الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أيْمانِكم ولَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾، قَدْ قَدَّمْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ أنَّ المُرادَ بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ، هو ما قَصَدْتُمْ عَقْدَ اليَمِينِ فِيهِ، لا ما جَرى عَلى ألْسِنَتِكم مِن غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوَ ”لا واللَّهِ“ و ”بَلى واللَّهِ“، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: [ الطَّوِيلُ ] ؎وَلَسْتَ بِمَأخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ إذا لَمْ تَعْمَدْ عاقِداتِ العَزائِمِ وَهَذا العَقْدُ مَعْنَوِيٌّ، ومِنهُ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ: [ البَسِيطُ ] ؎قَوْمٌ إذا عَقَدُوا عَقْدًا لِجارِهِمُ شَدُّوا ∗∗∗ العِناجَ وشَدُّوا فَوْقَهُ الكَرَبا وَقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وشُعْبَةُ عَنْ عاصِمٍ: عَقَدْتُمْ [المائدة: ٨٩]، بِالتَّخْفِيفِ بِلا ألِفٍ، وقَرَأهُ ابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: عاقَدْتُمْ بِألِفٍ بِوَزْنِ فاعِلٍ، وقَرَأهُ الباقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِن غَيْرِ ألِفٍ، والتَّضْعِيفُ والمُفاعَلَةُ: مَعْناهُما مُجَرَّدُ الفِعْلِ بِدَلِيلِ قِراءَةِ عَقَدْتُمْ بِلا ألِفٍ، ولا تَضْعِيفٍ، والقِراءاتُ يُبَيِّنُ بَعْضُها بَعْضًا، و ”ما“ في قَوْلِهِ: بِما عَقَّدْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلى التَّحْقِيقِ لا مَوْصُولَةٌ، كَما قالَهُ بَعْضُهم زاعِمًا أنَّ ضَمِيرَ الرّابِطِ مَحْذُوفٌ. وَفِي المُرادِ بِاللَّغْوِ في الآيَةِ أقْوالٌ، أشْهَرُها عِنْدَ العُلَماءِ اثْنانِ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّغْوَ ما يَجْرِي عَلى لِسانِ الإنْسانِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ، كَقَوْلِهِ: ”لا واللَّهِ“ و ”بَلى واللَّهِ“ . وَذَهَبَ إلى هَذا القَوْلِ: الشّافِعِيُّ، وعائِشَةُ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْها، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وابْنِ عَبّاسٍ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، والشَّعْبِيِّ، وعِكْرِمَةَ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وأبِي صالِحٍ، والضَّحّاكِ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وأبِي قِلابَةَ، والزُّهْرِيِّ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ، وغَيْرُهُ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ اللَّغْوَ هو أنْ يَحْلِفَ عَلى ما يَعْتَقِدُهُ، فَيَظْهَرَ نَفْيُهُ، وهَذا هو (p-٤٢١)مَذْهَبُ مالِكِ بْنِ أنَسٍ، وقالَ: إنَّهُ أحْسَنُ ما سَمِعَ في مَعْنى اللَّغْوِ، وهو مَرْوِيٌّ أيْضًا عَنْ عائِشَةَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ عَبّاسٍ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وسُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٍ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، والحَسَنِ، وزُرارَةَ بْنِ أوْفى، وأبِي مالِكٍ، وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ، وبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وأحَدِ قَوْلَيْ عِكْرِمَةَ، وحَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ، والسُّدِّيِّ، ومَكْحُولٍ، ومُقاتِلٍ، وطاوُسٍ، وقَتادَةَ، والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ، ويَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، ورَبِيعَةَ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ. والقَوْلانِ مُتَقارِبانِ، واللَّغْوُ يَشْمَلُهُما؛ لِأنَّهُ في الأوَّلِ لَمْ يَقْصِدْ عَقْدَ اليَمِينِ أصْلًا، وفي الثّانِي لَمْ يَقْصِدْ إلّا الحَقَّ والصَّوابَ، وغَيْرُ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ مِنَ الأقْوالِ تَرَكْتُهُ لِضَعْفِهِ في نَظَرِي، واللَّغْوُ في اللُّغَةِ: هو الكَلامُ بِما لا خَيْرَ فِيهِ، ولا حاجَةَ إلَيْهِ، ومِنهُ حَدِيثُ: ”إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ، والإمامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةَ، أنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ أوْ لَغَيْتَ“ . وَقَوْلُ العَجّاجِ: [ الرَّجَزُ ] ؎وَرُبَّ أسْرابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ∗∗∗ عَنِ اللَّغا ورَفَثِ التَّكَلُّمِ * * * مَسائِلُ مِن أحْكامِ الأيْمانِ اعْلَمْ أنَّ الأيْمانَ أرْبَعَةُ أقْسامٍ: اثْنانِ فِيهِما الكَفّارَةُ بِلا خِلافٍ، واثْنانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِما. قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ما نَصُّهُ: الأيْمانُ في الشَّرِيعَةِ عَلى أرْبَعَةِ أقْسامٍ: قِسْمانِ فِيهِما الكَفّارَةُ، وقِسْمانِ لا كَفّارَةَ فِيهِما. خَرَّجَ الدّارَقُطْنِيُّ في ”سُنَنِهِ“: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، حَدَّثَنا خَلَفُ بْنُ هِشامٍ، حَدَّثَنا عَبْثَرٌ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ حَمّادٍ، عَنْ إبْراهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: الأيْمانُ أرْبَعَةٌ، يَمِينانِ يُكَفَّرانِ، ويَمِينانِ لا يُكَفَّرانِ. فاليَمِينانِ اللَّذانِ يُكَفَّرانِ، فالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ: واللَّهِ لا أفْعَلُ كَذا وكَذا فَيَفْعَلُ، والرَّجُلُ يَقُولُ: واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ كَذا وكَذا، فَلا يَفْعَلُ. واليَمِينانِ اللَّذانِ لا يُكَفَّرانِ، فالرَّجُلُ يَحْلِفُ: واللَّهِ ما فَعَلْتُ كَذا وكَذا، وقَدْ فَعَلَ، والرَّجُلُ يَحْلِفُ: لَقَدْ فَعَلْتُ كَذا وكَذا ولَمْ يَفْعَلْهُ. قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وذَكَرَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ في ”جامِعِهِ“، وذَكَرَهُ المَرْوَزِيُّ عَنْهُ أيْضًا، قالَ سُفْيانُ: الأيْمانُ أرْبَعَةٌ، يَمِينانِ يُكَفَّرانِ، وهو أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: ”واللَّهِ لا (p-٤٢٢)أفْعَلُ“ ثُمَّ يَفْعَلُ، أوْ يَقُولَ: ”واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ“ ثُمَّ لا يَفْعَلُ. ويَمِينانِ لا يُكَفَّرانِ، وهو أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: ”واللَّهِ ما فَعَلْتُ“، وقَدْ فَعَلَ، أوْ يَقُولَ: ”واللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ“ وما فَعَلَ. قالَ المَرْوَزِيُّ: أمّا اليَمِينانِ الأُولَيانِ، فَلا اخْتِلافَ فِيهِما بَيْنَ العُلَماءِ عَلى ما قالَ سُفْيانُ، وأمّا اليَمِينانِ الأُخْرَيانِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيهِما فَإنْ كانَ الحالِفُ حَلَفَ عَلى أنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذا وكَذا، أوْ أنَّهُ فَعَلَ كَذا وكَذا عِنْدَ نَفْسِهِ صادِقًا يُرى أنَّهُ عَلى ما حَلَفَ عَلَيْهِ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ في قَوْلِ مالِكٍ، وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْيِ. وَكَذَلِكَ قالَ أحْمَدُ وأبُو عُبَيْدٍ، وقالَ الشّافِعِيُّ: لا إثْمَ عَلَيْهِ، وعَلَيْهِ الكَفّارَةُ. قالَ المَرْوَزِيُّ: ولَيْسَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ في هَذا بِالقَوِيِّ، قالَ: وإنْ كانَ الحالِفُ عَلى أنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذا وكَذا، وقَدْ فَعَلَ، مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهو آثِمٌ، ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ في قَوْلِ عامَّةِ العُلَماءِ: مالِكٍ، وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وأصْحابِ الرَّأْيِ، وأحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وأبِي ثَوْرٍ، وأبِي عُبَيْدٍ. وَكانَ الشّافِعِيُّ يَقُولُ: يُكَفِّرُ، قالَ: وقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التّابِعِينَ مِثْلُ قَوْلِ الشّافِعِيِّ، قالَ المَرْوَزِيُّ: أمِيلُ إلى قَوْلِ مالِكٍ وأحْمَدَ، اهـ مَحَلُّ الغَرَضِ مِنَ القُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ، وهو حاصِلُ تَحْرِيرِ المَقامِ في حَلِفِ الإنْسانِ ”لَأفْعَلَنَّ“ أوْ ”لا أفْعَلُ“ . وَأمّا حَلِفُهُ عَلى وُقُوعِ أمْرٍ غَيْرِ فِعْلِهِ، أوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ، كَأنْ يَقُولَ: واللَّهِ لَقَدْ وقَعَ في الوُجُودِ كَذا، أوْ لَمْ يَقَعْ في الوُجُودِ كَذا، فَإنْ حَلَفَ عَلى ماضٍ أنَّهُ واقِعٌ، وهو يَعْلَمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ مُتَعَمِّدًا الكَذِبَ فَهي يَمِينٌ غَمُوسٌ، وإنْ كانَ يَعْتَقِدُ وُقُوعَهُ فَظَهَرَ نَفْيُهُ فَهي مِن يَمِينِ اللَّغْوِ كَما قَدَّمْنا، وإنْ كانَ شاكًّا فَهو كالغَمُوسِ، وجَعَلَهُ بَعْضُهم مِنَ الغَمُوسِ. وَإنْ حَلَفَ عَلى مُسْتَقْبَلٍ لا يَدْرِي أيَقَعُ أمْ لا ؟ فَهو كَذَلِكَ أيْضًا يَدْخُلُ في يَمِينِ الغَمُوسِ، وأكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ يَمِينَ الغَمُوسِ لا تُكَفَّرُ؛ لِأنَّها أعْظَمُ إثْمًا مِن أنْ تُكَفِّرَها كَفّارَةُ اليَمِينِ. وَقَدْ قَدَّمْنا قَوْلَ الشّافِعِيِّ بِالكَفّارَةِ فِيها، وفِيها عِنْدَ المالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، وهو وُجُوبُ الكَفّارَةِ في غَيْرِ المُتَعَلِّقَةِ بِالزَّمَنِ الماضِي، واعْلَمْ أنَّ اليَمِينَ مُنْقَسِمَةٌ أيْضًا إلى يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلى بِرٍّ، ويَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلى حِنْثٍ، فالمُنْعَقِدَةُ عَلى بِرٍّ هي الَّتِي لا يَلْزَمُ حالِفَها تَحْلِيلُ اليَمِينِ كَقَوْلِهِ: ”واللَّهِ لا أفْعَلُ كَذا“، والمُنْعَقِدَةُ عَلى حِنْثٍ، هي الَّتِي يَلْزَمُ صاحِبَها حَلُّ اليَمِينِ بِفِعْلِ ما حَلَفَ عَلَيْهِ، أوْ بِالكَفّارَةِ كَقَوْلِهِ: ”واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ كَذا“، ولا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ (p-٤٢٣)فِي المُنْعَقِدَةِ عَلى حِنْثٍ حَتّى يَفُوتَ إمْكانُ فِعْلِ ما حَلَفَ عَلَيْهِ، إلّا إذا كانَتْ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ فَيَحْنَثُ بِفَواتِهِ، ولَكِنْ إنْ كانَتْ بِطَلاقٍ كَقَوْلِهِ عَلى طَلاقِها: ”لَأفْعَلَنَّ كَذا“، فَإنَّهُ يُمْنَعُ مِن وطْئِها حَتّى يَفْعَلَ ما حَلَفَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لا يَدْرِي أيَبَرُّ في يَمِينِهِ أمْ يَحْنَثُ ؟ ولا يَجُوزُ الإقْدامُ عَلى فَرْجٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ مِنهم مالِكٌ وأصْحابُهُ. وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا يُمْنَعُ مِنَ الوَطْءِ، لِأنَّها زَوْجَتُهُ، والطَّلاقُ لَمْ يَقَعْ بِالفِعْلِ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ أحْمَدُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ اليَمِينَ لا تَنْعَقِدُ إلّا بِأسْماءِ اللَّهِ وصِفاتِهِ، فَلا يَجُوزُ القَسَمُ بِمَخْلُوقٍ لِقَوْلِهِ - ﷺ: «مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ، أوْ لِيَصْمُتْ»، ولا تَنْعَقِدُ يَمِينٌ بِمَخْلُوقٍ كائِنًا مَن كانَ، كَما أنَّها لا تَجُوزُ بِإجْماعِ مَن يُعْتَدُّ بِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ، وبِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ في مَنعِ الحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَوْلُ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ بِانْعِقادِ اليَمِينِ بِهِ ﷺ لِتَوَقُّفِ إسْلامِ المَرْءِ عَلى الإيمانِ بِهِ ظاهِرُ البُطْلانِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: يُخْرَجُ مِن عُهْدَةِ اليَمِينِ بِواحِدٍ مِن ثَلاثَةِ أشْياءَ: الأوَّلُ: إبْرارُها بِفِعْلِ ما حَلَفَ عَلَيْهِ. الثّانِي: الكَفّارَةُ، وهي جائِزَةٌ قَبْلَ الحِنْثِ وبَعْدَهُ عَلى التَّحْقِيقِ. الثّالِثُ: الِاسْتِثْناءُ بِنَحْوِ إنْ شاءَ اللَّهُ، والتَّحْقِيقُ أنَّهُ حِلٌّ لِلْيَمِينِ لا بَدَلَ مِنَ الكَفّارَةِ، كَما زَعَمَهُ ابْنُ الماجِشُونِ، ويُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ التَّلَفُّظِ بِهِ، والِاتِّصالُ بِاليَمِينِ، فَلا يُقْبَلُ الفَصْلُ بِغَيْرِ ضَرُورِيٍّ كالسُّعالِ، والعُطاسِ، وما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ مِن جَوازِ تَراخِي الِاسْتِثْناءِ. فالتَّحْقِيقُ فِيهِ أنَّ المُرادَ بِهِ أنَّ العَبْدَ يَلْزَمُهُ إذا قالَ: ”لَأفْعَلَنَّ كَذا“، أنْ يَقُولَ: إنْ شاءَ اللَّهُ، كَما صَرَّحَ بِهِ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤]، فَإنْ نَسِيَ الِاسْتِثْناءَ بِـ ”إنْ شاءَ“، وتَذَكَّرَهُ ولَوْ بَعْدَ فَصْلٍ، فَإنَّهُ يَقُولُ: إنْ شاءَ اللَّهُ؛ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِن عُهْدَةِ عَدَمِ تَفْوِيضِ الأُمُورِ إلى اللَّهِ وتَعْلِيقِها بِمَشِيئَتِهِ، لا مِن حَيْثُ إنَّهُ يُحِلُّ اليَمِينَ الَّتِي مَضَتْ وانْعَقَدَتْ. (p-٤٢٤)وَيَدُلُّ لِهَذا أنَّهُ تَعالى قالَ لِأيُّوبَ: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤]، ولَوْ كانَ تَدارُكُ الِاسْتِثْناءِ مُمْكِنًا لَقالَ لَهُ قُلْ: إنْ شاءَ اللَّهُ، ويَدُلُّ لَهُ أيْضًا أنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما عُلِمَ انْعِقادُ يَمِينٍ لِإمْكانِ أنْ يَلْحَقَها الِاسْتِثْناءُ المُتَأخِّرُ، واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِثْناءَ بِـ ”إنْ شاءَ اللَّهُ“ يُفِيدُ في الحَلِفِ بِاللَّهِ إجْماعًا. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في غَيْرِهِ كالحَلِفِ بِالطَّلاقِ والظِّهارِ والعِتْقِ، كَأنْ يَقُولَ: إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، أوْ أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شاءَ اللَّهُ، أوْ أنْتِ حُرَّةٌ إنْ شاءَ اللَّهُ، فَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّهُ لا يُفِيدُ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أيْمانًا، وإنَّما هي تَعْلِيقاتٌ لِلْعِتْقِ والظِّهارِ والطَّلاقِ، والِاسْتِثْناءُ بِالمَشِيئَةِ إنَّما ورَدَ بِهِ الشَّرْعُ في اليَمِينِ دُونَ التَّعْلِيقِ، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ وأصْحابِهِ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، والأوْزاعِيُّ، وقَتادَةُ، ورَجَّحَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ وغَيْرُهُ. وَذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّهُ يُفِيدُ في ذَلِكَ كُلِّهِ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ. وأبُو حَنِيفَةَ، وطاوُسٌ، وحَمّادٌ، وأبُو ثَوْرٍ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“، وفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الظِّهارِ، وبَيْنَ العِتْقِ والطَّلاقِ؛ لِأنَّ الظِّهارَ فِيهِ كَفّارَةٌ فَهو يَمِينٌ تَنْحَلُّ بِالِاسْتِثْناءِ، كاليَمِينِ بِاللَّهِ والنَّذْرِ، ونَقَلَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ عَنْ أبِي مُوسى، وجَزَمَ هو بِهِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: لَوْ فَعَلَ المَحْلُوفَ عَنْ فِعْلِهِ ناسِيًا، فَفِيهِ لِلْعُلَماءِ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ: الأوَّلُ: لا حِنْثَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ مَعْذُورٌ بِالنِّسْيانِ، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: ٥]، وقالَ - ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأ والنِّسْيانَ، وما اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ”، وهَذا الحَدِيثُ وإنْ أعَلَّهُ الإمامُ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، فَإنَّ العُلَماءَ تَلَقَّوْهُ بِالقَبُولِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ويَشْهَدُ لَهُ ما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَرَأ ﴿رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، قالَ اللَّهُ نَعَمْ»، ومِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: قالَ اللَّهُ“ قَدْ فَعَلْتُ ”وَكَوْنُ مَن فَعَلَ ناسِيًا لا يَحْنَثُ هو قَوْلُ عَطاءٍ، وعَمْرِو بْنِ دِينارٍ، وابْنِ أبِي نَجِيحٍ، وإسْحاقَ، ورِوايَةً عَنْ أحْمَدَ، كَما قالَهُ صاحِبُ“ المُغْنِي ”، ووَجْهُ هَذا القَوْلِ ظاهِرٌ لِلْأدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنا، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا، وهو مَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، والزُّهْرِيُّ، وقَتادَةُ، ورَبِيعَةُ، وأبُو حَنِيفَةَ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ، كَما نَقَلَهُ عَنْهم صاحِبُ (p-٤٢٥)" المُغْنِي“، ووَجْهُ هَذا القَوْلِ عِنْدَ القائِلِ بِهِ أنَّهُ فَعَلَ ما حَلَفَ لا يَفْعَلُهُ عَمْدًا؛ فَلَمّا كانَ عامِدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هو سَبَبُ الحِنْثِ، لَمْ يُعْذَرْ بِنِسْيانِهِ اليَمِينَ، ولا يَخْفى عَدَمُ ظُهُورِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إلى الفَرْقِ بَيْنَ الطَّلاقِ والعِتْقِ وبَيْنَ غَيْرِهِما، فَلا يُعْذَرُ بِالنِّسْيانِ في الطَّلاقِ والعِتْقِ، ويُعْذَرُ بِهِ في غَيْرِهِما، وهَذا هو ظاهِرُ مَذْهَبِ الإمامِ أحْمَدَ، كَما قالَهُ صاحِبُ ”المُغْنِي“، قالَ: واخْتارَهُ الخَلّالُ، وصاحِبُهُ، وهو قَوْلُ أبِي عُبَيْدٍ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ الأخِيرُ لَهُ وجْهٌ مِنَ النَّظَرِ؛ لِأنَّ في الطَّلاقِ والعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ وحَقًّا لِلْآدَمِيِّ، والحالِفُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا في نَفْسِ الأمْرِ، ويَدَّعِي النِّسْيانَ؛ لِأنَّ العَمْدَ مِنَ القُصُودِ الكامِنَةِ الَّتِي لا تَظْهَرُ حَقِيقَتُها لِلنّاسِ، فَلَوْ عُذِرَ بِادِّعاءِ النِّسْيانِ لَأمْكَنَ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ إلى ضَياعِ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: إذا حَلَفَ لا يَفْعَلُ أمْرًا مِنَ المَعْرُوفِ كالإصْلاحِ بَيْنَ النّاسِ ونَحْوِهِ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِناعُ مِن ذَلِكَ والتَّعَلُّلُ بِاليَمِينِ، بَلْ عَلَيْهِ أنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، ويَأْتِيَ الَّذِي هو خَيْرٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتَتَّقُوا وتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٢٤]، أيْ لا تَجْعَلُوا أيْمانَكم بِاللَّهِ تَعالى مانِعَةً لَكم مِنَ البِرِّ، وصِلَةِ الرَّحِمِ إذا حَلَفْتُمْ عَلى تَرْكِها، ونَظِيرُ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى في حَلِفِ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ألّا يُنْفِقَ عَلى مِسْطَحٍ، لِما قالَ في عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها ما قالَ: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنكم والسَّعَةِ أنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبى والمَساكِينَ والمُهاجِرِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٢٢] . وَقَوْلُهُ - ﷺ: «واللَّهِ لَأنْ يَلِجَّ أحَدُكم بِيَمِينِهِ في أهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِن أنْ يُعْطِيَ كَفّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ. وَقَوْلُهُ - ﷺ: «إنِّي واللَّهِ - إنْ شاءَ اللَّهُ - لا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ فَأرى غَيْرَها خَيْرًا مِنها إلّا أتَيْتُ الَّذِي هو خَيْرٌ وتَحَلَّلْتُها»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي مُوسى. وَقَوْلُهُ ﷺ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لا تَسْألِ الإمارَةَ، فَإنَّكَ إنْ أُعْطِيتَها مِن غَيْرِ مَسْألَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْها، وإنْ أُعْطِيتَها عَنْ مَسْألَةٍ وُكِلْتَ إلَيْها، وإذا حَلَفْتَ عَلى يَمِينٍ فَرَأيْتَ غَيْرَها خَيْرًا مِنها فَأْتِ الَّذِي هو خَيْرٌ، وكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أيْضًا، والأحادِيثُ في البابِ كَثِيرَةٌ. وهَذا هو الحَقُّ في المَسْألَةِ خِلافًا لِمَن قالَ: (p-٤٢٦)كَفّارَتُها تَرْكُها مُتَمَسِّكًا بِأحادِيثَ ورَدَتْ في ذَلِكَ، قالَ أبُو داوُدَ: والأحادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّها: «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ»، وهي الصِّحاحُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾، لَمْ يُقَيِّدْ هُنا رَقَبَةٍ كَفّارَةَ اليَمِينِ بِالإيمانِ، وقَيَّدَ بِهِ كَفّارَةَ القَتْلِ خَطَأً. وَهَذِهِ مِن مَسائِلِ المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ في حالَةِ اتِّفاقِ الحُكْمِ، مَعَ اخْتِلافِ السَّبَبِ، وكَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ يَقُولُونَ فِيهِ بِحَمْلِ المُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، فَتَقَيُّدُ رَقَبَةِ اليَمِينِ والظِّهارِ بِالقَيْدِ الَّذِي في رَقَبَةِ القَتْلِ خَطَأً، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلى المُقَيَّدِ، وخالَفَ في ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ ومَن وافَقَهُ. وَقَدْ أوْضَحْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في كِتابِنا ”دَفْعِ إيهامِ الِاضْطِرابِ“، في سُورَةِ النِّساءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: ٩٢]؛ ولِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الكَلامَ بِها هُنا، والمُرادُ بِالتَّحْرِيرِ الإخْراجُ مِنَ الرِّقِّ، ورُبَّما اسْتَعْمَلَتْهُ العَرَبُ في الإخْراجِ مِنَ الأسْرِ، والمَشَقّاتِ، وتَعَبِ الدُّنْيا ونَحْوِ ذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ والِدَةِ مَرْيَمَ: إنِّي ﴿نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ [آل عمران: ٣٥]، أيْ مِن تَعَبِ أعْمالِ الدُّنْيا، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ هَمّامِ بْنِ غالِبٍ التَّمِيمِيِّ: [ الكامِلُ ] ؎أبَنِي غُدانَةَ إنَّنِي حَرَّرْتُكم فَوَهَبْتُكم لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعالِ يَعْنِي حَرَّرْتُكم مِنَ الهِجاءِ، فَلا أهْجُوكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب