الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهم كُفُّوا أيْدِيَكم وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ إذا فَرِيقٌ مِنهم يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أوِ المُنافِقِينَ ؟ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في المُؤْمِنِينَ، قالَ الكَلْبِيُّ: «نَزَلَتْ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ والمِقْدادِ وقُدامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، كانُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أنْ يُهاجِرُوا إلى المَدِينَةِ، ويَلْقَوْنَ مِنَ المُشْرِكِينَ أذًى شَدِيدًا فَيَشْكُونَ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويَقُولُونَ: ائْذَنْ لَنا في قِتالِهِمْ ويَقُولُ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُفُّوا أيْدِيَكم فَإنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتالِهِمْ، واشْتَغِلُوا بِإقامَةِ دِينِكم مِنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، فَلَمّا هاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى المَدِينَةِ وأُمِرُوا بِقِتالِهِمْ في وقْعَةِ بَدْرٍ كَرِهَهُ بَعْضُهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ» . واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى هَذا القَوْلِ بِأنَّ الَّذِينَ يَحْتاجُ الرَّسُولُ أنْ يَقُولَ لَهم: كُفُّوا عَنِ القِتالِ هُمُ الرّاغِبُونَ في القِتالِ، والرّاغِبُونَ في القِتالِ هُمُ المُؤْمِنُونَ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ. ويُمْكِنُ الجَوابُ عَنْهُ بِأنَّ المُنافِقِينَ كانُوا يُظْهِرُونَ مِن أنْفُسِهِمْ أنّا مُؤْمِنُونَ وأنّا نُرِيدُ قِتالَ الكُفّارِ ومُحارَبَتَهم، فَلَمّا أمَرَ اللَّهُ بِقِتالِهِمُ الكُفّارَ أحْجَمَ المُنافِقُونَ عَنْهُ وظَهَرَ مِنهم خِلافُ ما كانُوا يَقُولُونَهُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ الآيَةَ نازِلَةٌ في حَقِّ المُنافِقِينَ، واحْتَجَّ الذّاهِبُونَ إلى هَذا القَوْلِ بِأنَّ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى (p-١٤٨)أُمُورٍ تَدُلُّ عَلى أنَّها مُخْتَصَّةٌ بِالمُنافِقِينَ: فالأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في وصْفِهِمْ: ﴿يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا الوَصْفَ لا يَلِيقُ إلّا بِالمُنافِقِ، لِأنَّ المُؤْمِنَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَوْفُهُ مِنَ النّاسِ أزْيَدَ مِن خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ، والِاعْتِراضُ عَلى اللَّهِ لَيْسَ إلّا مِن صِفَةِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ لِلرَّسُولِ: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾ وهَذا الكَلامُ يُذْكَرُ مَعَ مَن كانَتْ رَغْبَتُهُ في الدُّنْيا أكْثَرَ مِن رَغْبَتِهِ في الآخِرَةِ، وذَلِكَ مِن صِفاتِ المُنافِقِينَ. وأجابَ القائِلُونَ بِالقَوْلِ الأوَّلِ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ بِحَرْفٍ واحِدٍ، وهو أنَّ حُبَّ الحَياةِ والنُّفْرَةَ عَنِ القَتْلِ مِن لَوازِمِ الطِّباعِ، فالخَشْيَةُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ مَحْمُولَةٌ عَلى هَذا المَعْنى، وقَوْلُهم: ﴿لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ مَحْمُولٌ عَلى التَّمَنِّي لِتَخْفِيفِ التَّكْلِيفِ لا عَلى وجْهِ الإنْكارِ لِإيجابِ اللَّهِ تَعالى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ مَذْكُورٌ لا لِأنَّ القَوْمَ كانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، بَلْ لِأجْلِ إسْماعِ اللَّهِ لَهم هَذا الكَلامَ مِمّا يُهَوِّنُ عَلى القَلْبِ أمْرَ هَذِهِ الحَياةِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مِن قَلْبِهِمْ نُفْرَةُ القِتالِ وحُبُّ الحَياةِ ويُقْدِمُونَ عَلى الجِهادِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ، فَهَذا ما في تَقْرِيرِ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ واللَّهُ أعْلَمُ، والأوْلى حَمْلُ الآيَةِ عَلى المُنافِقِينَ لِأنَّهُ تَعالى ذَكَرَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَهُ: ﴿وإنْ تُصِبْهم حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِن عِنْدِكَ﴾ ولا شَكَّ أنَّ هَذا مِن كَلامِ المُنافِقِينَ، فَإذا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلى الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها ثُمَّ المَعْطُوفُ في المُنافِقِينَ وجَبَ أنْ يَكُونَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ أيْضًا. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ إيجابَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ كانَ مُقَدَّمًا عَلى إيجابِ الجِهادِ، وهَذا هو التَّرْتِيبُ المُطابِقُ لِما في العُقُولِ، لِأنَّ الصَّلاةَ عِبارَةٌ عَنِ التَّعْظِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ، والزَّكاةَ عِبارَةٌ عَنِ الشَّفَقَةِ عَلى خَلْقِ اللَّهِ، ولا شَكَّ أنَّهُما مُقَدَّمانِ عَلى الجِهادِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾ مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿أوْ أشَدَّ خَشْيَةً﴾ يُوهِمُ الشَّكَّ، وذَلِكَ عَلى عَلّامِ الغُيُوبِ مُحالٌ. وفِيهِ وُجُوهٌ مِنَ التَّأْوِيلِ: الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ الإبْهامُ عَلى المُخاطَبِ، بِمَعْنى أنَّهم عَلى إحْدى الصِّفَتَيْنِ مِنَ المُساواةِ والشِّدَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ خَوْفَيْنِ فَأحَدُهُما بِالنِّسْبَةِ إلى الآخَرِ إمّا أنْ يَكُونَ أنْقَصَ أوْ مُساوِيًا أوْ أزْيَدَ فَبَيَّنَ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ خَوْفَهم مِنَ النّاسِ لَيْسَ أنْقَصَ مِن خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ، بَلْ بَقِيَ إمّا أنْ يَكُونَ مُساوِيًا أوْ أزْيَدَ، فَهَذا لا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعالى شاكًّا فِيهِ، بَلْ يُوجِبُ إبْقاءَ الإبْهامِ في هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ عَلى المُخاطَبِ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ ”أوْ“ بِمَعْنى الواوِ، والتَّقْدِيرُ: يَخْشَوْنَهم كَخَشْيَةِ اللَّهِ وأشَدَّ خَشْيَةً، ولَيْسَ بَيْنَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ مُنافاةٌ، لِأنَّ مَن هو أشَدُّ خَشْيَةً فَمَعَهُ مِنَ الخَشْيَةِ مِثْلُ خَشْيَتِهِ مِنَ اللَّهِ وزِيادَةٌ. الثّالِثُ: أنَّ هَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧] يَعْنِي أنَّ مَن يُبْصِرُهم يَقُولُ هَذا الكَلامَ، فَكَذا هَهُنا واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَؤُلاءِ القائِلِينَ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ فَهم إنَّما قالُوا ذَلِكَ لا اعْتِراضًا عَلى اللَّهِ، لَكِنْ جَزَعًا مِنَ المَوْتِ وحُبًّا لِلْحَياةِ، وإنْ كانُوا مُنافِقِينَ فَمَعْلُومٌ أنَّهم كانُوا مُنْكِرِينَ لِكَوْنِ الرَّبِّ تَعالى كاتِبًا لِلْقِتالِ عَلَيْهِمْ، (p-١٤٩)فَقالُوا ذَلِكَ عَلى مَعْنى أنَّهُ تَعالى كَتَبَ القِتالَ عَلَيْهِمْ في زَعْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وفي دَعْواهُ، ثُمَّ قالُوا: ﴿لَوْلا أخَّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وهَذا كالعِلَّةِ لِكَراهَتِهِمْ لِإيجابِ القِتالِ عَلَيْهِمْ، أيْ هَلّا تَرَكْتَنا حَتّى نَمُوتَ بِآجالِنا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أجابَ عَنْ شُبْهَتِهِمْ فَقالَ: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ والآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾ وإنَّما قُلْنا: إنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ نِعَمَ الدُّنْيا قَلِيلَةٌ، ونِعَمَ الآخِرَةِ كَثِيرَةٌ. والثّانِي: أنَّ نِعَمَ الدُّنْيا مُنْقَطِعَةٌ ونِعَمَ الآخِرَةِ مُؤَبَّدَةٌ. والثّالِثُ: أنَّ نِعَمَ الدُّنْيا مَشُوبَةٌ بِالهُمُومِ والغُمُومِ والمَكارِهِ، ونِعَمَ الآخِرَةِ صافِيَةٌ عَنِ الكُدُراتِ. والرّابِعُ: أنَّ نِعَمَ الدُّنْيا مَشْكُوكَةٌ فَإنَّ أعْظَمَ النّاسِ تَنَعُّمًا لا يَعْرِفُ أنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ عاقِبَتُهُ في اليَوْمِ الثّانِي، ونِعَمَ الآخِرَةِ يَقِينِيَّةٌ، وكُلُّ هَذِهِ الوُجُوهِ تُوجِبُ رُجْحانَ الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيا، إلّا أنَّ هَذِهِ الخَيْرِيَّةَ إنَّما تَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ، فَلِهَذا المَعْنى ذَكَرَ تَعالى هَذا الشَّرْطَ وهو قَوْلُهُ: ﴿لِمَنِ اتَّقى﴾ وهَذا هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وجَنَّةُ الكافِرِ» “ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (يُظْلَمُونَ) بِالياءِ عَلى أنَّهُ راجِعٌ إلى المَذْكُورِينَ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ﴾ والباقُونَ بِالتّاءِ عَلى سَبِيلِ الخِطابِ، ويُؤَيِّدُ التّاءَ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ فَإنَّ قَوْلَهُ: (قُلْ) يُفِيدُ الخِطابَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهم يَسْتَحِقُّونَ عَلى طاعَتِهِمُ الثَّوابَ، وإلّا لَما تَحَقَّقَ نَفْيُ الظُّلْمِ، وتَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يَصِحُّ مِنهُ الظُّلْمُ وإنْ كُنّا نَقْطَعُ بِأنَّهُ لا يَفْعَلُ، وإلّا لَما صَحَّ التَّمَدُّحُ بِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ”ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا“ أيْ لا يُنْقَصُونَ مِن ثَوابِ أعْمالِهِمْ مِثْلَ فَتِيلِ النَّواةِ وهو ما تَفْتِلُهُ بِيَدِكَ ثُمَّ تُلْقِيهِ احْتِقارًا. وقَدْ مَضى الكَلامُ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب