الباحث القرآني
﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكم وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ ﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] .
تَهَيَّأ المَقامُ لِلتَّذْكِيرِ بِحالِ فَرِيقٍ مِنَ المُسْلِمِينَ اخْتَلَفَ أوَّلُ حالِهِ وآخِرُهُ، فاسْتَطْرَدَ هُنا التَّعْجِيبُ مِن شَأْنِهِمْ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِراضِ في أثْناءِ الحَثِّ عَلى الجِهادِ، وهَؤُلاءِ فَرِيقٌ يَوَدُّونَ أنْ يُؤْذَنَ لَهم بِالقِتالِ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ في إبّانِهِ جَبُنُوا. وقَدْ عُلِمَ مَعْنى حِرْصِهِمْ عَلى القِتالِ قَبْلَ أنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ مِن قَوْلِهِ ﴿قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾، لِأنَّ كَفَّ اليَدِ مُرادٌ مِنهُ تَرْكُ القِتالَ، كَما قالَ ﴿وهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهم عَنْكم وأيْدِيَكم عَنْهم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: ٢٤] .
والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿وما لَكم لا تُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٥] والجُمَلِ الَّتِي بَعْدَها وبَيْنَ جُمْلَةِ ﴿فَلْيُقاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٤] الآيَةَ اقْتَضَتِ اعْتِراضَها مُناسَبَةُ العِبْرَةِ بِحالِ هَذا (p-١٢٥)الفَرِيقِ وتَقَلُّبِها، فالَّذِينَ قِيلَ لَهم ذَلِكَ هم جَمِيعُ المُسْلِمِينَ، وسَبَبُ القَوْلِ لَهم هو سُؤالُ فَرِيقٍ مِنهم، ومَحَلُّ التَّعْجِيبِ إنَّما هو حالُ ذَلِكَ الفَرِيقِ مِنَ المُسْلِمِينَ.
ومَعْنى ﴿كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ﴾ أنَّهُ كُتِبَ عَلَيْكم في عُمُومِ المُسْلِمِينَ القادِرِينَ. وقَدْ دَلَّتْ إذا الفُجائِيَّةُ عَلى أنَّ هَذا الفَرِيقَ لَمْ يَكُنْ تُتَرَقَّبُ مِنهم هَذِهِ الحالَةُ، لِأنَّهم كانُوا يَظْهَرُونَ مِنَ الحَرِيصِينَ عَلى القِتالِ.
قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هاتِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في طائِفَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ كانُوا لَقُوا بِمَكَّةَ مِنَ المُشْرِكِينَ أذًى شَدِيدًا، فَقالُوا لِلنَّبِيءِ ﷺ يا رَسُولَ اللَّهِ كُنّا في عِزٍّ ونَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمّا آمَنّا صِرْنا أذِلَّةً واسْتَأْذَنُوهُ في قِتالِ المُشْرِكِينَ، فَقالَ لَهم «إنِّي أُمِرْتُ بِالعَفْوِ فَكُفُّوا أيْدِيَكم، وأقِيمُوا الصَّلاةَ، وآتُوا الزَّكاةَ» فَلَمّا هاجَرَ النَّبِيءُ ﷺ إلى المَدِينَةِ، وفُرِضَ الجِهادُ جَبُنَ فَرِيقٌ مِن جُمْلَةِ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ في القِتالِ، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الآيَةُ.
والمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ مِن هَؤُلاءِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وسَعْدَ بْنَ أبِي وقّاصٍ، والمِقْدادَ بْنَ الأسْوَدِ، وقُدامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ، وأصْحابَهم، وعَلى هَذا فَقَوْلُهُ ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾ مَسُوقٌ مَساقَ التَّوْبِيخِ لَهم حَيْثُ رَغِبُوا تَأْخِيرَ العَمَلِ بِأمْرِ اللَّهِ بِالجِهادِ لِخَوْفِهِمْ مِن بَأْسِ المُشْرِكِينَ، فالتَّشْبِيهُ جارٍ عَلى طَرِيقَةِ المُبالَغَةِ لِأنَّ حَمْلَ هَذا الكَلامِ عَلى ظاهِرِ الإخْبارِ لا يُلائِمُ حالَهم مِن فَضِيلَةِ الإيمانِ والهِجْرَةِ.
وقالَ السُّدِّيُّ: ﴿الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكُمْ﴾ قَوْمٌ أسْلَمُوا قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ القِتالُ وسَألُوا أنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمُ القِتالُ فَلَمّا فُرِضَ القِتالُ ﴿إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ﴾ . واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المَعْنِيِّ بِالفَرِيقِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ﴾ فَقِيلَ: هم فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا في مَكَّةَ في أنْ يُقاتِلُوا المُشْرِكِينَ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، والكَلْبِيِّ، وهو ظاهِرُ الآيَةِ.
ولَعَلَّ الَّذِي حَوَّلَ عَزْمَهم أنَّهم صارُوا في أمْنٍ وسَلامَةٍ مِنَ الإذْلالِ والأذى، فَزالَ عَنْهُمُ الِاضْطِرارُ لِلدِّفاعِ عَنْ أنْفُسِهِمْ. وحَكى القُرْطُبِيُّ: أنَّهُ قِيلَ: إنَّ هَذا الفَرِيقَ هُمُ المُنافِقُونَ.
وعَلى هَذا الوَجْهِ يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ نَظْمِ الآيَةِ بِأنَّ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ اسْتَأْذَنُوا في قَتْلِ المُشْرِكِينَ وهم في مَكَّةَ أنَّهم لَمّا هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ كَرَّرُوا الرَّغْبَةَ في قِتالِ المُشْرِكِينَ، وأعادَ النَّبِيءُ ﷺ تَهْدِئَتَهم زَمانًا، وأنَّ المُنافِقِينَ تَظاهَرُوا بِالرَّغْبَةِ في ذَلِكَ تَمْوِيهًا لِلنِّفاقِ، فَلَمّا كُتِبَ القِتالُ عَلى المُسْلِمِينَ جَبُنَ المُنافِقُونَ، (p-١٢٦)وهَذا هو المُلائِمُ لِلْإخْبارِ عَنْهم بِأنَّهم يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ.
وتَأْوِيلُ وصْفِهِمْ بِقَوْلِهِ ”مِنهم“: أيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهم: كُفُّوا أيْدِيَكم، وهَذا عَلى غُمُوضِهِ هو الَّذِي يَنْسَجِمُ مَعَ أُسْلُوبِ بَقِيَّةِ الكَلامِ في قَوْلِهِ ﴿وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٧٨] وما بَعْدَهُ، كَما سَيَأْتِي، أمّا عَلى قَوْلِ السُّدِّيِّ فَلا حاجَةَ إلى تَأْوِيلِ الآيَةِ.
فالِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿ألَمْ تَرَ﴾ لِلتَّعْجِيبِ، وقَدْ تَقَدَّمَتْ نَظائِرُهُ. والمُتَعَجَّبُ مِنهم لَيْسُوا هم جَمِيعُ الَّذِينَ قِيلَ لَهم في مَكَّةَ: كُفُّوا أيْدِيَكم، بَلْ فَرِيقٌ آخَرُ مِن صِفَتِهِمْ أنَّهم يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ. وإنَّما عُلِّقَ التَّعْجِيبُ بِجَمِيعِ الَّذِينَ قِيلَ لَهم بِاعْتِبارِ أنَّ فَرِيقًا مِنهم حالُهم كَما وُصِفَ، فالتَّقْدِيرُ: ألَمْ تَرَ إلى فَرِيقٍ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهم: كُفُّوا أيْدِيَكم.
والقَوْلُ في تَرْكِيبِ قَوْلِهِ ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾ كالقَوْلِ في نَظِيرِهِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكم آباءَكم أوْ أشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: ٢٠٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وقَوْلُهم ﴿رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ إنَّما هو قَوْلُهم في نُفُوسِهِمْ عَلى مَعْنى عَدَمِ الِاهْتِداءِ لِحِكْمَةِ تَعْلِيلِ الأمْرِ بِالقِتالِ وظَنِّهِمْ أنَّ ذَلِكَ بَلْوى. والأجَلُ القَرِيبُ مُدَّةٌ مُتَأخِّرَةٌ رَيْثَما يَتِمُّ اسْتِعْدادُهم، مِثْلَ قَوْلِهِ ﴿فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَّقَ﴾ [المنافقون: ١٠] .
وقِيلَ: المُرادُ مِنَ الأجَلِ العُمْرُ، بِمَعْنى لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أنْ تَنْقَضِيَ آجالَنا دُونَ قِتالٍ، فَيَصِيرُ تَمَنِّيًا لِانْتِفاءِ فَرْضِ القِتالِ، وهَذا بَعِيدٌ لِعَدَمِ مُلاءَمَتِهِ لِسِياقِ الكَلامِ، إذْ لَيْسَ المَوْتُ في القِتالِ غَيْرَ المَوْتِ بِالأجَلِ، ولِعَدَمِ مُلاءَمَتِهِ لِوَصْفِهِ بِقَرِيبٍ، لِأنَّ أجَلَ المَرْءِ لا يُعْرَفُ أقَرِيبٌ هو أمْ بَعِيدٌ إلّا إذا أُرِيدَ تَقْلِيلُ الحَياةِ كُلِّها.
وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فالقِتالُ المُشارُ إلَيْهِ هُنا هو أوَّلُ قِتالٍ أُمِرُوا بِهِ، والآيَةُ ذَكَّرَتْهم بِذَلِكَ في وقْتِ نُزُولِها حِينَ التَّهَيُّؤِ لِلْأمْرِ بِفَتْحِ مَكَّةَ.
وقالَ السُّدِّيُّ: أُرِيدَ بِالفَرِيقِ بَعْضٌ مِن قَبائِلِ العَرَبِ دَخَلُوا في الإسْلامِ حَدِيثًا قَبْلَ أنْ يَكُونَ القِتالُ مِن فَرائِضِهِ وكانُوا يَتَمَنَّوْنَ أنْ يُقاتِلُوا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ جَبُنُوا لِضَعْفِ إيمانِهِمْ، ويَكُونُ القِتالُ الَّذِي خافُوهُ هو غَزْوُ مَكَّةَ، وذَلِكَ أنَّهم خَشُوا بَأْسَ المُشْرِكِينَ.
وقَوْلُهم ﴿رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ قَوْلًا في نُفُوسِهِمْ، ويَحْتَمِلُ أنَّهُ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِأفْواهِهِمْ، ويَبْدُو هو المُتَعَيِّنُ إذا كانَ المُرادُ بِالفَرِيقِ فَرِيقَ المُنافِقِينَ؛ فَهم يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ بِألْسِنَتِهِمْ عَلَنًا لِيُوقِعُوا الوَهْنَ في قُلُوبِ المُسْتَعِدِّينَ لَهُ (p-١٢٧)وهم لا يَعْتَقِدُونَ أنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ القِتالَ.
وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ: نَزَلَتْ في اليَهُودِ، وعَلَيْهِ تَكُونُ الآيَةُ مِثالًا ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أوْجَبَ عَلَيْهِمُ القِتالَ، تَحْذِيرًا لَهم في الوُقُوعِ في مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ (﴿ألَمْ تَرَ إلى المَلَإ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إذْ قالُوا لِنَبِيءٍ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا﴾ [البقرة: ٢٤٦]) الآيَةَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وهي عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ المَرْوِيَّةِ بَصَرِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وعَلى بَعْضِها بَصَرِيَّةٌ تَنْزِيلِيَّةٌ، لِلْمُبالَغَةِ في اشْتِهارِ ذَلِكَ.
وانْتَصَبَ ”خَشْيَةً“ عَلى التَّمْيِيزِ لِنِسْبَةِ ”أشَدَّ“ . كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿كَذِكْرِكم آباءَكم أوْ أشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: ٢٠٠] وقَدْ مَرَّ ما فِيهِ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والجَوابُ بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ جَوابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ سَواءٌ كانَ قَوْلُهم لِسانِيًّا وهو بَيِّنٌ، أمْ كانَ نَفْسِيًّا، لِيَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ أطْلَعَ رَسُولَهُ عَلى ما تُضْمِرُهُ نُفُوسُهم، أيْ أنَّ التَّأْخِيرَ لا يُفِيدُ والتَّعَلُّقَ بِالتَّأْخِيرِ لِاسْتِبْقاءِ الحَياةِ لا يُوازِي حَظَّ الآخِرَةِ، وبِذَلِكَ يَبْطُلُ ما أرادُوا مِنَ الفِتْنَةِ بِقَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ .
ومَوْقِعُ قَوْلِهِ ﴿ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ مَوْقِعُ زِيادَةِ التَّوْبِيخِ الَّذِي اقْتَضاهُ قَوْلُهُ ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾، أيْ ولا تُنْقَصُونَ شَيْئًا مِن أعْمارِكُمُ المَكْتُوبَةِ، فَلا وجْهَ لِلْخَوْفِ وطَلَبِ تَأْخِيرِ فَرْضِ القِتالِ؛ وعَلى تَفْسِيرِ الأجَلِ في ﴿لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ بِأجَلِ العُمْرِ، وهو الوَجْهُ المُسْتَبْعَدُ، يَكُونُ مَعْنى ﴿ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ تَغْلِيطَهم في اعْتِقادِهِمْ أنَّ القَتْلَ يُعَجِّلُ الأجَلَ، فَيَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَقِيدَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إنْ كانُوا هُمُ المُخاطَبِينَ قَبْلَ رُسُوخِ تَفاصِيلِ عَقائِدِ الإسْلامِ فِيهِمْ، أوْ أنَّ ذَلِكَ عَقِيدَةَ المُنافِقِينَ إنْ كانُوا هُمُ المُخاطَبِينَ.
وقِيلَ مَعْنى نَفْيِ الظُّلْمِ هُنا أنَّهم لا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوابِ جِهادِهِمْ، فَيَكُونُ مَوْقِعُهُ مَوْقِعَ التَّشْجِيعِ لِإزالَةِ الخَوْفِ، ويَكُونُ نَصْبُهُ عَلى النِّيابَةِ عَنِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ. وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّهم لا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ أقَلِّ زَمَنٍ مِن آجالِهِمْ.
ويَجِيءُ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ أنْ يُجْعَلَ ”تُظْلَمُونَ“ بِمَعْنى تُنْقَصُونَ، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا﴾ [الكهف: ٣٣] أيْ كِلْتا الجَنَّتَيْنِ مِن أُكُلِها، ويَكُونُ فَتِيلًا مَفْعُولًا بِهِ، أيْ لا تُنْقَصُونَ مِن أعْمارِكم ساعَةً، فَلا مُوجِبَ لِلْجُبْنِ.
(p-١٢٨)وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”ولا تُظْلَمُونَ“ بِتاءِ الخِطابِ عَلى أنَّهُ أمَرَ الرَّسُولَ أنْ يَقُولَهُ لَهم. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، ورَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ، وخَلَفٌ بِياءِ الغَيْبَةِ عَلى أنْ يَكُونَ مِمّا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ لِيُبَلِّغَهُ إلَيْهِمْ.
والفَتِيلُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء: ٤٩] .
وجُمْلَةُ ﴿أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ﴾ [النساء: ٧٨] يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن تَمامِ القَوْلِ المَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ . وإنَّما لَمْ تُعْطَفْ عَلى جُمْلَةِ ﴿مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ لِاخْتِلافِ الغَرَضَيْنِ، لِأنَّ جُمْلَةَ ﴿مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ وما عُطِفَ عَلَيْها تَغْلِيطٌ لَهم في طَلَبِ التَّأْخِيرِ إلى أجَلٍ قَرِيبٍ، وجُمْلَةُ ﴿أيْنَما تَكُونُوا﴾ [النساء: ٧٨] إلَخْ مَسُوقَةٌ لِإشْعارِهِمْ بِأنَّ الجُبْنَ هو الَّذِي حَمَلَهم عَلى طَلَبِ التَّأْخِيرِ إلى أمَدٍ قَرِيبٍ، لِأنَّهم تَوَهَّمُوا أنَّ مَواقِعَ القِتالِ تُدْنِي المَوْتَ مِنَ النّاسِ.
ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ القَوْلُ قَدْ تَمَّ، وأنَّ جُمْلَةَ ﴿أيْنَما تَكُونُوا﴾ [النساء: ٧٨] تَوَجُّهٌ إلَيْهِمْ بِالخِطابِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، أوْ تَوَجُّهٌ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ بِالخِطابِ، فَتَكُونُ عَلى كِلا الأمْرَيْنِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ أجْزاءِ الكَلامِ.
و”أيْنَما“ شَرْطٌ يَسْتَغْرِقُ الأمْكِنَةَ ولَوْ في قَوْلِهِ ﴿ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ﴾ [النساء: ٧٨] وصْلِيَّةٌ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَعْناها واسْتِعْمالِها عِنْدَ قَوْلِهِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا ولَوِ افْتَدى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١] .
والبُرُوجُ جَمْعُ بُرْجٍ، وهو البِناءُ القَوِيُّ والحِصْنُ. والمُشَيَّدَةُ: المَبْنِيَّةُ بِالشِّيدِ، وهو الجِصُّ، وتُطْلَقُ عَلى المَرْفُوعَةِ العالِيَةِ، لِأنَّهم إذا أطالُوا البِناءَ بَنَوْهُ بِالجِصِّ، فالوَصْفُ بِهِ مُرادٌ بِهِ المَعْنى الكِنائِيُّ. وقَدْ يُطْلَقُ البُرُوجُ عَلى مَنازِلِ كَواكِبِ السَّماءِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان: ٦١] وقَوْلِهِ ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ [البروج: ١] . وعَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: البُرُوجُ هُنا بُرُوجُ الكَواكِبِ، أيْ ولَوْ بَلَغْتُمُ السَّماءَ. وعَلَيْهِ يَكُونُ وصْفُ ”مُشَيَّدَةٍ“ مَجازًا في الِارْتِفاعِ، وهو بَعِيدٌ.
{"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ قِیلَ لَهُمۡ كُفُّوۤا۟ أَیۡدِیَكُمۡ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِیقࣱ مِّنۡهُمۡ یَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡیَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡیَةࣰۚ وَقَالُوا۟ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَیۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَاۤ أَخَّرۡتَنَاۤ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ قَرِیبࣲۗ قُلۡ مَتَـٰعُ ٱلدُّنۡیَا قَلِیلࣱ وَٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق