الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ في أيْمانِكُمْ﴾ قَدْ ذَكَرْنا اخْتِلافَ المُفَسِّرِينَ والفُقَهاءِ في لَغْوِ اليَمِينِ. ﴿وَلَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾ اخْتُلِفَ في سَبَبِ نُزُولِها عَلى قَوْلَيْنِ: (p-٦٠)أحَدُهُما: «أنَّها نَزَلَتْ في عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ، حِينَ حَرَّمَ عَلى نَفْسِهِ الطَّعامَ، والنِّساءَ، بِيَمِينٍ حَلَفَها، فَأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، بِالحِنْثِ فِيها» قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّانِي: «أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَواحَةَ، وكانَ عِنْدَهُ ضَيْفٌ فَأخَّرَتْ زَوْجَتُهُ قِراهُ فَحَلَفَ لا يَأْكُلُ مِنَ الطَّعامِ شَيْئًا، وحَلَفَتِ الزَّوْجَةُ لا تَأْكُلُ مِنهُ إنْ لَمْ يَأْكُلْ، وحَلَفَ الضَّيْفُ لا يَأْكُلُ مِنهُ إنْ لَمْ يَأْكُلا، فَأكَلَ عَبْدُ اللَّهِ وأكَلا مَعَهُ، فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقالَ: (أحْسَنْتَ ونَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ»، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ يُؤاخِذُكم بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾ وعَقْدُها هو لَفْظٌ بِاللِّسانِ وقَصْدٌ بِالقَلْبِ، لِأنَّ ما لَمْ يَقْصِدْهُ في أيْمانِهِ، فَهو لَغْوٌ لا يُؤاخَذُ بِهِ. ثُمَّ في عَقْدِها قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ عَلى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ، ولا يَكُونُ عَلى خَبَرٍ ماضٍ، والفِعْلُ المُسْتَقْبَلُ نَوْعانِ: نَفْيٌ وإثْباتٌ، فالنَّفْيُ أنْ يَقُولَ واللَّهِ لا فَعَلْتُ كَذا، والإثْباتُ أنْ يَقُولَ: واللَّهِ لَأفْعَلَنَّ كَذا. وَأمّا الخَبَرُ الماضِي فَهو أنْ يَقُولَ: واللَّهِ ما فَعَلْتُ، وقَدْ فَعَلَ، أوْ يَقُولَ: واللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذا، وما فَعَلَ، فَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ بِالفِعْلِ المُسْتَقْبَلِ في نَوْعَيْ إثْباتِهِ ونَفْيِهِ. وَفي انْعِقادِها بِالخَبَرِ الماضِي قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها لا تَنْعَقِدُ بِالخَبَرِ الماضِي، قالَهُ أبُو حَنِيفَةَ وأهْلُ العِراقِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها تَنْعَقِدُ عَلى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ وخَبَرٍ ماضٍ يَتَعَلَّقُ الحِنْثُ بِهِما، قالَهُ الشّافِعِيُّ، وأهْلُ الحِجازِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَكَفّارَتُهُ إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها كَفّارَةُ ما عَقَدُوهُ مِنَ الأيْمانِ، قالَتْهُ عائِشَةُ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ. والثّانِي: أنَّها كَفّارَةُ الحِنْثِ فِيما عَقَدَهُ مِنها، وهَذا يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكِ، وإبْراهِيمَ. (p-٦٠)والأصَحُّ مِن إطْلاقِ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ أنْ يُعْتَبَرَ حالُ اليَمِينِ في عَقْدِها وحَلِّها، فَإنَّها لا تَخْلُو مِن ثَلاثَةِ أحْوالٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ عَقْدُها وحَلُّها مَعْصِيَةً كَقَوْلِهِ: واللَّهِ لا قَتَلْتُ نَفْسًا ولا شَرِبْتُ خَمْرًا، فَإذا حَنِثَ فَقَتَلَ النَّفْسَ، وشَرِبَ الخَمْرَ، كانَتِ الكَفّارَةُ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِ الحِنْثِ. والحالُ الثّالِثَةُ: أنْ يَكُونَ عَقْدُها مُباحًا، وحَلُّها مُباحًا كَقَوْلِهِ: واللَّهِ لا لَبِسْتُ هَذا الثَّوْبَ، فالكَفّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِما وهي بِالحِنْثِ أخَصُّ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: مِن أوْسَطِ أجْناسِ الطَّعامِ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، والحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ. والثّانِي: مِن أوْسَطِهِ في القَدْرِ، قالَهُ عَلِيٌّ، وعُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ. وَقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ( مِن وسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكم ) ثُمَّ اخْتَلَفُوا في القَدْرِ عَلى خَمْسَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ مُدٌّ واحِدٌ مِن سائِرِ الأجْناسِ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. والثّانِي: أنَّهُ نِصْفُ صاعٍ مِن سائِرِ الأجْناسِ، قالَهُ عَلِيٌّ، وعُمَرُ، وهو مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ. والثّالِثُ: أنَّهُ غَداءٌ وعَشاءٌ، قالَهُ عَلِيٌّ في رِوايَةِ الحارِثِ عَنْهُ، وهو قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ. والرّابِعُ: أنَّهُ ما جَرَتْ بِهِ عادَةُ المُكَفِّرِ في عِيالِهِ، إنْ كانَ يُشْبِعُهم أشْبَعَ المَساكِينَ، وإنْ كانَ لا يُشْبِعُهم فَعَلى قَدْرِ ذَلِكَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والخامِسُ: أنَّهُ أحَدُ الأمْرَيْنِ مِن غَداءٍ أوْ عَشاءٍ، قالَهُ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ وفِيها خَمْسَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: كُسْوَةُ ثَوْبٍ واحِدٍ، قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وطاوُسٌ، وعَطاءٌ، والشّافِعِيُّ. (p-٦٢)والثّانِي: كُسْوَةُ ثَوْبَيْنِ، قالَهُ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ، وابْنُ المُسَيِّبِ، والحَسَنُ، وابْنُ سِيرِينَ. والثّالِثُ: كُسْوَةُ ثَوْبٍ جامِعٍ كالمِلْحَفَةِ والكِساءِ، قالَهُ إبْراهِيمُ. والرّابِعُ: كُسْوَةُ إزارٍ ورِداءٍ وقَمِيصٍ، قالَهُ ابْنُ عُمَرَ. والخامِسُ: كُسْوَةُ ما تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلاةُ، قالَهُ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ يَعْنِي أوْ فَكُّ رَقَبَةٍ مِن أسْرِ العُبُودِيَّةِ إلى حالِ الحُرِّيَّةِ والتَّحْرِيرِ، والفَكُّ: العِتْقُ، قالَ الفَرَزْدَقُ ؎ أبَنِي غَدانَةَ إنَّنِي حَرَّرْتُكم فَوَهَبْتُكم لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعالٍ وَيُجْزِئُ صَغِيرُها، وكَبِيرُها، وذَكَرُها، وأُنْثاها، وفي اسْتِحْقاقِ أثْمانِها قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مُسْتَحَقٌّ ولا تُجْزِئُ الكَفّارَةُ، قالَهُ الشّافِعِيُّ. والثّانِي: أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، قالَهُ أبُو حَنِيفَةَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ﴾ فَجَعَلَ اللَّهُ الصَّوْمَ بَدَلًا مِنَ المالِ عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ، وجَعَلَهُ مَعَ اليَسارِ مُخَيَّرًا بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالإطْعامِ، أوْ بِالكُسْوَةِ، أوْ بِالعِتْقِ، وفِيها قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الواجِبَ مِنها أحَدُها لا يُعَيِّنُهُ عِنْدَ الجُمْهُورِ مِنَ الفُقَهاءِ. والثّانِي: أنَّ جَمِيعَها واجِبٌ، ولَهُ الِاقْتِصارُ عَلى أحَدِها، قالَهُ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ، وشاذٌّ مِنَ الفُقَهاءِ. وَهَذا إذا حُقِّقَ خَلْفٌ في العِبارَةِ دُونَ المَعْنى. واخْتُلِفَ فِيما إذا لَمْ يَجِدْهُ صامَ عَلى خَمْسَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: إذا لَمْ يَجِدْ قُوتَهُ وقُوتَ مَن يَقُوتُ صامَ، قالَهُ الشّافِعِيُّ. والثّانِي: إذا لَمْ يَجِدْ ثَلاثَةَ دَراهِمَ صامَ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والثّالِثُ: إذا لَمْ يَجِدْ دِرْهَمَيْنِ، قالَهُ الحَسَنُ. (p-٦٣)والرّابِعُ: إذا لَمْ يَجِدْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صامَ، قالَهُ أبُو حَنِيفَةَ. والخامِسُ: إذا لَمْ يَجِدْ فاضِلًا عَنْ رَأْسِ مالِهِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِمَعاشِهِ صامَ. وَفي تَتابُعِ صِيامِهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَلْزَمُهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وإبْراهِيمُ، وكانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَآنِ: ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مُتَتابِعاتٍ ) والثّانِي: إنْ صامَها مُتَفَرِّقَةً جازَ، قالَهُ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ: ﴿ذَلِكَ كَفّارَةُ أيْمانِكم إذا حَلَفْتُمْ﴾ يَعْنِي وحَنِثْتُمْ، فَإنْ قِيلَ فَلِمَ لَمْ يَذْكُرْ مَعَ الكَفّارَةِ التَّوْبَةَ؟ قِيلَ: لِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيها كانَتْ مَأْثَمًا تُوجِبُ التَّوْبَةَ، فَإنِ اقْتَرَنَ بِها المَأْثَمُ لَزِمَتِ التَّوْبَةُ بِالنَّدَمِ، وتَرَكَ العَزْمَ عَلى المُعاوَدَةِ. ﴿واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: يَعْنِي احْفَظُوها أنْ تَحْلِفُوا. والثّانِي: احْفَظُوها أنْ تَحْنَثُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب