الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ .
فالمَنقُولُ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وطاوُسٍ، أنَّ الإتْمامَ فِيهِما أنْ تُحْرِمَ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ.وقالَ مُجاهِدٌ: إتْمامُهُما بُلُوغُ آخِرِهِما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما، وذَلِكَ أشْبَهُ بِالظّاهِرِ، ودَلَّ عَلَيْهِ ما بَعْدَهُ فَإنَّهُ قالَ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾، والإحْصارُ إنَّما يَمْنَعُ الإتْمامَ بَعْدَ الشُّرُوعِ، ويُوجِبُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهُدْيِ عِنْدَ ذَلِكَ قَدْ وجَبَ الإتْمامُ إجْماعًا، ويَظْهَرُ أنَّ مَأْخَذَ وُجُوبِهِ هَذِهِ الآيَةَ، ولا فَصْلَ فِيهِ بَيْنَ الحَجِّ الأوَّلِ والثّانِي، والعُمْرَةِ الأُولى والثّانِيَةِ، (p-٩٠)قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ الآيَةُ. ذَكَرَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ لا يُقالُ في العَدُوِّ: ”أُحْصِرْتُمْ“، وإنَّما يُقالُ: ”حَصَرْتُمْ“، وهو كَقَوْلِهِ حَبَسَهُ إذا جَعَلَهُ في الحَبْسِ، وأحْبَسَهُ أيْ: عَرَضَهُ لِلْحَبْسِ، وقَتْلَهُ إذا أوْقَعَ بِهِ القَتْلَ، وأقْتَلَهُ إذا عَرَضَهُ لِلْقَتْلِ، وقَبَرَهُ إذا جَعَلَهُ في القَبْرِ، وأقْبَرَهُ عَرَضَهُ لِلدَّفْنِ في القَبْرِ، كَذَلِكَ حَصَرَهُ حَبَسَهُ وأوْقَعَ بِهِ الحَصْرَ، وأحْصَرَهُ عَرَضَهُ لِلْحَصْرِ.
فَإذا كانَ كَذَلِكَ، فالعَدُوُّ إذا كانَ بَعِيدًا مِنهُ عَلى الطَّرِيقِ، فَهَذا هو التَّعْرِيضُ لِلْحَصْرِ، وهو مُتَعَرِّضٌ بِهِ لِأنْ يَنْحَصِرَ، ولَيْسَ بِمَحْصُورٍ في الحالِ ولا مَحْبُوسًا، ولَكِنَّهُ مُعَرَّضٌ لِذَلِكَ، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ:
فَإنْ عَرَضْتُمْ لِلْحَبْسِ والمَنعِ، وإنْ لَمْ يَلْحَقْكم في الحالِ حَصْرٌ ولا مَنعٌ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ بِالعَدُوِّ، أمّا المَرِيضُ فَقَدِ احْتَبَسَ عَلَيْهِ المُضِيُّ في الحالِ، فَلَيْسَ هو مُعْرَضًا بَلْ هو مَحْصُورٌ في الحالِ، وقَدْ حَصَرَهُ المَرَضُ، ولِذَلِكَ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ذَهَبَ الحَصْرُ الآنَ.
وكَذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في شَأْنِ الحُدَيْبِيَةِ، وما كانَ مِن حَصْرٍ إلّا العَدُوُّ، ولا يَجُوزُ أنْ لا يُذْكَرَ سَبَبُ النُّزُولِ ويُذْكَرَ غَيْرُهُ، مِمّا يَدُلُّ عَلى العَدُوِّ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْباطِ والدَّلالَةِ(p-٩١)وقالَ تَعالى بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾، فَلَوْ كانَ المَرَضُ مَذْكُورًا في أوَّلِ الآيَةِ، لَمْ يُذْكَرِ المَرَضُ بَعْدَهُ، وإذا ذُكِرَ المَرَضُ في أوَّلِ الآيَةِ، وكانَ يَحِلُّ بِذَلِكَ الدَّمُ المَذْبُوحُ في مَحِلِّهِ، لَمْ يَكُنْ يَحْتاجُ إلى فِدْيَةٍ.
ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَرَضُ ها هُنا هَوامَّ الرَّأْسِ، فَإنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ المَرَضِ فَقالَ: ﴿مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ .
ولَهم أنْ يَقُولُوا: لَعَلَّهُ أباحَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ الهُدِيُ مَحِلَّهُ، إذا حَلَقَ لِلْأذى والمَرَضِ، أوْ عَنى بِهِ مَرَضًا لا يَمْنَعُهُ مِنَ الوُصُولِ إلى البَيْتِ، وإلّا فَأيُّ مَعْنًى لِذِكْرِ المَرَضِ عِنْدَ ذِكْرِ الإحْلالِ، وحُكْمُهُ عِنْدَ عَدَمِ الإحْلالِ يُثْبُتُ؟
ويُحْتَمَلُ عَلى مُوجِبِ مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ قَوْلَهُ: فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا، عائِدٌ إلى أوَّلِ الخِطابِ، كَما عادَ إلَيْهِ حُكْمُ الإحْصارِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ﴾، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ أيْ: صُدِدْتُمْ عَنِ الإتْمامِ، ثُمَّ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ . يَعْنِي: أيُّها المُحْرِمُونَ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ، لِيَكُونَ عَلى هَذا الرَّأْيِ مُثْبِتًا حُكْمَ المَرِيضِ، إذا صُدَّ عَنِ الإتْمامِ أنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وأنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنِ المَرِيضُ مَمْنُوعًا مِنَ الإتْمامِ، فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، لِيَكُونَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ المَرَضِ دُونَ الإحْصارِ، والمَرَضُ عِنْدَ الإحْصارِ.فَقِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ قالَ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾، وذَلِكَ إنَّما يُطْلَقُ عَلى العَدُوِّ لِأنَّ الأمْنَ نَقِيضُ الخَوْفِ، ويُقالُ في نَقِيضِ المَرَضِ الشِّفاءُ. (p-٩٢)نَعَمْ قَدْ يُقالُ: أمِنَ المَرَضَ وزالَ الخَوْفُ مِنهُ، ولَكِنْ لا يُطْلَقُ اسْمُ الأمْنِ عَلَيْهِ غالِبًا.
وحُكِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أنَّهُ لا يَتَحَلَّلُ بِالعَدُوِّ والمَرَضِ إلّا بِأنْ يَلْقى البَيْتَ ويَطُوفَ.وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: الإحْصارُ يَكُونُ مِنَ الحَجِّ دُونَ العُمْرَةِ، وذَهَبَ إلى أنَّ العُمْرَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ وأنَّهُ لا يُخْشى الفَواتُ.والمَذْهَبانِ مُخْتَلِفانِ لِنَصِّ الخَبَرِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَحَلَّلَ مِن عُمْرَتِهِ وكانَ مُحْرِمًا بِها.قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ الآيَةُ:
زَعَمُوا أنَّ مُطْلَقَ المَحِلِّ هو الحَرَمُ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] .
وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] فَجَعَلَ بُلُوغَ الكَعْبَةِ مِن صِفاتِ الهَدْيِ، كَما يُجْعَلُ التَّتابُعُ مِن صِفاتِ الصَّوْمِ ولا خَفاءَ بِوَجْهِ الجَوابِ عَنْ هَذا.
فَقِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ (p-٩٣)مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥]، فَأجابُوا بِأنَّ ذَلِكَ هو الدَّلِيلُ عَلى أنَّ المَحِلَّ هو الحَرَمُ.
فَقِيلَ لَهُمْ: هو كَذَلِكَ في غَيْرِ المُحْصَرِ وهو الأصْلُ، فالإحْصارُ عُذْرٌ نادِرٌ، ودَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥]، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَحَلَّلَ بِذَبْحٍ وقَعَ في الحِلِّ.
فَأجابُوا بِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَبَحَ في الحَرَمِ، ولَكِنْ لَمّا حَصَلَ أدْنى مَنعٍ، جازَ أنْ يُقالَ: إنَّهم مُنِعُوا لِمَنعِهِمُ الهَدْيَ بَدِيًّا قَبْلَ الصُّلْحِ، كَما وصَفَ المُشْرِكِينَ بِصَدِّ المُسْلِمِينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وإنْ كانُوا أطْلَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وقالَ سُبْحانَهُ: ﴿يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ﴾ [يوسف: ٦٣]، وإنَّما مَنَعُوهُ في وقْتٍ وأطْلَقُوهُ في وقْتٍ آخَرَ.
وقَدْ جَوَّزَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ، ذَبْحَ هَدْيِ الإحْصارِ في الحَجِّ مَتى شاءَ.
وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والثَّوْرِيُّ لا يَرَوْنَ الذَّبْحَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَكَأنَّهم يَقِيسُونَ الزَّمانَ عَلى المَكانِ، ويَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، والمَحِلُّ يَقَعُ عَلى الوَقْتِ والمَكانِ جَمِيعًا فَكانَ عُمُومًا.
ولا شَكَّ أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ العُمْرَةَ أيْضًا، ووَرَدَتِ الآيَةُ في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وهَدْيُ العُمْرَةِ لا يَتَأقَّتُ بِزَمانٍ بِالِاتِّفاقِ.
ولَهم أنْ يَقُولُوا: في الآيَةِ ذِكْرُ الحَجِّ والعُمْرَةِ، وذِكْرُ مَحِلِّ الهَدْيِ فَهو عُمُومٌ إلّا ما خَصَّهُ دَلِيلُ الإجْماعِ.
ونَقُولُ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ: إنَّ الِاخْتِصاصَ بِمَكانِ التَّحَلُّلِ، يَدُلُّ عَلى (p-٩٤)الِاخْتِصاصِ بِزَمانِ التَّحَلُّلِ، وزَمانُ التَّحَلُّلِ هو يَوْمُ النَّحْرِ، وهَذا عَلى أصْلِ أبِي حَنِيفَةَ لازِمٌ، أمّا الشّافِعِيُّ فَإنَّهُ يَعْتَبِرُ مَعْنى الحاجَةِ في جَوازِ تَرْكِ الزَّمانِ والمَكانِ جَمِيعًا، نَظَرًا إلى مَعْنى الرُّخْصَةِ.
ولَمّا قالَ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ ظَهَرَ مِنهُ أنَّهُ إذا بَلَغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ جازَ الحَلْقُ، ولَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِهِ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِباحَةَ المَحْظُورِ الَّذِي كانَ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ.
وأبُو يُوسُفَ يُوجِبُهُ في رِوايَةٍ.
والَّذِي لا يُوجِبُ الحَلْقَ يَقُولُ: إنَّهُ لَمّا سَقَطَ عَنْهُ سائِرُ المَناسِكِ الَّتِي لَمْ يَتَعَذَّرْ فِعْلُها، مِثْلُ الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ، ورَمْيِ الجِمارِ، ولَمْ يُمْكِنْهُ الوُصُولُ إلى البَيْتِ، ولا الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، فَلا يَلْزَمُهُ الوُقُوفُ بِالمُزْدَلِفَةِ، ولا رَمْيُ الجِمارِ مَعَ إمْكانِهِما، لِأنَّهُما مُرَتَّبانِ عَلى مَناسِكَ تَتَقَدَّمُهُما، كَذَلِكَ الحَلْقُ مُرَتَّبٌ عَلى أفْعالٍ أُخَرَ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ قَبْلَها نُسُكًا.
وحُجَّةُ أبِي يُوسُفَ أنَّهُ ﷺ: أمَرَ بِالحَلْقِ وتَرَحَّمَ عَلى المُحَلِّقِينَ ثَلاثًا.
ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ أمَرَ وأعادَ القَوْلَ، لِأنَّهُ أرادَ أنْ يَتَحَلَّلُوا ويَرْجِعُوا وما كانُوا يَفْعَلُونَ، لِأنَّهم كانُوا يَنْتَظِرُونَ نُزُولَ القَضاءِ، بِأمْرٍ يُمْكِنُهم بِهِ الوُصُولُ إلى العُمْرَةِ، ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَدَأ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وحَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمّا رَأوْهُ كَذَلِكَ، حَلَقَ بَعْضُهم وقَصَّرَ بَعْضُهُمْ، فَدَعا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا لِمُبالَغَتِهِمْ في مُتابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ، ومُسارَعَتِهِمْ إلى أمْرِهِ.ولَمّا قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، دَعَوْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا ولِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً؟ (p-٩٥)قالَ: لِأنَّهم لَمْ يَشُكُّوا، يَعْنِي: أنَّهم لَمْ يَشُكُّوا في أنَّ الحَلْقَ أفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، واسْتَحَقُّوا الثَّوابَ لِلْمُتابَعَةِ.قَوْلُهُ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ الآيَةُ.ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَما ذَكَرَ شَأْنَ المُحْصَرِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ: عَلى المُحْصَرِ بَعْدَ زَوالِ الإحْصارِ حَجَّةٌ وعُمْرَةٌ، فَإنْ جَمَعَ بَيْنَهُما في أشْهُرِ الحَجِّ، فَهو مُتَمَتِّعٌ وعَلَيْهِ دَمٌ، وإنْ لَمْ يَجْمَعْهُما في أشْهُرِ الحَجِّ فَلا دَمَ عَلَيْهِ. وهو قَوْلُ عَلْقَمَةَ، والحَسَنِ، وإبْراهِيمَ، والقاسِمِ، وسالِمٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ.
وإنَّما يُوجِبُ عَلَيْهِ أبُو حَنِيفَةَ حَجَّةً وعُمْرَةً، إذا حَلَّ بِالدَّمِ ولَمْ يَحُجَّ مِن عامِهِ ذَلِكَ، ولَوْ أنَّهُ حَلَّ مِن إحْرامِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، ثُمَّ زالَ الإحْصارُ فَأحْرَمَ بِالحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِن عامِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ، لِأنَّهُ رَأى أنَّ هَذِهِ العُمْرَةَ إنَّما هي العُمْرَةُ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ، لِأنَّ مَن فاتَهُ الحَجُّ فَعَلَيْهِ التَّحَلُّلُ لِعَمَلِ العُمْرَةِ، فَلَمّا حَصَلَ حَجُّهُ فائِتًا كانَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ لِلْفَواتِ.
والدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِ في الإحْصارِ، إنَّما هو لِتَعَجُّلِ إحْلالِهِ، لا لِقِيامِ الدَّمِ مَقامَ الأعْمالِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ، إذِ الدَّمُ لا يَقُومُ مَقامَ تِلْكَ الأعْمالِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ: أنَّ الدَّمَ لَوْ قامَ مَقامَ الأعْمالِ، ما جازَ الدَّمُ قَبْلَ الفَواتِ، كَما لا يَجُوزُ فِعْلُ العُمْرَةِ الَّتِي لا تَلْزَمُ بِالفَواتِ قَبْلَ الفَواتِ، لِعَدَمِ وقْتِها (p-٩٦)وسَبَبِها، ودَمُ الإحْصارِ يَجُوزُ ذَبْحُهُ والإحْلالُ بِهِ قَبْلَ الفَواتِ، وهو يَوْمُ النَّحْرِ. وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ وأبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ، وإنْ خالَفَ فِيهِ أبُو يُوسُفَ في رِوايَةٍ: فَرَأى أنَّ الدَّمَ بِالإحْلالِ لا عَلى أنَّهُ قائِمٌ مَقامَ أعْمالِ العُمْرَةِ، فَدَلَّ أنَّ الدَّمَ يَتَعَلَّقُ بِتَعْجِيلِ الإحْلالِ.
وهَذا مِن أبِي حَنِيفَةَ دَلِيلٌ دالٌّ عَلى أنَّهُ يَجْعَلُ أعْمالَ مَن فاتَهُ الحَجُّ، أعْمالَ العُمْرَةِ وهَذا بَعِيدٌ، فَإنَّهُ لَمْ يَنْوِ إلّا الحَجَّ وما لَزِمَهُ غَيْرُهُ، غَيْرَ أنَّهُ إذا فاتَهُ مِن أعْمالِ الحَجِّ ما يَتَأقَّتُ، وهو الوُقُوفُ، وجَبَ أنْ يَأْتِيَ مِنها بِما لا يَتَأقَّتُ، فالمُؤَدّى أعْمالُ الحَجِّ لا غَيْرُ، إلّا أنَّهُ رَخَّصَ في المُحْصَرِ أنْ يَتَحَلَّلَ، ولا يَأْتِيَ بِأفْعالِ الحَجِّ، لا أنَّ عَلَيْهِ مَعَ الحَجِّ عُمْرَةً حَتّى يَقْضِيَ الحَجَّ ويَتَدارَكَهُ مَعَ العُمْرَةِ، ولَوْ أمْكَنَ تَدارُكُ الوُقُوفِ دُونَ غَيْرِهِ لَفَعَلَ، ولَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَلا بَيانَ لِقَوْلِهِ في إيجابِ العُمْرَةِ مَعَ الحَجِّ.
وإذا لَمْ يُحِلَّ المُحْصَرُ حَتّى فاتَهُ الحَجُّ، ووَصَلَ إلى البَيْتِ، فَعَلَيْهِ أنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ.
وقالَ مالِكٌ: يَجُوزُ لَهُ أنْ يَبْقى مُحْرِمًا حَتّى يَحُجَّ في السَّنَةِ الآتِيَةِ.
وقالَ: وإنْ شاءَ تَحَلَّلَ لِعَمَلِ عُمْرَةٍ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ لِفائِتِ الحَجِّ لِتَقْصِيرِهِ، وكَأنَّهُ يَقُولُ: جازَ لَهُ التَّحَلُّلُ نَظَرًا لَهُ، فَإذا اخْتارَ الضَّرَرَ فَلَهُ ذَلِكَ، وهَذا بِعِيدٌ. فَإنَّهُ لَوْ جازَ لَهُ اسْتِبْقاءُ الإحْرامِ، لَما جازَ التَّحَلُّلُ كَما لا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ في السَّنَةِ الأُولى، حِينَ أمْكَنَ فِعْلُ الحَجِّ بِهِ، ولِقَوْلِهِ وجْهٌ عَلى كُلِّ حالٍ(p-٩٧)ولا يُوجِبُ الشّافِعِيُّ ومالِكٌ عَلى المُحْصَرِ في حَجَّةِ التَّطَوُّعِ قَضاءً مِن قابِلٍ.
وأبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِأنَّ آيَةَ الإحْصارِ نَزَلَتْ في عامِ الحُدَيْبِيَةِ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُعْتَمِرٌ، وكانَ قَدِ اعْتَمَرَ مِن قَبْلِ الهِجْرَةِ مِرارًا، وقَضى العُمْرَةَ في القابِلِ، وسُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضاءِ.وعِنْدَنا يَجُوزُ أنْ يَقْضِيَ وإنَّما الكَلامُ في الوُجُوبِ.ولَمّا قالَ تَعالى في المُحْصَرِ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾، قالَ أبُو حَنِيفَةَ: إذا لَمْ يَجِدِ المُحْصَرِ هَدْيًا، لا يُحِلُّ حَتّى يَجِدَ هَدْيًا ويَذْبَحَ عَنْهُ.
وقالَ الشّافِعِيُّ في قَوْلٍ: يُحِلُّ ويَذْبَحُ إذا قَدَرَ.
وقِيلَ: إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى دَمٍ أجَزَأهُ، وعَلَيْهِ الطَّعامُ، أوِ الصِّيامُ إنْ لَمْ يَجِدْ ولَمْ يَقْدِرْ، وقاسَهُ عَلى دَمِ المُتَمَتِّعِ.
واحْتَجَّ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بِأنَّ هَدْيَ المُتَمَتِّعِ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ، وهَدْيَ المُحْصَرِ كَذَلِكَ، فَلا يُقاسُ المَنصُوصاتُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ.
وذَكَرَ غَيْرُهُ أنَّ الكَفّاراتِ بِالقِياسِ لا يَجُوزُ إثْباتُهُ، ووَجْهُ الجَوابِ عَنْهُ بَيِّنٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَفِدْيَةٌ (p-٩٨)مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ . وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾، يُفِيدُ أنَّهُ لَوْ كانَ بِهِ قُرُوحٌ في رَأْسِهِ، أوْ جِراحٌ، فاحْتاجَ إلى سَدِّهِ وتَغْطِيَتِهِ، كانَ حُكْمُهُ في الفِدْيَةِ حُكْمَ الحَلْقِ، وكَذَلِكَ سائِرُ الأمْراضِ الَّتِي تُصِيبُهُ، واحْتاجَ مَعَها إلى لُبْسِ الثِّيابِ جازَ لَهُ أنْ يَسْتَبِيحَ ذَلِكَ ويَفْتَدِيَ. لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَهو عُمُومٌ في الكُلِّ.
فَعَلى هَذا إنْ قالَ قائِلٌ: ﴿أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ مَعْناهُ: فَحَلَقَ، فَفِدْيَةٌ قَبْلَ الحَلْقِ، وهو غَيْرُ مَذْكُورٍ وإنْ كانَ مُرادًا، وكَذَلِكَ اللُّبْسُ وتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وهو مُرادٌ، لِأنَّ المَعْنى فِيهِ اسْتِباحَةُ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ لِلْعُذْرِ، وكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وكانَ بِهِ أذًى في بَدَنِهِ يَحْتاجُ مَعَهُ إلى حَلْقِ الشَّعْرِ، كانَ في حُكْمِ الرَّأْسِ في بابِ الفِدْيَةِ، إذْ كانَ المَعْنى مَعْقُولًا وهو اسْتِباحَةُ ما يُحَرِّمُهُ الإحْرامُ في حالَةِ العُذْرِ.
وصِيامُ الجُبْراناتِ ثَلاثَةُ أيّامٍ في خَبَرِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، ويُحْكى فِيهِ خِلافُ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ، وأنَّ الصِّيامَ لَها عَشَرَةُ أيّامٍ كَصِيامِ المُتَمَتِّعِ.
وأمّا النُّسُكُ فَأقَلُّهُ شاةٌ.
والفِدْيَةُ بِالصَّدَقَةِ، أنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَساكِينَ ثَلاثَةَ آصُعٍ مِن تَمْرٍ أوْ (p-٩٩)طَعامٍ، فَأمّا الصَّدَقَةُ بِالطَّعامِ والدَّمِ، فَيُمْكِنُهُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، والصِّيامُ، حَيْثُ شاءَ، وأبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الصَّدَقَةَ حَيْثُ شاءَ، لِمُطْلَقِ قَوْلِهِ: ﴿”فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾“، غَيْرَ أنَّ الدَّمَ اخْتَصَّ بِالحَرَمِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]، وقالَ: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] .
والشّافِعِيُّ يَرى أنَّ وُجُوبَ الذَّبْحِ مَتى كانَ في الحَرَمِ، أوْجَبَ اخْتِصاصَ التَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ بِالحَرَمِ أيْضًا، وهَذا أيْضًا مَذْكُورٌ في عِلْمِ الخِلافِ.* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ الآيَةُ، والتَّمَتُّعُ كَرِهَهُ عُمَرُ، لِأنَّهُ أحَبَّ عِمارَةَ البَيْتِ بِكَثْرَةِ الزُّوّارِ لَهُ في غَيْرِ المَوْسِمِ، وأرادَ إدْخالَ الرِّفْقِ عَلى أهْلِ الحَرَمِ بِدُخُولِ النّاسِ إلَيْهِمْ، تَحْقِيقًا لِدَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿فاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧] .
ورَخَّصَ الشَّرْعُ في ذَلِكَ نَظَرًا لِأرْبابِ الدُّورِ البَعِيدَةِ، ولِيَجْمَعُوا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ في أيّامِ الحَجِّ، مُراغَمَةً لِأهْلِ الجاهِلِيَّةِ، في جَعْلِهِمُ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِن أفْجَرِ الفُجُورِ وأكْبَرِ الكَبائِرِ.
وسَمّاهُ اللَّهُ تَعالى تَمَتُّعًا، لِأنَّهُ تَمَتَّعَ بِرِبْحِ سَفَرِ العُمْرَةِ.
ولَزِمَهُ الدَّمُ لِذَلِكَ، ولَمْ يَجِبْ عَلى حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، لِأنَّهم لَمْ يَرْبَحُوا سَفَرًا.
وأبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لا مُتْعَةَ ولا قِرانَ لِحاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، فَإنْ قَرَنَ مِنهم قارِنٌ أوْ تَمَتَّعَ، فَهو مُخْطِئٌ، وعَلَيْهِ دَمٌ لا يَأْكُلُ مِنهُ، لِأنَّهُ لَيْسَ هو بِدَمِ مُتْعَةٍ، إنَّما هو دَمُ جِنايَةٍ. (p-١٠٠)والشّافِعِيُّ يَقُولُ: لَهم أنْ يَتَمَتَّعُوا بِلا هَدْيٍ.واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ . فانْصَرَفَ ظاهِرُهُ إلى القِرانِ والمُتْعَةِ، أيْ: لَيْسَ لِلْحاضِرِينَ ذَلِكَ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ الدَّمَ لَقالَ: ”ذَلِكَ عَلى مَن لَمْ يَكُنْ“ .
والشّافِعِيُّ يَقُولُ: لَهُمْ، بِمَعْنى عَلَيْهِمْ، وإلّا فالنُّسُكُ لا يَخْتَلِفُ في مُتْعَةِ أهْلِ مَكَّةَ مِنَ القِرانِ.
والتَّمَتُّعُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ القِرانَ. رُخْصَةٌ، لَكِنَّهُ رَآها لِأرْبابِ المَسافَةِ البَعِيدَةِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الإقْرانِ أفْضَلَ، لِأنَّ الرُّخْصَةَ لا تَكُونُ أفْضَلَ، بَلْ هي لِمَكانِ الحاجَةِ، وكَوْنُهُ رُخْصَةً يَقْتَضِي كَوْنَ الدَّمِ دَمَ جَبْرٍ، حَتّى لا يُؤْكَلَ مِنهُ خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ اعْتَقَدَ أبُو حَنِيفَةَ أنَّ اسْتِثْناءَ أهْلِ مَكَّةَ، إنَّما كانَ لِإلْمامِهِمْ بِالأهْلِ، فالإلْمامُ بِالأهْلِ بَيْنَ العُمْرَةِ والحَجِّ في حَقِّ الآفاقِيِّ، يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُتَمَتِّعًا، ولَمْ يَنْظُرْ إلى صُورَةِ السَّفَرِ، وقالَ: إذا خَرَجَ مِن مَكَّةَ حَتّى جاوَزَ المِيقاَتَ، فَهو مُتَمَتِّعٌ، إنْ حَجَّ مِن عامِهِ ذَلِكَ، إذا لَمْ يُلِمَّ بِأهْلِهِ بَعْدَ العُمْرَةِ.
وقالَ أبُو يُوسُفَ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ، لِأنَّ مِيقاتَهُ الآنَ في الحَجِّ مِيقاتُ أهْلِ بَلَدِهِ، لِأنَّ المِيقاتَ صارَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ عَوْدِهِ إلى أهْلِهِ، وزَعَمُوا أنَّهُ لَوْ أحْرَمَ بِالعُمْرَةِ في رَمَضانَ، واعْتَمَرَ في شَوّالٍ، وحَجَّ مِن عامِهِ، كانَ مُتَمَتِّعًا، وإنْ وقَعَ الإحْرامُ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، (p-١٠١)وقالُوا: يُعْتَبَرُ وُقُوعُ أكْثَرِ الطَّوافِ في أشْهُرِ الحَجِّ، فَإنْ وقَعَ في غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، يَعْنِي الأكْثَرَ.
وشَيْءٌ مِن ذَلِكَ لا يُعْتَبَرُ عِنْدَنا.وأمّا حاضِرُو المَسْجِدِ الحَرامِ، فَهم مَن كانَ دُونَ مَسافَةِ القَصْرِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، ودُونَ المِيقاتِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ، ويَبْعُدُ جَعْلُ أهْلِ ذِي الحُلَيْفَةِ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ، وبَيْنَهم وبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ عَشَرَةِ أيّامٍ.
وذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مُتْعَةً أُخْرى: وهو أنْ يُحْصَرَ الحاجُّ المُفْرَدُ بِمَرَضٍ أوْ أمْرٍ يَحْبِسُهُ فَيَقْدُمُ فَيَجْعَلُها عُمْرَةً، ويَتَمَتَّعُ بِحَجِّهِ إلى العامِ القابِلِ ويَحُجُّ، فَهَدّا المُتَمَتِّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فَكانَ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ المُحْصَرَ لا يُحِلُّ، ولَكِنَّهُ يَبْقى عَلى إحْرامِهِ، حَتّى يُنْحَرَ عَنْهُ الهَدْيُ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَحْلِقُ ويَبْقى عَلى إحْرامِهِ، حَتّى يَقْدُمَ مَكَّةَ فَيَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ مِن حَجِّهِ.والَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِخِلافِ عُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾، ولَمْ يَفْصِلْ في حُكْمِ الإحْصارِ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، والنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ وأصْحابُهُ حِينَ حُصِرُوا بِالحُدَيْبِيَةِ، حَلَقَ وحَلَّ وأمَرَهم بِالإحْلالِ، وعَلى أنَّ الَّذِي يَلْزَمُ بِالفَواتِ، لَيْسَ بِعُمْرَةٍ، وإنَّما هو مِثْلُ عَمَلِ عُمْرَةٍ، وهي مِن أعْمالِ الحَجِّ.
واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾، فَجَعَلَ الهَدْيَ مُعَلَّقًا بِفِعْلِ العُمْرَةِ والحَجِّ، (p-١٠٢)والدَّمُ الَّذِي يَلْزَمُهُ هو بِالإحْصارِ، غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِوُجُودِ الحَجِّ بَعْدَ العُمْرَةِ، وهَذِهِ المُتْعَةُ هي الإحْلالُ إلى النِّساءِ، لا عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ العُمْرَةِ والحَجِّ في أشْهُرِ الحَجِّ.
نَعَمْ إذا بانَ أنَّهُ لَيْسَ بِعُمْرَةٍ، فالَّذِي قالَهُ أبُو حَنِيفَةَ، مِن وُجُوبِ قَضاءِ الحَجِّ والعُمْرَةِ عَلى المُحْصَرِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
المُتْعَةُ الأُخْرى: وهي فَسْخُ الحَجِّ، إذا طافَ لَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وهَذا الحُكْمُ غَيْرُ ثابِتٍ، إلّا عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ، فَإنَّهُ كانَ يَراهُ عَلى ما رَواهُ عَطاءٌ عَنْهُ، وأنَّهُ كانَ يَقُولُ: لا يَطُوفُ أحَدٌ بِالبَيْتِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ إلّا حَلَّ مِن حَجِّهِ، فَقِيلَ لَهُ: مِن أيْنَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ .فَقالَ: مِن سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وأمْرِهِ النّاسَ في حَجَّةِ الوَداعِ أنْ يُحِلُّوا، ومِن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]، وتَظاهَرَتِ الأخْبارُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أمَرَ أصْحابَهُ بِفَسْخِ الحَجِّ، مَن لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنهم هَدْيٌ، ولَمْ يُحِلَّ هو عَلَيْهِ السَّلامُ وقالَ:
«إنِّي سُقْتُ الهُدَيَ فَلا أُحِلُّ إلى يَوْمِ النَّحْرِ»، ثُمَّ أمَرَهم فَأحْرَمُوا بِالحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، حِينَ أرادُوا الخُرُوجَ إلى مِنًى، وهي إحْدى المُتْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قالَ عُمَرُ: مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنا أنْهى عَنْهُما وأضْرِبُ عَلَيْهِما: مُتْعَةُ النِّساءِ ومُتْعَةُ الحَجِّ.
ورُوِيَ «عَنْ بِلالِ بْنِ الحارِثِ المُزَنِيِّ أنَّهُ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ (p-١٠٣)اللَّهِ، فَسْخُ الحَجِّ لَنا خاصَّةً أمْ لِمَن بَعْدَنا؟ .فَقالَ: لا، بَلْ لَنا خاصَّةً».
وقالَ أبُو ذَرٍّ: لَمْ يَكُنْ فَسْخُ الحَجِّ بِعُمْرَةٍ، إلّا لِأصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ.وقالَ قَوْمٌ: إنَّ أمْرَ النَّبِيِّ ﷺ أصْحابَهُ بِالإحْلالِ، كانَ عَلى وجْهٍ آخَرَ، وذَكَرَ مُجاهِدٌ ذَلِكَ الوَجْهَ، وهو أنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما كانُوا فَرَضُوا الحَجَّ أوَّلًا، بَلْ أمَرَهم أنْ يُهِلُّوا مُطْلَقًا، ويَنْتَظِرُونَ ما يُؤْمَرُونَ بِهِ، وكَذَلِكَ أهَّلَ عَلى اليَمَنِ، وكَذَلِكَ كانَ إحْرامُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ:
«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً» .
وكَأنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ ما يُؤْمَرُ بِهِ، وبِهِ أمَرَ أصْحابَهُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ:
«أتانِي آتٍ مِن رَبِّي في هَذا الوادِي المُبارَكِ -وهُوَ بِوادِي العَقِيقِ- فَقالَ: صَلِّ بِهَذا الوادِي وقُلْ حَجَّةً في عُمْرَةٍ» . (p-١٠٤)فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مُنْتَظِرًا ما يُؤْمَرُ بِهِ، فَلَمّا بَلَغَ الوادِيَ أُمِرَ بِحَجَّةٍ في عُمْرَةٍ، ثُمَّ أهَّلَ أصْحابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالحَجِّ، وظَنُّوا أنَّهُ أمَرَهم بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ إحْرامُهم صَحِيحًا، أوْ مَرُّوا بِالمُتْعَةِ بِأنْ يَطُوفُوا البَيْتَ، ويُحِلُّوا ويَعْمَلُوا عَمَلَ العُمْرَةِ ويُحْرِمُوا بِالحَجِّ، كَما يُؤْمَرُ مَن يُحْرِمُ بِشَيْءٍ لا يُسَمِّيهِ أنَّهُ يَجْعَلَهُ عُمْرَةً إنْ شاءَ، وهَذا لَيْسَ لَهُ وجْهٌ، فَإنَّ الصَّرْفَ إلى الحَجِّ إنْ لَمْ يَصِحَّ، فَلا حاجَةَ إلى الفَسْخِ، وإنْ صَحَّ فَفَسْخُهُ هو الحُكْمُ المَنسُوخُ.
ولِأنَّ المَقْصُودَ إبانَةُ حُكْمٍ مَفْسُوخٍ، وفي وقْتِنا هَذا تَمامُ العُمْرَةِ، إذا صَرَفَ إلى أحَدِ النُّسُكَيْنِ، تَعَيَّنَ فَلا يَقْبَلُ الفَسْخَ.والصَّحِيحُ في ذَلِكَ ما ذَكَرَتْهُ عائِشَةُ، وقَدْ أنْكَرَتْ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ، أمَرَ بِفَسْخِ الحَجِّ عَلى حالٍ، وقالَتْ:
«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَمِنّا مَن أهَلَّ بِالحَجِّ، ومِنّا مَن أهَلَّ بِالعُمْرَةِ، ومِنّا مَن قَرَنَ»، فَمَن أهَّلَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ أوْ قَرْنٍ، لَمْ يُحِلَّ حَتّى يَقْضِيَ مَناسِكَ الحَجِّ، ومَن أهَّلَ بِعُمْرَةٍ وطافَ وسَعى، حَلَّ مِن إحْرامِهِ حَتّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا.ورُوِيَ عَنْ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ، بِناءً عَلى الأقْوالِ الأُولى، أنَّ هَدْيَ المُتْعَةِ لا يُجْزِئُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً» .
وقَدْ كانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ قارِنًا وقَدْ ساقَ الهَدْيَ، وقالَ لِعَلِيٍّ: «إنِّي سُقْتُ الهَدْيَ فَلا أُحِلُّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ»، فَدَلَّ عَلى امْتِناعِ جَوازِ ذَبْحِ الهَدْيِ لِلْمُتْعَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. (p-١٠٥)وهَذا فاسِدٌ، فَإنَّهُ بَيَّنّا أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَأْمُرْ أحَدًا بِفَسْخِ الحَجِّ وجَعْلِهِ عُمْرَةً، وأنَّ الأمْرَ عَلى ما قالَتْهُ عائِشَةُ، وإنَّما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما قالَ، لِأنَّهُمُ التَمَسُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْ يَعْتَمِرَ مَعَهُمْ، فَذَكَرَ أنَّهُ أحْرَمَ بِالحَجِّ وأنَّهُ لا يَقْضِي مَناسِكَهُ، إلّا في يَوْمِ النَّحْرِ وبَعْدَهُ.
«وكانَتْ عائِشَةُ وافَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ولِذَلِكَ قالَتْ: أكُلُّ نِسائِكِ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ وأنا أنْصَرِفُ بِنُسُكٍ واحِدٍ؟ فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أنْ يُعَمِّرَها مِنَ التَّنْعِيمِ، فاعْتَمَرَتْ وانْصَرَفَتْ بِنُسُكَيْنِ».
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ﴾ الآيَةُ. يَدُلُّ عَلى أنَّ صِيامَ الثَّلاثَةِ الأيّامِ يَجِبُ أنْ يَقَعَ في الحَجِّ، لا كَما قالَ أبُو حَنِيفَةَ، إنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ بَعْدَ الإحْرامِ بِالعُمْرَةِ، قَبْلَ الإحْرامِ بِالحَجِّ.وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي الحَجِّ﴾: إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ: في الإحْرامِ بِالحَجِّ، أوْ في أشْهُرِ الحَجِّ، وأحَدُ المَعْنَيَيْنِ خِلافُ الإجْماعِ فَتَعَيَّنَ الثّانِيوَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُعَلَّقَ البَدَلُ عَلى عَدَمِ الأصْلِ، ثُمَّ يَجُوزُ البَدَلُ في غَيْرِ وقْتِ جَوازِ الأصْلِ؟
وإنْ زَعَمُوا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ:
«إنِّي سُقْتُ الهَدْيَ فَلا أُحِلُّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ»، فَهَذا هو التَّحَلُّلُ مِنَ الحَجِّ لا غَيْرُهُ. (p-١٠٦)ولِأصْحابِ الشّافِعِيِّ خِلافٌ في جَوازِ تَقْدِيمِ العِبادَةِ المالِيَّةِ عَلى وقْتِ الوُجُوبِ إذا وُجِدَ سَبَبُها.
ولَكِنْ سَبَبُ البَدَلِ يَكُونُ بِسَبَبِ الأصْلِ لا مَحالَةَ، فَأمّا أنْ يَمْتَنِعَ الأصْلُ، ولا يَمْتَنِعَ البَدَلُ فَلا وجْهَ لَهُ، وبِهِ يُعْلَمُ أنْ لا سَبَبَ قَبْلَ الإحْرامِ بِالحَجِّ، فَإنَّهُ إنَّما يَمْتَنِعُ بِإخْلاءِ بَعْضِ وقْتِ الحَجِّ عَنِ الإحْرامِ بِالحَجِّ وشُغْلِهِ بِغَيْرِهِ، فَلا يَظْهَرُ ذَلِكَ ولا يَتَحَقَّقُ، قَبْلَ الإحْرامِ بِالحَجِّ.
ولِأجْلِ بِناءِ البَدَلِ عَلى الأصْلِ قُلْنا: إنْ لَمْ يَصُمِ المُتَمَتِّعُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، صامَ الثَّلاثَ بَعْدَ أيّامِ التَّشْرِيقِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَصُومُ بَعْدَ أيّامِ الحَجِّ، ويَصُومُ قَبْلَ الإحْرامِ بِالحَجِّ وأيّامِهِ، وهَذا تَناقُضٌ بَيِّنٌ، وقُصارى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي الحَجِّ﴾ بَيانُ وقْتِ الجَوازِ، وأنَّهُ يَتَهَيَّأُ لَهُ في تِلْكَ الحالَةِ، لِأنَّهُ يَكُونُ عَلى صُورَةِ المُقِيمِينَ، وإلّا فَصِيامُ الثَّلاثَةِ والسَّبْعَةِ والهَدْيُ مِيقاتُها واحِدٌ، ويَجُوزُ تَأْخِيرُها عِنْدَنا بِعُذْرِ السَّفَرِ، وهو كَأداءِ الكَفّاراتِ بَعْدَ وُجُوبِها مِن غَيْرِ فَرْقٍ.
وسِوى أصْحابِ الشّافِعِيِّ بَيَّنَ الأصْلَ والبَدَلَ، وصِيامَ السَّبْعَةِ والثَّلاثَةِ في أنَّ جَمِيعَها شَيْءٌ واحِدٌ.
وفَرَّقَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ بَيْنَهُما وقالُوا: إذا وجَدَ الهَدْيَ بَعْدَ دُخُولِهِ في الصَّوْمِ قَبْلَ أنْ يُحِلَّ، فَعَلَيْهِ الهَدْيُ ويَبْطَلُ حُكْمُ الصَّوْمِ.
وعِنْدَ الشّافِعِيِّ: كَما لا يَبْطُلُ صَوْمُ السَّبْعَةِ بِوُجُودِ الهَدْيِ بَعْدَ الثَّلاثَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الصَّوْمِ في أوَّلِ اليَوْمِ أوْ في ثانِيهِ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾ فَجَعَلَ الجَمِيعَ بَدَلًا. (p-١٠٧)وزَعَمَ المُخالِفُ أنَّ صَوْمَ الثَّلاثَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْها الحَلُّ، فَفَرْضُ الهَدْيِ قائِمٌ عَلَيْهِ، ما لَمْ يُحِلَّ وتَمْضِي أيّامُ النَّحْرِ الَّتِي هي مَسْنُونَةٌ لِلْحَلْقِ، فَمَتى وجَدَ فَعَلَيْهِ أنْ يَهْدِيَ، وزَعَمُوا أنَّ الهَدْيَ مَشْرُوطٌ لِلْإحْلالِ، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُحِلَّ قَبْلَ ذَبْحِ الهَدْيِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ .
فَمَن لَمْ يُحِلَّ حَتّى وجَدَ الهَدْيَ، فَعَلَيْهِ الهَدْيُ، لِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُفَرِّقْ في إيجابِهِ الهَدْيَ بَيْنَ حالِهِ قَبْلَ دُخُولِهِ في الصَّوْمِ أوْ بَعْدَهُ، وهَذا غَلَطٌ، ولَوْ كانَ وُجُوبُ الهَدْيِ لِمَكانِ التَّوَصُّلِ بِهِ إلى الإحْلالِ، ما ثَبَتَ وُجُوبُهُ إلّا عَلى هَذا الوَصْفِ، ويَسْقُطُ بِالإحْلالِ دُونَ الهَدْيِ، إذا لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ ولَمْ يَصُمِ الثَّلاثَةَ، وهَذا خِلافُ الإجْماعِ. ولِأنَّهُ أوْجَبَ الهَدْيَ عَلى المُتَمَتِّعِ، فَكانَ ذَلِكَ مُضافًا إلى تَمَتُّعِهِ لا إلى غَيْرِهِ، وذَلِكَ لا يَسْتَدْعِي وصْفَ الإحْلالِ، ولَوْ كانَ لِوَصْفِ الإحْلالِ، لَما شَرَعَ صَوْمُ السَّبْعَةِ بَدَلًا عَنِ الهَدْيِ بَعْدَ الإحْلالِ، لِأنَّ البَدَلَ يُقْصَدُ بِهِ ما قُصِدَ بِالأصْلِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُشْرَعَ بَعْضُ البَدَلِ لِمَقْصُودٍ، وبَعْضُهُ لِمَقْصُودٍ آخَرَ.نَعَمْ أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ الهَدْيَ أوَّلًا جَزاءً عَلى تَمَتُّعِهِ، فَإذا لَمْ يَجِدْ أوْجَبَ الصَّوْمَ، فَإذا ابْتَدَأ الصَّوْمُ ها هُنا أوْ صَوْمُ الظِّهارِ، فَقَدْ صَحَّ الصَّوْمُ، ومَتى صَحَّ الصَّوْمُ، سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الرَّقَبَةِ والهَدْيِ لِصِحَّةِ الجَزاءِ المَفْعُولِ عَنْهُ، ولِذَلِكَ قالُوا في المُتَيَمِّمِ إذا رَأى الماءَ في خِلالِ صَلاتِهِ، إنَّ فَرْضَ الطِّهارَةِ بِالماءِ يَسْقُطُ عَنْهُ لِهَذِهِ الصَّلاةِ، فَخَرَجَ الوُضُوءُ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا في حَقِّ هَذِهِ الصَّلاةِ، ولَيْسَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ إنَّ الصَّلاةَ أوِ الصَّوْمَ مَوْقُوفانِ لا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِما، فَإنَّ الوَقْفَ إنَّما يَكُونُ إذا لَمْ تَكْمُلْ شَرائِطُ الصِّحَّةِ، فَأمّا إذا كَمُلَتِ الشَّرائِطُ فَلا يُمْكِنُ أنْ يُجْعَلَ مَوْقُوفًا، ولَوْ بَطَلَتِ العِبادَةُ، فَلَيْسَ بُطْلانُها نَظَرًا إلى الحالِ، بَلْ لِمَكانِ (p-١٠٨)الفَسادِ فِيما مَضى، وفَسادُهُ فِيما مَضى لِعَدَمِ شَرْطِهِ فِيما مَضى.قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾، يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ إلى أهْلِهِ، ويَحْتَمِلُ الصَّوْمَ في الطَّرِيقِ في حالَةِ الرُّجُوعِ مِن مِنًى.
وقَوْلُهُ: ﴿كامِلَةٌ﴾، يَحْتَمِلُ أنَّها كامِلَةٌ في قِيامِها مَقامَ الهَدْيِ.
ويَحْتَمِلُ أنْ يُزِيلَ بِهِ خَيالَ تَأْوِيلٍ مُسْتَكْرَهٍ، وهو أنَّ الواوَ رُبَّما تُذْكَرُ بِمَعْنى ”أوْ“، فَأزالَ هَذا الِاحْتِمالَ بِقَوْلِهِ: ﴿كامِلَةٌ﴾ .
وجَعَلَ الشّافِعِيُّ هَذا مِنَ البَيانِ الأوَّلِ، فَقِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: ثَلاثَةٌ وسَبْعَةٌ، غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلى البَيانِ، فَكَيْفَ يَعُدُّهُ مِن أقْسامِ البَيانِ؟ .فَأجابَ بِأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى بَيانٍ لِيَخْرُجَ بِهِ عَنْ حَدِّ الإشْكالِ، ولَكِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الِاحْتِمالِ البَعِيدِ الضَّعِيفِ، فَجَعَلْناهُ في أوَّلِ أقْسامِ البَيانِ، لِأنَّ مَعْناهُ تَجَلّى عَلى وجْهٍ لا مُرْتَقًى بَعْدَهُ في دَرَجاتِ البَيانِ
{"ayah":"وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











