الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ بِهِ أذىً مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمْوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ ﴾ [البقرة: ١٩٦].
ذكَرَ اللهُ الحَجَّ والعُمْرةَ بعدَ ذِكْرِ الجهادِ والقتالِ وضوابطِهِ، لأنّ المشرِكِينَ كانوا يَحُولُونَ بين المؤمنينَ وبين مَكَّةَ، فاحتاجُوا لمعرفةِ سُبُلِ الوصولِ إلى المسجِدِ الحرامِ، وحكمِ مقاتَلةِ مَن كان عَقَبةً في طريقِهم.
وهذه الآيةُ نزَلَتْ سَنةَ سِتٍّ بلا خلافٍ، وقد نزَلَتْ في الحُدَيْبِيَةِ بلا خلافٍ، قاله الشافعيُّ، وإنّما ذكَرَ الحَجَّ ولم يكُنْ فُرِضَ بَعْدُ، لِيَعْلَمَ الناسُ مشروعيَّتَهُ، وأنّه مِنَ الحنيفيَّةِ السَّمْحةِ الصحيحةِ، وليس مِن أعمالِ الجاهليَّةِ، فالنبيُّ ﷺ كان قد حَجَّ قبلَ هِجْرَتِه، ويَعرِفُ ما بدَّلَهُ المشرِكُونَ مِن أعمالِ الحَجِّ ممّا بَقِيَ مِن شريعةِ الحنيفيَّةِ، كما في حديثِ جُبَيْرِ بنِ مُطعِمٍ، قالَ: أضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ واقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذا واللهِ مِنَ الحُمْسِ، فَما شَأْنُهُ هاهُنا؟![[أخرجه البخاري (١٦٦٤) (٢/١٦٢)، ومسلم (١٢٢٠) (٢/٨٩٤).]]
معنى إتمامِ الحجِّ والعمرةِ:
والمرادُ بالإتمامِ في الآيةِ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ضِدُّ الإنقاصِ، أي: ائتُوا بها كما شرَعَها اللهُ، كقولِه: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]، أيْ: لا يتَخلَّلُها شيءٌ مِن النقصِ، بل يَنْبَغِي الإتمامُ.
وقد تُحمَلُ الآيةُ على جميعِ معاني الإتمامِ ووجوهِه، لعمومِ مقاصدِ القرآنِ وغائيَّتِه، وهذا ما يَظهَرُ مِن تفسيرِ السلفِ للإتمامِ، وأوَّلُ معاني الإتمامِ وأَوْلاها: هو صِدْقُ النِّيَّةِ وإخلاصُها مِن الشَّوْبِ، ولذا قال بعدَ الأمرِ بالإتمامِ: ﴿لِلَّهِ﴾، أيْ: لا لِغيْرِه.
وقد روى ابنُ جريرٍ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقَمةَ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، قال: هو في قراءةِ عبدِ اللهِ: (وأَقِيمُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ إلى البَيْتِ)، قالَ: «لا تُجاوِزُوا بالعُمْرةِ البيتَ»، قال إبراهيمُ: «فذكَرْتُ ذلك لسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فقال: كذلك قال ابنُ عبّاسٍ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٢٨).]].
والمعنى: أنْ يحُجَّ ويعتَمِرَ قاصدًا للنُّسُكِ إلى مكَّةَ لا إلى غيرِها، وللهِ لا لغيرِه، ولا يَسُوغُ فيها نقصانُ العملِ، ولا نقصانُ القَصْدِ والنِّيَّةِ، وكلُّ ما أُمِرَ الإنسانُ بفِعلِهِ في النُّسُكِ، فالإتيانُ به مِن تمامِهِ، ولذا قال مجاهِدٌ في قولِه: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، قال: «ما أُمِرُوا فيهما»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٢٩).]].
وروى ابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، يَقولُ: «مَن أحرَمَ بحَجٍّ أو بعُمْرةٍ، فليس له أنْ يَحِلَّ حتّى يُتِمَّها، تمامُ الحَجِّ: يومَ النَّحْرِ إذا رَمى جَمْرةَ العَقَبةِ، وزارَ البيتَ، فقد حَلَّ مِن إحرامِهِ كُلِّه، وتمامُ العُمْرةِ: إذا طافَ بالبيتِ وبالصَّفا والمروةِ فقد حَلَّ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٢٨).]].
وروى ابنُ أبي شَيْبَةَ، وابنُ جريرٍ، والبيهقيُّ، عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَمةَ، عن عليٍّ، أنّه قال: جاءَ رَجُلٌ إلى عليٍّ، فقال له في هذه الآيةِ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾: «أن تُحرِمَ مِن دُوَيْرةِ أهلِكَ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٢٦٨٩) (٣/١٢٥)، والطبري في «تفسيره» (٣/٣٢٩)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٥/٣٠).]].
وروى ابنُ جريرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، قال: «مِن تَمامِ العُمْرةِ: أن تُحرِمَ مِن دُوَيْرةِ أهْلِكَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٣٠).]].
وعن طاوسٍ، قال: «تَمامُهما: إفرادُهما مُؤْتَنَفَتَيْنِ مِن أهلِكَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٣٠).]].
والمرادُ: أن يقومَ الإنسانُ بإنشاءِ القصدِ والعزمِ للحَجِّ والعُمْرةِ، كلُّ واحدٍ منهما بسَفَرٍ مِن بلَدِهِ الذي يسكُنُهُ، الحَجُّ بِسَفْرةٍ منفرِدةٍ، والعُمْرةُ بِسَفْرةٍ منفرِدةٍ، ويَبدَأُ القصدَ مِن دُوَيْرةِ أهلِه، قالَهُ سُفْيانُ الثَّوْريُّ وغيرُهُ.
وليس المرادُ أن يُحرِمَ بالحَجِّ والعُمْرةِ مِن بَيْتِه، ولو كان قبلَ المواقيتِ، فيُمسِكَ مِن بَيْتِه عنِ المحظوراتِ، فهذا خلافُ السُّنَّةِ، لأنّ إنشاءَ الإحرامِ شيءٌ، وقَصْدَهُ شيءٌ آخَرُ، فمَن خرَجَ مِن دِمَشْقَ أو بَغْدادَ أو مِن نَجْدٍ قاصدًا للحجِّ أو العمرةِ، فقد أتمَّ القصدَ.
وقولُهُ في الأَثَرِ عن عليٍّ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ: «أن تُحرِمَ بها مِن دُوَيْرةِ أهلِكَ»، أيْ: أن تَقصِدَ الإحرامَ للحجِّ، لا أن تُحْرِمَ، والمرادُ: ألاَّ يُخرِجَهُ لمَكَّةَ مصلحةُ دُنيا يَخلِطُها بدِينٍ، أو تجارةٌ مَعَ نُسُكٍ، فهذا ـ وإن كان جائزًا وصحيحًا ـ إلاَّ أنّه ليس إتمامًا، فالصحابةُ كعَلِيٍّ، والتابعونَ كسَعِيدٍ: يَعلَمُونَ هَدْيَ النبيِّ وسُنَّتَهُ في هذا، وأنّه لم يُحرِمْ من بيتِه، وإنّما مِن مِيقاتِهِ، وهو قريبٌ مِن المدينةِ، مع أنّ الأسمَحَ له أنْ يتهيَّأَ مِن بَيْتِه، ويَغتسِلَ ويصلِّيَ، ثمَّ يشُدَّ رَحْلَهُ مَرَّةً واحِدةً إلى مكَّةَ، ولكنَّهُ قصَدَ الميقاتَ بالإحرامِ، لتأكيدِ اللهِ عليه.
الإحرامُ قبلَ الميقاتِ:
وأمّا صِحَّةُ الإحرامِ مِن قَبْلِ المِيقاتِ، فصحيحٌ عند عامَّةِ الفقهاءِ، أحرَمَ عِمْرانُ مِن مِصْرَ، وقد أنكَرَ عليه عُمَرُ.
وأحرَمَ ابنُ عُمَرَ مِن بيتِ المَقْدِسِ.
وقد أحرَمَ جماعةٌ مِن بيوتِهم، كالأَسْوَدِ وعَلْقَمةَ وعبدِ الرحمنِ وأبي إسحاقَ.
وأحرَمَ وكيعٌ مِن بيتِ المقدِسِ.
وإنّما قُلْنا فيما سبَقَ: إنّ الآيةَ نزَلَتْ قبلَ فرْضِ الحَجِّ بصِيغَةِ الأمرِ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ﴾، لنبيِّنَ أنّ الإلزامَ بالإتمامِ لا يَنزِلُ على أصلِ التشريعِ، وهو الحَجُّ، وإنّما على مَن بدَأَهُ أن يَقطَعَهُ، ولنبيِّنَ أنّ الحجَّ إذا لم يَكُنْ واجبًا حِينَها، فمِن بابِ أولى أنّ إنشاءَ القصدِ مِن البيوتِ للحجِّ والعُمْرةِ ليس بواجبٍ، فلو سافَرَ لمصلَحَةِ دُنياهُ وأَتْبَعَها بمصلحةِ دِينِهِ، صحَّ، كالتاجرِ، وأجزَأَ عنه.
ثمَّ إنّ المواقيتَ المكانيَّةَ لم تكُنْ حُدِّدَتْ عندَ نزولِ آيةِ الإتمامِ، وهذا دليلٌ على أنّ المقصودَ الإتمامُ، لا سَبْقُ الميقاتِ بالإحرامِ، وإنّما عَقْدُ العزمِ وإنشاءُ السَّفرِ لأجلِ هذا العملِ أعظمُ أجرًا، وأتمُّ ثوابًا، وأكبرُ بَرَكةً.
فاللهُ قرَنَ العُمْرةَ بالحجِّ في وجوبِ الإتمامِ، لا في الابتِداءِ، لأنّ الابتداءَ لم يُفرَضْ بعدُ.
ولذا تعدَّدَتْ تفسيراتُ المفسِّرينَ مِن السلفِ لـ«الإتمامِ» في الآيةِ بما يحقِّقُ معنى إنشاءِ القصدِ والسَّفَرِ الخاصِّ للنُّسُكِ، وإنْ تغايَرَ التفسيرُ مع غيرِهم من المفسِّرين لفظًا، ولكنَّه يؤيِّدُ المعنى الواحدَ السالفَ، فقد روى ابنُ جريرٍ، عن طارقِ بنِ شِهابٍ، قال: سألتُ ابنَ مسعودٍ عن امرأةٍ مِنّا أرادَتْ أن تَجمَعَ معَ حجِّها عُمْرةً؟ فقال: أسمَعُ اللهَ يقولُ: ﴿الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ﴾ [البقرة: ١٩٧]، ما أُراها إلاَّ أشهُرَ الحجِّ[[«تفسير الطبري» (٣/٤٥٠ ـ ٤٥١).]].
وروى ابنُ أبي حزمٍ القُطَعِيُّ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ سِيرِينَ يَقولُ: «ما أحدٌ مِن أهلِ العلمِ شَكَّ أنّ عُمْرةً في غيرِ أشهُرِ الحجِّ أفضَلُ مِن عُمْرةٍ في أشهُرِ الحجِّ»[[«تفسير الطبري» (٣/٤٥١).]].
وروى عن سعيدٍ، عن قَتادةَ قولَهُ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، قال: «وتَمامُ العُمْرةِ: ما كان في غيرِ أشهُرِ الحَجِّ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٣٠).]].
ومُرادُه: ألاَّ تجعَلَ العُمْرةَ متَّصِلةً بنفسِ قصدِ الحجِّ وسَفَرِه، بل تُنشِئَ لها سَفَرًا منفرِدًا عنِ الحجِّ.
وروى عن ابنِ عَوْنٍ، قالَ: سَمِعْتُ القاسمَ بنَ محمَّدٍ يقولُ: «إنّ العُمْرةَ في أشهُرِ الحجِّ ليسَتْ بتامَّةٍ، قال: فقيلَ له: العُمْرةُ في المحرَّمِ؟ قال: كانوا يَرَوْنها تامَّةً»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٣١) و(٣/٤٥٠).]].
وذلك لأنّ المحرَّمَ ليس مِن أشهُرِ الحَجِّ التي هي مَظِنَّةُ اشتراكِ القاصدِ لمَكَّةَ الجمعَ بينَ الحجِّ والعمرةِ.
قطعُ نيَّةِ الإحرامِ:
ويتوجَّهُ الأمرُ بالإتمامِ في الآيةِ أيضًا إلى تحريمِ قَطْعِ النِّيَّةِ بلا سببٍ إلاَّ المانعَ القاهرَ، كالإحصارِ بعدوٍّ، ولذا قالَ تعالى بعدَ الأمرِ بالإتمامِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، أيْ: طرَأَ ما يَمْنَعُكم من الإتمامِ، جازَ فسخُهُ وعدمُ إتمامِه.
وقد قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلَمَ: «ليستِ العمرةُ واجبةً على أحدٍ مِن الناسِ، قالَ: فقلتُ له: قولُ اللَّهِ تعالى: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، قال: ليس مِن الخَلْقِ أحدٌ يَنبغي له إذا دخَلَ في أمرٍ إلاَّ أن يُتِمَّهُ، فإذا دخَلَ فيها، لم يَنْبَغِ له أن يُهِلَّ يومًا أو يومَيْنِ ثمَّ يَرجِعَ، كما لو صامَ يومًا، لم يَنبغِ له أن يُفطِرَ في نصفِ النَّهارِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٣١ ـ ٣٣٢).]].
ومِن المفسِّرينَ مَن يحمِلُ الأمرَ هنا على الإيجابِ بفرضِ الحجِّ، وهذا مرويٌّ عنِ ابنِ عبّاسٍ وابنِ جُبَيْرٍ وغيرِهما.
معنى إحصارِ المحرمِ:
وقولُهُ تعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، المرادُ بالإحصارِ: الحبسُ والمنعُ، فكلُّ ممنوعٍ مِن إرادتِهِ، فهو مُحصَرٌ، وقيل: إنّ الإحصارَ هو المنعُ بلا حبسٍ.
وقال أبو عُبَيْدةَ: «ما كان مِن مَرَضٍ أو ذَهابِ نَفَقةٍ، قيل فيه: أُحْصِرَ، وما كان مِن سَجْنٍ أو حَبْسٍ، قيل فيه: حُصِرَ، فهو محصورٌ»[[«الفروق اللغوية» لأبي هلال العسكري (ص ١١٥).]].
وبعضُ العلماءِ لم يفرِّقْ بينَ الحَصْرِ والإحصارِ، وأنّ المَرَدَّ إلى الأصلِ، وهو المنعُ قَهْرًا، ولذا قال ابنُ فارسٍ: «والكلامُ في (حَصَرَهُ) و(أحْصَرَهُ) مُشتبِهٌ عندي غايةَ الاشتباهِ، لأنّ ناسًا يَجمَعونَ بينَهما، وآخَرُونَ يَفْرُقُونَ، وليس فَرْقُ مَن فرَقَ بين ذلك ولا جَمْعُ مَن جمَعَ ناقضًا القياسَ الذي ذكَرْناه، بل الأمرُ كلُّه دالٌّ على الحبْسِ»[[«مقاييس اللغة» (٢/٧٢).]].
والمرادُ في الآيةِ: إنْ حبَسَكُمْ شيءٌ عنِ الحجِّ والعُمْرةِ، فما تيسَّرَ ووُجِدَ في أيْدِيكُم مِن الهَدْيِ الذي سُقْتُمُوهُ إلى مَكَّةَ، أن يُذبَحَ في الموضعِ الذي تَمَّ الحصرُ فيه.
وقولُه: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ﴾، أيْ: وُجِدَ وسَهُلَ على الإنسانِ، روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن طاوسٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، قال: «كُلٌّ بِقَدْرِ يَسارَتِهِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٧).]].
وأدناهُ مِن الغَنَمِ: شاةٌ أو مَعْزٌ، قال بهذا ابنُ عبّاسٍ ومجاهِدٌ وعطاءٌ والحسَنُ وعَلْقَمةُ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٣٤٨ ـ ٣٥٣)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٦).]]، وبهذا فسره أحمد[[مسائل ابن منصور (١/٥٤٥).]].
وفسَّرَهُ ابنُ عُمَرَ بالجَزُورِ أوِ البَقَرةِ، وبهذا قال عُرْوةُ بنُ الزُّبَيْرِ وغيرُهُ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/٣٥٤ ـ ٣٥٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٦).]].
ويتَّفِقُ الفقهاءُ مِن السلفِ على أنّ أولى ما يقَعُ عليه الإحصارُ هو إحصارُ العَدُوِّ، واختَلَفُوا فيما يَحبِسُ الإنسانَ عن الحَرَمِ مِن غيرِ العدوِّ، كالمَرَضِ وضياعِ المالِ، والبحثِ عنه، وغيرِ ذلك، ومِن السلفِ مَن رأى كلَّ حابسٍ للإنسانِ يمنعُه مِن الوصولِ إلى الحَرَمِ، فهو إحصارٌ، له أن يتحلَّلَ به، وذلك للاشتراكِ في العِلَّةِ، وهي الحَبْسُ، والحُكْمُ يدورُ مع العِلَّةِ وجودًا وعدمًا، ثمَّ إنّ الوحيَ لم يَربِطِ الإحصارَ بعدوٍّ، وإنّما أطلَقَهُ، كما في الآيةِ، فقالَ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، ثمَّ إنّ غالِبَ أحكامِ القرآنِ تُؤخَذُ على عمومِها ما لم تُقيَّدْ.
وقد روى ابنُ جريرٍ، عن عليٍّ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، قولَه: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، يقولُ: «مَن أحرَمَ بحَجٍّ أو بعُمْرةٍ، ثمَّ حُبِسَ عن البيتِ بمَرَضٍ يُجْهِدُهُ، أو عُذْرٍ يَحْبِسُهُ، فعليه قَضاؤُها»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٣).]].
وروى عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ، قال: «الإحصارُ كلُّ شيءٍ يَحْبِسُهُ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٢ ـ ٣٤٣).]].
وروى عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، أنّه كان يقولُ: «الحَصْرُ: الحَبْسُ كلُّه»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٢).]].
وقال به قتادةُ، وعروةُ بنُ الزُّبَيْرِ[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٣).]]، وهو الصحيحُ.
ويُغنِي عنِ التدليلِ على عمومِ الإحصارِ ما جاء في «المسنَدِ» و«السُّنَنِ»، عن عكرمةَ مِن حديثِ الحَجّاجِ بنِ عَمْرٍو الأَنْصاريِّ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: (مَن كُسِرَ أوْ عَرَجَ، فَقَدْ حَلَّ، وعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرى)، قالَ عِكرِمةُ: فَذَكَرْتُ ذلك لاِبْنِ عَبّاسٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقالا: صَدَقَ[[أخرجه أحمد (١٥٧٣١) (٣/٤٥٠)، وأبو داود (١٨٦٢) (٢/١٧٣)، والترمذي (٩٤٠) (٣/٢٦٨)، والنسائي (٢٨٦١) (٥/١٩٨)، وابن ماجه (٣٠٧٧) (٢/١٠٢٨).]].
ورُوِيَ عنِ ابنِ عبّاسٍ خلافُ قولِه السابقِ، وأنْ لا إحصارَ إلاَّ إحصارُ العَدُوِّ، رواهُ طاوسٌ، وعَمْرُو بنُ دينارٍ، عنِ ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٦).]].
وحمَلَ بعضُ الفقهاءِ قولَ ابنِ عبّاسٍ هذا على أنه قصَدَ سبَبَ نزولِ الآيةِ، يعني: أنّها لم تنزِلْ في حصرِ مَرَضٍ، ولم يُرِدِ ابنُ عبّاسٍ حَصْرَ الحُكْمِ، وإنّما أرادَ حَصْرَ سببِ النزولِ، والدليلُ على ذلك: أنّه ثبَتَ عنهُ وعن غيرِ واحدٍ مِن أصحابِه ـ العُذْرُ بحَصْرِ غيرِ العَدُوِّ على ما تقَدَّمَ.
وقال بعدَمِ الإحصارِ بغيرِ العدوِّ: ابنُ عُمرَ، وثبَتَ عنه أيضًا القولُ بالإحصارِ بالمرَضِ، فقد روى مالكٌ، عَن سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ: «أنّ ابنَ عُمَرَ ومَرْوانَ وابنَ الزُّبَيْرِ أفْتَوُا ابنَ حُزابَةَ المَخْزوميَّ، وقد صُرِعَ ببعضِ طريقِ مَكَّةَ وهو مُحرِمٌ: أنْ يتداوى بما لا بدَّ له منه، ويَفتدِيَ، فإذا صَحَّ، اعتَمَرَ، فحَلَّ مِن إحرامِه، وكان عليه أن يحُجَّ عامَ قابلٍ، ويُهدِيَ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١/٣٦٢).]].
ولعلَّه أرادَ مَنعَ قَبُولِ الإحصارِ مِن أيِّ مرَضٍ إلاَّ المَرَضَ الذي يَحبِسُ الإنسانَ حبسًا يُشابِهُ حَبْسَ العدوِّ، فالعدوُّ يُخشى منه الهَلَكةُ، وأمّا المَرَضُ الذي يستطِيعُ معه المُحرِمُ الوصولَ ولو محمولًا على دابَّةٍ بلا كُلْفةٍ كبيرةٍ ولا خوفٍ على نَفْسِه، فلا يشابِهُهُ.
وهذا هو الأليقُ بجمعِ الأقوالِ التي ظاهِرُها التعارضُ في هذه المسألةِ عن الصحابةِ.
وفي هذا دفعٌ للتساهُلِ الذي يَعرِضُ للناسِ بِقطعِ النُّسُكِ عندَ كلِّ عارضٍ مِن العوارضِ الصِّحِّيَّةِ أو النفسيَّةِ أو الماليَّةِ.
والهَدْيُ هو ما ساقَهُ أو بعَثَهُ أو قصَدَ الإنسانُ ذَبْحَهُ بمَكَّةَ مِن بهيمةِ الأنعامِ، مِن الإبلِ ـ وهي أعظَمُها ـ ثمَّ البَقَرِ، ثمَّ الغنَمِ، وكانتِ العربُ تعظِّمُها حتّى في الجاهليَّةِ، ومِن العرَبِ مَن يُقسِمُ بها مِن دُونِ اللهِ تعظيمًا لها.
قال قيسُ بنُ ذَرِيحٍ:
ولَوْ تَعْلَمِينَ الغَيْبَ أيْقَنْتِ أنَّنِي
لَكُمْ والهَدايا المُشْعَراتِ صَدِيقُ
وقال الآخَرُ:
حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ والهَدايا
وأَيْدِي السّابحاتِ غَداةَ جَمْعِ
وقولُهُ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ جعَلَ بعضُ المفسِّرينَ النَّهْيَ عن الحَلْقِ معطوفًا على قولِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، لا على قولِهِ تعالى: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ فقَطْ، أيْ: لا تتحلَّلُوا ممّا كان قد حَرُمَ عليكُمْ حتّى يبلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ ممّا كتبَهُ اللهُ أن يُذبَحَ فيه زمانًا ومكانًا:
وقتُ تحلُّلِ الحُجّاجِ:
أمّا الزمانُ: فيومُ النَّحْرِ وما بعدَهُ مِن أيّامِ التشريقِ، وأمّا المكانُ: ففي مِنًى أو غيرِها مِن الحَرَمِ لِمَن قدَرَ على بَعْثِهِ أن يَبْعَثَهُ، ومَن لم يَقدِرْ على بَعْثِهِ هُناك، فيَنحَرُهُ في موضعِهِ، كما فعَلَهُ النبيُّ ﷺ حيثُ نحَرَ هَدْيَهُ بالحديبيةِ، لأنّه أُحصِرَ فيها، ولم يَنتظِرِ النبيُّ يومَ النَّحْرِ، لأنّه لم يَبعَثْ بِهَدْيِهِ إلى مَكَّةَ، فسقَطَ عنه انتظارُ الذبحِ يومَ النحرِ، وهذا قولُ ابنِ جريرٍ.
وذهَبَ بعضُ المفسِّرينَ إلى أنّ قولَهُ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ معطوفٌ على قولِهِ: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، وليس معطوفًا على قولِه: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، وذلك أنّ النبيَّ ﷺ نحَرَ هَدْيَهُ في مكانِه، فيجوزُ نَحْرُ الهَدْيِ في أيِّ موضعٍ للمُحصَرِ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ وغيرِهما.
مكان ذبحِ هدي المحصَرِ:
والذي يَظهَرُ: أنّ المُحصَرَ الذي ساقَ الهَدْيَ وقدَرَ على بَعْثِهِ إلى مَكَّةَ، أنّه يبعَثُهُ إلى مَن ينحَرُهُ هناك بمِنًى، وفِعْلُ النبيِّ يومَ الحديبيةِ كان لعجزِه عن الوصولِ إلى مِنًى، وقد كان يبعَثُ بِهَدْيِهِ إلى مَكَّةَ وهو غيرُ حرامٍ، ليُنحَرَ يومَ النحرِ بِمِنًى، والمُحصَرُ القادِرُ على بَعْثِ هَدْيِهِ مِن بابِ أولى، قال بهذا عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبّاسٍ، ومجاهِدٌ، وابنُ سِيرِينَ، وقتادةُ، ومُقاتِلُ بنُ حَيّانَ، وحمّادٌ، وأبو حنيفةَ، وغيرُهم.
روى ابنُ جريرٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَمةَ، قال: سُئِلَ عليٌّ رضي الله عنه عن قولِ اللَّهِ عزّ وجل: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾: «فإذا أُحصِرَ الحاجُّ، بعَثَ بالهَدْيِ، فإذا نحَرَ عنه، حَلَّ، ولا يَحِلُّ حتّى يَنحَرَ هَدْيَهُ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٦٧).]].
وروى إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ في «تَفسيرِه»، والبخاريُّ معلَّقًا في «صحيحِهِ»، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: «إنَّما البَدَلُ عَلى مَن نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمّا مَن حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غَيْرُ ذلك، فَإنَّهُ يَحِلُّ، ولا يَرْجِعُ، وإنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ وهُوَ مُحْصَرٌ، نَحَرَهُ إنْ كانَ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَبْعَثَ بِهِ، وإنِ اسْتَطاعَ أنْ يَبْعَثَ بِهِ، لم يَحِلَّ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ»[[«صحيح البخاري» (٣/٩).]].
ومِن العلماءِ مَن قال: إنّ النبيَّ ﷺ نحَرَ هَدْيَهُ في الحَرَمِ يومَ الحديبيةِ، وهو قولُ عَطاءٍ، ومحمَّدِ بنِ إسحاقَ، وفيه نَظرٌ، فالحديبيةُ ليست كلُّها مِن الحَرَمِ على الصحيحِ، بل منها مِن الحَرَمِ، ومنها مِن غيرِه، والنبيُّ ﷺ نحَرَ خارِجَهُ، قالَهُ الشافعيُّ، وقريشٌ أرادَتْ صَدَّهُ عن حدودِ الحَرَمِ، وهي تَعرِفُ حدودَهُ، ورُوِيَ في أحاديثَ أنّ النبيَّ ﷺ بعَثَ بهَدْيِهِ إلى حدودِ الحَرَمِ، ورُوِيَ أنّ اللهَ أمَرَ رِيحًا، فأخَذَتْ شعورَ الهَدْيِ، فأدخلَتْهُ الحرَمَ، وفيها نَظَرٌ، ولو كان ذلك لاشتَهَر.
ولو كان النبيُّ ﷺ ذبَحَ في الحرَمِ مِن الحديبيةِ، ما جعَلَ اللهُ الصَّدَّ صَدًّا عن الحَرَمِ، حيثُ قال: ﴿وصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥]، ومَحِلُّ الهَدْيِ الحرَمُ، ولمّا كانَ في غيرِ مَحِلِّهِ، فهو في غيرِ الحَرَمِ.
ورُوِيَ عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عَن مجاهدٍ، في قولِه: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾: «يَمْرَضُ إنسانٌ أو يُكْسَرُ، أو يَحبِسُه أمرٌ، فغلَبَهُ كائنًا ما كان، فَلْيُرْسِلْ بما استيسَرَ مِن الهَدْيِ، ولا يَحلِقْ رأسَهُ، ولا يَحِلَّ، حتّى يومِ النَّحْرِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٣٤٢).]].
وقولُه: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾: مَحِلُّ الهديِ الحرَمُ كلُّه، وأفضلُهُ مِنًى.
والمُحصَرُ له أجرُ النُّسُكِ تامًّا، لكنَّه يجبُ عليه الحَجُّ مرَّةً أخرى، إذا كان لم يُؤَدِّ حَجَّةَ الإسلامِ.
حجُّ المحصَرِ من قابلٍ:
واختُلِفَ في المُحصَرِ: هل يجبُ عليه الحجُّ مِن قابلٍ أمْ لا؟ على قولَيْنِ للعلماءِ، والأظهرُ: أنّه لا يجبُ عليه ذلك إلاَّ إذا كان لم يُؤَدِّ حَجَّةَ الإسلامِ، لأنّ الحجَّ على الفورِ على الصحيحِ، ولم يثبُتْ أنّ النبيَّ ﷺ طلَبَ ممَّن كان معه في الحديبيةِ جميعًا أن يَحُجُّوا مِن قابلٍ، وهذا ظاهرُ قولِ ابنِ عبّاسٍ، فإنّه لم يجعَلِ الرجوعَ مِن قابِلٍ واجبًا إلاَّ على مَن أفسَدَ حَجَّهُ بالتلذُّذِ، وهو الجِماعُ.
فقد روى البخاريُّ معلَّقًا، وابنُ راهَوَيْهِ موصولًا، عن مجاهِدٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «إنَّما البَدَلُ عَلى مَن نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمّا مَن حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غَيْرُ ذلك، فَإنَّهُ يَحِلُّ، ولا يَرْجِعُ»[[«صحيح البخاري» (٣/٩).]].
ورواهُ ابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عبّاسٍ، بنحوِه[[«تفسير الطبري» (٣/٣٦٦).]].
وقال به الشافعيُّ وغيرُه.
وقد روى الواقديُّ في «المَغازي»، عنِ الزُّهْريِّ وأبي مَعشَرٍ مُرسَلًا: «أنّ النبيَّ ﷺ أمَرَ أصحابَهُ أنْ يَعتَمِروا، وألاَّ يتخلَّفَ أحدٌ ممَّن شَهِدَ الحديبيةَ، فلم يتخلَّفْ مِنهم إلاَّ مَن قُتِلَ بخَيْبَر أو ماتَ، وخرَجَ معه جماعةٌ مُعتمِرِينَ ممَّن لم يَشْهَدِ الحُدَيْبِيَةَ، وكانت عِدَّتُهم ألْفَيْنِ»[[«مغازي الواقدي» (٢/٧٣١).]].
وهذه مراسيلُ.
وقوله تعالى: ﴿وأَتِمُّوا الحَجَّ والَعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ بِهِ أذىً مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمْوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ ﴾: إنّما ذكَرَ الحَلْقَ، لأنّه أعمُّ مِن التقصيرِ، فكلُّ محلِّقٍ مقصِّرٌ، وليس كلُّ مقصِّرٍ محلِّقًا، والحَلْقُ أفضَلُ وأكمَلُ.
وذكَرَ الرأسَ، لأنّ اللِّحْيةَ لا تُحلَقُ، بل لا يجوزُ حَلْقُها بالاتِّفاقِ، وإنّما تقصَّرُ في النسكِ على قولِ بعضِ السَّلَفِ مِن الصحابةِ وغيرِهم، فقد كان ابنُ عُمَرَ وابنُ عبّاسٍ يقولانِ بالأخذِ منها عندَ التحلُّلِ، ويتأوَّلانِ قولَ اللهِ تعالى: ﴿لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩].
ورواه ابنُ جريرٍ، عنِ ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج: ٢٩]، قالَ: «حَلْقُ الرَّأْسِ، وحَلْقُ العانَةِ، وقَصُّ الأَظْفارِ، وقَصُّ الشّارِبِ، ورَمْيُ الجِمارِ، وقَصُّ اللِّحْيةِ»[[«تفسير الطبري» (١٦/٥٢٧).]].
مشروعيَّةُ استيعاب حلْقِ الرأسِ:
وذِكرُ الحَلْقِ في الآيةِ تنويهٌ بما هو أولى بالنُّسُكِ، وهو الحَلْقُ، وأنّ أخْذَ شَعَراتٍ يسيراتٍ لا يسمّى حلقًا ولا تقصيرًا، حتّى يَستوعِبَ شعرَ الرأسِ أو أكثَرَهُ، أخذًا أو تَقصيرًا، ولذا ذكَرَ الرأسَ، ولم يذكُرِ الشَّعْرَ، فقال: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ﴾ ولم يقلْ: «ولا تَحلِقوا الشَّعْرَ»، تنبيهًا على تأكيدِ استيعابِ الرأسِ، وأنّ مَن أخَذَ مِن ناصيتِهِ، لم يأخُذْ مِن رأسِه، وإنّما أخَذَ مِن شعرِهِ أو مِن ناصيتِهِ.
والمرأةُ تأخُذُ مِن رأسِها قدرَ الأُنْمُلَةِ، فتجمَعُهُ بيَدِها، ثُمَّ تأخُذُ منه، ويُجزِئُها ذلك.
والأَصْلَعُ يُمِرُّ المُوسى على رأسِهِ، كما قاله ابنُ عُمَرَ.
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنّ الذَّبْحَ قبلَ الحَلْقِ، ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، واختَلَفُوا في وجوبِ الترتيبِ في ذلك، وقد قال بالوجوبِ ابنُ عبّاسٍ، وعَلْقمةُ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، والنَّخَعيُّ، وغيرُهم.
روى ابنُ أبي حاتمٍ في «تفسيرِه»، عن إبراهِيمَ، عن عَلْقَمةَ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾: «فإنْ عَجَّلَ فَحَلَقَ قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ مِن صِيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نُسُكٍ، قال إبْراهِيمُ: فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فَقالَ: هَذا قَوْلُ ابنِ عَبّاسٍ، وعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلاثِينَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٧).]].
قولُه: ﴿فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ بِهِ أذىً مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾:
المرادُ بالمَرَضِ: أيُّ مرَضٍ يُضطَرُّ الإنسانُ معَهُ إلى ارتكابِ محظورٍ مِن محظوراتِ الإحرامِ، وذلك كمَرَضِ الرأسِ بالقَرْحِ والحِكَّةِ الشديدةِ، والأَذى: كالقُمَّلِ الذي يؤذِي، لكثرتِهِ فيحتاجُ الإنسانُ لأجلِ ذلك إلى حَلْقِ شعرِ رأسِه.
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ: ﴿فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا﴾: «يَعْنِي بِالمَرَضِ: أنْ يَكُونَ بِرَأْسِهِ أذًى أوْ قَرْحٌ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٨).]].
كفّارةُ الأذى:
والكفّارةُ في ذلك على التخييرِ بين ثلاثةِ أشياءَ:
أوَّلُها: الفِدْيةُ، وهو الدَّمُ ممّا يُذبَحُ مِثلُهُ هَدْيًا، أدناهُ مِن الغنَمِ، وأعلاهُ مِن الإبلِ.
ثانيها: الصيامُ.
ثالثُها: الإطعامُ.
قال ابنُ عبّاسٍ: «بأيِّها أخَذْتَ أجزَأَك»، رَواهُ لَيْثٌ، عن مجاهِدٍ، عنه، أخرَجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٣٩).]].
وقال به مجاهِدٌ وعِكْرِمةُ وعطاءٌ، وطاوُسٌ والحسَنُ والنَّخَعيُّ وغيرُهم.
والصيامُ ثلاثةُ أيّامٍ، والإطعامُ لِسِتَّةِ مساكينَ، والفِدْيةُ أدناها شاةٌ، لما ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، عن كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، عن رسولِ اللهِ ﷺ، أنَّهُ قالَ: (لَعَلَّكَ آذاكَ هَوامُّكَ؟)، قالَ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (احْلِقْ رَأْسَكَ، وصُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ، أوِ انْسُكْ بِشاةٍ) [[أخرجه البخاري (١٨١٤) (٣/١٠)، ومسلم (١٢٠١) (٢/٨٥٩).]].
قولُه: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾:
المرادُ إذا أمِنَ الإنسانُ ممّا يمنعُهُ مِن الإتيانِ بنُسُكِهِ كما أمَرَهُ اللهُ به، سواءٌ مَنعًا تامًّا، وهو الإحصارُ بعدوٍّ أو مَرَضٍ حابسٍ، أو كان الإنسانُ صحيحًا آمِنًا مِن كلِّ أذًى في رأسِهِ أو نفسِهِ يُلزِمُهُ ارتكابَ المحظوراتِ، فإنّه لا يجِبُ عليه عندَ التمتُّعِ إلاَّ هَدْيٌ واحدٌ ممّا تيسَّر.
ومِن المفسِّرينَ: مَن فَسَّرَهُ بالأمانِ مِن الإحصارِ، وهو قولُ ابنِ الزُّبَيْرِ، رواهُ عنه عطاءٌ.
والأرجَحُ عمومُ الأمانِ، وهذا هو المعروفُ عنِ ابنِ عبّاسٍ وغيرِهِ، كما رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عنِ ابنِ جُرَيْجٍ، قالَ: «قُلْتُ لِعَطاءٍ: «أكانَ ابنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾، أمِنتَ أيُّها المُحْصَرُ، وأَمِنَ النّاسُ، ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ ؟ فَقالَ: لم يَكُنِ ابنُ عَبّاسٍ يُفَسِّرُها كَذا، ولَكِنَّهُ يَقُولُ: تَجْمَعُ هَذِهِ الآيَةُ ـ آيَةُ المُتْعَةِ ـ كُلَّ ذلك، المُحْصَرَ والمُخَلّى سَبِيلُهُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٠).]].
وهو محمولٌ على كلِّ مانعٍ مِن الوصولِ إلى البيتِ ولو مرَضًا، وكلِّ مانعٍ مِن إتمامِ الحجِّ كما شرَع اللهُ ممّا دُونَ الحَبْسِ والإحصارِ.
فقَد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن إبراهِيمَ، عن عَلْقَمةَ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾، يقولُ: «إذا بَرَأَ فَمَضى مِن وجْهِهِ ذلك حَتّى يَأْتِيَ البَيْتَ، حَلَّ مِن حَجِّهِ بِعُمْرَةٍ، وكانَ عَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ، فَإنْ هُوَ رَجَعَ ولَمْ يُتِمَّ إلى البَيْتِ مِن وجْهِهِ ذلك، كانَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ، لِتَأْخِيرِ العُمْرَةِ، فَقالَ إبْراهِيمُ: فَذَكَرْتُ ذلك لِسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ، فَقالَ: هَكَذا قالَ ابنُ عَبّاسٍ فِي هَذا كُلِّهِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٠). وينظر: «تفسير الطبري» (٣/٤١٣).]].
وذكَرَ التمتُّعَ في الآيةِ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾، لأنّه هو ما كان عليهِ عمَلُهم، فغالِبُ عَمَلِ النبيِّ والصحابةِ إمّا كانوا قارِنِينَ أو متمتِّعِينَ، وكلُّ ذلك يسمّى مُتْعةً، لأنّه جَمْعٌ بينَ الحجِّ والعُمْرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
ثمَّ إنّ ذلك هو النُّسُكُ (التمتُّعُ والقِرانُ) الذي يجِبُ معه الهَدْيُ، بخلافِ الإفرادِ، فالهَدْيُ فيه مستحَبٌّ غيرُ واجبٍ.
وقد استدل أحمد بهذه الآية على أن السفر يقطع التمتع، فقد سئل عن الرجل يدخل مكة متمتعًا ثم يخرج لسفر؟ قال: إنما المتمتع الذي يقيم للحج، فإن لم يقم للحج فليس بمتمتع قال تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ [[مسائل ابن هاني (١/١٥١)، ومسائل ابن منصور (١/٥٢٦).]].
حكمُ العاجزِ عنِ الهدي الواجبِ:
قولُه: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾:
ومن كان عاجزًا عن دمِ الهَدْيِ الواجِبِ على المتمتِّعِ، أو الواجِبِ على مَن أُصِيبَ بِأَذًى ممَّنْ وقَعَ في محظورٍ، فعليه أنْ يصومَ بدلًا عن الهَدْيِ الذي عجَزَ عنه ثلاثةَ أيّامٍ في حَجِّهِ، وسبعةً إذا رجَع إلى أهلِه، ومجموعُها عَشَرةٌ كامِلةٌ.
فأمّا صيامُ الأيّامِ الثلاثةِ في الحَجِّ: فوقتُها منذُ بدايتِهِ بالإهلالِ إلى يومِ عَرَفةَ، يصومُ أيَّ وقتٍ شاء، مجتمِعًا أو مفرَّقًا، ومَن عجَزَ أو نَسِيَ صيامَها قبل يومِ عَرَفةَ، جازَ أنْ يصومَ أيّامَ التشريقِ.
روى مالكٌ، عن عائشةَ، أنّها كانت تقولُ: «الصِّيامُ لِمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، لِمَن لم يَجِدْها ما بَيْنَ أنْ يُهِلَّ بِالحَجِّ إلى يَوْمِ عَرَفَةَ، فَمَن لم يَصُمْهُ، صامَ أيّامَ مِنًى»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٢).]].
ورُوِيَ هذا عنِ ابنِ عُمَرَ، وابنِ عَبّاسٍ، وعِكْرِمةَ والحسَنِ وعَطاءٍ وطاوسٍ.
ولطاوسٍ وعطاءٍ قولٌ آخَرُ: أنّه يصومُها في العَشْرِ الأُوَلِ من ذي الحِجَّةِ، وآخِرُها عرَفةُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٢).]].
ورُوِيَ عن عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ وعُرْوةَ بنِ الزُّبَيْرِ صيامُها في أيّامِ التشريقِ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٢).]].
ولا بأسَ بتفريقِها وصيامِ شيءٍ منها في شَوّالٍ، وهو قولُ مجاهِدٍ وطاوُسٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٣).]]، لأنّ شوّالًا مِن أشهُرِ الحجِّ، وفيه يبدأُ إحرامَهُ للحجِّ إنْ تعجَّلَهُ.
ويَظهَرُ أنّه لو صامَها قبلَ عَرَفةَ، فهو أفضَلُ، لأنّ النُّسُكَ بحاجةٍ إلى قوَّةٍ وجَلادةٍ لأداءِ الشعائرِ، واجتهادٍ في الدعاءِ، ولذا لم يَصُمِ النبيُّ ﷺ وعامَّةُ أصحابِه في الحجِّ في يومِ عَرَفةَ مع فضلِ صيامِه، وأنّه يكفِّرُ سنةً ماضيةً وسنةً مستقبَلةً، لأنّ الدعاءَ في عَرَفةَ والاجتهادَ فيه كما اجتهَدَ النبيُّ ﷺ: أفضَلُ مِن صيامِ عَرَفةَ، لأنّ المرجُوَّ المغفرةُ، وأسبابُها بالدعاءِ في هذا اليومِ أقوى مِن الصيامِ، فربَّما صامَ الحاجُّ ولم يَجِدْ قُوَّةً على الاجتهادِ في الدعاءِ وطولِ الوقوفِ يومَ عَرَفةَ مِنَ الجوعِ والعَطَشِ، فيفوتُهُ فضلٌ كبير.
ومِن العلماءِ: مَن جعَلَ الأيّامَ الثلاثةَ: اليومَ السابعَ، واليومَ الثامنَ، وهو يومُ التَّرْوِيَةِ، واليومَ التاسعَ، وهو يومُ عرَفةَ.
وقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن جَعْفَرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ، أنَّه كان يقولُ: ﴿فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ فِي الحَجِّ﴾: «قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، ويَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ويَوْمَ عَرَفَةَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٢).]].
ورُوِيَ عنِ الشَّعْبيِّ والنَّخَعيِّ والحَكَمِ وحَمّادٍ.
وأمّا صيامُ السَّبْعةِ إذا رجَعَ: فيجوزُ صيامُها في الطريقِ، وإنْ أخَّرَها عندَ رجوعِهِ واستقرارِهِ، فهو أفضَلُ، لأنّ السفرَ ليس مَحِلًّا لصيامِ الفرضِ المطلَقِ، ولا صيامِ النافلةِ.
وإنّما جعَلَ اللهُ صيامَها عندَ الرجوعِ إلى بَلَدِهِ، رُخْصةً ورَحْمةً به، لأنّه أمَرَ بصيامِ الثلاثةِ في الحجِّ، وجُعِلَتْ أقرَبَ شيءٍ لِعَرَفةَ في كلامِ أكثرِ المفسِّرينَ، لأنّه قد وصَلَ إلى مَكَّةَ، وفي حالِ راحةٍ، لا في حالِ سَيْرٍ غالبًا، وجعلَ السبعةَ في حالِ رجوعِه وقَرارِه، ولو صامَها مسافِرًا في عَوْدَتِه، جازَ، روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن منصورٍ، عن مجاهِدٍ: ﴿وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾، قال: «إنْ شاءَ صامَها فِي الطَّرِيقِ، إنَّما هِيَ رُخْصَةٌ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٣).]].
العمرةُ للمكِّيِّين:
وقولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾، لأنّ العُمْرةَ لا تكونُ على المكِّيِّينَ، فمُتْعةُ الحجِّ لأهلِ الآفاقِ، لا للمَكِّيِّينَ.
رُوِيَ هذا عنِ ابنِ عَبّاسٍ وابنِ عُمَرَ وعَطاءٍ وطاوُسٍ ومجاهِدٍ والحسَنِ والزُّهْريِّ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٤).]]، وبهذه الآية استدل أحمد على ذلك وأنه ليس على أهل مكة هدي ولا لمن كان بأطراف ما تقصر فيه الصلاة[[بدائع الفوائد (٣/١٠٣).]].
المراد بـ«حاضري المسجِدِ الحرامِ»:
وتنوَّعَ تفسيرُ: ﴿حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ في كلامِ السَّلَفِ:
فمِنهم مَن قال: «هم مَن سكَنَ حدودَ الحَرَمِ»، قاله مجاهِدٌ[[«تفسير الطبري» (٣/٤٣٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٤).]].
وقال يحيى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ: «مَن كانَ أهلُهُ على مسيرةِ يَوْمٍ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٤٤).]].
ويَظهَرُ مِن الآيةِ ومِن قولِ جمهورِ السَّلَفِ: أنّهم لا يَختلِفونَ فيمَن كان في حدودِ الحَرَمِ، وإنّما يَختلِفونَ فيمَن هو خارِجَها، ومكَّةُ اليومَ غيرُ مَكَّةَ في الصَّدْرِ الأوَّلِ، فقد اتَّسَعَتْ وتَغَيَّرَتْ مَعالِمُها، حتّى بلَغَ البُنْيانُ متَّصِلًا إلى مَواضِعَ يقصُرُ فيها بعضُ السَّلَفِ الصلاةَ، فيَظْهَرُ أنّ مَن كان دونَ القَصْرِ مِن مَكَّةَ، فهو مِن أهلِها وبهذا قيده أحمد، ومَرَدُّ ذلك إلى العُرْفِ.
التحذيرُ من التساهُلِ في المناسِكِ:
قولُه: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ واعْلَمْوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ ﴾، أمَرَ بتَقْواهُ، بعدَ أنْ بيَّنَ حدودَهُ في الحَجِّ، حتّى لا تُخرَمَ تلك الحدودُ، وللتأكيدِ على أهميَّةِ الإتيانِ بها.
ثمَّ جاء تحذيرٌ ووعيدٌ مِن التفريطِ في تلك الحدودِ، وبيانٌ لِخَطَرِ تغييرِها والتساهُلِ بها، وأنّ ما وضَحَتْ مَعالِمُه مِن حدودِ اللهِ في مَناسِكِ الحجِّ، لا ينبغي لأحدٍ أن يتساهَلَ فيه، متذرِّعًا بعمومِ قولِهِ ﷺ: (افْعَلْ ولا حَرَجَ) [[أخرجه البخاري (٨٣) (١/٢٨)، ومسلم (١٣٠٦) (٢/٩٤٨)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما.]]، فإنّ ذلك كان في أعمالِ يومِ النَّحْرِ، لا في كلِّ مَناسكِ الحجِّ.
{"ayah":"وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق