الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمانِكُمْ ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُّمُ الأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أيْمانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: ٨٩].
وقد تقدَّمَ في سورةِ البقرةِ عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمانِكُمْ ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [٢٢٥] الكلامُ على لَغْوِ اليمينِ ومعناهُ، وتفسيرِ السلفِ، وخلافِ العلماءِ في حدِّه، وما تجبُ فيه الكفّارةُ، فلْيُنظَر.
انعقادُ القلبِ في اليمينِ، وحكمُ الغَمُوسِ:
وقولُه تعالى: ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُّمُ الأَيْمانَ﴾ هو كقولِهِ تعالى في البقرةِ: ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [٢٢٥]، وكسبُ الشيءِ: قصدُهُ وعزمُهُ عليه، وقد فسَّرَ مجاهِدٌ والحسنُ عقدَ اليمينِ بتعمُّدِها[[«تفسير الطبري» (٨ /٦١٨).]]، فالقلبُ يفعلُ الشيءَ عن عزمٍ وقصدٍ، بخلافِ اللِّسانِ والجوارحِ، فتفعلُ سهوًا، ولمّا كان القلبُ لا يقعُ منه العملُ إلاَّ قصدًا، سُمِّي كَسْبُهُ عَقْدًا، ومِن هذا يُؤخَذُ أنّ الحَلِفَ على شيءٍ يظُنُّه كذا، فوقَعَ خلافَ ظنِّه، ومِثْلُهُ اليمينُ الغَمُوسُ: أنّه لا كفّارةَ عليه، لأنّ القلبَ لم يَنعقِدْ على شيءٍ حتى يحتاجَ حَلَّهُ، وإنّما نزَلَتِ اليمينُ على ما لا يحتاجُ إلى حَلٍّ لفِعْلِهِ أو تركِهِ، ولذا قال تعالى في سورةِ التحريمِ: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [٢]، ولذا يذهبُ جمهورُ العلماءِ: إلى عدمِ وجوبِ الكفّارةِ في اليمينِ الغَمُوسِ واليمينِ التي يَحلِفُها الإنسانُ لشيءٍ يظُنُّه كذا، والواقعُ خلافُه، فتلك أخبارٌ كاذبةٌ، وكفّارتُهُ: التوبةُ والاستغفارُ، وهذا قولُ الجمهورِ.
خلافًا للشافعيِّ، وكأنّ الشافعيَّ نظَرَ إلى القلبِ، ولم يَنظُرْ إلى الظاهرِ.
والصوابُ: أنْ لا كفّارةَ فيها، وذلك لقولِهِ ﷺ: (مَن حَلَفَ عَلى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ عَلَيْها فاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ)، رواهُ الشَّيخانِ[[أخرجه البخاري (٢٣٥٦) (٣ /١١٠)، ومسلم (١٣٨) (١ /١٢٢).]].
وقد تقدَّم الكلامُ على اليمينِ الغموسِ في سورةِ آل عمران، عندَ قولِ اللهِ تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ٧٧].
الأَيْمانُ التي تجبُ فيها الكفارةُ:
واليمينُ التي تجبُ فيها الكفّارةُ هي: ما انعقَدَ القلبُ فيها بقَسَمٍ على فِعْلِ شيءٍ أو تركِه، وهذا ظاهرُ الآيةِ، لأنّ القلوبَ تنعقِدُ على فعلٍ أو تركٍ، فالقلبُ يَعقِدُ، والكفّارةُ تَحُلُّ عَقْدَه، ثمَّ إنّ اليمينَ سُمِّيَتْ يمينًا، لأنّ العربَ تَمُدُّ أيْمانَها عندَ عهودِها ومواثيقِها بعضِها مع بعضٍ، وعندَ قَسَمِها ويمينِها لغيرِها بفعلٍ أو تركٍ، ثمَّ غلَبَ ذلك على اللفظِ، لأنّ مجرَّدَ المصافَحةِ تقعُ على غيرِ العهدِ، كالسلامِ ونحوِه.
الحلفُ بغيرِ اللهِ، وحكمُ الحلفِ بالصفاتِ:
وقد نَهى النبيُّ ﷺ عن الحلفِ بغيرِ اللهِ، ولو كان معظَّمًا مبجَّلًا، كالنبيِّ والكعبةِ والوليِّ والأبوَيْنِ والرَّحِمِ ونحوِها، ولا خلافَ عندَ العلماءِ في جوازِ الحلفِ بأسماءِ اللهِ جميعًا، وفي الحلفِ بصِفاتِه خلافٌ:
وعامَّةُ العلماءِ: على جوازِ ذلك، نصَّ عليه مالكٌ، كما في «المُدَوَّنَةِ»، والشافعيُّ، نقَلَه عنه البيهقيُّ، ومِثلُهم أحمدُ، وحكى ابنُ هُبَيْرَةَ الإجماعَ على انعقادِ اليمينِ بالصِّفاتِ.
واستثنى أبو حنيفةَ عِلْمَ اللهِ وحَقَّ اللهِ، فلم يَرَهُ يمينًا[[ينظر: «فتح الباري» لابن حجر (١١ /٥٣٥).]].
ومَن قالوا بالجوازِ اختلَفُوا:
فمنهم: مَن أطلَقَ الجوازَ بكلِّ صفةٍ، فلم يَستثنُوا منها شيئًا، وهم الأكثرُ.
ومـنـهم: مَن قيَّدَه بالصِّفاتِ الدالَّةِ على الذّاتِ كالوجهِ، لقولِهِ تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨]، وقالوا: إنّ ما لا يدُلُّ على الذّاتِ، لا يُحْلَفُ به، كاليدِ والقَدَمِ والسّاقِ وغيرِها مِن الصِّفاتِ الخَبَرِيَّةِ.
والصحيحُ: جوازُ اليمينِ بجميعِ الصِّفاتِ، وتنعقِدُ اليمينُ بها كما تنعقدُ بالأسماءِ، فلو أقسَمَ بعِزَّةِ اللهِ ووجهِهِ ويدِه، جاز وانعقَدَتِ اليمينُ، فقد دَلَّ الدليلُ على جوازِ الاستعاذةِ بالصِّفةِ، كما في الحديثِ الذي يَرويهِ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ مرفوعًا: (أعُوذُ بِوَجْهِكَ) [[أخرجه البخاري (٤٦٢٨) (٦ /٥٦).]]، وفي الآخَرِ: (أعُوذُ بِكَلِماتِ اللهِ التّامّاتِ) [[أخرجه مسلم (٢٧٠٨) (٤ /٢٠٨٠)، و(٢٧٠٩) (٤ /٢٠٨١).]]، وفي غيرِهِ: (أعُوذُ بِرِضاكَ مِن سَخَطِكَ) [[أخرجه مسلم (٤٨٦) (١ /٣٥٢).]]، والاستعاذةُ أظهَرُ في التعظيمِ والعِبادةِ مِن القَسَمِ.
وقد دلَّ الدليلُ على جوازِ القَسَمِ بالصِّفَةِ، كما في حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ ﷺ، في الذي يُغمَسُ في الجنةِ، فيُقالُ له: هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ يقولُ: لا وعِزَّتِكَ وجَلالِكَ[[أخرجه البيهقي في «البعث والنشور» (٤٣٦).]].
وفي الصحيحِ: قولُ أيُّوبَ عليه السلام: «بَلى وعِزَّتِكَ، ولَكِنْ لا غِنى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ»[[أخرجه البخاري (٢٧٩) (١ /٦٤).]].
وقد جاء عن غيرِ واحدٍ مِن الصحابةِ القَسَمُ بصِفةٍ مِن صِفاتِ اللهِ، منهم أبو مسعودٍ، فقد دخَلَ أبو مسعودٍ على حُذَيْفةَ، فقال له: «اعْهَدْ إلَيَّ، فَقالَ لَهُ: ألَمْ يَأْتِكَ اليَقِينُ؟ قالَ: بَلى وعِزَّةِ رَبِّي، قالَ: فاعْلَمْ أنَّ الضَّلالَةَ حَقَّ الضَّلالَةِ أنْ تَعْرِفَ ما كُنْتَ تُنْكِرُ، وأَنْ تُنْكِرَ ما كُنْتَ تَعْرِفُ، وإيّاكَ والتَّلَوُّنَ، فَإنَّ دِينَ اللهِ واحِدٌ»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١٠ /٤٢).]].
وقد روى البيهقيُّ، عن أبي عِياضٍ، قال: سألتُ ابنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عن الخمرِ؟ فقال: «لا، وسَمْعِ اللهِ عزّ وجل، لا يَحِلُّ بَيْعُها ولا ابْتِياعُها»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١٠ /٤٢).]].
الحلفُ بالقرآنِ:
وقد أجاز بعضُ الصحابةِ الحَلِفَ بالقرآنِ وسورةٍ مِن القرآنِ، كما جاء عن ابنِ مسعودٍ، ولا يُعلَمُ مَن خالَفَه.
وقد ضَعَّفَ بعضُ العلماءِ ـ كابنِ رُشْدٍ وغيرِه ـ مَنعَ الحلفِ بصِفاتِ اللهِ، وما جاء عن ابنِ مسعودٍ مِن منعِهِ الحَلِفَ بعِزَّةِ اللهِ، فلا يصحُّ، فقد رواهُ الطَّبَرانيُّ وأبو نُعَيْمٍ، مِن حديثِ المَسْعوديِّ، عن عَوْنٍ، عنه، قال: «لا تَحْلِفُوا بِحَلِفِ الشَّيْطانِ، أنْ يَقُولَ أحَدُكُمْ: وعِزَّةِ اللهِ، ولَكِنْ قُولُوا كَما قالَ اللهُ عزّ وجل: واللهِ رَبِّ العِزَّةِ»[[أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٨٨٩٠)، وأبو نعيم في «الحلية» (٤ /٢٥١).]].
فعَوْنٌ لم يَسمَعْهُ مِن ابنِ مسعودٍ، والمَسْعوديُّ متكلَّمٌ فيه.
ألفاظُ الإلزامِ والتأكيدِ:
وقد ذكَرَ اللهُ في هذه الآيةِ اليمينَ وأطلَقَها في قولِهِ: ﴿فِي أيْمانِكُمْ﴾، وقولِهِ: ﴿عَقَّدْتُّمُ الأَيْمانَ﴾، وقولِهِ: ﴿كَفّارَةُ أيْمانِكُمْ﴾، وقولِهِ: ﴿واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ﴾، ولم يذكُرْ ما أُكِّدَتْ به مِن اسمٍ وصِفَةٍ، ولذا اختلَفَ العلماءُ في الألفاظِ التي ليستْ بصِيَغِ قَسَمٍ ولا حَلِفٍ، وإنّما يَستعملُها الناسُ للإلزامِ، كقولِهم: عليَّ كذا وكذا، لَأَفْعَلَنَّ كذا، وقولِهم: إنْ فعلتُ كذا أو تركتُ كذا، فعليَّ كذا وكذا، فمنهم مَن جعَلَها يمينًا تَلزَمُ فيها الكَفّارةُ، كمالكٍ، ومنهم مَن جعَلَها نذرًا لا يمينًا، كالشافعيِّ وأحمدَ، يجبُ على الناذرِ الالتزامُ بما نذَرَ، ولا يجبُ فيها كفّارةٌ، لأنّها ليست بيمينٍ، وقد جاء في ظاهِرِ القرآنِ تسميتُها يمينًا، كما في قولِ اللهِ تعالى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١]، ثمَّ قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أيْمانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢]، فسمّى التحريمَ يمينًا، وقد ثبَتَ في «المسنَدِ»، و«السُّننِ»، عنه ﷺ، قال: (لا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وكَفّارَتُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ) [[أخرجه أحمد (٢٦٠٩٨) (٦ /٢٤٧)، وأبو داود (٣٢٩٠) (٣ /٢٣٢)، والترمذي (١٥٢٤) (٤ /١٠٣)، والنسائي (٣٨٣٥) (٧ /٢٦)، وابن ماجه (٢١٢٥) (١ /٦٨٦).]].
وقولُهُ تعالى: ﴿فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ ذَلِكَ كَفّارَةُ أيْمانِكُمْ إذا حَلَفْتُمْ ﴾:
وقتُ كفّارةِ اليمينِ:
تعجيلُ الكفّارةِ قبلَ الحِنْثِ جائزٌ صحيحٌ، ومَن فعَلَ ما حَلَفَ على تَرْكِه، أو ترَكَ ما حَلَفَ على فِعْلِه، ثمَّ كفَّرَ، جاز كذلك، وهو قولُ الجمهورِ، خلافًا لأبي حنيفةَ، فقد أوجَبَ الحِنْثَ قبلَ الكفّارةِ، واستثنى الشافعيَّةُ الصومَ، لأنّه عبادةٌ بدنيَّةٌ لا يجوزُ تقديمُها قبلَ وقتِ وجوبِها، والصحيحُ: عدمُ التفريقِ بينَ الصيامِ والإطعامِ والكِسْوةِ، وقد جاء في الصحيحِ، قال ﷺ: (إذا حَلَفْتَ عَلى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَها خَيْرًا مِنها، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [[أخرجه البخاري (٦٦٢٢) (٨ /١٢٧)، ومسلم (١٦٥٢) (٣ /١٢٧٣).]]، وفي البخاريِّ، عن أبي موسى مرفوعًا، قال: (لا أحْلِفُ عَلى يَمِينٍ، فَأَرى غَيْرَها خَيْرًا مِنها، إلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ـ أوْ: أتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي) [[أخرجه البخاري (٦٦٢٣) (٨ /١٢٨).]].
واختلافُ ألفاظِ الحديثِ قرينةٌ على التوسعةِ، ولو كان الترتيبُ مقصودًا، لَضَبَطَهُ النَّقَلَةُ على وجهٍ واحدٍ، وقد روى الشَّيْخانِ الحديثَ على الوجهَيْنِ تقديمًا وتأخيرًا، لأنّ الترتيبَ غيرُ مقصودٍ عندَهما.
وجمهورُ الفقهاءِ القائلينَ بجوازِ التقديمِ والتأخيرِ يفضِّلونَ تأخيرَ الكفّارةِ على الحِنْثِ.
أحوالُ كفّارةِ اليمينِ:
وقولُه تعالى: ﴿فَكَفّارَتُهُ﴾ الآيةَ، هذه كفّارةُ اليمينِ، فجعَلَها اللهُ على حالَيْنِ:
الأُولى: التخييرُ، وهي الإطعامُ أو الكِسْوةُ أو تحريرُ رَقَبةٍ.
الثانيةُ: الترتيبُ، وهي مَن لم يَجِدِ الأُولى، فيصومُ ثلاثةَ أيامٍ بدلًا عنها، ولا خلافَ بينَ العلماءِ مِن السلفِ والفقهاءِ مِن بعدِهم على ذلك، وأنّ الصومَ لا يُصارُ إليه إلاَّ عندَ العجزِ عن الإطعامِ والكِسْوةِ وعِتْقِ الرقبةِ.
وأمّا ما جاء عن ابنِ عمرَ: أنّه كان إذا أكَّدَ اليمينَ، أعتَقَ أو كَسا، وإذا لم يؤكِّدْها، أطعَمَ، وقيل لنافعٍ: ما تأكيدُ اليمينِ؟ قال: أنْ يَحلِفَ على الشيءِ مرارًا[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٢٣٤٢) (٣ /٨٥).]]، فهذا مِن بابِ تقديمِ إبراءِ الذِّمَّةِ والأَحَظِّ للفقيرِ والأَنْفَسِ، وهو مِن بابِ البِرِّ والإحسان، لا مِن بابِ الترتيبِ والإلزام.
تلفيقُ كفّارةِ اليمينِ:
وجمهورُ العلماءِ: على أنّه لا يَصيرُ إلى تقسيمِ الكفّارةِ الواحدةِ على أكثَرَ مِن نوعٍ، فبدلًا مِن إطعامِ عشَرةٍ، يُطعِمُ خمسةً، ويَكْسُو خمسةً، خلافًا لأبي حنيفةَ، فقد أجازَه بشروطٍ، والتوسُّعُ في الجوازِ يُفضي إلى مخالفةِ المقصودِ مِن الكفّارةِ.
وعليه: فمَن قدَرَ على بعضِ الطعامِ وبعضِ الكِسْوةِ، فله الإطعامُ أو الكِسْوةُ عن بعضٍ، وأمّا الصيامُ بما يَزيدُ عن مقدارِ ما نقَصَ، كمَن وجَدَ ثُلُثَ الإطعامِ في الكفّارةِ أو ثُلُثَيْها، فليس له أن يصومَ عَدْلَ ما بَقِيَ، فلم يقُلْ بهذا أحدٌ من السلفِ، ولمن قال به بعدهم شُبْهةٌ، أنّ اللَّهَ قال: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ﴾، وهو واجدٌ لبعضِه، واللهُ يقولُ: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦]، ولكنَّه قولٌ مخالفٌ لقولِ السلفِ عامَّةً.
مقدارُ الإطعامِ في كفّارةِ اليمينِ:
وقولُه تعالى: ﴿إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾ لا حَدَّ لمقدارِ الطعامِ، ويكفي فيه الإشباعُ للناسِ الأَسْوِياءِ، ولا يدخُلُ في هذا غيرُ السويِّ التامِّ كالطفلِ، فإنّه تُشبِعُهُ تمرةٌ وتَمْرتانِ، وإنّما المِسْكينُ السويُّ، ومَن جَمَعَهم على مائدةٍ واحدةٍ، فأكَلُوا، كَفَتْهُ.
ومِن السلفِ والفُقَهاءِ: مَن يُقدِّرُهُ للواحدِ بمقدارٍ كنِصْفِ الصّاعِ، ومنهم بالمُدِّ، وهذا ليس حدًّا توقيفيًّا كحدِّ مقدارِ زكاةِ الفِطرِ، وإنّما يَحُدُّونَهُ حدًّا للناسِ تَبرَأُ به الذِّمَّةُ، ويَسُدُّ حاجةَ الفقيرِ، ويَمنعُ شُحَّ الغنيِّ، ولهذا اختلَفَتِ الأقاويلُ عنهم، وربَّما عن الواحدِ منهم، حتى نُسِبَ إلى الصحابيِّ الواحدِ والتابعيِّ قولانِ، واختلافُ هذه المقاديرِ في فُتْيا السلفِ دليلٌ على أنّهم يُريدونَ الإشباعَ، وإنّما اختلَفَ القولُ عنهم لاعتباراتٍ، منها: اختلافُ نوعِ الطعامِ، فيَزِيدُ في الرديءِ حتى لا يُهضَمَ الفقيرُ، وينقُصُ في النفيسِ حتى لا يُغبَنَ الحالِفُ، وربَّما كان لاختلافِ قدرةِ الحالفِ وطاقتِهِ وحالِ الناسِ وزمانِهم مِن جهةِ اليَسارِ والعَجْزِ، ونوعِ الفقيرِ وما يَسُدُّ جُوعَه، ويظهَرُ ذلك لجملةٍ مِن القرائنِ، منها:
أولًا: أنّ السلفَ لا يَختلفُ قولُهُمْ في أنّ مَن أجلَسَ عَشَرةَ فقراءَ فأطعَمَهم حتى شَبِعُوا وقامُوا: أنّ ذلك يُجزئُهُ عن كفّارتِه، وهذا ظاهرٌ في جعلِ العِلَّةِ الإشباعَ، لا الكيلَ المعلومَ، كما في زكاةِ الفِطْرِ.
وقد نصَّ على أنّ تغديةَ الفقراءِ وتعشيتَهُمْ تُجزِئُ: جماعةٌ، كعليٍّ وابنِ عبّاسٍ والحسنِ وابنِ سِيرينَ، ولا مُخالِفَ لهم.
وقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ أنّه قال: «إنْ كنتَ تُشبِعُ أهلَكَ فأَشبِعِ المساكينَ، وإلاَّ فعلى ما تُطعِمُ أهلَكَ بقَدَرِه»[[«تفسير الطبري» (٨ /٦٣٥).]].
ثانيًا: تبايُنُ الأقوالِ عن الفقيهِ الواحدِ منهم قرينةٌ على أنّ العِلَّةَ غيرُ الكَيْلِ والوزنِ، وإنّما الإشباعُ وسَدُّ الحاجةِ، والناسُ يَتبايَنونَ في مقدارِ ما يُشبِعُهم، والأطعمةُ تَختلِفُ في سدِّ الجُوعِ وكفايةِ الآكِلِ.
ولذا يُفتِي الحسنُ وابنُ سِيرينَ بالإطعامِ على المائدةِ حتى الإشباعِ تارةً، وتارةً يقولونَ بالإجزاءِ بإخراجِ المُدِّ مع الإدامِ، ومرةً يُفتي الحسنُ بالمُدِّ وحدَهُ، ويُفتي مجاهدٌ تارةً بالصّاعِ وتارةً بالمُدِّ.
ثالثًـا: أنّ مِن السلفِ مَن يُخيِّرُ بينَ نصفِ الصاعِ مِن الجيِّدِ، والصاعِ ممّا دونَه، كما جاء عن عمرَ، فقد جعَلَ مِن البُرِّ نصفَ صاعٍ، ومِن التمرِ صاعًا، وكابنِ عبّاسٍ: جعَلَ مِن الجيِّدِ كالحِنْطةِ مُدًّا، وممّا دونَه مُدَّيْنِ، ومنهم مَن يأمُرُ بالصاعِ للواجِدِ، وبنصفِ الصاعِ للعاجزِ.
وفي هذا: إشارةٌ إلى أنّ الشِّبَعَ يَختَلِفُ، فأَعْلاهُ الصاعُ، وأَدْناهُ نصفُ الصاعِ، وأعلى ما تَبْرَأُ به الذِّمَّةُ الصاعُ، وأدناهُ نِصفُه، ولو كان حدًّا مقدَّرًا بالصاعِ عندَ واحدٍ منهم، لم يُجزِئِ النصفُ، ويُعتبَرُ العاجزُ عن الصاعِ ولو قَدَرَ على النصفِ غيرَ واجدٍ، فيَنتقِلُ إلى الصومِ.
رابعًـا: أنّ الأحاديثَ المرفوعةَ في بيانِ مِقْدارِ الطعامِ معلولةٌ، ومِثْلُ الأحكامِ في الطعامِ المنضبِطةِ المقدارِ كيلًا ووزنًا: تَرِدُ فيها الأحاديثُ وتتواتَرُ، وينقُلُها الصحابةُ، وقد ضُبِطَ مقدارُ زكاةِ الفِطْرِ وهي حَوْلِيَّةٌ، على خلافٍ في وجوبِها، مع وقوعِ كفّارةِ الأَيْمانِ مِن الناسِ في يومِهم وليلتِهم، أو أُسْبوعِهم وشَهْرِهم، فمقدارُ طعامِ كفّارةِ اليمينِ أحوَجُ إلى الضبطِ والبيانِ مِن غيرِه، ولهذا جاء في القرآنِ بيانُ أحكامِ كفّارةِ اليمينِ، ولم يأتِ فيه بيانُ أحكامِ زكاةِ الفِطْرِ صريحًا، والشريعةُ لا تترُكُ بيانَ حُكْمٍ أهَمَّ وتُبيِّنُ ما دونَهُ إلاَّ والتركُ مقصودٌ للتوسعةِ والتيسيرِ، وأنّه لا يَنضبِطُ بمقدارٍ بيِّنٍ، كما في كفّارةِ اليمينِ.
خامسًا: أنّ اللهَ وصَفَ الكفّارةَ بـ ﴿إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾، والإطعامُ مُضافٌ إلى آكِلِهِ، لا إلى مُطْعِمِه، فلَزِمَ أن يكونَ المرادُ إشباعَهُ.
وعُلِمَ عقلًا وشرعًا: أنّه ليس المقصودُ مِن الإطعامِ أدْنى ما يُطلَقُ عليه الطعامُ، كتذوُّقِ الحَبَّةِ والقَطْرةِ، وهو ـ وإن كان يُطلَقُ عليه طعامٌ ـ، لكنَّه لا يُسمّى في عُرفِ العربِ ولا الشرعِ إطعامًا، ففرقٌ بينَ الطعامِ وبينَ الإطعامِ، فعندَ وصفِ الشيءِ بالطعامِ يُطْلَقُ هذا على القليلِ والكثيرِ، ولكنَّ الإطعامَ لا يُطلَقُ إلا على سدِّ الحاجةِ منه، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿الَّذِي أطْعَمَهُمْ مِن جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِن خَوفٍ ﴾ [قريش: ٤].
وتقييدُ المُطعَمِ بالمسكينِ إشارةٌ إلى جُوعِه، وما يَدفَعُ جُوعَهُ إلاَّ الشِّبَعُ.
ولا خلافَ أنّ الغنيَّ لا يدخُلُ في الآيةِ، لأنّ الأصلَ شِبَعُهُ، ولا الفقيرُ الذي يُوضَعُ الطعامُ أمامَهُ وهو شبعانُ مِن إطعامٍ آخَرَ، فيَمُدُّ يدَهُ حياءً ليأخُذَ لُقْمةً ويَعجِزُ عن الباقي لِشِبَعِه، وهذا المرادُ بالإطعامِ الواردِ في كتابِ اللهِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ ﴾ [المدثر: ٤٤]، وقولِهِ تعالى: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: ٨].
وقد اختلَفَ الأئمَّةُ الأربعةُ في ذلك على اختلافِ تلك الأقوالِ عن السلفِ:
فمـنـهم مَن قال بالإطعامِ بالصاعِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ.
ومنهـم مَن قال بالمُدِّ، وهو قولُ مالكٍ والشافعيِّ، وقيَّدَهُ مالكٌ بمُدِّ المدينةِ.
ومـنـهم مَن قال: يجبُ مُدُّ بُرٍّ، أو مُدّانِ مِن غيرِه.
حكمُ اعتبارِ العَدَدِ في المساكين:
وقولُه تعالى: ﴿عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾:
اختُلِفَ في العَدَدِ: هل هو لبيانِ حقيقةِ عددِ الفقراءِ، أو هو لبيانِ مِقْدارِ الإطعامِ الواجبِ؟ والأولُ لازمٌ للثاني، والثاني ليس بلازمٍ للأولِ، فاختلَفَ العلماءُ ـ بعدَ اتِّفاقِهم على وجوبِ الكفّارةِ بمقدارِ إطعامِ عشَرةِ مساكينَ ـ هل يجبُ إطعامُ عشَرةِ فُقراءَ عددًا، أو يُغني إطعامُ ما دُونَ العشَرةِ، فيجوزُ إطعامُ الواحدِ والاثنَيْنِ ما يَكْفِيهِمْ لعَشْرِ وجَباتٍ؟ على قولَيْنِ:
والأصحُّ: جوازُ ذلك، وأنّ العَدَدَ في الآيةِ لبيانِ المقدارِ الذي يَكْفي، لا لِذاتِ العددِ، فمَن أعطى مسكينًا طعامًا يَكْفِيهِ لوجَباتٍ عَشْرٍ، كان كفّارةً ليمينِه.
وذهَبَ مالكٌ والشافعيُّ إلى قصدِ تخصيصِ العددِ.
ولا خلافَ أنّ مَن وجَدَ عددَ العشَرةِ، فهو أفضلُ مِن إعطاءِ الواحدِ، لسدِّ حاجةِ الأكثرِ وكفايتِهم في ذلك اليومِ.
ولا يَرِدُ على جوازِ إطعامِ الواحدِ طعامَ العشَرةِ: كِسْوةُ الواحدِ كِسْوةَ العشَرةِ، لأنّ اللِّباسَ لا يُجزِئُ فيه كِسْوةُ الواحدِ بما يكفي العشَرةَ، لأنّ هذا يفضُلُ عن حاجتِهِ ويَرفَعُهُ فوقَ الغِنى، بخلافِ الإطعامِ، فإنّ إطعامَ العشَرةِ لا يَكْفِيهِ إلاَّ لبضعةِ أيامٍ، وأمّا كِسْوةُ العشَرةِ فتَكفِيهِ بضعَ سِنينَ.
الكفارةُ مِن متوسط الطعامِ:
ويُغني مِن الطعامِ متوسِّطُه، ولا يجوزُ إخراجُ رديئِه، ومعرفةُ الوسَطِ بحسَبِ حالِ المكفِّرِ، ولذا قال: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾، فوسَطُ الطعامِ يَختلِفُ مِن رجلٍ إلى آخَرَ، فمَن كان قليلَ ذاتِ اليدِ ويأكُلُ رديءَ الطعامِ بالنسبةِ لغيرِه، جاز منه أن يُخرِجَهُ كفّارةً له، وقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ، أنّه قال: «كانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أهْلَهُ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، وكانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أهْلَهُ قُوتًا فِيهِ شِدَّةٌ، فَنَزَلَتْ: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾»[[أخرجه ابن ماجه (٢١١٣) (١ /٦٨٢).]]، ليس بأرفَعِهِ ولا بأَدْناهُ.
ويَلزَمُ أنْ يكونَ الفقيرُ بالغًا، فلا يُجزِئُ إطعامُ طفلٍ تَسُدُّ حاجتَهُ اللُّقْمتانِ والثلاثُ، ولا الرضيعِ الذي تُشبِعُهُ التمرةُ والتمرتانِ.
تكفيرُ اليمين بالكِسْوةِ:
وقولُه تعالى: ﴿أوْ كِسْوَتُهُمْ﴾: وكسوتُهُمْ تكونُ مِن أوسَطِ ما يكتسي به الإنسانُ ويَكْسُو أهلَه، وحُكْمُها كحُكْمِ الطعامِ في نوعِها، فكما أنّ الطعامَ الذي لا يكونُ قوتًا لبلدٍ لا يُخرَجُ في الكفّارةِ، كالبُندُقِ واللَّوْزِ والزَّبيبِ، فإنّ الناسَ لا تتَّخذُها قوتًا ولا تَطْعَمُها تفكُّهًا اليومَ، وكذلك اللِّباسُ فلا يُكسى الفقيرُ لباسًا لا يَلبَسُهُ أهلُ بلدِه، كمَن يُلبِسُ فقيرًا بِنْطالًا وهم يَلبَسُونَ القميصَ، والعكسُ كذلك.
واختُلِفَ في مقدارِ اللِّباسِ:
فمنهم: مَن أجاز كلَّ لباسٍ ولو لم يكنْ لجميعِ البَدَنِ، فأجاز أبو حنيفةَ والشافعيُّ العمامةَ والسراويلَ.
واشترَطَ مالكٌ ما تُجزِئُ به الصلاةُ، يعني ما يَستُرُ العورةَ، وهذا تختلِفُ فيه المرأةُ والرجُلُ.
وقولُ مالكٍ أشْبَهُ وأقرَبُ، لأنّ جَعْلَ مجرَّدِ إطلاقِ لفظِ اللِّباسِ على الشيءِ يُجزِئُ الكِسْوةُ به: يَلزَمُ منه الإجزاءُ بما يُطلَقُ عليه الإطعامُ ولو لقمةً أو لقمتَيْنِ، فعلى القولِ الأولِ: يُجزئُ الخُفّانِ والنِّعالُ والحزامُ وغيرُ ذلك ممّا يُطلَقُ عليه اسمُ اللِّباسِ.
والصحيحُ: أنّ المرادَ مِن اللِّباسِ ما يَستُرُ العورةَ، كالقميصِ والإزارِ والرِّداءِ والبنطالِ ونحوِه، وبهذا يقولُ ابنُ عمرَ وابنُ عبّاسٍ وابنُ المسيَّبِ وابنُ جُبَيْرٍ والنخَعيُّ وغيرُهم، وقليلٌ مَن يُخالِفُهم في ذلك مِن السلفِ، وإنِ اختلَفُوا بينَهم في تسميةِ ما يستُرُ العورةَ.
تكفيرُ اليمين بتحرير الرقبةِ:
وقولُه تعالى: ﴿أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ فمِن السلفِ مَن أجاز مُطلَقَ الرِّقابِ مؤمِنةً وكافِرةً كأبي حنيفةَ، خلافًا لجمهورِ العلماءِ الذين قاسُوا كفّارةَ اليمينِ على كفّارةِ القتلِ.
ويختلِفُ أهلُ الأصولِ في المسائلِ التي تتَّفقُ حُكْمًا وتختلِفُ سببًا: هل يُحمَلُ مُطلَقُها على مُقيَّدِها أو لا؟ ومِن فروعِ هذه المسألةِ: الرقبةُ في كفّارةِ اليمينِ.
ولمّا أراد مُعاويةُ بنُ الحَكَمِ عِتْقَ رَقَبةٍ، سأَلَها النبيُّ ﷺ: (أيْنَ اللهُ؟)، قالَتْ: فِي السَّماءِ، فقال: (أعْتِقْها، فَإنَّها مُؤْمِنَةٌ) [[أخرجه مسلم (٥٣٧) (١ /٣٨١).]].
وهذا في كلِّ عِتقِ رقبةٍ مِن الكفّاراتِ.
ويجبُ أن تكونَ الرقبةُ سليمةً مِن العيوبِ، ولا فرقَ بينَ ذَكَرٍ وأُنثى، وكبيرٍ وصغيرٍ.
تكفيرُ اليمين بالصيام:
وقولُه تعالى: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ﴾، لا خلافَ أنّه لا يُصارُ إلى الصيامِ إلاَّ بعدَ العجزِ عن الإطعامِ والكِسْوةِ والرقبةِ، ويثبُتُ العجزُ في الطعامِ بنقصِ قُوتِهِ إنْ أطعَمَ عن قوتِ عيالِه، وكِسْوتِهِ إنْ كَسا عن كسوتِهم، ومِثلُه مَن لا يَملِكُ الطعامَ والكِساءَ وعِتْقَ الرقبةِ إلاَّ بدَيْنٍ.
التتابُعُ في صيام الكفّارة:
واختلَفَ العلماءُ في وجوبِ التتابُعِ في كفّارةِ اليمينِ، مع اتِّفاقِهم على فضلِه، لكونِه أبرَأَ للذِّمَّةِ وأعجَلَ للبِرِّ والخيرِ:
فذهَبَ أبو حنيفةَ، ومعه الشافعيُّ وأحمدُ في قولٍ لهما: إلى وجوبِ التتابُعِ، واحتجُّوا بقراءةِ أُبَيٍّ وابنِ مسعودٍ: (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مُتَتابِعاتٍ)[[«تفسير الطبري» (٨ /٦٥٢).]]، وصحَّ التتابُعُ عن ابنِ عبّاسٍ ومجاهدٍ، وهو قولُ أصحابِ ابنِ مسعودٍ.
وجعَلَ مجاهدٌ كلَّ صومٍ في القرآنِ مُتتابعًا إلاَّ قضاءَ رمضانَ، لأنّ اللهَ قال فيه: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] [[«تفسير الطبري» (٨ /٦٥٢).]].
واحتُجَّ لهذا القولِ بوجوبِ التتابُعِ في كفّارةِ القتلِ وكفّارةِ الظِّهارِ: ﴿فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ﴾ [النساء: ٩٢، والمجادلة: ٤].
وذهَبَ إلى عدمِ وجوبِ التتابُعِ: بعضُ السلفِ، كعطاءٍ، وهو قولُ مالكٍ والقولُ الآخرُ للشافعيِّ وأحمدَ.
وقد أمَرَ اللهُ بحفظِ الأَيْمانِ، تعظيمًا للهِ عن أن يكونَ عُرْضةً في كلِّ شيءٍ، وحِفْظًا للعهودِ مِن أنْ يتساهَلَ الناسُ في نقضِها، فتَهُونَ فيما بينَهم.
{"ayah":"لَا یُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِیۤ أَیۡمَـٰنِكُمۡ وَلَـٰكِن یُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَیۡمَـٰنَۖ فَكَفَّـٰرَتُهُۥۤ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِینَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِیكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِیرُ رَقَبَةࣲۖ فَمَن لَّمۡ یَجِدۡ فَصِیَامُ ثَلَـٰثَةِ أَیَّامࣲۚ ذَ ٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَیۡمَـٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوۤا۟ أَیۡمَـٰنَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق