطيلِ الجهادِ والركونِ إلى الدُّنيا، بل والركونِ للكافِرينَ مِن دونِ المؤمِنينَ.
ومِن الأسبابِ الكونيَّةِ: إعدادُ العُدَّةِ والعَدَدِ لقتالِ العدوِّ، ويأتي تفصيلُ ذلك بإذن اللهِ في سورةِ الأنفالِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وأَعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ ومِن رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وقولِهِ: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلى القِتالِ إنْ يَكُنْ مِنكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وإنْ يَكُنْ مِنكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا ألْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٦٥].
ومِن المَعاني الباطلةِ التي يُورِدُها بعضُ الفُقهاءِ في آيةِ البابِ: ما يستدلُّ به بعضُ فُقهاءِ الرأيِ المتأخِّرينَ على استحبابِ السَّدْلِ في الصلاةِ استدلالًا بهذه الآيةِ: ﴿كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾، وهذا قولٌ لا سالفَ له مِن حديثٍ ولا أثَرْ، ولا يُقْبَلُ في لغةٍ ولا نَظَرْ.
الجهادُ وحُبُّ الدنيا:
وفي قولِه تعالى: ﴿فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهُمْ يَخشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾، وقولِه فيها بعدَ ذلك: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾: إشارةٌ إلى أنّ أعظَمَ ما يَصُدُّ الناسَ عن الجهادِ هو حبُّ الدُّنيا والخوفُ مِن فَوْتِها، وكلَّما تعلَّقَ الإنسانُ بالدُّنيا، تهيَّبَ الجهادَ ونَفَرَ منه وزَهِدَ فيه وكَرِهَهُ، وفي حديثِ نافعٍ عن ابنِ عمرَ، في «السُّننِ» مرفوعًا: (إذا تَبايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وأَخَذْتُمْ أذْنابَ البَقَرِ، ورَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وتَرَكْتُمُ الجِهادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا...)، الحديثَ[[أخرجه أبو داود (٣٤٦٢) (٣/٢٧٤).]]: دلالةٌ على ذلك، فذكَرَ الزرعَ وأذنابَ البقرِ، لأنّ الزرعَ يطولُ انتظارُهُ فيُغرَسُ ويُسقى ويُنتظَرُ حصادُهُ ثمَّ بيعُهُ وتَقَوُّتُه، وكذلك بيعُ العِينَةِ آجِلٌ، يختلِفُ عن البيعِ الذي ينتهي بالقبضِ ولا أجَلَ فيه، إشارةً إلى أنّ هذه الأنواعَ دنيا يطولُ بها الزمنُ، وتترقَّبُها القلوبُ، وترقُّبُها وكثرتُها تزهِّدُ في الجهادِ وتنقبِضُ منه النفوسُ.
ولمّا كانتِ الحياةُ ضدَّ الموتِ، كان المتعلِّقُ بها كارهًا للجهادِ، لأنّ الجهادَ مَظِنَّةُ القتلِ، لهذا قال تعالى بعدَ هذه الآيةِ: ﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ المَوْتُ﴾ [النساء: ٧٨]، في الفرارِ مِن القتلِ في سبيلِ اللهِ، فأصلُ الفِرارِ مِن الجهادِ حبُّ الحياةِ الدنيا.
رغبةُ النفوسِ، وأثرُها على الحقِّ:
وفي قولِهِ تعالى: ﴿وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾:
عدمُ تعجُّلِ الأحكامِ قبلَ نزولِها، وتقديمُ حُكْمِ اللهِ على رغبةِ النفسِ وهواها، ولو كانتْ حَمِيَّتُها دينيَّةً، فما كلُّ حميَّةٍ دينيَّةٍ تُصِيبُ الحَقَّ، فقد تكونُ عَجَلَةً تَضُرُّ.
وقد نَهى النبيُّ ﷺ عن تمنِّي لقاءِ العدوِّ، كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (لا تَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، فَإذا لَقِيتُمُوهُمْ فاصْبِرُوا)[[أخرجه البخاري (٣٠٢٦) (٤/٦٣)، ومسلم (١٧٤١) (٣/١٣٦٢).]]، وذلك أنّ تمنِّيَ لقاءِ العدوِّ يمتزِجُ بشجاعةٍ نفسيَّةٍ تُورِثُ الإنسانَ اعتمادًا عليها فيَكِلُهُ اللهُ إليها، وكثيرٌ ممَّن يتمنّى لقاءَ العدوِّ تدفَعُهُ الشجاعةُ الفِطْريَّةُ، وإنِ انساقَ إليها، تغيَّرتْ نيَّتُهُ، فقاتَلَ حميَّةً، ولِيُقالَ: جَرِيءٌ.
ثمَّ إنّ تمنِّيَ لقاءِ العدوِّ يُفقِدُ الإنسانَ حُسْنَ الاختيارِ عندَ لقائِهِ بينَ التعجيلِ باللقاءِ أو تأخيرِه، أو المواجَهَةِ عندَ الشِّدَّةِ أو الانحيازِ إلى جهةٍ وفئةٍ، فمَن تمنّى لقاءَ العدوِّ تَغْلِبُهُ نفسُهُ عن أنْ يُقالَ عنه: جبانٌ وخائفٌ وقد تمنّى اللقاءَ مِن قبلُ، فيُقدِمُ في محلِّ إحْجامٍ، تدفعُهُ حميَّتُهُ ويُظهِرُ أنّ ذلك لِدِينِه.
وقولُه تعالى: ﴿ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾: الفَتِيلُ: ما احتُقِرَ مِن الشيءِ الذي لا تَلْتَفِتُ إليه نفسٌ، ولا تُدَقِّقُ به عينٌ لحقارتِه.
وقيل: هو ما خرَجَ مِن الإصبَعِ، رواهُ مجاهدٌ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٧/١٣١)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٧٢).]]، وبنحوِه قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ ومجاهدٌ[[ينظر: «تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٧٢).]].
وقال ابنُ عبّاسٍ: «هو الذي يكونُ في شِقِّ النَّواةِ»، رواهُ عنه عِكْرِمةُ[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٦).]]، وصحَّ هذا عن قتادةَ ومجاهدٍ، أخرَجَ هذا ابنُ المُنذِرِ وغيرُه[[«تفسير ابن المنذر» (٢/٧٩٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٩٧٣).]].
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ قِیلَ لَهُمۡ كُفُّوۤا۟ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡیَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡیَةࣰۚ وَقَالُوا۟ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَیۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲۗ قُلۡ مَتَـٰعُ ٱلدُّنۡیَا قَلِیلࣱ وَٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق