الباحث القرآني
* بابُ العُمْرَةِ هَلْ هي فَرْضٌ أمْ تَطَوُّعٌ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ واخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعُمَرَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وطاوُسٍ قالُوا: " إتْمامُهُما أنْ تُحْرِمَ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ " . وقالَ مُجاهِدٌ: " إتْمامُهُما بُلُوغُ آخِرِهِما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما " وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعَطاءٌ: " هو إقامَتُهُما إلى آخِرِ ما فِيهِما لِلَّهِ تَعالى لِأنَّهُما واجِبانِ " كَأنَّهُما تَأوَّلا ذَلِكَ عَلى الأمْرِ بِفِعْلِهِما، كَقَوْلِهِ لَوْ قالَ " حُجُّوا واعْتَمِرُوا " . ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وطاوُسٍ قالا: " إتْمامُهُما إفْرادُهُما " وقالَ قَتادَةَ إتْمامُ العُمْرَةِ الِاعْتِمارُ في غَيْرِ أشْهُرِ الحَجِّ ورُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ قالَ: " لا تُجاوِزُ بِها البَيْتَ " وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في وُجُوبِ العُمْرَةِ فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ أنَّها تَطَوُّعٍ قالَ مُجاهِدٌ في قَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ قالَ: " ما أمَرَنا بِهِ فِيهِما " . وقالَتْ عائِشَةُ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ (p-٣٢٩)والحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ: " هي واجِبَةٌ " ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مُجاهِدٍ. ورُوِيَ عَنْ طاوُسٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: " العُمْرَةُ واجِبَةٌ " . واحْتَجَّ مِن أوْجَبَها بِظاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ قالُوا: واللَّفْظُ يَحْتَمِلُ إتْمامَهُما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما ويَحْتَمِلُ الأمْرَ بِابْتِداءِ فِعْلِهِما، فالواجِبُ حَمْلُهُ عَلى الأمْرَيْنِ، بِمَنزِلَةِ عُمُومٍ يَشْتَمِلُ عَلى مُشْتَمِلٍ فَلا يَخْرُجُ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بِدَلالَةٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولا دَلالَةَ في الآيَةِ عَلى وُجُوبِها؛ وذَلِكَ لِأنَّ أكْثَرَ ما فِيها الأمْرُ بِإتْمامِهِما، وذَلِكَ إنَّما يَقْتَضِي نَفْيَ النُّقْصانِ عَنْهُما إذا فُعِلَتْ؛ لِأنَّ ضِدَّ التَّمامِ هو النُّقْصانُ لا البُطْلانُ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ لِلنّاقِصِ إنَّهُ غَيْرُ تامٍّ ولا تَقُولُ مِثْلَهُ لِما لَمْ يُوجَدْ مِنهُ شَيْءٌ ؟ فَعَلِمْنا أنَّ الأمْرَ بِالإتْمامِ إنَّما اقْتَضى نَفْيَ النُّقْصانِ، ولِذَلِكَ قالَ عَلِيٌّ وعُمَرُ: " إتْمامُهُما أنْ تُحْرِمَ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ " يَعْنِي الأبْلَغُ في نَفْيِ النُّقْصانِ الإحْرامُ بِهِما مِن دُوَيْرَةِ أهْلِكَ. وإذا كانَ عَلى ما وصَفْنا كانَ تَقْدِيرُهُ: أنْ لا يَفْعَلَهُما ناقِصَيْنِ. وقَوْلُهُ: " لا يَفْعَلُهُما ناقِصَيْنِ " لا يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ لِجَوازِ إطْلاقِ ذَلِكَ عَلى النَّوافِلِ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: " لا تَفْعَلِ الحَجَّ التَّطَوُّعَ ولا العُمْرَةَ التَّطَوُّعَ ناقِصَيْنِ ولا صَلاةَ النَّفْلِ ناقِصَةً " ؟ فَإذا كانَ الأمْرُ بِالإتْمامِ يَقْتَضِي نَفْيَ النُّقْصانِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ إذًا عَلى وُجُوبِها. ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ أنَّ العُمْرَةَ التَّطَوُّعَ والحَجَّ النَّفَلَ مُرادانِ بِهَذِهِ الآيَةِ في النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِما ناقِصَيْنِ، ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى وُجُوبِهِما في الأصْلِ. وأيْضًا فَإنَّ الأظْهَرَ مِن لَفْظِ الإتْمامِ إنَّما يُطْلَقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] فَأطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الإتْمامِ بَعْدَ الدُّخُولِ؛ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وما فاتَكم فَأتِمُّوا» فَأطْلَقَ لَفْظَ الإتْمامِ عَلَيْها بَعْدَ الدُّخُولِ فِيها. ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ إيجابُ إتْمامِهِما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما، أنَّ الحَجَّ والعُمْرَةَ النّافِلَتَيْنِ يَلْزَمُهُ إتْمامُهُما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما بِالآيَةِ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: " أتِمُّوهُما بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِما " فَغَيْرُ جائِزٍ إذا ثَبَتَ أنَّ المُرادَ لُزُومُ الإتْمامِ بَعْدَ الدُّخُولِ حَمْلُهُ عَلى الِابْتِداءِ لِتَضادِّ المَعْنَيَيْنِ، ألا تَرى أنَّهُ إذا أرادَ بِهِ الإلْزامَ بِالدُّخُولِ انْتَفى أنْ يُرِيدَ بِهِ الإلْزامَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؟ نافٍ لِكَوْنِهِ واجِبًا بِالدُّخُولِ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ حَجَّةَ الإسْلامِ إنَّما تَلْزَمُ الدُّخُولَ وإنَّ صَلاةَ الظُّهْرِ مُتَعَلِّقٌ لُزُومُها بِالدُّخُولِ فِيها ؟ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إرادَةُ إيجابِهِما بِالدُّخُولِ وإيجابُهُما ابْتِداءً قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِما؛ فَثَبَتَ بِما وصَفْنا أنَّهُ لا دَلالَةَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى وُجُوبِ العُمْرَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيها ومِمّا يَدُلُّ عَلى (p-٣٣٠)أنَّها لَيْسَتْ بِواجِبَةٍ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «العُمْرَةُ هي الحَجُّ الأصْغَرُ» . ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدّادٍ ومُجاهِدٍ قالا: " العُمْرَةُ هي الحَجُّ الأصْغَرُ " . وإذا ثَبَتَ أنَّ اسْمَ الحَجِّ يَتَناوَلُ العُمْرَةَ، ثُمَّ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وعُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالا: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ عَنْ سُفْيانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبِي سِنانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ الأقْرَعَ بْنَ حابِسٍ سَألَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ الحَجُّ في كُلِّ سَنَةٍ أوْ مَرَّةٌ واحِدَةٌ ؟ قالَ: بَلْ مَرَّةٌ واحِدَةٌ فَمَن زادَ فَتَطَوُّعٌ» فَلَمّا سَمّى النَّبِيُّ ﷺ العُمْرَةَ في الخَبَرِ الأوَّلِ حَجًّا وقالَ لِلْأقْرَعِ «الحَجُّ مَرَّةٌ واحِدَةٌ فَمَن زادَ فَتَطَوُّعٌ» انْتَفى بِذَلِكَ وُجُوبُ العُمْرَةِ؛ إذْ كانَتْ قَدْ تُسَمّى حَجًّا. ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ المُطَّوِّعِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ حَجّاجِ بْنِ أرْطاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «سَألَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الصَّلاةِ والحَجِّ أواجِبٌ ؟ قالَ: نَعَمْ وسَألَهُ عَنِ العُمْرَةِ أهِيَ واجِبَةٌ ؟ قالَ: لا ولَأنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» . ورَواهُ أيْضًا عَبّادُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ مِثْلَ حَدِيثِ الحَجّاجِ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ الأصْبَهانِيِّ قالَ: حَدَّثَنا شَرِيكٌ وجَرِيرٌ وأبُو الأحْوَصِ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ إسْحاقَ عَنْ أبِي صالِحٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الحَجُّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» . ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» ومَعْناهُ: أنَّهُ نابَ عَنْها؛ لِأنَّ أفْعالَ العُمْرَةِ مَوْجُودَةٌ في أفْعالِ الحَجِّ وزِيادَةٌ؛ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ وُجُوبَها كَوُجُوبِ الحَجِّ؛ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لا تَكُونُ العُمْرَةُ بِأوْلى أنْ تَدْخُلَ في الحَجِّ مِنَ الحَجِّ بِأنْ يَدْخُلَ في العُمْرَةِ؛ إذْ هُما جَمِيعًا واجِبانِ، كَما لا يُقالُ دَخَلَتِ الصَّلاةُ في الحَجِّ؛ لِأنَّها واجِبَةٌ كَوُجُوبِ الحَجِّ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جابِرٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ أصْحابَهُ حِينَ أحْرَمُوا بِالحَجِّ أنْ يُحِلُّوا مِنهُ بِعُمْرَةٍ، وأنَّ سُراقَةَ بْنَ مالِكٍ قالَ: أعُمْرَتُنا هَذِهِ لِعامِنا هَذا أمْ لِلْأبَدِ ؟ فَقالَ: بَلْ لِلْأبَدِ» ومَعْلُومٌ أنَّ هَذِهِ كانَتْ عَمَلَ عُمْرَةٍ يَحْلُلُ بِها مِن إحْرامِ الحَجِّ كَما يَتَحَلَّلُ الَّذِي يَفُوتُهُ الحَجُّ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وهي غَيْرُ مُجْزِيَةٍ عَنْ فَرْضِ العُمْرَةِ عِنْدَ مَن يَراها فَرْضًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ العُمْرَةَ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ مَفْرُوضَةً لَما قالَ: «عُمْرَتُكم هَذِهِ لِلْأبَدِ» وفِيهِ إخْبارٌ بِأنَّهُ لا عُمْرَةَ عَلَيْهِمْ غَيْرَها ويَدُلُّ عَلى أنَّ ما يُتَحَلَّلُ بِهِ مِن إحْرامِ (p-٣٣١)الحَجِّ لَيْسَ بِعُمْرَةٍ أنَّهُ لَوْ بَقِيَ الَّذِي يَفُوتُهُ الحَجُّ عَلى إحْرامِهِ حَتّى تَحَلَّلَ مِنهُ بِعُمْرَةٍ في أشْهُرِ الحُرُمِ وحَجَّ مِن عامِهِ، أنَّهُ لا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ لِذَلِكَ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ بِأنَّ الفُرُوضَ مَخْصُوصَةٌ بِأوْقاتٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُها بِوُجُودِها كالصَّلاةِ والصِّيامِ والزَّكاةِ والحَجِّ، فَلَوْ كانَتِ العُمْرَةُ فَرْضًا لَوَجَبَ أنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِوَقْتٍ، فَلَمّا لَمْ تَكُنْ مَخْصُوصَةً بِوَقْتٍ كانَتْ مُطْلَقَةَ لَهُ أنْ يَفْعَلَها مَتى شاءَ، فَأشْبَهَتِ الصَّلاةَ التَّطَوُّعَ والصَّوْمَ النَّفَلَ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ الحَجَّ النَّفَلَ مَخْصُوصٌ بِوَقْتٍ ولَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلى وُجُوبِهِ. قِيلَ لَهُ: هَذا لا يَلْزَمُ؛ لِأنّا قُلْنا إنَّ مِن شَرْطِ الفُرُوضِ الَّتِي تَلْزَمُ كُلَّ أحَدٍ في نَفْسِهِ كَوْنُها مَخْصُوصَةً بِأوْقاتٍ، وما لَيْسَ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ، ولَيْسَ يَمْتَنِعُ عَلى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّوافِلِ مَخْصُوصًا بِوَقْتٍ وبَعْضُها مُطْلَقٌ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ؛ فَكُلُّ ما كانَ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِوَقْتٍ فَهو نافِلَةٌ وما هو مَخْصُوصٌ بِوَقْتٍ فَعَلى ضَرْبَيْنِ: مِنهُ فَرْضٌ، ومِنهُ نَفْلٌ.
ومِمّا يُحْتَجُّ بِهِ أيْضًا مِن طَرِيقِ الأثَرِ، ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ قالَ: حَدَّثَنا هِشامُ بْنُ عَمّارٍ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ يَحْيى الخُشَنِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ قالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ مُوسى، عَنْ عَمِّهِ إسْحاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «الحَجُّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ بُحْتُرَ العَطّارُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ سالِمٍ الأفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الحَجُّ جِهادٌ والعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» واحْتَجَّ مَن رَآها واجِبَةً بِما رَوى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ جابِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الحَجُّ والعُمْرَةُ فَرِيضَتانِ واجِبَتانِ» . وبِما رَوى الحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «أقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وحُجُّوا واعْتَمِرُوا واسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكم» وأمْرُهُ عَلى الوُجُوبِ. وبِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ «سُئِلَ عَنِ الإسْلامِ، فَذَكَرَ الصَّلاةَ وغَيْرَها ثُمَّ قالَ: وأنْ تَحُجَّ وتَعْتَمِرَ» . ويَقُولُ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ: " وجَدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مَكْتُوبَتَيْنِ عَلَيَّ " قالَ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وقالَ لَهُ " اجْمَعْهُما " . وبِحَدِيثِ أبِي رَزِينٍ رَجُلٍ مِن بَنِي عامِرٍ أنَّهُ قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ والعُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ ؟ قالَ: اُحْجُجْ عَنْ أبِيكَ واعْتَمِرْ» . فَأمّا حَدِيثُ جابِرٍ في وُجُوبِ العُمْرَةِ مِن طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ فَهو ضَعِيفٌ كَثِيرُ الخَطَإ، يُقالُ احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَعَوَّلَ عَلى حِفْظِهِ وكانَ سَيِّئَ الحِفْظِ، وإسْنادُ حَدِيثِ جابِرٍ الَّذِي رَوَيْناهُ في عَدَمِ وُجُوبِها أحْسَنُ مِن إسْنادِ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ
ولَوْ تَساوَيا لَكِنَّ أكْبَرَ (p-٣٣٢)أحْوالِهِما أنْ يَتَعارَضا فَيَسْقُطا جَمِيعًا ويَبْقى لَنا حَدِيثُ طَلْحَةَ وابْنِ عَبّاسٍ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: لَيْسَ حَدِيثُ الحَجّاجِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ عَنْ جابِرٍ الَّذِي رَوَيْتُهُ في نَفْيِ الإيجابِ بِمُعارِضٍ لِحَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ جابِرٍ في إيجابِها؛ لِأنَّ حَدِيثَ الحَجّاجِ وارِدٌ عَلى الأصْلِ وحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ ناقِلٌ عَنْهُ، ومَتى ورَدَ خَبَرانِ أحَدُهُما نافٍ والآخَرُ مُثْبِتٌ فالمُثْبِتُ مِنهُما أوْلى، وكَذَلِكَ إذا كانَ أحَدُهُما مُوجَبًا والآخَرُ غَيْرَ مُوجَبٍ؛ لِأنَّ الإيجابَ يَقْتَضِي حَظْرَ تَرْكِهِ ونَفْيُهُ لا حَظْرَ فِيهِ والخَبَرُ الحاظِرُ أوْلى مِنَ المُبِيحِ. قِيلَ لَهُ: هَذا لا يَجِبُ مِن قِبَلِ أنَّ حَدِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ في إيجابِها لَوْ كانَ ثابِتًا لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهِ مُسْتَفِيضًا لِعُمُومِ الحاجَةِ إلَيْهِ ولَوَجَبَ أنْ يَعْرِفَهُ كُلُّ مَن عَرَفَ وُجُوبَ الحَجِّ؛ إذْ كانَ وُجُوبُها كَوُجُوبِ الحَجِّ ومَن خُوطِبَ بِهِ فَهو مُخاطَبٌ بِها، فَغَيْرُ جائِزٍ فِيما كانَ هَذا وصْفَهُ أنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مِن طَرِيقِ الآحادِ مَعَ ما في سَنَدِهِ مِنَ الضَّعْفِ ومُعارَضَةِ غَيْرِهِ إيّاهُ. وأيْضًا فَمَعْلُومٌ أنَّ الرِّوايَتَيْنِ ورَدَتا عَنْ رَجُلٍ واحِدٍ، فَلَوْ كانَ خَبَرُ الوُجُوبِ مُتَأخِّرًا في التّارِيخِ عَنْ خَبَرِ نَفْيِهِ لَبَيَّنَهُ جابِرٌ في حَدِيثِهِ، ولَقالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ في العُمْرَةِ إنَّها تَطَوُّعٌ ثُمَّ قالَ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّها واجِبَةٌ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الخَبَرانِ جَمِيعًا مَعَ عِلْمِهِ بِتارِيخِهِما فَيُطْلِقُ الرِّوايَةَ تارَةً بِالإيجابِ وتارَةً بِضِدِّهِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ تارِيخٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذَيْنِ الخَبَرَيْنِ ورَدا مُتَعارِضَيْنِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ خَبَرُ المُثَبِّتِ والنّافِي عَلى ما ذَكَرْنا مِنَ الِاعْتِبارِ إذا ورَدَتِ الرِّوايَتانِ مِن جِهَتَيْنِ. وأمّا حَدِيثُ سَمُرَةَ وقَوْلُهُ " فاعْتَمِرُوا " فَإنَّهُ عَلى النَّدْبِ بِالدَّلائِلِ الَّتِي قَدَّمْنا. فَأمّا قَوْلُهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ الإسْلامِ فَذَكَرَ الصَّلاةَ وغَيْرَها ثُمَّ قالَ: «وأنْ تَحُجَّ وتَعْتَمِرَ» فَإنَّ النَّوافِلَ مِنَ الإسْلامِ، وكَذَلِكَ كُلُّ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى لِأنَّهُ مِن شَرائِعِهِ؛ وقَدْ رُوِيَ أنَّ الإسْلامَ بِضْعٌ وسَبْعُونَ خَصْلَةً مِنها إماطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ. وأمّا قَوْلُ صُبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ لِعُمَرَ: " وجَدْتُ الحَجَّ والعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ " وسُكُوتُ عُمَرَ عَنْهُ وتَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ إنَّما قالَ هُما مَكْتُوبانِ عَلَيَّ ولَمْ يَقُلْ مَكْتُوبَتانِ عَلى النّاسِ، فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ نَذَرَهُما فَصارا مَكْتُوبَيْنِ عَلَيْهِ بِالنَّذْرِ. وأيْضًا فَإنَّهُ إنَّما قالَهُ تَأْوِيلًا مِنهُ لِلْآيَةِ، وفِيهَ مَساغٌ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ عُمَرُ لِاحْتِمالِها لَهُ، وهو بِمَنزِلَةِ قَوْلِ القائِلِ بِوُجُوبِ العُمْرَةِ فَلا يَسْتَحِقُّونَ النَّكِيرَ؛ إذْ كانَ الِاجْتِهادُ سائِغًا فِيهِ. وأمّا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَألَهُ عَنِ الحَجِّ عَنْ أبِيهِ وقَوْلُهُ «حُجَّ عَنْ أبِيكَ واعْتَمِرْ» فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى وُجُوبِها لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ هَذا القَوْلَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الإيجابِ؛ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ (p-٣٣٣)يَحُجَّ عَنْ أبِيهِ ولا أنْ يَعْتَمِرَ. ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ لِإيجابِ العُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وافْعَلُوا الخَيْرَ﴾ [الحج: ٧٧] لِأنَّها خَيْرٌ، فَظاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي إيجابَ جَمِيعِ الخَيْرِ. وهَذا يَسْقُطُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّهُ يُحْتاجُ أنْ يُثْبِتَ أنَّ فِعْلَ العُمْرَةِ مَعَ اعْتِقادِ وُجُوبِها خَيْرٌ لِأنَّ مَن لا يَراها واجِبَةً فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَفْعَلَها عَلى أنَّها واجِبَةٌ، ولَوْ فَعَلَها عَلى هَذا الِاعْتِقادِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ خَيْرًا، كَمَن صَلّى تَطَوُّعًا واعْتَقَدَ فِيهِ الفَرْضَ. وآخَرُ: وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وافْعَلُوا الخَيْرَ﴾ [الحج: ٧٧] لَفْظٌ مُجْمَلٌ لِاشْتِمالِهِ عَلى المُجْمَلِ الَّذِي لا يَلْزَمُ اسْتِعْمالُهُ بِوُرُودِ اللَّفْظِ، ألا تَرى أنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الصَّلاةُ والزَّكاةُ والصَّوْمُ وهَذِهِ كُلُّها فُرُوضٌ مُجْمَلَةٌ ؟ ومَتى انْتَظَمَ اللَّفْظُ ما هو مُجْمَلٌ فَهو مُجْمَلٌ يَحْتاجُ في إثْباتِ حُكْمِهِ إلى دَلِيلٍ مِن غَيْرِهِ. ووَجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ الخَيْرَ بِالألِفِ واللّامِ لَفْظُ جِنْسٍ لا يُمْكِنُ اسْتِغْراقُهُ، فَيَتَناوَلُ أدْنى ما يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَقَوْلِكَ: " إنْ شَرِبْتَ الماءَ وتَزَوَّجْتَ النِّساءَ " فَإذا فَعَلَ أدْنى ما يُسَمّى بِهِ فَقَدْ قَضى عُهْدَةَ اللَّفْظِ. وأيْضًا فَقَدْ عَلِمْنا مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ أنَّ المُرادَ البَعْضُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيعابِ الكُلِّ، فَصارَ كَقَوْلِهِ: " افْعَلُوا بَعْضَ الخَيْرِ " فَيَحْتاجُ إلى بَيانٍ في لُزُومِ الأمْرِ واحْتَجَّ مَن أوْجَبَها بِأنّا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يُتَطَوَّعُ بِهِ إلّا ولَهُ أصْلٌ في الفَرْضِ، فَلَوْ كانَتِ العُمْرَةُ تَطَوُّعًا لَكانَ لَها أصْلٌ في الفَرْضِ. فَيُقالُ لَهُ: العُمْرَةُ إنَّما هي الطَّوافُ والسَّعْيُ ولِذَلِكَ أصْلٌ في الفَرْضِ.
فَإنْ قِيلَ: لا يُوجَدُ طَوافٌ وسَعْيٌ مُفْرَدًا فَرْضًا غَيْرَ العُمْرَةِ، وإنَّما يُوجَدُ ذَلِكَ في الفَرْضِ تابِعًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ يُتَطَوَّعُ بِالطَّوافِ بِالبَيْتِ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أصْلٌ في الفَرْضِ مُفْرَدًا، فَكَذَلِكَ العُمْرَةُ يُتَطَوَّعُ بِها إذا كانَتْ طَوافًا وسَعْيًا وإنْ لَمْ يَكُنْ لَها أصْلٌ في الفَرْضِ واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِأنَّهُ لَمّا جازَ الجَمْعُ بَيْنَها وبَيْنَ الحَجِّ دَلَّ عَلى أنَّها فَرْضٌ؛ لِأنَّها لَوْ كانَتْ تَطَوُّعًا ما جازَ أنْ يُعْمَلَ مَعَ عَمَلِ الحَجِّ، كَما لا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلاتَيْنِ إحْداهُما فَرْضٌ والأُخْرى تَطَوُّعٌ ويُجْمَعُ بَيْنَ عَمَلِ أرْبَعِ رَكَعاتٍ فَرْضٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذِهِ قَضِيَّةٌ فاسِدَةٌ يَبْطُلُ عَلَيْهِ القَوْلُ بِوُجُوبِ العُمْرَةِ لِأنَّهُ يُقالُ لَهُ: لَمّا جازَ الجَمْعُ بَيْنَهُما ولَمْ يَجُزْ بَيْنَ صَلاتَيْ فَرْضٍ دَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ بِفَرْضٍ؛ وأمّا قَوْلُهُ: " ويُجْمَعُ بَيْنَ عَمَلِ أرْبَعِ رَكَعاتٍ " فَإنَّ الأرْبَعَ كُلَّها صَلاةٌ واحِدَةٌ كالحَجِّ الواحِدِ المُشْتَمِلِ عَلى سائِرِ أرْكانِهِ كالطَّوافِ الواحِدِ المُشْتَمِلِ عَلى سَبْعَةِ أشْواطٍ، وهو مَعَ ذَلِكَ مُنْتَقِضٌ عَلى أصْلِهِ لِأنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الفَرِيضَةِ وقَرَنَ مَعَها عُمْرَةً كانَتِ العُمْرَةُ تَطَوُّعًا والحَجُّ فَرْضًا فَقَدْ صَحَّ الجَمْعُ بَيْنَ الفَرْضِ والنَّفَلِ في الحَجِّ والعُمْرَةِ، فانْتَقَضَ بِذَلِكَ اسْتِدْلالُ مَنِ اسْتَدَلَّ بِجَوازِ جَمْعِها إلى الحَجِّ عَلى وُجُوبِها. واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ أيْضًا بِأنَّهُ لَمّا جُعِلَ لَها مِيقاتٌ كَمِيقاتِ (p-٣٣٤)الحَجِّ دَلَّ عَلى أنَّها فَرْضٌ فَيُقالُ لَهُ: إذا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الفَرِيضَةِ ورَجَعَ إلى أهْلِهِ ثُمَّ أرادَ أنْ يَرْجِعَ لِلْعُمْرَةِ كانَ لَها مِيقاتٌ كَمِيقاتِ الحَجِّ وهي تَطَوُّعٌ، فَشَرْطُ المِيقاتِ لَيْسَ بِدَلالَةٍ عَلى الوُجُوبِ، وكَذَلِكَ الحَجُّ التَّطَوُّعُ لَهُ مِيقاتٌ كَمِيقاتِ الواجِبِ. واحْتَجَّ أيْضًا بِوُجُوبِ الدَّمِ عَلى القارِنِ ولَمْ يُبَيِّنْ مِنهُ وجْهَ الدَّلالَةِ عَلى الوُجُوبِ، ولَكِنِ ادَّعى دَعْوى عارِيَةً مِنَ البُرْهانِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ مُنْتَقَضٌ؛ لِأنَّهُ لَوْ قَرَنَ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ مَعَ عُمْرَةِ تَطَوُّعٍ لَكانَ عَلَيْهِ دَمٌ، فَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُما وهُما نافِلَتانِ لَوَجَبَ الدَّمُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ قالَ الكِسائِيُّ وأبُو عُبَيْدَةَ وأكْثَرُ أهْلِ اللُّغَةِ: الإحْصارُ المَنعُ بِالمَرَضِ أوْ ذَهابُ النَّفَقَةِ، والحَصْرُ حَصْرُ العَدُوِّ، ويُقالُ: أحَصَرَهُ المَرَضُ وحَصَرَهُ العَدُوُّ. وحُكِيَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ أجازَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مَكانَ الآخَرِ، وأنْكَرَهُ أبُو العَبّاسِ المُبَرِّدُ والزَّجّاجُ وقالا: هُما مُخْتَلِفانِ في المَعْنى، ولا يُقالُ في المَرَضِ حَصَرَهُ ولا في العَدُوِّ أحْصَرَهُ. قالا: وإنَّما هَذا كَقَوْلِهِمْ حَبَسَهُ: إذا جَعَلَهُ في الحَبْسِ، وأحْبَسَهُ: أيْ عَرَّضَهُ لِلْحَبْسِ، وقَتَلَهُ: أوْقَعَ بِهِ القَتْلَ، وأقْتَلَهُ: أيْ عَرَّضَهُ لِلْقَتْلِ، وقَبَرَهُ: دَفَنَهُ في القَبْرِ، وأقْبَرَهُ: عَرَّضَهُ لِلدَّفْنِ في القَبْرِ؛ وكَذَلِكَ حَصَرَهُ: حَبَسَهُ وأوْقَعَ بِهِ الحَصْرَ، وأحْصَرَهُ: عَرَّضَهُ لِلْحَصْرِ ورَوى ابْنُ أبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " لا حَصْرَ إلّا حَصْرُ عَدُوٍّ، فَأمّا مَن حَبَسَهُ اللَّهُ بِكَسْرٍ أوْ مَرَضٍ فَلَيْسَ بِحَصْرٍ " فَأخْبَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ الحَصْرَ يَخْتَصُّ بِالعَدُوِّ وأنَّ المَرَضَ لا يُسَمّى حَصْرًا؛ وهَذا مُوافِقٌ لِقَوْلِ مَن ذَكَرْنا قَوْلَهم مِن أهْلِ اللُّغَةِ في مَعْنى الِاسْمِ. ومِنَ النّاسِ مَن يَظُنُّ أنَّ هَذا يَدُلُّ مِن قَوْلِهِ عَلى أنَّ المَرِيضَ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَحِلَّ ولا يَكُونُ مُحْصَرًا؛ ولَيْسَ في ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى ما ظَنَّ؛ لِأنَّهُ إنَّما أخْبَرَ عَنْ مَعْنى الِاسْمِ ولَمْ يُخْبِرْ عَنْ مَعْنى الحُكْمِ، فَأعْلَمَ أنَّ اسْمَ الإحْصارِ يَخْتَصُّ بِالمَرَضِ والحَصْرُ يَخْتَصُّ بِالعَدُوِّ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في حُكْمِ المُحْصَرِ عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ: " العَدُوُّ والمَرَضُ سَواءٌ يَبْعَثُ بِدَمٍ ويَحِلُّ بِهِ إذا نَحَرَ في الحَرَمِ " وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والثَّوْرِيُّ.
والثّانِي: قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " إنَّ المَرِيضَ لا يَحِلُّ ولا يَكُونُ مُحْصَرًا إلّا بِالعَدُوِّ " وهو قَوْلُ مالِكٍ واللَّيْثِ والشّافِعِيِّ. والثّالِثُ: قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: " إنَّ المَرَضَ والعَدُوُّ سَواءٌ لا يَحِلُّ إلّا بِالطَّوافِ " ولا نَعْلَمُ لَهُما مُوافِقًا مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولَمّا ثَبَتَ بِما قَدَّمْتُهُ مِن قَوْلِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ اسْمَ الإحْصارِ يَخْتَصُّ بِالمَرَضِ، وقالَ اللَّهُ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ وجَبَ أنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيما هو حَقِيقَةٌ (p-٣٣٥)فِيهِ وهو المَرَضُ، ويَكُونَ العَدُوُّ داخِلًا فِيهِ بِالمَعْنى.
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّهُ أجازَ فِيهِما لَفْظَ الإحْصارِ. قِيلَ لَهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ كانَتْ دَلالَةُ الآيَةِ قائِمَةً في إثْباتِهِ في المَرَضِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ وُقُوعَ الِاسْمِ عَلى المَرَضِ، وإنَّما أجازَهُ في العَدُوِّ، فَلَوْ وقَعَ الِاسْمُ عَلى الأمْرَيْنِ لَكانَ عُمُومًا فِيهِما مُوجِبًا لِلْحُكْمِ في المَرِيضِ والمَحْصُورِ بِالعَدُوِّ جَمِيعًا.
فَإنْ قِيلَ: لَمْ تَخْتَلِفِ الرُّواةُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في شَأْنِ الحُدَيْبِيَةِ، وكانَ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ مَمْنُوعِينَ بِالعَدُوِّ، فَأمَرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ بِالإحْلالِ مِنَ الإحْرامِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ هو العَدُوُّ قِيلَ لَهُ لَمّا كانَ سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ هو: العَدُوَّ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الحَصْرِ وهو يَخْتَصُّ بِالعَدُوِّ إلى الإحْصارِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالمَرَضِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ أرادَ إفادَةَ الحُكْمِ في المَرَضِ لِيُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ عَلى ظاهِرِهِ؛ ولَمّا أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحابَهُ بِالإحْلالِ وحَلَّ هو، دَلَّ عَلى أنَّهُ أرادَ حَصْرَ العَدُوِّ مِن طَرِيقِ المَعْنى لا مِن جِهَةِ اللَّفْظِ، فَكانَ نُزُولُ الآيَةِ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ في الأمْرَيْنِ. ولَوْ كانَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى تَخْصِيصَ العَدُوِّ بِذَلِكَ دُونَ المَرَضِ لَذَكَرَ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ ومَعَ ذَلِكَ لَوْ كانَ اسْمًا لِلْمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ نُزُولُهُ عَلى سَبَبٍ مُوجِبًا لِلِاقْتِصارِ بِحُكْمِهِ عَلَيْهِ، بَلْ كانَ الواجِبُ اعْتِبارَ عُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُسَدَّدٌ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى عَنْ حَجّاجٍ الصَّوّافِ قالَ: حَدَّثَنِي يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: سَمِعْتُ الحَجّاجَ بْنَ عَمْرٍو الأنْصارِيَّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن كُسِرَ أوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» قالَ عِكْرِمَةُ: فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ وأبا هُرَيْرَةَ فَقالا: صَدَقَ. ومَعْنى قَوْلِهِ فَقَدْ حَلَّ فَقَدْ جازَ لَهُ أنْ يَحِلَّ، كَما يُقالُ: حَلَّتِ المَرْأةُ لِلزَّوْجِ، يَعْنِي جازَ لَها أنْ تَتَزَوَّجَ.
فَإنْ قِيلَ: رَوى حَمّادُ وابْنُ زَيْدٍ عَنْ أيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ قالَ في المُحْصَرِ يَبْعَثُ بِالهَدْيِ: " فَإذا بَلَغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ " وقالَ: " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِالقَصاصِ مِن عِبادِهِ ويَأْخُذُ مِنهُمُ العَدُوَّ أنَّ عَلَيْهِ حَجًّا مَكانَ حَجٍّ وإحْرامًا مَكانَ إحْرامٍ " .
فَزَعَمَ هَذا القائِلُ أنَّهُ لَوْ كانَ عِنْدَ عِكْرِمَةَ هَذا الحَدِيثُ لَما كانَ قالَ: " يَبْعَثُ بِالهَدْيِ " ولَقالَ: " يَحِلُّ " كَما رُوِيَ في الخَبَرِ. وهَذا القائِلُ إنَّما غَلَطَ حِينَ ظَنَّ أنَّ المَعْنى في قَوْلِهِ: " حَلَّ " وُقُوعُ الإحْلالِ بِنَفْسِ الإحْصارِ؛ ولَيْسَ هو كَما ظَنَّ وإنَّما مَعْناهُ أنَّهُ جازَ لَهُ أنْ يَحِلَّ كَما ذَكَرْنا مِثْلَهُ فِيما يُطْلِقُهُ النّاسُ مِن قَوْلِهِمْ: " حَلَّتِ المَرْأةُ لِلْأزْواجِ " يُرِيدُونَ بِهِ: قَدْ جازَ لَها أنْ تَحِلَّ بِالتَّزْوِيجِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ المُحْصَرَ بِالعَدُوِّ لَمّا جازَ لَهُ الإحْلالُ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلى البَيْتِ وكانَ ذَلِكَ (p-٣٣٦)مَوْجُودًا في المَرَضِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ بِمَنزِلَتِهِ وفي حُكْمِهِ.
ألا تَرى أنَّهُ مَتى لَمْ يَتَعَذَّرْ وُصُولُهُ إلى البَيْتِ بِمَنعِ العَدُوِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَحِلَّ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْنى فِيهِ تَعَذُّرُ وُصُولِهِ إلى البَيْتِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مُوافَقَةُ مُخالِفِينا إيّانا عَلى أنَّ المَرْأةَ إذا مَنَعَها زَوْجُها مِن حَجَّةِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الإحْرامِ، جازَ لَها الإحْلالُ وكانَتْ بِمَنزِلَةِ المُحْصَرِ مَعَ عَدَمِ العَدُوِّ؛ وكَذَلِكَ مَن حُبِسَ في دَيْنٍ أوْ غَيْرِهِ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوُصُولُ إلى البَيْتِ كانَ في حُكْمِ المُحْصَرِ؛ فَكَذَلِكَ المَرِيضُ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ سائِرَ الفُرُوضِ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُها في كَوْنِ المَنعِ مِنها بِالعَدُوِّ أوِ المَرَضِ، ألا تَرى أنَّ الخائِفَ جائِزٌ لَهُ فِعْلُ الصَّلاةِ بِالإيماءِ أوْ قاعِدًا إذا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فِعْلُها قائِمًا كَما يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ ؟ فَكَذَلِكَ المُضِيُّ في الإحْرامِ واجِبٌ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الوُصُولِ إلى البَيْتِ لِمَرَضٍ كانَ ذَلِكَ أوْ لِخَوْفِ عَدُوٍّ، وكَذَلِكَ هَذا في اسْتِقْبالِ القِبْلَةِ إذا كانَ خائِفًا أوْ مَرِيضًا، وكَذَلِكَ مَن عَدِمَ الماءَ أوْ كانَ مَرِيضًا، ومَن لا يَجِدُ ما يَحْتَمِلُ بِهِ لِلْجِهادِ، ومَن كانَ مَرِيضًا؛ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الإعْذارِ في سُقُوطِ الفَرْضِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُها في بابِ سُقُوطِ فَرْضِ المُضِيِّ عَلى الإحْرامِ وجَوازِ الإحْلالِ مِنهُ، والمَعْنى في الجَمِيعِ تَعَذُّرُ الفِعْلِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ﴾ دَلَّ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ عَلى أنَّ المَرِيضَ غَيْرُ مُرادٍ بِذِكْرِ الإحْصارِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرًا مَعَ كَوْنِهِ في أوَّلِ الخِطابِ، والوَجْهُ الآخَرُ أنَّهُ لَوْ كانَ مُرادًا لَهُ لَكانَ يَحِلُّ بِذَلِكَ الدَّمُ ولَمْ يَكُنْ يَحْتاجَ إلى فِدْيَةٍ. قِيلَ لَهُ: لَمّا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ مَنَعَهُ الإحْلالَ مَعَ وُجُودِ الإحْصارِ إلى وقْتِ بُلُوغِ الهَدْيِ مَحِلَّهُ وهو ذَبْحُهُ في الحَرَمِ، فَأبانَ عَنْ حُكْمِ المَرِيضِ قَبْلَ بُلُوغِ الهَدْيِ مَحِلَّهُ، وأباحَ لَهُ حَلْقَ الرَّأْسِ مَعَ إيجابِ الفِدْيَةِ. ووَجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَرَضٍ يَمْنَعُ الوُصُولَ إلى البَيْتِ، ألا تَرى أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أتُؤْذِيكَ هَوامُّ رَأْسِكَ ؟ قالَ: نَعَمْ» فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ، ولَمْ تَكُنْ هَوامُّ رَأْسِهِ مانِعَتَهُ مِنَ الوُصُولِ إلى البَيْتِ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُ في الحَلْقِ وأمَرَهُ بِالفِدْيَةِ، وكَذَلِكَ المَرَضُ المَذْكُورُ في الآيَةِ جائِزٌ أنْ يَكُونَ المَرَضَ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ إحْصارٌ، واللَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما جَعَلَ المَرَضَ إحْصارًا إذا مَنَعَ الوُصُولَ إلى البَيْتِ، فَلَيْسَ في ذِكْرِهِ حُكْمَ المَرِيضِ بِما وصَفَ ما يَمْنَعُ كَوْنَ المَرَضِ إحْصارًا. ووَجْهٌ آخَرُ: وهو قَوْلُهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عائِدًا (p-٣٣٧)إلى أوَّلِ الخِطابِ، كَما عادَ إلَيْهِ حُكْمُ الإحْصارِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ فَبَيَّنَ حُكْمَهم إذا أُحْصِرُوا، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ يَعْنِي: أيُّها المُحْرِمُونَ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ؛ فَبَيَّنَ حُكْمَهم إذا مَرِضُوا قَبْلَ الإحْصارِ كَما بَيَّنَ حُكْمَهم عِنْدَ الإحْصارِ؛ فَلَيْسَ إذًا في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المَرَضَ لا يَكُونُ إحْصارًا.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ في سِياقِ الآيَةِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ دَلَّ عَلى أنَّ مُرادَهُ العَدُوُّ المَخُوفُ؛ لِأنَّ الأمْنَ يَقْتَضِي الخَوْفَ. قِيلَ لَهُ: ما الَّذِي يَمْنَعُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأمْنَ مِن ضَرَرِ المَرَضِ المَخُوفِ ؟ ولِمَ جَعَلْتَهُ مَخْصُوصًا بِالعَدُوِّ دُونَ المَرَضِ والأمْنُ والخَوْفُ مَوْجُودانِ فِيهِما ؟ وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أمِنتُمْ﴾ يَعْنِي: إذا أمِنتَ مِن كَسْرِكَ ووَجَعِكَ فَعَلَيْكَ أنْ تَأْتِيَ البَيْتَ.
فَإنْ قِيلَ: الفَرْقُ بَيْنَ العَدُوِّ والمَرَضِ أنَّ المُحْصَرَ بِعَدُوٍّ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أنْ يَتَقَدَّمَ أمْكَنَهُ الرُّجُوعُ، والمَرَضُ لا يَخْتَلِفُ حالُهُ في التَّقَدُّمِ والرُّجُوعِ. قِيلَ لَهُ: فَهَذا أحْرى أنْ يَكُونَ مُحْصَرًا لِتَعَذُّرِ الأمْرَيْنِ عَلَيْهِ، فَهو أعْذَرُ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وإنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ المُضِيُّ لِلْخَوْفِ. ويُقالُ أيْضًا: ما تَقُولُ في المُحْصَرِ بِالعَدُوِّ إذا كانَ مُحِيطًا بِهِ ولَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ ولا التَّقَدُّمُ ألَيْسَ جائِزًا لَهُ الإحْلالُ بِلا خِلافٍ بَيْنَ الفُقَهاءِ فَقَدِ انْتَقَضَتْ عِلَّتُكَ في الفَرْقِ بَيْنَهُما؛ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قالَ الشّافِعِيُّ في المُحْرِمَةِ إذا مَنَعَها زَوْجُها والمَحْبُوسِ " إنَّهُما مُحْصَرانِ وجائِزٌ لَهُما الإحْلالُ وحالُ التَّقَدُّمِ والرُّجُوعِ لَهُما سَواءٌ؛ لِأنَّهُما مَمْنُوعانِ مِنَ الأمْرَيْنِ " . وزَعَمَ الشّافِعِيُّ أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ المَرِيضِ والخائِفِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أباحَ لِلْخائِفِ في القِتالِ أنْ يَتَحَيَّزَ إلى فِئَةٍ فَيَنْتَقِلَ بِذَلِكَ مِنَ الخَوْفِ إلى الأمْنِ. فَيُقالُ لَهُ: وكَذَلِكَ قَدْ أباحَ لِلْمَرِيضِ تَرْكَ القِتالِ رَأْسًا بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ [التوبة: ٩١] فَكانَتْ رُخْصَةُ المَرِيضِ أوْسَعَ مِن رُخْصَةِ الخائِفِ؛ لِأنَّ الخائِفَ غَيْرُ مَعْذُورٍ في تَرْكِ حُضُورِ القِتالِ والمَرِيضُ مَعْذُورٌ فِيهِ. وإنَّما عُذِرَ الخائِفُ أنْ يَتَحَيَّزَ إلى فِئَةٍ ولَمْ يُعْذَرْ في تَرْكِ القِتالِ رَأْسًا، فالمَرِيضُ أوْلى بِالعُذْرِ في الإحْلالِ مِن إحْرامِهِ.
قالَ الشّافِعِيُّ: فَلَمّا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ثُمَّ قالَ في شَأْنِ المُحْصَرِ الخائِفِ ما قالَ، وجَبَ أنْ لا يَزُولَ فَرْضُ تَمامِ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلّا عَنِ الخائِفِ. فَيُقالُ لَهُ: الَّذِي قالَ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ هو الَّذِي قالَ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ وهو عُمُومٌ في الخائِفِ وغَيْرِهِ، فَلا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنهُ إلّا بِدَلالَةٍ، فَما الدَّلالَةُ عَلى تَخْصِيصِهِ بِالخائِفِ دُونَ غَيْرِهِ ؟ وقَدْ (p-٣٣٨)نَقَضْتَ ذَلِكَ بِإطْلاقِكَ لِلْمَرْأةِ الإحْلالِ إذا مَنَعَها زَوْجُها ولَيْسَتْ بِخائِفَةٍ، وكَذَلِكَ المَحْبُوسُ لا يَخافُ القَتْلَ، وقالَ المُزَنِيُّ: جَعَلَ الإحْلالَ رُخْصَةً لِلْخائِفِ مِنَ العَدُوِّ ولا يُشَبَّهُ بِهِ غَيْرُهُ، كَما جَعَلَ المَسْحَ عَلى الخُفَّيْنِ خاصًّا لا يُشَبِّهُ بِهِ القُفّازَيْنِ. فَيُقالُ لَهُ: إنْ كانَ المَعْنى فِيهِ أنَّهُ رُخْصَةٌ فَيَنْبَغِي أنْ لا يُقاسَ عَلى شَيْءٍ مِنَ الرُّخَصِ، فَإذا «رَخَّصَ النَّبِيُّ ﷺ الِاسْتِنْجاءَ بِالأحْجارِ» وجَبَ أنْ لا يُشَبَّهَ بِهِ غَيْرُهُ في جَوازِ الِاسْتِنْجاءِ بِالخِرَقِ والخَشَبِ، ولَمّا كانَ حَلْقُ الرَّأْسِ مِن أذًى رُخْصَةً وجَبَ أنْ لا يُشَبَّهَ بِهِ الأذى في البَدَنِ في إباحَةِ الحَلْقِ والفِدْيَةِ، ويَلْزَمُهُ أنْ لا يُشَبِّهَ بِالخائِفِ المَحْبُوسَ والمَرْأةَ إذا مَنَعَها زَوْجُها؛ وجَمِيعُ ما ذَكَرْنا يَنْقُضُ اعْتِلالَهُ
* * *
* فَصْلٌ
قالَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: والإحْصارُ مِنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ سَواءٌ؛ وحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أنَّ الإحْصارَ يَكُونُ مِنَ الحَجِّ دُونَ العُمْرَةِ، وذَهَبَ إلى أنَّ العُمْرَةَ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ وأنَّهُ لا يُخْشى الفَواتُ وقَدْ تَواتَرَتِ الأخْبارُ بِأنَّ «النَّبِيَّ ﷺ كانَ مُحْرِمًا بِالعُمْرَةِ عامَ الحُدَيْبِيَةِ وأنَّهُ أحَلَّ مِن عُمْرَتِهِ بِغَيْرِ طَوافٍ ثُمَّ قَضاها في العامِ القابِلِ في ذِي القَعْدَةِ وسُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضاءِ» . وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ وذَلِكَ حُكْمٌ عائِدٌ إلَيْهِما جَمِيعًا، وغَيْرُ جائِزٍ الِاقْتِصارُ عَلى أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ، لِما فِيهِ مِن تَخْصِيصِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِغَيْرِ دَلالَةٍ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عُمَرَ أنَّهُما قالا: " لا يَكُونُ الهَدْيُ إلّا مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ " . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ شاةٌ " . واخْتَلَفَ فُقَهاءُ الأمْصارِ فِيهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ: " الهَدْيُ مِنَ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ: الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ " وهو قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، قالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: " والبُدْنُ مِنَ الإبِلِ خاصَّةً " . وقالَ أصْحابُنا والشّافِعِيُّ: " مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ " . واخْتَلَفُوا في السِّنِّ، فَقالَ أصْحابُنا والشّافِعِيُّ: " لا يُجْزِي في الهَدْيِ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ إلّا الثَّنِيُّ فَصاعِدًا إلّا الجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ فَإنَّهُ يُجْزِي " . وقالَ مالِكٌ: " لا يُجْزِي مِنَ الهَدْيِ إلّا الثَّنِيُّ فَصاعِدًا " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " يُهْدِي الذُّكُورَ مِنَ الإبِلِ، ويَجُوزُ الجَذَعُ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ، ويُجْزِي كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَنْ سَبْعَةٍ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: الهَدْيُ اسْمٌ لِما يُهْدى إلى البَيْتِ عَلى وجْهِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، وجائِزٌ أنْ يُسَمّى بِهِ ما يُقْصَدُ بِهِ الصَّدَقَةُ وإنْ لَمْ يُهْدَ إلى البَيْتِ؛ قالَ النَّبِيُّ ﷺ «المُبَكِّرُ إلى الجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي شاةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي دَجاجَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كالمُهْدِي بَيْضَةً» فَسَمّى الدَّجاجَةَ (p-٣٣٩)والبَيْضَةَ هَدْيًا وإنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ إهْداءَهُ إلى البَيْتِ، وإنَّما أرادَ بِهِ الصَّدَقَةَ وإخْراجَها مَخْرَجَ القُرْبَةِ؛ ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن قالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أنْ أُهْدِي ثَوْبِي هَذا أوْ دارِي هَذِهِ " أنَّ عَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى أنَّ ما عَدا هَذِهِ الأصْنافِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ لَيْسَ مِنَ الهَدْيِ المُرادِ بِقَوْلِهِ ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ واخْتَلَفُوا فِيما أُرِيدَ بِهِ مِنها عَلى ما ذَكَرْنا؛ وظاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي دُخُولَ الشّاةِ فِيهِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْها؛ ولَمْ يَخْتَلِفُوا في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] أنَّ الشّاةَ مِنهُ وأنَّهُ يَكُونُ هَدْيًا في جَزاءِ الصَّيْدِ ورَوى إبْراهِيمُ عَنِ الأسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أهْدى غَنَمًا مَرَّةً» .
ورَوى الأعْمَشُ عَنْ أبِي سُفْيانَ عَنْ جابِرٍ قالَ: «كانَ فِيما أهْدى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَنَمٌ مُقَلَّدَةٌ» .
فَإنْ قِيلَ: الرِّوايَةُ عَنْ عائِشَةَ في هَدْيِ الغَنَمِ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ القاسِمَ قَدْ رَوى عَنْها أنَّها كانَتْ لا تَرى الغَنَمَ مِمّا يُسْتَيْسَرُ مِنَ الهَدْيِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما مَعْناهُ أنَّهُ لا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِها وأنَّ هَدْيَ الإبِلِ والبَقَرِ يُوجِبُ الإحْرامَ إذا أرادَهُ وقَلَّدَهُما، وأمّا اعْتِبارُ الثَّنِيِّ فَلِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في قِصَّةِ «أبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيارٍ حِينَ ضَحّى قَبْلَ الصَّلاةِ، فَأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِإعادَتِها، فَقالَ: عِنْدِي جَذَعَةٌ مِنَ المَعْزِ خَيْرٌ مِن شاتَيْ لَحْمٍ، فَقالَ: تُجْزِي عَنْكَ ولا تُجْزِي عَنْ أحَدٍ بَعْدَكَ» فَمَنَعَ الجَذَعَ في الأُضْحِيَّةِ؛ والهَدْيُ مِثْلُها؛ لِأنَّ أحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما. وإنَّما أجازُوا الجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ «أمَرَ بِأنْ يُضَحّى بِالجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ إذا فُرِضَ لَهُ سِتَّةُ أشْهُرٍ» وقَدْ بَيَّنّا ذَلِكَ في شَرْحِ المُخْتَصَرِ
وقَدِ اخْتَلَفُوا في جَوازِ الشَّرِكَةِ في دَمِ الهَدايا الواجِبَةِ، فَقالَ أصْحابُنا والشّافِعِيُّ: " تَجُوزُ البَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ والبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ " . وقالَ مالِكٌ: " يَجُوزُ ذَلِكَ في التَّطَوُّعِ ولا يُجْزِي في الواجِبِ " .
ورَوى جابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أنَّهُ «جَعَلَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ والبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» وتِلْكَ كانَتْ واجِبَةً؛ لِأنَّها كانَتْ عَنْ إحْصارٍ. ولَمّا اتَّفَقُوا عَلى جَوازِها عَنْ سَبْعَةٍ في التَّطَوُّعِ كانَ الواجِبُ مِثْلَهُ؛ لِأنَّهُما لا يَخْتَلِفانِ في الجَوازِ في سائِرِ الوُجُوهِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ ظاهِرُهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، فَوَجَبَ أنْ يُجْزِيَ بَعْضُ الهَدْيِ بِحَقِّ الظّاهِرِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ المُحْصَرِ أيْنَ يَذْبَحُ الهَدْيَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ واخْتَلَفَ السَّلَفُ في المَحِلُّ ما هو، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ وطاوُسٌ ومُجاهِدٌ والحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ: " هو الحَرَمُ " وهو قَوْلُ أصْحابِنا والثَّوْرِيِّ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " مَحِلُّهُ المَوْضِعُ الَّذِي أُحْصِرَ (p-٣٤٠)فِيهِ فَيَذْبَحُهُ ويُحِلُّ " . والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّ المَحِلَّ اسْمٌ لِشَيْئَيْنِ: يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ الوَقْتُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ المَكانُ؛ ألا تَرى أنَّ مَحِلَّ الدَّيْنِ هو وقْتُهُ الَّذِي تَجِبُ المُطالَبَةُ بِهِ ؟ وقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِضُباعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: «اشْتَرِطِي في الحَجِّ وقُولِي: مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» فَجَعَلَ المَحِلَّ في هَذا المَوْضِعِ اسْمًا لِلْمَكانِ. فَلَمّا كانَ مُحْتَمِلًا لِلْأمْرَيْنِ ولَمْ يَكُنْ هَدْيُ الإحْصارِ في العُمْرَةِ مُوَقَّتًا عِنْدَ الجَمِيعِ وهو لا مَحالَةَ مُرادٌ بِالآيَةِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ المَكانَ، فاقْتَضى ذَلِكَ أنْ لا يَحِلَّ حَتّى يَبْلُغَ مَكانًا غَيْرَ مَكانِ الإحْصارِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مَوْضِعُ الإحْصارِ مَحِلًا لِلْهَدْيِ لَكانَ بالِغًا مَحِلَّهُ بِوُقُوعِ الإحْصارِ ولَأدّى ذَلِكَ إلى بُطْلانِ الغايَةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمَحِلِّ هو الحَرَمُ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن لا يَجْعَلُ مَوْضِعَ الإحْصارِ مَحَلًّا لِلْهَدْيِ فَإنَّما يَجْعَلُ المَحِلَّ الحَرَمَ، ومَن جَعَلَ مَحِلَّ الهَدْيِ مَوْضِعَ الإحْصارِ أبْطَلَ فائِدَةَ الآيَةِ وأسْقَطَ مَعْناها. ومِن جِهَةٍ أُخْرى، وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعامُ إلا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ [الحج: ٣٠] إلى قَوْلِهِ: ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] ودَلالَتُهُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا في المَحِلِّ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: عُمُومُهُ في سائِرِ الهَدايا، والآخَرُ: ما فِيهِ مِن بَيانِ مَعْنى المَحِلِّ الَّذِي أُجْمِلَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فَإذا كانَ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ المَحِلَّ البَيْتَ العَتِيقَ، فَغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ أنْ يَجْعَلَ المَحِلَّ غَيْرَهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في جَزاءِ الصَّيْدِ: ﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] فَجَعَلَ بُلُوغَ الكَعْبَةِ مِن صِفاتِ الهَدْيِ، فَلا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنهُ دُونَ وُجُودِهِ فِيهِ. كَما أنَّهُ لَمّا قالَ في الظِّهارِ وفي القَتْلِ: ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ [النساء: ٩٢] فَقَيَّدَهُما بِفِعْلِ التَّتابُعِ، لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُما إلّا عَلى هَذا الوَجْهِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢] لا يَجُوزُ إلّا عَلى الصِّفَةِ المَشْرُوطَةِ. وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا في سائِرِ الهَدايا الَّتِي تُذْبَحُ: إنَّها لا تَجُوزُ إلّا في الحَرَمِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ في سِياقِ الخِطابِ بَعْدَ ذِكْرِ الإحْصارِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ فَأوْجَبَ عَلى المُحْصَرِ دَمًا ونَهاهُ عَنِ الحَلْقِ حَتّى يَذْبَحُ هَدْيَهُ، فَلَوْ كانَ ذَبْحُهُ في الحِلِّ جائِزًا لَذَبَحَ صاحِبُ الأذى هَدْيَهُ عَنِ الإحْصارِ وحَلَّ بِهِ واسْتَغْنى عَنْ فِدْيَةِ الأذى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الحِلَّ لَيْسَ بِمَحِلِّ الهَدْيِ. فَإنْ قِيلَ: هَذا فِيمَن لا يَجِدُ هَدْيَ الإحْصارِ. قِيلَ لَهُ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطابًا فِيمَن لا يَجِدُ الدَّمَ؛ لِأنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ الصِّيامِ والصَّدَقَةِ والنُّسُكِ، ولا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ إلّا وهو واجِدٌ لَها؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ ما يَجِدُ وبَيْنَ ما لا يَجِدُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ مَحِلَّ الهَدْيِ هو (p-٣٤١)الحَرَمُ دُونَ مَحِلِّ الإحْصارِ. ومِن جِهَةِ النَّظَرِ، لَمّا اتَّفَقُوا في جَزاءِ الصَّيْدِ أنَّ مَحِلَّهُ الحَرَمُ وأنَّهُ لا يُجْزِي في غَيْرِهِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ دَمٍ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالإحْرامِ، والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما تَعَلُّقُ وُجُوبِهِما بِالإحْرامِ.
فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] وذَلِكَ في شَأْنِ الحُدَيْبِيَةِ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ نَحَرُوا هَدْيَهم في غَيْرِ الحَرَمِ، لَوْلا ذَلِكَ لَكانَ بالِغًا مَحِلَّهُ. قِيلَ لَهُ: هَذا مِن أدَلِّ شَيْءٍ عَلى أنَّ مَحِلَّهُ الحَرَمُ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مَوْضِعُ الإحْصارِ هو الحِلُّ مَحَلًّا لِلْهَدْيِ لَما قالَ: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] فَلَمّا أخْبَرَ عَنْ مَنعِهِمُ الهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الحِلَّ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لَهُ؛ وهَذا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ دَلِيلٍ في المَسْألَةِ.
فَإنْ قِيلَ: فَإنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ ذَبَحُوا الهَدْيَ في الحِلِّ، فَما مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] ؟ قِيلَ لَهُ: لَمّا حَصَلَ أدْنى مَنعٍ جازَ أنْ يُقالَ إنَّهم مُنِعُوا، ولَيْسَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أبَدًا مَمْنُوعًا؛ ألا تَرى أنَّ رَجُلًا لَوْ مَنَعَ رَجُلًا حُقَّةً جازَ أنْ يُقالَ: مَنَعَهُ حَقَّهُ كَما يُقالُ حَبَسَهُ، ولا يَقْتَضِي ذَلِكَ أنْ يَكُونَ أبَدًا مَحْبُوسًا ؟ فَلَمّا كانَ المُشْرِكُونَ مَنَعُوا الهَدْيَ بَدِيّا مِنَ الوُصُولِ إلى الحَرَمِ جاءَ إطْلاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم مَنَعُوا الهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ مَحِلِّهِ وإنْ أطْلَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ؛ ألا تَرى أنَّهُ قَدْ وصَفَ المُشْرِكِينَ بِصَدِّ المُسْلِمِينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ وإنْ كانُوا قَدْ أطْلَقُوا لَهم بَعْدَ ذَلِكَ الوُصُولَ إلَيْهِ في العامِ القابِلِ، وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قالُوا يا أبانا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ﴾ [يوسف: ٦٣] وإنَّما مُنِعُوهُ في وقْتٍ وأطْلَقُوهُ في وقْتٍ آخَرَ ؟ فَكَذَلِكَ مُنِعُوا الهَدْيَ بَدِيّا، ثُمَّ لَمّا وقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَهم أطْلَقُوهُ حَتّى ذَبَحَهُ في الحَرَمِ. وقِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ ساقَ البُدْنَ لِيَذْبَحَها بَعْدَ الطَّوافِ بِالبَيْتِ، فَلَمّا مَنَعُوهُ مِن ذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] لِقُصُورِهِ عَنِ الوَقْتِ المَقْصُودِ فِيهِ ذَبْحُهُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ المَحِلَّ المُسْتَحَبَّ فِيهِ الذَّبْحُ، وهو عِنْدَ المَرْوَةِ أوْ بِمِنًى، فَلَمّا مَنَعَ ذَلِكَ أطْلَقَ ما فِيهِ ما وصَفْتُ. وقَدْ ذَكَرَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ ومَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ أنَّ الحُدَيْبِيَةَ بَعْضُها في الحِلِّ وبَعْضُها في الحَرَمِ، «وأنَّ مَضْرِبَ النَّبِيِّ ﷺ كانَ في الحِلِّ ومُصَلّاهُ كانَ في الحَرَمِ»، فَإذا أمْكَنَهُ أنْ يُصَلِّيَ في الحَرَمِ فَلا مَحالَةَ قَدْ كانَ الذَّبْحُ مُمْكِنًا فِيهِ. وقَدْ رُوِيَ أنَّ ناجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الأسْلَمِيَّ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: «ابْعَثْ مَعِيَ الهَدْيَ حَتّى آخُذَ بِهِ في الشِّعابِ والأوْدِيَةِ فَأذْبَحَها بِمَكَّةَ، فَفَعَلَ» . وجائِزٌ أنْ يَكُونَ بَعَثَ مَعَهُ بَعْضَهُ ونَحَرَ هو بَعْضَهُ في الحَرَمِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-٣٤٢)
* * *
بابُ وقْتِ ذَبْحِ هَدْيِ الإحْصارِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ ولَمْ يَخْتَلِفْ أهْلُ العِلْمِ مِمَّنْ أباحَ الإحْلالَ بِالهَدْيِ أنَّ ذَبْحَ هَدْيِ العُمْرَةِ غَيْرُ مُوَقَّتٍ وأنَّهُ لَهُ أنْ يَذْبَحَهُ مَتى شاءَ ويُحِلَّ. وقَدْ «كانَ النَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ مُحْصَرِينَ بِالحُدَيْبِيَةِ وكانُوا مُحْرِمِينَ بِالعُمْرَةِ، فَحَلُّوا مِنها بَعْدَ الذَّبْحِ، وكانَ ذَلِكَ في ذِي القَعْدَةِ» . واخْتَلَفُوا في هَدْيِ الإحْصارِ في الحَجِّ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ " لَهُ أنْ يَذْبَحَهُ مَتى شاءَ ويُحِلَّ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ والثَّوْرِيُّ ومُحَمَّدٌ: " لا يَذْبَحُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ " . وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ يَقْتَضِي جَوازَهُ غَيْرَ مُوَقَّتٍ، وفي إثْباتِ التَّوْقِيتِ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ إلّا بِدَلِيلٍ
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ والمَحِلُّ اسْمٌ يَقَعُ عَلى التَّوْقِيتِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا. قِيلَ لَهُ: قَدْ بَيَّنّا أنَّ المَحِلَّ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وإنْ كانَ قَدْ يَقَعُ عَلى الوَقْتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ المَكانَ مُرادٌ بِذِكْرِ المَحِلِّ؛ فَإذا بَلَغَ الحَرَمَ وذَبَحَ جازَ بِظاهِرِ الآيَةِ، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ شَرْطُ الوَقْتِ زِيادَةً فِيهِ؛ لِأنَّ أكْثَرَ أحْوالِهِ أنْ يَكُونَ الِاسْمُ لِما تَناوَلَهُما جَمِيعًا فَواجِبٌ أنْ يُجْزِيَ بِأيِّهِما وُجِدَ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ بُلُوغَ المَحِلِّ غايَةَ الإحْرامِ، وقَدْ وُجِدَ بِذَبْحِهِ في الحَرَمِ.
ولَمّا قالَ تَعالى: ﴿والهَدْيَ مَعْكُوفًا أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: ٢٥] وكانَ هَذا المَحِلُّ هو الحَرَمَ، ثُمَّ قالَ في هَذِهِ القِصَّةِ بِعَيْنِها: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ وجَبَ أنْ يَكُونَ هو المَحِلَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ الأُخْرى، وهو الحَرَمُ. ومِمّا يَدُلَّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ، أنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ عائِدٌ إلى الحَجِّ والعُمْرَةِ المَبْدُوءِ بِذِكْرِهِما في قَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ والهَدْيُ المَذْكُورُ لِلْحَجِّ هو المَذْكُورُ لِلْعُمْرَةِ، واتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّوْقِيتَ لِلْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الحَجُّ؛ إذْ قَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الإطْلاقُ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ والمُرادُ بِمَحِلِّهِ لِلْعُمْرَةِ هو الحَرَمُ دُونَ الوَقْتِ، فَصارَ كالمَنطُوقِ بِهِ فِيهِ، فاقْتَضى ذَلِكَ جَوازَ ذَبْحِهِ في الحَرَمِ أيَّ وقْتٍ شاءَ في العُمْرَةِ، فَكَذَلِكَ هو لِلْحَجِّ. وأيْضًا لَمّا كانَ الإطْلاقُ قَدْ تَناوَلَ العُمْرَةَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ مُقَيِّدًا لِلْحَجِّ؛ لِأنَّهُ دَخَلَ فِيهِما عَلى وجْهٍ واحِدٍ بِلَفْظٍ واحِدٍ، فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُرادَ في بَعْضِ ما انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ الوَقْتُ وفي بَعْضِهِ المَكانُ، كَما لا يَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾ [المائدة: ٣٨] في بَعْضِهِمْ سارِقِ العَشَرَةِ وفي بَعْضِهِمْ سارِقِ رُبْعِ دِينارٍ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الحَجّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأنْصارِيَّ عَنِ النَّبِيَّ ﷺ: «مَن كُسِرَ أوْ (p-٣٤٣)عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» .
ومَعْناهُ: فَقَدْ جازَ لَهُ أنْ يُحِلَّ؛ إذْ لا خِلافَ أنَّهُ لا يُحِلُّ بِالكَسْرِ والعَرَجِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ضُباعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَها: «اشْتَرِطِي وقُولِي: إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» ومَعْنى ذَلِكَ إعْلامُها أنَّ ذَلِكَ مَحِلُّها، بِدَلالَةِ الأُصُولِ أنَّ مُوجِبَ الإحْرامِ لا يَنْتَفِي بِالشَّرْطِ ثُمَّ لَمْ يُوَقِّتِ المَحِلَّ
ويُحْتَجُّ لَهُ مِن جِهَةِ النَّظَرِ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ العُمْرَةَ الَّتِي تَحَلَّلَ بِها عِنْدَ الفَواتِ لا وقْتَ لَها إذا وجَبَتْ، كَذَلِكَ هَذا الدَّمُ لَمّا وجَبَ عِنْدَ الإحْصارِ وجَبَ أنْ يَكُونَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ؛ لِأنَّهُ يَقَعُ بِهِ إحْلالٌ عَلى وجْهِ الفَسْخِ كَعُمْرَةِ الفَواتِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ﴾ هو نَهْيٌ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ في الإحْرامِ لِلْحاجِّ والمُعْتَمِرِ جَمِيعًا؛ لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ قَدِ اقْتَضى حَظْرَ حَلْقِ بَعْضِنا رَأْسَ بَعْضٍ وحَلْقِ كُلِّ واحِدٍ رَأْسَ نَفْسِهِ، لِاحْتِمالِ اللَّفْظِ لِلْأمْرَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] اقْتَضى النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ كُلِّ واحِدٍ مِنّا لِنَفْسِهِ ولِغَيْرِهِ. فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُحْرِمَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ حَلْقُ رَأْسِ غَيْرِهِ، ومَتى فَعَلَهُ لَزِمَهُ الجَزاءُ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الذَّبْحَ مُقَدَّمٌ عَلى الحَلْقِ في القِرانِ والتَّمَتُّعِ؛ لِأنَّهُ عُمُومُ في كُلِّ مَن عَلَيْهِ حَلْقٌ وهَدْيٌ في وقْتٍ واحِدٍ، فَيُحْتَجُّ فِيمَن حَلَقَ قَبْلَ أنْ يَذْبَحَ أنَّ عَلَيْهِ دَمًا لِمُواقَعَتِهِ المَحْظُورَ في تَقْدِيمِ الحَلْقِ عَلى الهَدْيِ. وقَدِ اخْتَلَفُوا في المُحْصَرِ هَلْ عَلَيْهِ حَلْقٌ أمْ لا ؟ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ: " لا حَلْقَ عَلَيْهِ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ: " يَحْلِقُ، فَإنْ لَمْ يَحْلِقْ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ " ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الحَلْقِ. ولَمْ يَخْتَلِفُوا في المَرْأةِ تُحْرِمُ تَطَوُّعًا بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِها، والعَبْدُ يُحْرِمُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلاهُ، أنَّ لِلزَّوْجِ والمَوْلى أنْ يُحَلِّلاهُما بِغَيْرِ حَلْقٍ ولا تَقْصِيرٍ، وذَلِكَ بِأنْ يَفْعَلَ بِهِما أدْنى ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ مِن طِيبٍ أوْ لُبْسٍ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَلْقَ غَيْرُ واجِبٍ عَلى المُحْصَرِ؛ لِأنَّ هَذَيْنِ بِمَنزِلَةِ المُحْصَرِ، وقَدْ جازَ لِمَن يَمْلِكُ إحْلالَهُما أنْ يَحْلِلْهُما بِغَيْرِ حَلْقٍ، ولَوْ كانَ الحَلْقُ واجِبًا وهو مُمْكِنٌ لَكانَ عَلَيْهِ أنْ يُحَلِّلَ العَبْدَ بِالحَلْقِ والمَرْأةَ بِالتَّقْصِيرِ. وأيْضًا فالحَلْقُ إنَّما ثَبَتَ نُسُكًا مُرَتَّبًا عَلى قَضاءِ المَناسِكِ، ولَمْ يَثْبُتْ عَلى غَيْرِ هَذا الوَجْهِ، فَغَيْرُ جائِزٍ إثْباتُهُ نُسُكًا إلّا عِنْدَ قِيامِ الدَّلالَةِ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّ الحَلْقَ في الأصْلِ لَيْسَ بِنُسُكٍ؛ ويُقاسُ بِهَذِهِ العِلَّةِ عَلى العَبْدِ والمَرْأةِ أنَّ المَوْلى والزَّوْجَ لَمّا جازَ لَهُما إحْلالُ العَبْدِ والمَرْأةِ بِغَيْرِ حَلْقٍ ولا تَقْصِيرٍ إذا لَمْ يَفْعَلا سائِرَ المَناسِكِ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْها الحَلْقُ، وجَبَ أنْ يَجُوزَ لِسائِرِ المُحْصَرِينَ الإحْلالُ بِغَيْرِ حَلْقِ لِهَذِهِ العِلَّةِ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِعائِشَةَ حِينَ أمَرَها بِرَفْضِ العُمْرَةِ قَبْلَ اسْتِيعابِ أفْعالِها: «اُنْقُضِي (p-٣٤٤)رَأْسَكِ وامْتَشِطِي ودَعِي العُمْرَةَ واغْتَسِلِي وأهِلِّي بِالحَجِّ» فَلَمْ يَأْمُرْها بِالحَلْقِ ولا بِالتَّقْصِيرِ حِينَ لَمْ تَسْتَوْعِبْ أفْعالَ العُمْرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مَن جازَ لَهُ الإحْلالُ مِن إحْرامِهِ قَبْلَ قَضاءِ المَناسِكِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الإحْلالُ بِالحَلْقِ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الحَلْقَ مُرَتَّبٌ عَلى قَضاءِ المَناسِكِ كَتَرْتِيبِ سائِرِ أفْعالِ المَناسِكِ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، وقَدِ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِذَلِكَ بِأنَّهُ لَمّا سَقَطَ عَنْهُ سائِرُ المَناسِكِ سَقَطَ الحَلْقُ. ويُحْتَمَلُ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ مُرادُهُ المَعْنى الَّذِي ذَكَرْنا أنَّ الحَلْقَ مُرَتَّبٌ عَلى قَضاءِ المَناسِكِ، فَلَمّا سَقَطَ عَنْهُ سائِرُ المَناسِكِ سَقَطَ الحَلْقُ. ويُحْتَمَلُ أنَّهُ لَمّا كانَ الحَلْقُ إذا وجَبَ في الإحْرامِ كانَ نُسُكًا، وقَدْ سَقَطَ عَنِ المُحْصَرِ سائِرُ المَناسِكِ، وجَبَ أنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الحَلْقُ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما سَقَطَ عَنْهُ سائِرُ المَناسِكِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِها، والحَلْقُ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ المُحْصَرَ لَوْ أمْكَنَهُ الوُقُوفُ بِالمُزْدَلِفَةِ ورَمْيُ الجِمارِ ولَمْ يُمْكِنْهُ الوُصُولُ إلى البَيْتِ ولا الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لا يَلْزَمُهُ الوُقُوفُ بِالمُزْدَلِفَةِ ولا رَمْيُ الجِمارِ مَعَ إمْكانِهِما؛ لِأنَّهُما مُرَتَّبانِ عَلى مَناسِكَ تَتَقَدَّمُهُما. كَذَلِكَ لَمّا كانَ الحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلى أفْعالٍ أُخَرَ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ قَبْلَهُما نُسُكًا فَقَدْ سَقَطَ بِما ذَكَرْنا اعْتِراضُ السّائِلِ لِوُجُودِنا مَناسِكَ يُمْكِنُهُ فِعْلُها، ولَمْ تَلْزَمْهُ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مُحْصَرًا. فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ لِأبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فَجَعَلَ بُلُوغَهُ مَحِلَّهُ غايَةً لِزَوالِ الحَظْرِ، وواجِبٌ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الغايَةِ بِضِدِّ ما قَبْلَها، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: " ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيَ مَحِلَّهُ فَإذا بَلَغَ فاحْلِقُوا " وذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الحَلْقِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّ الإباحَةَ هي ضِدُّ الحَظْرِ كَما أنَّ الإيجابَ ضِدُّهُ، فَلَيْسَتْ في صَرْفِهِ إلى أحَدِ الضِّدَّيْنِ وهو الإيجابُ بِأوْلى مِنَ الآخَرِ وهو الإباحَةُ. وأيْضًا فَإنَّ ارْتِفاعَ الحَظْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِفِعْلِ ضِدِّهِ عَلى جِهَةِ الإيجابِ، وإنَّما الَّذِي يَقْتَضِيهِ زَوالُ الحَظْرِ بَقاءَ الشَّيْءِ عَلى ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَنزِلَتِهِ قَبْلِ الإحْرامِ، فَإنْ شاءَ حَلَقَ وإنْ شاءَ تَرَكَ؛ ألا تَرى أنَّ زَوالَ حَظْرِ البَيْعِ بِفِعْلِ الجُمُعَةِ وزَوالِ حَظْرِ الصَّيْدِ بِالإحْلالِ لَمْ يَقْتَضِ إيجابَ البَيْعِ ولا الِاصْطِيادِ وإنَّما اقْتَضى إباحَتُهُما ؟ ويُحْتَجُّ لِأبِي يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ» ثَلاثًا، ودَعا لِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وذَلِكَ في عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الإحْصارِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ نُسُكٌ، وإذا كانَ نُسُكًا وجَبَ فِعْلُهُ كَما يَجِبُ عِنْدَ قَضاءِ المَناسِكِ لِغَيْرِ المُحْصَرِ. والجَوابُ: أنَّ أصْحابَ النَّبِيِّ ﷺ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الحَلْقُ والإحْلالُ قَبْلَ الطَّوافِ بِالبَيْتِ، فَلَمّا أمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالإحْلالِ (p-٣٤٥)تَوَقَّفُوا رَجاءَ أنْ يُمْكِنَهُمُ الوُصُولُ وأعادَ عَلَيْهِمُ القَوْلَ؛ ثُمَّ إنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَدَأ فَنَحَرَ هَدْيَهُ وحَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمّا رَأوْهُ كَذَلِكَ حَلَقَ بَعْضٌ وقَصَّرَ بَعْضٌ، فَدَعا لِلْمُحَلِّقِينَ لِمُبالَغَتِهِمْ في مُتابَعَةِ النَّبِيِّ ﷺ ومُسارِعَتِهِمْ إلى أمْرِهِ، ولَمّا قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا ولِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً فَقالَ: «إنَّهم لَمْ يَشُكُّوا» ومَعْنى ذَلِكَ أنَّهم لَمْ يَشُكُّوا أنَّ الحَلْقَ أفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ، فاسْتَحَقُّوا مِنَ الثَّوابِ بِعِلْمِهِمْ لِذَلِكَ ما لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الآخَرُونَ.
فَإنْ قِيلَ: فَكَيْفَما جَرى الأمْرُ فَقَدْ أمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالحَلْقِ وأمْرُهُ عَلى الوُجُوبِ، ودُعاؤُهُ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ المُحَلِّقِينَ والمُقَصِّرِينَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ نُسُكٌ، وما ذَكَرْتُهُ مِن أنَّ القَوْمَ كَرِهُوا الحَلْقَ قَبْلَ الوُصُولِ إلى البَيْتِ وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَهم بِهِ، لَيْسَ بِنافٍ وجْهَ الدَّلالَةِ مِنهُ عَلى كَوْنِهِ نُسُكًا. فَإنَّهُ يُقالُ: قَدْ رَوى المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ ومَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ قِصَّةَ الحُدَيْبِيَةِ فَقالا فِيهِ: فَقالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «أحِلُّوا وانْحَرُوا» وذَكَرَ في بَعْضِ الأخْبارِ الحَلْقَ. فَنَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَيْنِ، فَنَقُولُ: ما حَلَّ بِهِ مِن شَيْءٍ فَهو حَلالٌ، لِقَوْلِهِ ﷺ: «أحِلُّوا» وقَوْلُهُ: «احْلِقُوا» المَقْصِدُ بِهِ الإحْلالُ لا تَعْيِينُهُ بِالحَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وإنَّما اسْتَحَقُّوا الثَّوابَ لِإحْلالِهِمْ وائْتِمارِهِمْ لِأمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكانَ الحَلْقُ أفْضَلَ مِنَ التَّقْصِيرِ لِجِدِّهِمْ واجْتِهادِهِمْ في مُتابَعَةِ أمْرِهِ ﷺ واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ ما يَجِبُ عَلى المُحْصَرِ بَعْدَ إحْلالِهِ مِنَ الحَجِّ بِالهَدْيِ قالَ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ ما ذَكَرَ في شَأْنِ المُحْصَرَ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ واخْتَلَفَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ في المُحْصَرِ بِالحَجِّ إذا حَلَّ بِالهَدْيِ، فَرَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالا: " عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وحَجَّةٌ، فَإنْ جَمَعَ بَيْنَهُما في أشْهُرِ الحَجِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ وهو مُتَمَتِّعٌ، وإنْ لَمْ يَجْمَعْهُما في أشْهُرِ الحَجِّ فَلا دَمَ عَلَيْهِ " وكَذَلِكَ قالَ عَلْقَمَةُ والحَسَنُ وإبْراهِيمُ وسالِمٌ والقاسِمُ ومُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وهو قَوْلُ أصْحابِنا.
ورَوى أيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أمَرَ اللَّهُ بِالقِصاصِ أوْ يَأْخُذُ مِنكُمُ العُدْوانُ حَجَّةً بِحَجَّةٍ وعُمْرَةً بِعُمْرَةٍ " . ورُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قالَ: " عَلَيْهِ حَجَّةٌ " . وإنَّما يُوجِبُ أبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ حَجَّةً وعُمْرَةً إذا أحَلَّ بِالدَّمِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ مِن عامِهِ ذَلِكَ، فَلَوْ أنَّهُ أحَلَّ مِن إحْرامِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ زالَ الإحْصارُ فَأحْرَمَ بِالحَجِّ وحَجَّ مِن عامِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ؛ وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ العُمْرَةَ إنَّما هي الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ؛ لِأنَّ مَن فاتَهُ الحَجُّ فَعَلَيْهِ أنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَمّا حَصَلَ حَجُّهُ فائِتًا كانَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ لِلْفَواتِ، والدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِ في الإحْصارِ إنَّما هو لِلْإحْلالِ ولا يَقُومُ (p-٣٤٦)مَقامَ العُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَيْسَ في الأُصُولِ عُمْرَةٌ يَقُومُ مَقامُها دَمٌ، ألا تَرى أنَّ مَن نَذَرَ عُمْرَةٌ لَمْ يَنُبْ عَنْهُ دَمٌ لا في حالِ العُذْرِ ولا في حالِ الإمْكانِ ؟ وكَذَلِكَ مَن يَجْعَلُ العُمْرَةَ فَرِيضَةً لا يَجْعَلُ الدَّمَ نائِبًا عَنْها بِحالٍ؛ فَلَمّا كانَ الفَواتُ قَدْ ألْزَمَهُ عَمَلَ عُمْرَةٍ لَمْ يَجُزْ أنْ يَنُوبَ عَنْها دَمٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الدَّمَ إنَّما هو لِلْإحْلالِ فَحَسْبُ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ العُمْرَةَ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ غَيْرُ جائِزٍ فِعْلُها قَبْلَ الفَواتِ لِعَدَمِ وقْتِها وسَبَبِها، ودَمُ الإحْصارِ يَجُوزُ ذَبْحُهُ والإحْلالُ بِهِ قَبْلَ الفَواتِ، بِاتِّفاقٍ مِنّا ومِن مُخالِفِينا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الدَّمَ هو لِلْإحْلالِ لا عَلى أنَّهُ قائِمٌ مَقامَ العُمْرَةِ. ولا يَسُوغُ لِمالِكٍ والشّافِعِيِّ أنْ يَجْعَلا دَمَ الإحْصارِ قائِمًا مَقامَ العُمْرَةِ الواجِبَةِ بِالفَواتِ؛ لِأنَّهُما يَقُولانِ: " الَّذِي يَفُوتُهُ الحَجُّ عَلَيْهِ مَعَ عُمْرَةِ الفَواتِ هَدْيٌ " فَهَدْيُ الإحْصارِ عِنْدَهُما هو الَّذِي يَلْزَمُ بِالفَواتِ، فَلا يَقُومُ مَقامَ العُمْرَةِ كَما لا يَقُومُ مَقامَهُ بَعْدَ الفَواتِ.
فَإنْ قِيلَ: فَأنْتَ تُجِيزُ صَوْمَ ثَلاثَةِ أيّامِ المُتْعَةِ بَعْدَ إحْرامِ العُمْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وهو بَدَلٌ مِنَ الهَدْيِ، والهَدْيُ نَفْسُهُ لا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ. قِيلَ لَهُ: إنَّما جازَ ذَلِكَ لِوُجُودِ سَبَبِ المُتْعَةِ وهو العُمْرَةُ، فَجازَ تَقْدِيمُ بَعْضِ الصَّوْمِ عَلى وقْتِ ذَبْحِ الهَدْيِ، ولَمْ يُوجَدْ لِلْمُحْصَرِ سَبَبٌ لِلُزُومِ العُمْرَةِ؛ لِأنَّ سَبَبَهُ إنَّما هو طُلُوعُ الفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُمِ الدَّمُ مَقامَ العُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الدَّمَ غَيْرُ قائِمٍ مَقامَ العُمْرَةِ الَّتِي تَلْزَمُ بِالفَواتِ أنَّهُ يَلْزَمُ المُعْتَمِرُ وهو لا يَخْشى الفَواتَ لِأنَّها غَيْرُ مُوَقَّتَةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذا الدَّمَ لا يَتَعَلَّقُ بِالفَواتِ وأنَّهُ مَوْضُوعٌ لِتَعْجِيلِ الإحْلالِ بِدَلالَةِ أنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ ما يُخْشى فَوْتُهُ وحُكْمُ ما لا يُخْشى فَوْتُهُ في لُزُومِ الدَّمِ.
فَإنْ قِيلَ: في حَدِيثِ الحَجّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأنْصارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن كُسِرَ أوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عُمْرَةً، ولَوْ كانَتْ واجِبَةً مَعَهُ لَذَكَرَها كَما ذَكَرَ وُجُوبَ قَضاءِ الحَجِّ. قِيلَ لَهُ: ولَمْ يَذْكُرْ دَمًا، ومَعَ ذَلِكَ فَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُحِلَّ إلّا بِدَمٍ؛ وإنَّما أرادَ ﷺ الإخْبارَ عَنِ الإحْصارِ بِالمَرَضِ ووُجُوبِ قَضاءِ ما يُحِلُّ فِيهِ. وقَدْ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إلى أنَّ قَوْلَهُ عَقِيبَ ذِكْرِ حُكْمِ المُحْصَرِ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ أرادَ بِهِ العُمْرَةَ الَّتِي تَجِبُ بِالإحْلالِ مِنَ الحَجِّ إذا جَمَعَها إلى الحَجِّ الَّذِي أحَلَّ مِنهُ في أشْهُرِ الحَجِّ فَعَلَيْهِ الفِداءُ. ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ في المُحْصَرِ، وهو ما رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: حَدَّثَنا الثَّوْرِيِّ عَنْ ابْنِ أبِي نَجِيحِ عَنْ عَطاءٍ ومُجاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسِ قالَ: (p-٣٤٧)" الحَبْسُ حَبْسُ العَدُوِّ، فَإنْ حُبِسَ ولَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ حَلَّ مَكانَهُ، وإنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ حَلَّ بِهِ ولَمْ يَحِلَّ حَتّى يَنْحَرَ الهَدْيَ ولَيْسَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ ولا عُمْرَةٌ " . وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ إنْكارُ ذَلِكَ عَلى رِوايَةٍ رَواها مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " لَيْسَ عَلى مَن حَصَرَهُ العَدُوُّ هَدْيٌ حَسَبَ أنَّهُ قالَ: " ولا حَجَّ ولا عُمْرَةَ " قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطاءٍ قُلْتُ: هَلْ سَمِعْتَ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ لَيْسَ عَلى المُحْصَرِ هَدْيٌ ولا قَضاءُ إحْصارِهِ ؟ قالَ: لا؛ وأنْكَرَهُ. وهَذِهِ رِوايَةٌ لَعَمْرِي مُنْكَرَةٌ خِلافُ نَصِّ التَّنْزِيلِ وما ورَدَ بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: فَعَلَيْهِ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، والآخَرُ: فَلْيُهْدِ ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ إيجابَ الهَدْيِ عَلى المُحْصَرِ مَتى أرادَ الإحْلالَ، ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ جائِزٌ لَهُ الإحْلالُ بِغَيْرِ هَدْيٍ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ بِإيجابِهِ ومَعَ نَقْلِ إحْصارِ النَّبِيِّ ﷺ بِالحُدَيْبِيَةِ وأمْرُهُ إيّاهم بِالذَّبْحِ والإحْلالِ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في المُحْصَرِ إذا لَمْ يَحِلَّ حَتّى فاتَهُ الحَجُّ ووَصَلَ إلى البَيْتِ، فَقالَ أصْحابُنا والشّافِعِيُّ: " عَلَيْهِ أنْ يَتَحَلَّلَ بِالعُمْرَةِ، ولا يَصِحُّ لَهُ فِعْلُ الحَجِّ بِالإحْرامِ الأوَّلِ " . وقالَ مالِكٌ: " يَجُوزُ لَهُ أنْ يَبْقى حَرامًا حَتّى يَحُجَّ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ، وإنْ شاءَ تَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ " . والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ أنْ يَفْعَلَ بِذَلِكَ الإحْرامِ الأوَّلِ حَجًّا بَعْدَ الفَواتِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ لَهُ أنْ يَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ، فَلَوْلا أنَّ إحْرامَهُ قَدْ صارَ بِحَيْثُ لا يَفْعَلُ بِهِ حَجًّا لَما جازَ لَهُ التَّحَلُّلُ مِنهُ؛ ألا تَرى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ أنْ يَتَحَلَّلَ مِنهُ في السَّنَةِ الأُولى حِينَ أمْكَنَهُ فِعْلُ الحَجِّ بِهِ ؟ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ إحْرامَهُ قَدْ صارَ بِحَيْثُ لا يَفْعَلُ بِهِ حَجّا. وأيْضًا فَإنَّ فَسْخَ الحَجِّ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ فَعَلِمْنا حِينَ جازَ لَهُ الإحْلالُ أنَّ مُوجِبَهُ في هَذِهِ الحالِ هو عَمَلُ العُمْرَةِ لا عَمَلُ الحَجِّ؛ لِأنَّهُ لَوْ أمْكَنَهُ عَمَلُ الحَجِّ فَجَعَلَهُ عُمْرَةً بِالإحْلالِ لَكانَ فاسِخًا لِحَجِّهِ مَعَ إمْكانِ فِعْلِهِ، وهَذا لَمْ يَكُنْ قَطُّ إلّا في السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ نُسِخَ. وهو مَعْنى قَوْلِ عُمَرَ: " مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنا أنْهى عَنْهُما وأضْرِبُ عَلَيْهِما: مُتْعَةُ النِّساءِ ومُتْعَةُ الحَجِّ " فَأرادَ بِمُتْعَةِ الحَجِّ فَسْخَهُ عَلى نَحْوِ ما أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ أصْحابَهُ في حَجَّةِ الوَداعِ.
واخْتَلَفُوا أيْضًا فِيمَن أُحْصِرَ وهو مُحْرِمٌ بِحَجِّ تَطَوُّعٍ أوْ بِعُمْرَةِ تَطَوُّعٍ، فَقالَ أصْحابُنا: " عَلَيْهِ القَضاءُ سَواءٌ كانَ (p-٣٤٨)الإحْصارُ بِمَرَضٍ أوْ عَدُوٍّ إذا حَلَّ مِنهُما بِالهَدْيِ " . وأمّا مالِكٌ والشّافِعِيُّ فَلا يَرَيانِ الإحْصارَ بِالمَرَضِ ويَقُولانِ: " إنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ فَحَلَّ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ في الحَجِّ ولا العُمْرَةِ " .
والدَّلِيلُ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وذَلِكَ يَقْتَضِي الإيجابَ بِالدُّخُولِ، ولَمّا وجَبَ بِالدُّخُولِ صارَ بِمَنزِلَةِ حَجَّةِ الإسْلامِ والنَّذْرِ، فَيَلْزَمُهُ القَضاءُ بِالخُرُوجِ مِنهُ قَبْلِ إتْمامِهِ سَواءٌ كانَ مَعْذُورًا فِيهِ أوْ غَيْرَ مَعْذُورِ؛ لِأنَّ ما قَدْ وجَبَ لا يُسْقِطُهُ العُذْرُ، فَلَمّا اتَّفَقُوا عَلى وُجُوبِ القَضاءِ بِالإفْسادِ وجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ بِالإحْصارِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الحَجّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأنْصارِيِّ: «مَن كُسِرَ أوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وعَلَيْهِ الحَجُّ مِن قابِلٍ» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَجَّةِ الإسْلامِ والتَّطَوُّعِ. وأيْضًا فَإنَّ مَن تَرَكَ مُوجِباتِ الإحْرامِ لا يَخْتَلِفُ فِيهِ المَعْذُورُ وغَيْرُهُ في تَرْكِ لُزُومِ حُكْمِهِ؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَ حالِقَ رَأْسِهِ مِن أذًى ولَمْ يُخْلِهِ مِن إيجابِ فِدْيَةٍ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في إحْرامِ فَرِيضَةٍ أوْ تَطَوُّعٍ؛ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُ المُحْصَرِ بِحَجَّةٍ فَرْضٍ أوْ نَفْلٍ في وُجُوبِ القَضاءِ، وواجِبٌ أيْضًا أنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ إفْسادِهِ إيّاهُ بِالجِماعِ وخُرُوجِهِ مِنهُ بِإحْصارٍ، كَما لَمْ يَخْلُ مِن إيجابِ كَفّارَةٍ في الجِناياتِ الواقِعَةِ في الإحْرامِ المَعْذُورِ وغَيْرِهِ.
ويَدُلُّ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ عَلى المُحْصَرِ وإنْ كانَ مَعْذُورًا اتِّفاقُ الجَمِيعِ أنَّ عَلى المَرِيضِ القَضاءَ إذا فاتَهُ الحَجُّ وإنْ كانَ مَعْذُورًا في الفَواتِ، كَما يَلْزَمُهُ لَوْ قَصَدَ إلى الفَواتِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ. والمَعْنى في اسْتِواءِ حُكْمِ المَعْذُورِ وغَيْرِ المَعْذُورِ ما لَزِمَهُ مِنَ الإحْرامِ بِالدُّخُولِ وهو مَوْجُودُ في المُحْصَرِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَسْقُطَ عَنْهُ القَضاءُ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قِصَّةُ عائِشَةَ حِينَ حاضَتْ وهي مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ وكانَتْ مُحْرِمَةً بِعُمْرَةٍ، فَقالَ لَها النَّبِيُّ ﷺ: «اُنْقُضِي رَأْسَكِ وامْتَشِطِي وأهِلِّي بِالحَجِّ ودَعِي العُمْرَةَ ثُمَّ لَمّا فَرَغَتْ مِنَ الحَجِّ أمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبِي بَكْرٍ فَأعْمَرَها مِنَ التَّنْعِيمِ، وقالَ هَذِهِ مَكانُ عُمْرَتِكِ» فَأمَرَها بِقَضاءِ ما رَفَضَتْهُ مِنَ العُمْرَةِ لِلْعُذْرِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْذُورَ في خُرُوجِهِ مِنَ الإحْرامِ لا يَسْقُطُ عَنْهُ القَضاءُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا أُحْصِرَ هو وأصْحابُهُ بِالحُدَيْبِيَةِ وكانُوا مُحْرِمِينَ بِالعُمْرَةِ وقَضَوْها في العامِ المُقْبِلِ، سُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضاءِ» ولَوْ لَمْ تَكُنْ لَزِمَتْ بِالدُّخُولِ ووَجَبَ القَضاءُ لَما سُمِّيَتْ عُمْرَةَ القَضاءِ ولَكانَتْ تَكُونُ حِينَئِذٍ عُمْرَةً مُبْتَدَأةً، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى لُزُومِ القَضاءِ بِالإحْلالِ واللَّهُ المُوَفِّقُ.
(p-٣٤٩)
* * *
بابُ المُحْصَرِ لا يَجِدُ هَدْيًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في المُحْصَرِ لا يَجِدُ هَدْيًا، فَقالَ أصْحابُنا: " لا يَحِلُّ حَتّى يَجِدَ هَدْيًا فَيَذْبَحَ عَنْهُ " وقالَ عَطاءٌ " يَصُومُ عَشَرَةَ أيّامٍ ويُحِلُّ كالمُتَمَتِّعِ إذا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا " ولِلشّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ لا يَحِلُّ أبَدًا إلّا بِهَدْيٍ، والآخَرُ: إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى شَيْءٍ حَلَّ وأهْراقَ دَمًا إذا قَدَرَ عَلَيْهِ، وقِيلَ: إذا لَمْ يَقْدِرْ أجْزَأهُ وعَلَيْهِ الطَّعامُ أوْ صِيامٌ إنْ لَمْ يَجِدْ ولَمْ يَقْدِرْ
قالَ أبُو بَكْرٍ: واحْتَجَّ مُحَمَّدٌ لِذَلِكَ بِأنَّ هَدْيَ المُتْعَةِ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ وكَذَلِكَ حُكْمُ المُتَمَتِّعِ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ فِيما يَلْزَمُ مِن هَدْيٍ أوْ صِيامٍ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، والمَنصُوصاتُ لا يُقاسُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، ووَجْهٌ آخَرُ وهو أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إثْباتُ الكَفّاراتِ بِالقِياسِ فَلَمّا كانَ الدَّمُ مَذْكُورًا لِلْمُحْصَرِ لَمْ يَجُزْ لَنا إثْباتُ شَيْءٍ غَيْرِهِ قِياسًا؛ لِأنَّ ذَلِكَ دَمُ جِنايَةٍ عَلى وجْهِ الكَفّارَةِ لِامْتِناعِ جَوازِ إثْباتِ الكَفّارَةِ قِياسًا، وأيْضًا فَإنَّ فِيهِ تَرْكَ المَنصُوصِ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ فَمَن أباحَ لَهُ الحَلْقَ قَبْلَ بُلُوغِ الهَدْيِ مَحِلَّهُ فَقَدْ خالَفَ النَّصَّ ولا يَجُوزُ تَرْكُ النَّصِّ بِالقِياسِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ إحْصارِ أهْلِ مَكَّةَ
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ والزُّهْرِيِّ أنَّهُما قالا: " لَيْسَ عَلى أهْلِ مَكَّةَ إحْصارٌ إنَّما إحْصارُهم أنْ يَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ " وكَذَلِكَ قالَ أصْحابُنا إذا أمْكَنَهُمُ الوُصُولُ إلى البَيْتِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ، فَإنْ كانَ مُعْتَمِرًا فالعُمْرَةُ إنَّما هي الطَّوافُ والسَّعْيُ ولَيْسَ بِمُحْصَرٍ عَنْ ذَلِكَ، وإنْ كانَ حاجًّا فَلَهُ أنْ يُؤَخِّرَ الخُرُوجَ إلى عَرَفاتٍ إلى آخِرِ وقْتِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، فَإذا فاتَهُ الوُقُوفُ فَقَدْ فاتَهُ الحَجُّ وعَلَيْهِ أنْ يَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ فَيَكُونُ مِثْلَ المُعْتَمِرِ فَلا يَكُونُ مُحْصَرًا؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ المُحْرِمُ يُصِيبُهُ أذًى مِن رَأْسِهِ أوْ مَرَضٌ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمُ: فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا مِنَ المُحْرِمِينَ مُحْصَرِينَ أوْ غَيْرَ مُحْصَرِينَ فَأصابَهُ مَرَضٌ أوْ أذًى في رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُحْصَرَ (p-٣٥٠)لا يَجُوزُ لَهُ الحَلْقُ قَبْلَ بُلُوغِ الهَدْيِ مَحِلَّهُ، وأنَّهُ إذا كانَ مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ الفِدْيَةُ، وإنْ كانَ غَيْرَ مُحْصَرٍ فَهو في حُكْمِ المُحْصَرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ هَدْيُهُ مَحِلَّهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ المُحْصَرِينَ وغَيْرِ المُحْصَرِينَ في أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم لا يَجُوزُ لَهُ الحَلْقُ في الإحْرامِ إلّا عَلى الشَّرْطِ المَذْكُورِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا﴾ عَنى المَرَضَ الَّذِي يُحْتاجُ فِيهِ إلى لُبْسٍ أوْ شَيْءٍ يَحْظُرُهُ الإحْرامُ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ لِدَفْعِ الأذى ويَفْتَدِي. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ إنَّما هو عَلى أذًى يَحْتاجُ فِيهِ إلى اسْتِعْمالِ بَعْضِ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ مِن حَلْقٍ أوْ تَغْطِيَةٍ، فَأمّا إنْ كانَ مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى في رَأْسِهِ لا يَحْتاجُ فِيهِ إلى حَلْقٍ ولا إلى اسْتِعْمال بَعْضِ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ فَهو في هَذِهِ الحالُ بِمَنزِلَةِ الصَّحِيحِ في حَظْرِ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ. وقَدْ رُوِيَ في أخْبارٍ مُتَظاهِرَةٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِهِ في عامِ الحُدَيْبِيَةٍ والقَمْلُ تَتَناثَرُ عَلى وجْهِهِ، فَقالَ: أتُؤْذِيكَ هَوامُّ رَأْسِكَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأمَرَهُ بِالفِدْيَةِ» . فَكانَ كَثْرَةُ القَمْلِ مِنَ الأذى المُرادُ بِالآيَةِ ولَوْ كانَ بِهِ قُرُوحٌ في رَأْسِهِ أوْ خُرّاجٌ فاحْتاجَ إلى شَدِّهِ أوْ تَغْطِيَتِهِ كانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ في جَوازِ الفِدْيَةِ، وكَذَلِكَ سائِرُ الأمْراضِ الَّتِي تُصِيبُهُ ويَحْتاجُ إلى لُبْسِ الثِّيابِ جازَ لَهُ أنْ يَسْتَبِيحَ ذَلِكَ ويَفْتَدِيَ؛ لِأنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَهو عامٌّ في الكُلِّ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ﴾ مَعْناهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ. قِيلَ لَهُ: الحَلْقُ غَيْرُ مَذْكُورٍ وإنْ كانَ مُرادًا، وكَذَلِكَ اللُّبْسُ وتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْكُورٍ وهو مُرادٌ؛ لِأنَّ المَعْنى فِيهِ اسْتِباحَةُ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ لِلْعُذْرِ. وكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَرِيضًا وكانَ بِهِ أذًى في بَدَنِهِ يَحْتاجُ فِيهِ إلى حَلْقِ الشَّعْرِ كانَ في حُكْمِ الرَّأْسِ في بابِ الفِدْيَةِ؛ إذْ كانَ المَعْنى مَعْقُولًا في الجَمِيعِ وهو اسْتِباحَةُ ما يَحْظُرُهُ الإحْرامُ في حالِ العُذْرِ وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ﴾ فَإنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ صامَ ثَلاثَةَ أيّامٍ في حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ؛ وهو قَوْلُ جَماعَةِ السَّلَفِ وفُقَهاءِ الأمْصارِ إلّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ أنَّ الصِّيامَ عَشَرَةُ أيّامٍ كَصِيامِ المُتْعَةِ. وأمّا الصَّدَقَةُ فَإنَّهُ رُوِيَ في مِقْدارِها عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ رِواياتٌ مُخْتَلِفَةُ الظّاهِرِ، فَمِنها ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعِ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي زائِدَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ الأصْبَهانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أنَّ «كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مُحْرِمًا فَقَمِلَ رَأْسُهُ ولِحْيَتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ فَدَعا (p-٣٥١)بِحَلّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وقالَ هَلْ تَجِدُ نُسُكًا قالَ: ما أقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأمَرَهُ أنْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَساكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صاعًا، وأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ لِلْمُسْلِمِينَ عامَّةً» .
ورَواهُ صالِحُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ. ورَوى داوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ عَنْ عامِرٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وقالَ فِيهِ: «تَصَدَّقَ بِثَلاثَةِ آصُعٍ مِن تَمْرٍ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صاعٌ» . وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ بْنِ أحْمَدَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ داوُدَ بْنِ أبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بْنِ أبِي لَيْلى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُ: «اُنْسُكْ نَسِيكَةً أوْ صُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ أوْ أطْعِمْ ثَلاثَةَ آصُعٍ مِن طَعامٍ لِسِتَّةِ مَساكِينَ». فَذَكَرَ في الخَبَرِ الأوَّلِ ثَلاثَةَ آصُعٍ مِن تَمْرٍ عَلى سِتَّةِ مَساكِينَ، وفي خَبَرٍ سِتَّةُ آصُعٍ، وهَذا أوْلى؛ لِأنَّ فِيهِ زِيادَةً. ثُمَّ قَوْلُهُ: «ثَلاثَةُ آصُعٍ مِن طَعامٍ عَلى سِتَّةِ مَساكِينَ» يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ الحِنْطَةَ؛ لِأنَّ هَذا ظاهِرُهُ والمُعْتادُ المُتَعارَفُ مِنهُ، فَيَحْصُلُ مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مِنَ التَّمْرِ سِتَّةُ آصُعٍ ومِنَ الحِنْطَةِ ثَلاثَةُ آصُعٍ عَدَدُ المَساكِينَ الَّذِينَ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ سِتَّةٌ بِلا خِلافٍ. وأمّا النُّسُكُ فَإنَّ في أخْبارِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَهُ أنْ يَنْسُكَ نَسِيكَةً، وفي بَعْضِها شاةٌ، ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّ أدْناهُ شاةٌ وإنْ شاءَ جَعَلَهُ بَعِيرًا أوْ بَقَرَةً، ولا خِلافَ أنَّهُ مُخَيَّرُ بَيْنِ هَذِهِ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ يَبْتَدِئُ بِأيِّها شاءَ، وذَلِكَ مُقْتَضى الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ و" أوْ " لِلتَّخْيِيرِ هَذا حَقِيقَتُها وبابُها، إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى غَيْرِ هَذا في الإثْباتِ، وقَدْ بَيَّنّاهُ في مَواضِعَ.
واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مَوْضِعِ الفِدْيَةِ مِنَ الدَّمِ والصَّدَقَةِ مَعَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعٍ فَإنَّ لَهُ أنْ يَصُومَ في أيِّ مَوْضِعِ شاءَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ: " الدَّمُ بِمَكَّةَ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ حَيْثُ شاءَ " . وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: " الدَّمُ والصَّدَقَةُ والصِّيامُ حَيْثُ شاءَ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " الصَّدَقَةُ والدَّمُ بِمَكَّةَ والصِّيامُ حَيْثُ شاءَ " .
فَظاهِرُ قَوْلِ: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ يَقْتَضِي إطْلاقَها حَيْثُ شاءَ المُفْتَدِي غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ في غَيْرِها مِنَ الآيِ دَلالَةٌ عَلى تَخْصِيصِهِ بِالحَرَمِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الحج: ٣٣] يَعْنِي الأنْعامَ الَّتِي قَدَّمَ ذِكْرَها، ثُمَّ قالَ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] وذَلِكَ عامٌّ في سائِرِ الأنْعامَ الَّتِي تُهْدى إلى البَيْتِ؛ فَوَجَبَ بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُلَّ هَدْيٍ مُتَقَرَّبٍ بِهِ مَخْصُوصٌ بِالحَرَمِ لا يُجْزِي في غَيْرِهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ تَعالى: (p-٣٥٢)﴿هَدْيًا بالِغَ الكَعْبَةِ﴾ [المائدة: ٩٥] وذَلِكَ جَزاءُ الصَّيْدِ، فَصارَ بُلُوغُ الكَعْبَةِ صِفَةً لِلْهَدْيِ ولا يُجْزِئُ دُونَها. وأيْضًا لَمّا كانَ ذَلِكَ ذَبْحًا تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِالإحْرامِ وجَبَ أنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالحَرَمِ كَجَزاءِ الصَّيْدِ وهَدْيِ المُتْعَةِ. فَإنْ قِيلَ: لَمّا «قالَ النَّبِيَّ ﷺ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: أوِ اذْبَحْ شاةً» ولَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مَكانًا، وجَبَ أنْ لا يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَوْضِعٍ. قِيلَ لَهُ: إنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أصابَهُ ذَلِكَ وهو بِالحُدَيْبِيَةِ، وبَعْضُها مِنَ الحِلِّ وبَعْضُها مِنَ الحَرَمِ، فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ تَرْكُ ذِكْرِ المَكانِ اكْتِفاءً بِعِلْمِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِأنَّ ما تَعَلَّقَ مِن ذَلِكَ بِالإحْرامِ فَهو مَخْصُوصٌ بِالحَرَمِ، وقَدْ كانَ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ ذَلِكَ عالِمِينَ بِحُكْمِ تَعَلُّقِ الهَدايا بِالحَرَمِ لَمّا كانُوا يَرَوْنَ النَّبِيَّ ﷺ يَسُوقُ البُدْنَ إلى الحَرَمِ لِيَنْحَرَها هُناكَ، وأمّا الصَّدَقَةُ والصَّوْمُ فَحَيْثُ شاءَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أطْلَقَ ذَلِكَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ المَكانِ، فَغَيْرُ جائِزٍ لَنا تَقْيِيدُهُ بِالحَرَمِ؛ لِأنَّ المُطْلَقَ عَلى إطْلاقِهِ كَما أنَّ المُقَيَّدَ عَلى تَقْيِيدِهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ لَيْسَ في الأُصُولِ صَدَقَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِمَوْضِعٍ لا يَجُوزُ أداؤُها في غَيْرِهِ، فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ صَدَقَةً لَمْ تَجُزْ أنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَوْضِعٍ لا يَجُوزُ أداؤُها في غَيْرِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مُخالِفٌ لِلْأُصُولِ خارِجٌ عَنْها.
فَإنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ في الحَرَمِ لِأنَّ لِلْمَساكِينِ بِالحَرَمِ فِيها حَقًّا كالذَّبائِحِ. قِيلَ لَهُ: الذَّبْحُ لَمْ يَتَعَلَّقْ جَوازُهُ بِالحَرَمِ لِأجْلِ حَقِّ المَساكِينِ؛ لِأنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ في الحَرَمِ ثُمَّ أخْرَجَهُ مِنهُ وتَصَدَّقَ بِهِ في غَيْرِ الحَرَمِ أجْزَأهُ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّهُ لا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَساكِينِ الحَرَمِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ حَقًّا لَهم لَكانَ لَهُمُ المُطالَبَةُ بِهِ، ولَمّا لَمْ تَكُنْ لَهُمُ المُطالَبَةُ بِهِ دَلَّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍ لَهم وإنَّما هو حَقُّ اللَّهِ قَدْ لَزِمَهُ إخْراجُهُ إلى المَساكِينِ عَلى وجْهِ القُرْبَةِ كالزَّكاةِ وسائِرِ الصَّدَقاتِ الَّتِي لا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ دُونَ غَيْرِهِ، وأيْضًا لَمّا لَمْ تَكُنِ القُرْبَةُ فِيها إراقَةَ الدَّمِ وجَبَ أنْ لا يَخْتَصُّ بِالحَرَمِ كالصِّيامِ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ الحَسَنِ وعَطاءٍ وإبْراهِيمَ قالُوا: " ما كانَ مِن دَمٍ فَبِمَكَّةَ وما كانَ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ فَحَيْثُ شاءَ " . وعَنْ مُجاهِدٍ قالَ: " اجْعَلِ الفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْتَ " . وقالَ طاوُسٌ: " النُّسُكُ والصَّدَقَةُ بِمَكَّةَ والصِّيامُ حَيْثُ شِئْتَ " . ورُوِيَ أنَّ عَلِيًّا نَحَرَ عَنْ الحُسَيْنِ بَعِيرًا، وكانَ قَدْ مَرِضَ وهو مُحْرِمٌ، وأُمِرَ بِحَلْقِهِ، ونَحَرَ البَعِيرَ عَنْهُ بِالسُّقْيا وقَسَمَهُ عَلى أهْلِ الماءِ. ولَيْسَ في ذَلِكَ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ رَأى جَوازَ الذَّبْحِ في غَيْرِ الحَرَمِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ جَعَلَ اللَّحْمَ صَدَقَةً، وذَلِكَ جائِزٌ عِنْدَنا؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-٣٥٣)
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"وَأَتِمُّوا۟ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ فَإِنۡ أُحۡصِرۡتُمۡ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۖ وَلَا تَحۡلِقُوا۟ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡیُ مَحِلَّهُۥۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ بِهِۦۤ أَذࣰى مِّن رَّأۡسِهِۦ فَفِدۡیَةࣱ مِّن صِیَامٍ أَوۡ صَدَقَةٍ أَوۡ نُسُكࣲۚ فَإِذَاۤ أَمِنتُمۡ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَیۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡیِۚ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲ فِی ٱلۡحَجِّ وَسَبۡعَةٍ إِذَا رَجَعۡتُمۡۗ تِلۡكَ عَشَرَةࣱ كَامِلَةࣱۗ ذَ ٰلِكَ لِمَن لَّمۡ یَكُنۡ أَهۡلُهُۥ حَاضِرِی ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق