الباحث القرآني

﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ أيِ: اجْعَلُوهُما تامَّيْنِ إذا تَصَدَّيْتُمْ لِأدائِهِما لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعالى - فَلا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى أكْثَرِ مِن وُجُوبِ الإتْمامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِما، وهو مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الحَنَفِيَّةِ والشّافِعِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - فَإنَّ إفْسادَ الحَجِّ والعُمْرَةِ مُطْلَقًا يُوجِبُ المُضِيَّ في بَقِيَّةِ الأفْعالِ والقَضاءِ، ولا تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الأصْلِ، والقَوْلُ بِالدَّلالَةِ بِناءً عَلى أنَّ الأمْرَ بِالإتْمامِ مُطْلَقًا يَسْتَلْزِمُ الأمْرَ (p-79)بِالأداءِ لِما تَقَرَّرَ مِن أنَّ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ المُطْلَقُ إلّا بِهِ، فَهو واجِبٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالإتْمامِ يَقْتَضِي سابِقِيَّةَ الشُّرُوعِ، فَيَكُونُ الأمْرُ بِالإتْمامِ مُقَيَّدًا بِالشُّرُوعِ، وادِّعاءُ أنَّ المَعْنى ائْتُوا بِهِما حالَ كَوْنِهِما تامَّيْنِ مُسْتَجْمِعِي الشَّرائِطِ والأرْكانِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِهِما؛ لِأنَّ الأمْرَ ظاهِرٌ فِيهِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ: ( وأقِيمُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ ) لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ أمّا أوَّلًا: فَلِأنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ، وبِتَقْدِيرِ قَبُولِهِ في مَقامِ الِاسْتِدْلالِ يُمْكِنُ أنْ يُجْعَلَ الوُجُوبُ المُسْتَفادُ مِنَ الأمْرِ فِيهِ مُتَوَجِّهًا إلى القَيْدِ - أعْنِي تامَّيْنِ - لا إلى أصْلِ الإتْيانِ، كَما في قَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «بِيعُوا سَواءً بِسَواءٍ”؛» وأمّا ثانِيًا: فَلِأنَّ الأمْرَ في القِراءَةِ مَحْمُولٌ عَلى المَعْنى المَجازِيِّ المُشْتَرِكِ بَيْنَ الواجِبِ والمَندُوبِ - أعْنِي طَلَبَ الفِعْلِ - والقَرِينَةُ عَلى ذَلِكَ الأحادِيثُ الدّالَّةُ عَلى اسْتِحْبابِ العُمْرَةِ، فَقَدْ أخْرَجَ الشّافِعِيُّ في الأُمِّ وعَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ ماجَهْ، أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «“الحَجُّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ”،» وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ عَنْ جابِرٍ، «أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنِ العُمْرَةِ، أواجِبَةٌ هِيَ؟ قالَ:“لا، وأنْ تَعْتَمِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ”،» ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صاحِبَ هَذِهِ القِراءَةِ قالَ فِيما أخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ:“الحَجُّ فَرِيضَةٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ”، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي داوُدَ في المَصاحِفِ عَنْهُ أيْضًا، أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ، ثُمَّ يَقُولُ: واللَّهِ لَوْلا التَّحَرُّجُ أنِّي لَمْ أسْمَعْ فِيها مِن رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - شَيْئًا لَقُلْتُ: إنَّ العُمْرَةَ واجِبَةٌ مِثْلُ الحَجِّ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - لَمْ يَجْعَلِ الأمْرَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها لِلْوُجُوبِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا فِيهِ، ولَعَلَّهُ سَمِعَ ما يُخالِفُهُ، ولِهَذا جَزَمَ في الرِّوايَةِ الأُولى عَنْهُ بِفَرْضِيَّةِ الحَجِّ واسْتِحْبابِ العُمْرَةِ، وكَأنَّهُ لِذَلِكَ حَمَلَ الأمْرَ في قِراءَتِهِ عَلى القَدْرِ المُشْتَرِكِ الَّذِي قُلْناهُ لا غَيْرَ، بِناءً عَلى امْتِناعِ اسْتِعْمالِ المُشْتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ، وعَدَمُ جَوازِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ والمِيلُ إلى عَدَمِ تَقْدِيرِ فِعْلٍ مُوافِقٍ لِلْمَذْكُورِ يُرادُ بِهِ النَّدْبُ، نَعَمْ لا يُعَدُّ ما ذُكِرَ صارِفًا إلّا إذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَبْلَ الآيَةِ، أمّا إذا ثَبَتَ كَوْنُهُ بَعْدَها، فَلا لِأنَّهُ يُلْزِمُ نَسْخَ الكِتابِ بِخَبَرِ الواحِدِ لِما أنَّ الأمْرَ ظاهِرٌ في الوُجُوبِ، ولَيْسَ مُجْمَلًا في مَعانِيهِ عَلى الصَّحِيحِ، حَتّى يُحْمَلَ الخَبَرُ عَلى تَأْخِيرِ البَيانِ - عَلى ما وُهِمَ – والقَوْلُ بِأنَّ أحادِيثَ النَّدْبِ سابِقَةٌ، ولا تَصْرِفُ الأمْرَ عَنْ ظاهِرِهِ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ناسِخًا لَها سَهْوٍ ظاهِرٍ؛ لِأنَّ الأحادِيثَ نَصٌّ في الِاسْتِحْبابِ، والقُرْآنُ ظاهِرٌ في الوُجُوبِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الظّاهِرُ ناسِخًا لِلنَّصِّ، والحالُ أنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلى الظّاهِرِ عِنْدَ التَّعارُضِ. ثُمَّ إنَّ هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ - وإنْ لَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا لِأصْلِ التَّأْيِيدِ إلّا أنَّهُ يُضَعِّفُهُ جِدًّا - وادَّعى بَعْضُهم أنَّ الأحادِيثَ الدّالَّةَ عَلى اسْتِحْبابِ العُمْرَةِ مُعارَضَةٌ بِما يَدُلُّ عَلى وُجُوبِها مِنها، فَقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «“إنَّ الحَجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتانِ، لا يَضُرُّكَ بِأيِّهِما بَدَأْتَ”،» وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ «أنَّ رَجُلًا قالَ لِعُمَرَ: إنِّي وجَدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ، أهْلَلْتُ بِهِما جَمِيعًا، فَقالَ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ،» فَإنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الإهْلالَ بِهِما طَرِيقَةُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ لِأنَّ الِاسْتِدْلالَ بِما حَكاهُ الصَّحابِيُّ مِن سُنَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - يَكُونُ اسْتِدْلالًا بِالحَدِيثِ الفِعْلِيِّ الَّذِي رَواهُ الصَّحابِيُّ، والقَوْلُ بِأنَّ أهْلَلْتُ بِهِما، جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: وجَدْتُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوُجُوبُ بِسَبَبِ الإهْلالِ بِهِما، فَلا يَدُلُّ الحَدِيثُ عَلى الوُجُوبِ ابْتِداءً لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ مُسْتَأْنِفَةٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَما فَعَلْتَ؟ فَقالَ: أهْلَلْتُ، فَيَدُلُّ عَلى أنَّ الوِجْدانَ سَبَبُ الإهْلالِ دُونَ العَكْسِ؛ لِأنَّ مَقْصُودَ السّائِلِ السُّؤالُ عَنْ صِحَّةِ إهْلالِهِ بِهِما، فَكَيْفَ يَقُولُ: وجَدْتُهُما مَكْتُوبَيْنِ؛ لِأنِّي أهْلَلْتُ بِهِما، فَإنَّهُ إنَّما يَصِحُّ عَلى تَقْدِيرِ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ إهْلالِهِ بِهِما، وجَوابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - بِمَعْزِلٍ عَنْ وُجُوبِ الإتْمامِ؛ لِأنَّ كَوْنَ الشُّرُوعِ (p-80)فِي الشَّيْءِ مُوجِبًا لِإتْمامِهِ، لا يُقالُ فِيهِ أنَّهُ طَرِيقَةُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بَلْ يُقالُ في أداءِ المَناسِكِ والعِباداتِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما وقَعَ في بَعْضِ الرِّواياتِ ( فَأهْلَلْتُ ) بِالفاءِ الدّالَّةِ عَلى التَّرَتُّبِ، وما ذُكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - مُعارَضٌ بِما رُوِيَ عَنْهُ مِنَ القَوْلِ بِالوُجُوبِ، وبِذَلِكَ قالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -، وكانَ يَقْرَأُ: ( وأقِيمُوا ) أيْضًا كَما رَواهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ، وكَذا ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمُ - انْتَهى، والإنْصافُ تَسْلِيمُ تَعارُضِ الأخْبارِ، وقَدْ أخَذَ كُلٌّ مِنَ الأئِمَّةِ بِما صَحَّ عِنْدَهُ، والمَسْألَةُ مِنَ الفُرُوعِ، والِاخْتِلافُ في أمْثالِها رَحْمَةٌ وإنَّ الحَقَّ أنَّ الآيَةَ لا تَصْلُحُ دَلِيلًا لِلشّافِعِيَّةِ ومَن وافَقَهم كالإمامِيَّةِ عَلَيْنا، ولَيْسَ فِيها عِنْدَ التَّحْقِيقِ أكْثَرُ مِن بَيانِ وُجُوبِ إتْمامِ أفْعالِهِما عِنْدَ التَّصَدِّي لِأدائِهِما، وإرْشادِ النّاسِ إلى تَدارُكِ ما عَسى يَعْتَرِيهِمْ مِنَ العَوارِضِ المُخِلَّةِ بِذَلِكَ مِنَ الإحْصارِ ونَحْوِهِ، مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِحالِهِما مِنَ الوُجُوبِ وعَدَمِهِ، ووُجُوبُ الحَجِّ مُسْتَفادٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾ ومَنِ ادَّعى مِنَ المُخالِفِينَ أنَّهُ دَلِيلٌ لَهُ، فَقَدْ رَكِبَ شَطَطًا وقالَ غَلَطًا كَما لا يَخْفى عَلى مَن ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ وجَماعَةٌ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - إتْمامُ الحَجِّ والعُمْرَةِ لِلَّهِ أنْ تُحْرِمَ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ، ومِثْلُهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا إلى رَسُولِ اللَّهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - مِن إتْمامِهِما أنْ يُفْرِدَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ، وأنْ يَعْتَمِرَ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ، وقِيلَ: إتْمامُهُما أنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ حَلالًا، وقِيلَ: أنْ تُحْدِثَ لِكُلٍّ مِنهُما سَفَرًا، وقِيلَ: أنْ تَخْرُجَ قاصِدًا لَهُما لا لِتِجارَةٍ ونَحْوِها، وقُرِئَ: ( إلى البَيْتِ ولِلْبَيْتِ )، والأوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والثّانِي عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ -: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ مُقابِلٌ لِمَحْذُوفٍ؛ أيْ: هَذا إنْ قَدَرْتُمْ عَلى إتْمامِهِما والإحْصارُ والحَصْرُ كِلاهُما في أصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنى المَنعِ مُطْلَقًا، ولَيْسَ الحَصْرُ مُخْتَصًّا بِما يَكُونُ مِنَ العَدُوِّ، والإحْصارُ بِما يَكُونُ مِنَ المَرَضِ، والخَوْفُ - كَما تَوَهَّمَ الزَّجّاجُ - مِن كَثْرَةِ اسْتِعْمالِهِما كَذَلِكَ، فَإنَّهُ قَدْ يَشِيعُ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ المَوْضُوعِ لِلْمَعْنى العامِّ في بَعْضِ أفْرادِهِ، والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ يُقالُ: حَصَرَهُ العَدُوُّ وأحْصَرَهُ كَصَدَّهُ وأصَدَّهُ، فَلَوْ كانَتِ النِّسْبَةُ إلى العَدُوِّ مُعْتَبَرَةٌ في مَفْهُومِ الحَصْرِ لَكانَ التَّصْرِيحُ بِالإسْنادِ إلَيْهِ تَكْرارًا، ولَوْ كانَتِ النِّسْبَةُ إلى المَرَضِ ونَحْوِهِ مُعْتَبَرَةٌ في مَفْهُومِ الإحْصارِ، لَكانَ إسْنادُهُ إلى العَدُوِّ مَجازًا، وكِلاهُما خِلافُ الأصْلِ، والمُرادُ مِنَ الإحْصارِ هُنا حَصْرُ العَدُوِّ عِنْدَ مالِكٍ والشّافِعِيِّ - رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى - لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ فَإنَّ الأمْنَ لُغَةً في مُقابَلَةِ الخَوْفِ ولِنُزُولِهِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ، ولِقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - لا حَصْرَ إلّا حَصْرُ العَدُوِّ، فَقَيَّدَ إطْلاقَ الآيَةِ، وهو أعْلَمُ بِمَواقِعِ التَّنْزِيلِ. وذَهَبَ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّ المُرادَ بِهِ ما يَعُمُّ كُلَّ مَنعٍ مِن عَدُوٍّ ومَرَضٍ وغَيْرِهِما، فَقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ والحاكِمُ مِن حَدِيثِ الحَجّاجِ بْنِ عَمْرٍو:“مَن كُسِرَ أوْ عَرِجَ، فَعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابَلٍ”. ورَوى الطَّحاوِيُّ مِن حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، قالَ: أهَلَّ رَجُلٌ بِعُمْرَةٍ، يُقالُ لَهُ عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ: فَلُسِعَ فَبَيْنا هو صَرِيعٌ في الطَّرِيقِ؛ إذْ طَلَعَ عَلَيْهِ رَكْبٌ فِيهِمُ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَسَألُوهُ فَقالَ:“ابْعَثُوا بِالهَدْيِ، واجْعَلُوا بَيْنَكم وبَيْنَهُ يَوْمَ أمارَةٍ، فَإذا كانَ ذَلِكَ فَلْيُحِلَّ”وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطاءٍ:“لا إحْصارَ إلّا مِن مَرَضٍ أوْ عَدُوٍّ أوْ أمْرٍ حابِسٍ”، ورَوى البُخارِيُّ مِثْلَهُ عَنْهُ، وقالَ عُرْوَةُ: كُلُّ شَيْءٍ حَبَسَ المُحْرِمَ فَهو إحْصارٌ. وما اسْتَدَلَّ بِهِ الخَصْمُ مُجابٌ عَنْهُ، أمّا الأوَّلُ فَسَتَعْلَمُ ما فِيهِ، وأمّا الثّانِي فَإنَّهُ لا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، والحَمْلُ عَلى أنَّهُ لِلتَّأْيِيدِ يَأْبى عَنْهُ ذِكْرُهُ بِاللّامِ اسْتِقْلالًا، والقَوْلُ بِأنَّ أحصرتم لَيْسَ عامًّا؛ إذِ الفِعْلُ المُثْبَتُ لا عُمُومَ لَهُ، فَلا يُرادُ إلّا ما ورَدَ فِيهِ، وهو حَبْسُ العَدُوِّ بِالِاتِّفاقِ، لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ عامًّا لَكِنَّهُ مُطْلَقٌ، فَيَجْرِي عَلى إطْلاقِهِ، وأمّا الثّالِثُ فَلِأنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ حُجِّيَّةِ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ (p-81)- رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - في أمْثالِ ذَلِكَ مُعارَضٌ بِما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ، أنَّهُ قالَ: يَقُولُ:“مَن أحْرَمَ بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ حُبِسَ عَنِ البَيْتِ بِمَرَضٍ يُجْهِدُهُ أوْ عَدُوٍّ يَحْبِسُهُ، فَعَلَيْهِ ذَبْحُ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ”، فَكَما خَصَّصَ في الرِّوايَةِ الأُوَلى عَمَّمَ في هَذِهِ، وهو أعْلَمُ بِمَواقِعِ التَّنْزِيلِ والقَوْلُ - بِأنَّ حَدِيثَ الحَجّاجِ ضَعِيفٌ - ضَعِيفٌ؛ إذْ لَهُ طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ في السُّنَنِ، وقَدْ رَوى أبُو داوُدَ أنَّ عِكْرِمَةَ سَألَ العَبّاسَ وأبا هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - عَنْ ذَلِكَ، فَقالا: صَدَقَ، وحَمَلَهُ عَلى ما إذا اشْتَرَطَ المُحْرِمُ الإحْلالَ عِنْدَ عُرُوضِ المانِعِ مِنَ المَرَضِ لَهُ وقْتَ النِّيَّةِ؛ «لِقَوْلِهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِضُباعَةَ:“حُجِّي واشْتَرِطِي، وقَوْلِي: اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» لا يَتَمَشّى عَلى ما تَقَرَّرَ في أُصُولِ الحَنَفِيَّةِ مِن أنَّ المُطْلَقَ يَجْرِي عَلى إطْلاقِهِ، إلّا إذا اتَّحَدَ الحادِثَةُ والحُكْمُ وكانَ الإطْلاقُ والتَّقْيِيدُ في الحُكْمِ؛ إذْ ما نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ كَما لا يَخْفى. ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ أيْ: فَعَلَيْكم، أوْ فالواجِبُ، أوْ فاهْدُوا ما اسْتَيْسَرَ؛ أيْ تَيَسَّرَ، فَهو كَصَعُبَ واسْتُصْعِبَ، ولَيْسَتِ السِّينُ لِلطَّلَبِ، والهَدْي مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ؛ أيِ: المَهْدِيُّ، ولِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلى الفَرْدِ والجَمْعِ أوْ جَمْعُ هَدِيَّةٍ ( كَجَدْيٍ وجَدِيَّةٍ )، وقُرِئَ: ( هَدِيٍّ ) بِالتَّشْدِيدِ جَمْعُ هَدِيَّةٍ ( كَمَطِيٍّ ومَطِيَّةٍ )، وهو في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ، والمَعْنى أنَّ المُحْرِمَ إذا أُحْصِرَ وأرادَ أنْ يَتَحَلَّلَ تَحَلَّلَ بِذَبْحِ هَدْيٍ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ مِن بَدَنَةٍ أوْ بَقَرَةٍ أوْ شاةٍ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: وما عَظُمَ فَهو أفْضَلُ. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّهُ خَصَّ الهَدْيَ بِبَقَرَةٍ أوْ جَزُورٍ، فَقِيلَ لَهُ: أوَما يَكْفِيهِ شاةٌ؟ فَقالَ: لا، ويَذْبَحُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ عِنْدَ الأكْثَرِ؛ لِأنَّهُ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ذَبَحَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ بِها وهي مِنَ الحِلِّ، وعِنْدَنا يَبْعَثُ مَن أُحْصِرَ بِهِ ويَجْعَلُ لِلْمَبْعُوثِ بِيَدِهِ يَوْمَ أمارَةٍ، فَإذا جاءَ اليَوْمُ وغَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ ذُبِحَ تَحَلَّلَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فَإنَّ حَلْقَ الرَّأْسِ كِنايَةً عَنِ الحِلِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالتَّقْصِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّساءِ، والخِطابُ لِلْمُحْصَرِينَ؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ، والهَدْيُ الثّانِي عَيْنُ الأوَّلِ كَما هو الظّاهِرُ؛ أيْ: لا تُحِلُّوا حَتّى تَعْلَمُوا أنَّ الهَدْيَ المَبْعُوثَ إلى الحَرَمِ بَلَغَ مَكانَهُ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُنْحَرَ فِيهِ، وهو الحَرَمُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ . ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ وما رُوِيَ مِن ذَبْحِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في الحُدَيْبِيَةِ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ كَوْنَهُ ذَبَحَ في الحِلِّ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، والحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ: إنَّ مَحْصَرَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - كانَ في طَرِيقِ الحُدَيْبِيَةِ أسْفَلَ مَكَّةَ، والحُدَيْبِيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالحَرَمِ، والذَّبْحُ وقَعَ في الطَّرَفِ المُتَّصِلِ الَّذِي نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ ما قالَهُ مالِكٌ وبَيْنَ ما رَوى الزُّهْرِيُّ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - نَحَرَ في الحَرَمِ،» وكَوْنِ الرِّوايَةِ عَنْهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ في حَيِّزِ المَنعِ، وحَمَلَ الأوَّلُونَ بُلُوغَ الهَدْيِ مَحِلَّهُ عَلى ذَبْحِهِ حَيْثُ يَحِلُّ ذَبْحُهُ فِيهِ حِلًّا كانَ أوْ حَرَمًا، وهو خِلافُ الظّاهِرِ، إلّا أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى تَقْدِيرِ العِلْمِ كَما في السّابِقِ، واسْتُدِلَّ بِاقْتِصارِهِ عَلى الهَدْيِ في مَقامِ البَيانِ عَلى عَدَمِ وُجُوبِ القَضاءِ، وعِنْدَنا يَجِبُ القَضاءُ لِقَضاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأصْحابِهِ عُمْرَةَ الحُدَيْبِيَةِ الَّتِي أُحْصِرُوا فِيها، وكانَتْ تُسَمّى عُمْرَةُ القَضاءِ، والمَقامُ مَقامُ بَيانِ طَرِيقِ خُرُوجِ المُحْصَرِ عَنِ الإحْرامِ لا مَقامَ بَيانِ كُلِّ ما يَجِبُ عَلَيْهِ ولَمْ يُعْلَمْ مِنَ الآيَةِ حُكْمُ غَيْرِ المُحْصَرِ عِبارَةً كَما عُلِمَ حُكْمُ المُحْصَرِ مِن عَدَمِ جَوازِ الحِلِّ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الهَدْيِ، ويُسْتَفادُ ذَلِكَ بِدَلالَةِ النَّصِّ، وجُعِلَ الخِطابُ عامًّا لِلْمُحْصَرِ وغَيْرِهِ بِناءً عَلى عَطْفِ ولا تُحَلِّقُوا عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: وأتَمُّوا لا عَلى فَما اسَتُيَسَّرُ يَقْتَضِي بَتْرَ النَّظْمِ؛ لِأنَّ فَإذا أمِنتُمْ عَطْفٌ عَلى فَإنَّ أحُصِرْتُمْ كَما لا يَخْفى، ( والمَحِلُّ ) بِالكَسْرِ مِن حَدِّ ضَرَبَ يُطْلَقُ لِلْمَكانِ كَما هو الظّاهِرُ في الآيَةِ، ولِلزَّمانِ - كَما يُقالُ - مَحِلُّ الدِّينِ لِوَقْتِ حُلُولِهِ وانْقِضاءِ أجَلِهِ. ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ يَحْتاجُ لِلْحَلْقِ، وهو مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَحْلِقُوا﴾ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ. (p-82)﴿أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ مِن جِراحَةٍ وقَمْلٍ وصُداعٍ، ﴿فَفِدْيَةٌ﴾ أيْ: فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ إنْ حَلَقَ. ﴿مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ بَيانٌ لِجِنْسِ الفِدْيَةِ، وأمّا قَدْرُها فَقَدْ أخْرَجَ في المَصابِيحِ «عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - مَرَّ بِهِ وهو بِالحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وهو مُحْرِمٌ وهو يُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ والقَمْلُ يَتَهافَتُ عَلى وجْهِهِ، فَقالَ: ”أيُؤْذِيكَ هَوامُّكَ؟“ قالَ: نَعَمْ، قالَ: ”فاحْلِقْ رَأْسَكَ، وأطْعِمْ فَرْقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَساكِينَ - والفَرْقُ ثَلاثَةُ آصُعٍ - أوْ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوِ انْسُكْ نَسِيكَةً“،» وفي رِوايَةِ البُخارِيِّ ومُسْلِمٍ والنَّسائِيِّ وابْنِ ماجَهْ والتِّرْمِذِيِّ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ لَهُ: ”ما كُنْتُ أرى أنَّ الجُهْدَ بَلَغَ بِكَ هَذا، أما تَجِدُ شاةً؟“ فَقالَ: لا، قالَ: ”صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَساكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاعٍ مِن طَعامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ“،» وقَدْ بَيَّنَ في هَذِهِ الرِّوايَةِ ما يُطْعَمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، ولَمْ يُبَيِّنْ مَحَلَّ الفِدْيَةِ، والظّاهِرُ العُمُومُ في المَواضِعِ كُلِّها كَما قالَهُ ابْنُ الفَرَسِ، وهو مَذْهَبُ الإمامِ مالِكٍ. ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ مِنَ الأمْنِ ضِدُّ الخَوْفِ، أوِ الأمَنَةُ زَوالُهُ، فَعَلى الأوَّلِ مَعْناهُ، فَإذا كُنْتُمْ في أمْنٍ وسَعَةٍ ولَمْ تَكُونُوا خائِفِينَ، وعَلى الثّانِي: فَإذا زالَ عَنْكم خَوْفُ الإحْصارِ، ويُفْهَمُ مِنهُ حُكْمُ مَن كانَ آمِنًا ابْتِداءً بِطَرِيقِ الدَّلالَةِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى أحُصِرْتُمْ مُفِيدَةٌ لِلتَّعْقِيبِ، سَواءٌ أُرِيدَ حَصْرُ العَدُوِّ أوْ كُلُّ مَنعٍ في الوُجُودِ، ويُقالُ لِلْمَرِيضِ إذا زالَ مَرَضُهُ وبَرِئَ: أمِنَ، كَما رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - مِن طَرِيقِ إبْراهِيمَ، فَيَضْعُفُ اسْتِدْلالُ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ بِالآيَةِ عَلى ما ذَهَبا إلَيْهِ. ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ الفاءُ واقِعَةٌ في جَوابِ ( إذا ) ( والباءُ ) ( وإلى ) صِلَةُ التَّمَتُّعِ، والمَعْنى: فَمَنِ اسْتَمْتَعَ وانْتَفَعَ بِالتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ - تَعالى - بِالعُمْرَةِ إلى وقْتِ الحَجِّ؛ أيْ: قَبْلَ الِانْتِفاعِ بِالحَجِّ في أشْهُرِهِ، وقِيلَ: الباءُ سَبَبِيَّةٌ ومُتَعَلِّقُ التَّمَتُّعِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: بِشَيْءٍ مِن مَحْذُوراتِ الإحْرامِ، ولَمْ يُعَيِّنْهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الغَرَضِ بِتَعْيِينِهِ، والمَعْنى: ومَنِ اسْتَمْتَعَ بِسَبَبِ أوانِ العُمْرَةِ والتَّحَلُّلِ مِنها بِاسْتِباحَةِ مَحْظُوراتِ الإحْرامِ إلى أنْ يُحْرِمَ بِالحَجِّ، وفِيهِ صَرْفُ التَّمَتُّعِ عَنِ المَعْنى الشَّرْعِيِّ إلى المَعْنى اللُّغَوِيِّ، والثّانِي هو الِانْتِفاعُ مُطْلَقًا، والأوَّلُ هو أنْ يُحْرِمَ بِالعُمْرَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ ويَأْتِي بِمَناسِكِها، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالحَجِّ مِن جَوْفِ مَكَّةَ، ويَأْتِي بِأعْمالِهِ ويُقابِلُهُ القُرْآنُ، وهو أنْ يَحْرِمَ بِهِما مَعًا، ويَأْتِيَ بِمَناسِكِ الحَجِّ، فَيُدْخِلُ فِيها مَناسِكَ العُمْرَةِ والإفْرادَ، وهو أنْ يُحْرِمَ بِالحَجِّ، وبَعْدَ الفَراغِ مِنهُ بِالعُمْرَةِ، ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ الفاءُ واقِعَةٌ في جَوابِ مِن أيْ: فَعَلَيْهِ دَمٌ اسَتُيْسِرَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ التَّمَتُّعِ، فَهو دَمُ جُبْرانٍ؛ لِأنَّ الواجِبَ عَلَيْهِ أنْ يُحْرِمَ لِلْحَجِّ مِنَ المِيقاتِ، فَلَمّا أحْرَمَ لا مِنَ المِيقاتِ أوْرَثَ ذَلِكَ خِلالًا فِيهِ، فَجَبَرَ بِهَذا الدَّمِ، ومِن ثَمَّ لا يَجِبُ عَلى المَكِّيِّ ومَن في حُكْمِهِ، ويَذْبَحُهُ إذا أحْرَمَ بِالحَجِّ، ولا يَجُوزُ قَبْلَ الإحْرامِ، ولا يَتَعَيَّنُ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ولا يَأْكُلُ مِنهُ، وهَذا مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وذَهَبَ الإمامُ أبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّهُ دَمُ نُسُكٍ كَدَمِ القارِنِ؛ لِأنَّهُ وجَبَ عَلَيْهِ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، فَهو كالأُضْحِيَّةِ، ويُذْبَحُ يَوْمَ النَّحْرِ، ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ﴾ أيِ: الهَدْيَ، وهو عَطْفٌ عَلى ( فَإذا أمَّنْتُمْ ) . ﴿فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ في الحَجِّ﴾ أيْ: فَعَلَيْهِ صِيامٌ، وقُرِئَ: ( فَصِيامَ ) بِالنَّصْبِ؛ أيْ: فَلْيَصُمْ، وظَرْفُ الصَّوْمِ مَحْذُوفٌ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِن أعْمالِ الحَجِّ ظَرْفًا لَهُ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: المُرادُ في وقْتِ الحَجِّ مُطْلَقًا، لَكِنْ بَيْنَ الإحْرامَيْنِ إحْرامِ الحَجِّ وإحْرامِ العُمْرَةِ، وهو كِنايَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّحَلُّلِ عَنْهُما، فَيَشْمَلُ ما إذا وقَعَ قَبْلَ إحْرامِ الحَجِّ، سَواءٌ تَحَلَّلَ مِنَ العُمْرَةِ أوْ لا، وما وقَعَ بَعْدَهُ بِدَلِيلِ أنَّهُ إذا قَدَرَ عَلى الهَدْيِ بَعْدَ صَوْمِ الثَّلاثَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، وجَبَ عَلَيْهِ الذَّبْحُ، ولَوْ قَدَرَ (p-83)عَلَيْهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ لِحُصُولِ المَقْصِدِ بِالصَّوْمِ وهو التَّحَلُّلُ، وقالَ الشّافِعِيُّ: المُرادُ وقْتُ أداءِ الحَجِّ، وهو أيّامُ الِاشْتِغالِ بِهِ بَعْدَ الإحْرامِ وقَبْلَ التَّحَلُّلِ، ولا يَجُوزُ الصَّوْمُ عِنْدَهُ قَبْلَ إحْرامِ الحَجِّ، والأحَبُّ أنْ يَصُومَ سابِعَ ذِي الحِجَّةِ وثامِنَهُ وتاسِعَهُ؛ لِأنَّهُ غايَةُ ما يُمْكِنُ في التَّأْخِيرِ لِاحْتِمالِ القُدْرَةِ عَلى الأصْلِ وهو الهَدْيُ، ولا يَجُوزُ يَوْمَ النَّحْرِ وأيّامَ التَّشْرِيقِ لِكَوْنِ الصَّوْمِ مَنهِيًّا فِيها، وجَوَّزَ بَعْضُهم صَوْمَ الثَّلاثَةِ الأخِيرَةِ احْتِجاجًا بِما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والدّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «رَخَّصَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِلتَّمَتُّعِ إذا لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ ولَمْ يَصُمْ حَتّى فاتَهُ أيّامُ العَشْرِ أنْ يَصُومَ أيّامَ التَّشْرِيقِ مَكانَها،» وأخْرَجَ مالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذافَةَ، فَنادى في أيّامِ التَّشْرِيقِ، فَقالَ: ”إنَّ هَذِهِ أيّامُ أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ – تَعالى - إلّا مَن كانَ عَلَيْهِ صَوْمٌ مِن هَدْيٍ“» وأخْرَجَ الدّارَقُطْنِيُّ مِثْلَهُ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وأخْرَجَ البُخارِيُّ وجَماعَةٌ «عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - قالَتْ: لَمْ يُرَخِّصْ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في أيّامِ التَّشْرِيقِ أنْ يُصَمْنَ إلّا لِمُتَمَتِّعٍ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا،» وبِذَلِكَ أخَذَ الإمامُ مالِكٌ، ولَعَلَّ ساداتِنا الحَنَفِيَّةَ عَوَّلُوا عَلى أحادِيثِ النَّهْيِ، وقالُوا: إذا فاتَهُ الصَّوْمُ حَتّى أتى يَوْمُ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلّا الدَّمُ، ولا يَقْضِيهِ بَعْدَ أيّامِ التَّشْرِيقِ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الشّافِعِيَّةُ؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ، والإبْدالُ لا تَنْصِبُ إلّا شَرْعًا، والنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الحَجِّ، وجَوازُ الدَّمِ عَلى الأصْلِ؛ وعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - أنَّهُ أمَرَ في مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشّاةِ. ﴿وسَبْعَةٍ إذا رَجَعْتُمْ﴾ أيْ: فَرَغْتُمْ ونَفَرْتُمْ مِن أعْمالِهِ، فَذُكِرَ الرُّجُوعُ وأُرِيدَ سَبَبُهُ، أوِ المَعْنى إذا رَجَعْتُمْ مِن مِنًى، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - عَلى ما هو الأصَحُّ عِنْدَ مُعْظَمِ أصْحابِهِ: إذا رَجَعْتُمْ إلى أهْلِيكُمْ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: ”إذا رَجَعْتُمْ إلى أمْصارِكُمْ“، وأنَّ لَفْظَ الرُّجُوعِ أظْهَرُ في هَذا المَعْنى، وحُكْمُ ناوِي الإقامَةِ بِمَكَّةَ تَوَطُّنًا حُكْمُ الرّاجِعِ إلى وطَنِهِ؛ لِأنَّ الشَّرْعَ أقامَ مَوْضِعَ الإقامَةِ مَقامَ الوَطَنِ، ( وفي البَحْرِ ) المُرادُ بِالرُّجُوعِ إلى الأهْلِ الشُّرُوعُ فِيهِ - عِنْدَ بَعْضٍ - والفَراغُ بِالوُصُولِ إلَيْهِمْ - عِنْدَ آخَرِينَ - وفي الكَلامِ التِفاتٌ، وحُمِلَ عَلى مَعْنى بَعْدَ الحَمْلِ عَلى لَفْظِهِ في إفْرادِهِ وغَيْبَتِهِ، وقُرِئَ: ( سَبْعَةً ) بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلى مَحَلِّ ( ثَلاثَة أيّامٍ )؛ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ اتِّساعًا، ومَن لَمْ يُجَوِّزْهُ قَدَّرَ ( وصُومُوا ) وعَلَيْهِ أبُو حَيّانَ. ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾ الإشارَةُ إلى ( الثَّلاثَةِ والسَّبْعَةِ ) ومُمَيَّزُ العَدَدِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ أيّامٍ، وإثْباتُ ( التّاءِ ) في العَدَدِ مَعَ حَذْفِ المُمَيَّزِ أحْسَنُ الِاسْتِعْمالَيْنِ، وفائِدَةُ الفَذْلَكَةِ أنْ لا يُتَوَهَّمَ أنَّ ( الواوَ ) بِمَعْنى أوِ التَّخْيِيرِيَّةِ، وقَدْ نَصَّ السِّيرافِيُّ في شَرْحِ الكِتابِ عَلى مَجِيئِها لِذَلِكَ، ولَيْسَ تَقَدُّمُ الأمْرِ الصَّرِيحِ شَرْطًا فِيهِ، بَلِ الخَبَرُ الَّذِي هو بِمَعْنى الأمْرِ كَذَلِكَ، وإنْ يَنْدَفِعِ التَّوَهُّمُ البَعِيدُ الَّذِي أشَرْنا إلَيْهِ في مُقَدِّمَةِ إعْجازِ القُرْآنِ، وأنْ يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً - كَما عُلِمَ تَفْصِيلًا - فَيُحاطُ بِهِ مِن وجْهَيْنِ فَيَتَأكَّدُ العِلْمُ، ومِن أمْثالِهِمْ: ( عِلْمانِ خَيْرٌ مِن عِلْمٍ ) لا سِيَّما وأكْثَرُ العَرَبِ لا يُحْسِنُ الحِسابَ، فاللّائِقُ بِالخِطابِ العامِّيِّ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ الخاصُّ والعامُّ الَّذِينَ هم مِن أهْلِ الطَّبْعِ، لا أهْلَ الِارْتِياضِ بِالعِلْمِ أنْ يَكُونَ بِتَكْرارِ الكَلامِ وزِيادَةِ الإفْهامِ، والإيذانُ بِأنَّ المُرادَ ( بِالسَّبْعَةِ ) العَدَدُ دُونَ الكَثْرَةِ، فَإنَّها تُسْتَعْمَلُ بِهَذَيْنَ المَعْنَيَيْنِ، فَإنْ قُلْتَ: ما الحِكْمَةُ في كَوْنِها كَذَلِكَ حَتّى يَحْتاجَ إلى تَفْرِيقِها المُسْتَدْعِي لِما ذُكِرَ؟ أُجِيبَ بِأنَّها لَمّا كانَتْ بَدَلًا عَنِ ( الهَدْيِ ) والبَدَلُ يَكُونُ في مَحَلِّ المُبْدَلِ مِنهُ غالِبًا جُعِلَ الثَّلاثَةُ بَدَلًا عَنْهُ في زَمَنِ الحَجِّ، وزِيدَ عَلَيْها السَّبْعَةُ عِلاوَةً لِتُعادِلَهُ مِن غَيْرِ نَقْصٍ في الثَّوابِ؛ لِأنَّ الفِدْيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلى التَّيْسِيرِ، (p-84)ولَمْ يَجْعَلِ ( السَّبْعَةَ ) فِيهِ لِمَشَقَّةِ الصَّوْمِ في الحَجِّ، ولِلْإشارَةِ إلى هَذا التَّعادُلِ وُصِفَتِ ( العَشَرَةُ ) بِأنَّها كامِلَة فَكَأنَّهُ قِيلَ: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾ في وُقُوعِها بَدَلًا مِنَ الهَدْيِ وقِيلَ: إنَّها صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ تُفِيدُ زِيادَةَ التَّوْصِيَةِ بِصِيامِها، وأنْ لا يُتَهاوَنَ بِها، ولا يُنْقُصَ مِن عَدَدِها، كَأنَّهُ قِيلَ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، فَراعُوا كَمالَها ولا تُنْقِصُوها، وقِيلَ: إنَّها صِفَةٌ مُبَيِّنَةٌ كَمالَ العَشَرَةِ، فَإنَّها عَدَدٌ كَمُلَ فِيهِ خَواصُّ الأعْدادِ، فَإنَّ الواحِدَ مُبْتَدَأُ العَدَدِ، والِاثْنَيِنِ أوَّلُ العَدَدِ، والثَّلاثَةَ أوَّلُ عَدَدٍ فَرْدٍ، والأرْبَعَةَ أوَّلُ عَدَدٍ مَجْذُورٍ، والخَمْسَةَ أوَّلُ عَدَدٍ دائِرٍ، والسِّتَّةَ أوَّلُ عَدَدٍ تامٍّ، والسَّبْعَةَ عَدَدٌ أوَّلٌ، والثَّمانِيَةَ أوَّلُ عَدَدِ زَوْجِ الزَّوْجِ، والتِّسْعَةَ أوَّلُ عَدَدٍ مُثَلَّثٍ، والعَشَرَةَ نَفْسَها يَنْتَهِي إلَيْها العَدَدُ، فَإنَّ كُلَّ عَدَدٍ بَعْدَها مُرَكَّبٌ مِنها، ومِمّا قَبْلَها قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ. وذَكَرَ الإمامُ لِهَذِهِ الفَذْلَكَةِ مَعَ الوَصْفِ عَشَرَةَ أوْجُهٍ - لَكِنَّها عَشْرَةٌ غَيْرُ كامِلَةٍ - ولَوْلا مَزِيدُ التَّطْوِيلِ لَذَكَرْتُها بِما لَها وعَلَيْها. ( ذَلِكَ ) إشارَةٌ إلى التَّمَتُّعِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ﴾ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - إذْ لا مُتْعَةَ ولا قُرْآنَ لِحاضِرِي المَسْجِدِ؛ لِأنَّ شَرْعَهُما لِلتَّرَفُّهِ بِإسْقاطِ أحَدِ السَّفْرَتَيْنِ، وهَذا في حَقِّ الآفاقِيِّ لا في حَقِّ أهْلِ مَكَّةَ ومَن في حُكْمِهِمْ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: إنَّها إشارَةٌ إلى الأقْرَبِ، وهو الحُكْمُ المَذْكُورُ - أعْنِي: لُزُومَ الهَدْيِ أوْ بَدَلُهُ عَلى المُتَمَتِّعِ - وإنَّما يَلْزَمُ ذَلِكَ إذا كانَ المُتَمَتِّعُ آفاقِيًّا؛ لِأنَّ الواجِبَ أنْ يُحْرِمَ عَنِ الحَجِّ مِنَ المِيقاتِ، فَلَمّا أحْرَمَ مِنَ المِيقاتِ عَنِ العُمْرَةِ ثُمَّ أحْرَمَ عَنِ الحَجِّ لا مِنَ المِيقاتِ، فَقَدْ حَصَلَ هُناكَ الخَلَلُ، فَجُعِلَ مَجْبُورًا بِالدَّمِ، والمَكِّيُّ لا يَجِبَ إحْرامُهُ مِنَ المِيقاتِ، فَإقْدامُهُ عَلى التَّمَتُّعِ لا يُوقِعُ خَلَلًا في حَجِّهِ، فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ الهَدْيُ ولا بَدَلُهُ، ويَرُدُّهُ أنَّهُ لَوْ كانَتِ الإشارَةُ لِلْهَدْيِ والصَّوْمِ لَأتى ( بِعَلى ) دُونَ اللّامِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لِمَن لَمْ يَكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ لِأنَّ الهَدْيَ وبَدَلَهُ واجِبٌ عَلى المُتَمَتِّعِ، والواجِبُ يُسْتَعَمْلَ ( بِعَلى ) لا ( بِاللّامِ )، وكَوْنُ اللّامِ واقِعَةً مَوْقِعَ عَلى كَما قِيلَ بِهِ فِي: ”اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ“ خِلافُ الظّاهِرِ، والمُرادُ بِالمَوْصُولِ مَن كانَ مِنَ الحَرَمِ عَلى مَسافَةِ القَصْرِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، ومَن كانَ مَسْكَنُهُ وراءَ المِيقاتِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - وأهْلُ الحِلِّ عِنْدَ طاوُسٍ، وغَيْرُ أهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ مالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - والحاضِرُ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ ضِدُّ المُسافِرِ، وعَلى الوُجُوهِ الأُخَرِ بِمَعْنى الشّاهِدِ غَيْرِ الغائِبِ، والمُرادُ مِن حُضُورِ الأهْلِ حُضُورُ المُحْرِمِ، وعَبَّرَ بِهِ؛ لِأنَّ الغالِبَ عَلى الرَّجُلِ كَما قِيلَ: أنْ يَسْكُنَ حَيْثُ أهْلُهُ ساكِنُونَ، ولِلْمَسْجِدِ الحَرامِ إطْلاقانِ؛ أحَدُهُما نَفْسُ المَسْجِدِ، والثّانِي الحَرَمُ كُلُّهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ بِناءً عَلى أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - إنَّما أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الحَرَمِ لا مِنَ المَسْجِدِ، وعَلى إرادَةِ المَعْنى الأخِيرِ في الآيَةِ هُنا أكْثَرُ أئِمَّةِ الدِّينِ. ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ في كُلِّ ما يَأْمُرُكم بِهِ ويَنْهاكم عَنْهُ كَما يُسْتَفادُ مِن تَرْكِ المَفْعُولِ، ويَدْخُلُ فِيهِ الحَجُّ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وبِهِ يَتِمُّ الِانْتِظامُ. ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ 196﴾ لِمَن لَمْ يَتَّقِهِ؛ أيِ: اسْتَحْضِرُوا ذَلِكَ لِتَمْتَنِعُوا عَنِ العِصْيانِ، وإظْهارُ الِاسْمِ الجَلِيلِ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وإدْخالِ الرَّوْعَةِ، وإضافَةُ شَدِيدٍ مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى مَرْفُوعِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب