الباحث القرآني

فَلَمّا نَزَلَتْ - كَما نَقَلَ البَغَوِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُما - هَذِهِ الآيَةُ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ وكَيْفَ نَصْنَعُ بِأيْمانِنا الَّتِي حَلَفْنا عَلَيْها؟ وكانُوا حَلَفُوا عَلى ما اتَّفَقُوا عَلَيْهِ - كَما تَقَدَّمَ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ﴾؛ أيْ: عَلى ما لَهُ مِن تَمامِ الجَلالِ؛ ﴿بِاللَّغْوِ﴾؛ وهو ما يَسْبِقُ إلَيْهِ اللَّفْظُ مِن غَيْرِ قَصْدٍ؛ ﴿فِي أيْمانِكُمْ﴾؛ عَلى أنِّي لَمْ أعْتَمِدْ عَلى (p-٢٨٧)سَبَبِ النُّزُولِ في المُناسَبَةِ إلّا لِدُخُولِهِ في المَعْنى؛ لا لِكَوْنِهِ سَبَبًا؛ فَإنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ يَدْخُلُ في المُناسَبَةِ - كَما بَيَّنْتُهُ في أوَّلِ غَزْوَةِ ”أُحُدٍ“؛ في ”آلِ عِمْرانَ“؛ وإنَّما كانَ السَّبَبُ هُنا داخِلًا في مُناسَبَةِ النَّظْمِ؛ لِأنَّ تَحْرِيمَ ما أحَلَّ يَكُونُ تارَةً بِنَذْرٍ؛ وتارَةً بِيَمِينٍ؛ والنَّذْرُ في المُباحِ - وهو مَسْألَتُنا - لا يَنْعَقِدُ؛ وكَفّارَتُهُ كَفّارَةُ يَمِينٍ؛ فَحِينَئِذٍ لَمْ تَدْعُ الحاجَةُ إلّا إلى التَّعْرِيفِ بِالأيْمانِ؛ وأحْكامِها؛ فَقَسَّمَها - سُبْحانَهُ - إلى قِسْمَيْنِ: مَقْصُودٍ؛ وغَيْرِ مَقْصُودٍ؛ فَأمّا غَيْرُ المَقْصُودِ فَلا اعْتِبارَ بِهِ؛ وأمّا المَقْصُودُ فَقِسْمانِ: حَلِفٌ عَلى ماضٍ؛ وحَلِفٌ عَلى آتٍ؛ فَأمّا الحَلِفُ عَلى الماضِي فَهو اليَمِينُ الغَمُوسُ؛ الَّتِي لا كَفّارَةَ لَها عِنْدَ بَعْضِ العُلَماءِ؛ وسَيَأْتِي في آيَةِ الوَصِيَّةِ؛ وأمّا الحَلِفُ عَلى الآتِي - وهو الَّذِي يُمْكِنُ التَّحْرِيمُ بِهِ - فَذَكَرَ حُكْمَهُ هُنا بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ﴾؛ ولَمّا كانَ مُطْلَقُ الحَلِفِ؛ الَّذِي مِنهُ اللَّغْوُ؛ يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَقْدٌ لِلْيَمِينِ؛ أعْلَمَ أنَّ المُؤاخَذَةَ إنَّما هي بِتَعَمُّدِ القَلْبِ؛ وهو المُرادُ بِالكَسْبِ في الآيَةِ الأُخْرى؛ فَعَبَّرَ بِـ ”التَّفْعِيلِ“؛ في قِراءَةِ الجَماعَةِ؛ و”المُفاعَلَةِ“؛ عَلى قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ذَلِكَ هو المُرادُ مِن قِراءَةِ حَمْزَةَ؛ والكِسائِيِّ بِالتَّخْفِيفِ؛ فَقالَ ﴿بِما عَقَّدْتُمُ الأيْمانَ﴾؛ أيْ: بِسَبَبِ تَوْثِيقِها؛ وتَوْكِيدِها؛ وإحْكامِها بِالجَمْعِ (p-٢٨٨)بَيْنَ اللِّسانِ والقَلْبِ؛ سَواءٌ كانَ عَلى أدْنى الوُجُوهِ؛ كَما تُشِيرُ إلَيْهِ قِراءَةُ التَّخْفِيفِ؛ أوْ عَلى أعْلاها؛ كَما تُشِيرُ إلَيْهِ قِراءَةُ التَّشْدِيدِ؛ فَلا يَحِلُّ لَكُمُ الحِنْثُ فِيها؛ إلّا بِالكَفّارَةِ؛ بِخِلافِ اللَّغْوِ؛ فَإنَّهُ بِاللِّسانِ فَقَطْ؛ فَلا عَقْدَ فِيهِ؛ فَضْلًا عَنْ تَعْقِيدٍ؛ و”ما“ مَصْدَرِيَّةٌ. ولَمّا أثْبَتَ المُؤاخَذَةَ سَبَّبَ عَنْها قَوْلَهُ: ﴿فَكَفّارَتُهُ﴾؛ أيْ: الأمْرِ الَّذِي يَسْتُرُ النَّكْثَ والحِنْثَ عَنْ هَذا التَّعْقِيدِ؛ ويُزِيلُ أثَرَهُ؛ بِحَيْثُ تَصِيرُونَ كَأنَّكم ما حَلَفْتُمْ؛ ﴿إطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ﴾؛ أيْ: أحْرارٍ مَساكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ رُبْعُ صاعٍ؛ وهو مُدٌّ مِن طَعامٍ؛ وهو رِطْلٌ وثُلُثٌ؛ ﴿مِن أوْسَطِ ما﴾؛ كانَ عادَةً لَكم أنَّكم ﴿تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ﴾؛ أيْ: مِن أعْدَلِهِ في الجَوْدَةِ؛ والقَدْرِ؛ كَمِّيَّةً وكَيْفِيَّةً؛ فَهو مُدٌّ جَيِّدٌ مِن غالِبِ القُوتِ؛ سَواءٌ كانَ مِنَ الحِنْطَةِ؛ أوْ مِنَ التَّمْرِ؛ أوْ غَيْرِهِما. ولَمّا بَدَأ بِأقَلِّ ما يَكْفِي؛ تَخْفِيفًا ورَحْمَةً؛ عَطَفَ عَلى الإطْعامِ تَرَقِّيًا قَوْلَهُ: ﴿أوْ كِسْوَتُهُمْ﴾؛ أيْ: بِثَوْبٍ يُغَطِّي العَوْرَةَ؛ مِن قَمِيصٍ؛ أوْ إزارٍ؛ أوْ غَيْرِهِما مِمّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الكِسْوَةِ؛ ﴿أوْ تَحْرِيرُ﴾؛ أيْ: إعْتاقُ؛ ﴿رَقَبَةٍ﴾؛ أيْ: مُؤْمِنَةٍ؛ سَلِيمَةٍ؛ عَمّا يُخِلُّ بِالعَمَلِ - كَما تَقَدَّمَ في كَفّارَةِ القَتْلِ - حَمْلًا لِمُطْلَقِ الكَفّاراتِ عَلى ذَلِكَ المُقَيَّدِ؛ ولِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ ما اسْتَأْذَنَهُ أحَدٌ في إعْتاقِ رَقَبَةٍ في كَفّارَةٍ؛ إلّا اخْتَبَرَ إيمانَها؛ هَذا ما عَلى المُكَلَّفِ عَلى (p-٢٨٩)سَبِيلِ التَّخْيِيرِ؛ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ؛ والتَّعْيِينُ إلَيْهِ إذا كانَ واجِدًا لِلثَّلاثَةِ؛ أوْ لِأحَدِها؛ والإتْيانُ بِأحَدِها مُبَرِّئٌ مِنَ العُهْدَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الثَّلاثَةِ بِعَيْنِهِ أخَصُّ مِن أحَدِها عَلى الإبْهامِ؛ والإتْيانُ بِالخاصِّ يَسْتَلْزِمُ الإتْيانَ بِالعامِّ؛ ﴿فَمَن لَمْ يَجِدْ﴾؛ أيْ: واحِدًا مِنها؛ فاضِلًا عَنْ قُوتِهِ؛ وقُوتِ مَن تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ؛ ﴿فَصِيامُ﴾؛ أيْ: فالكَفّارَةُ صِيامُ ﴿ثَلاثَةِ أيّامٍ﴾؛ ولَوْ مُتَفَرِّقَةً. ولَمّا تَمَّ ذَلِكَ أكَّدَهُ في النُّفُوسِ؛ وقَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أيْ: الأمْرُ العَدْلُ الحَسَنُ الَّذِي ذُكِرَ؛ ﴿كَفّارَةُ أيْمانِكُمْ﴾؛ أيْ: المُعْقَدَةِ؛ ﴿إذا حَلَفْتُمْ﴾؛ وأرَدْتُمْ نَكْثَها؛ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ قَبْلَ الحِنْثِ؛ أوْ بَعْدَهُ. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ”فافْعَلُوا ما قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنهُ“؛ عَطَفَ عَلَيْهِ لِئَلّا تُمْتَهَنَ الأيْمانُ لِسُهُولَةِ الكَفّارَةِ قَوْلَهُ:﴿واحْفَظُوا أيْمانَكُمْ﴾؛ أيْ: فَلا تَحْلِفُوا ما وجَدْتُمْ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا؛ ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأيْمانِكُمْ؛ فَإنَّهُ - سُبْحانَهُ - عَظِيمٌ؛ ومَن أكْثَرَ الحَلِفَ وقَعَ في المَحْذُورِ؛ ولا بُدَّ؛ وإذا حَلَفْتُمْ فَلا تَحْنَثُوا دُونَ تَكْفِيرٍ؛ ويَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الخِصالِ كُلِّها؛ واسْتُشْكِلَ؛ وحَلُّهُ بِما قالَ الشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتازانِيُّ في التَّلْوِيحِ؛ في بَحْثِ ”أوْ“: والمَشْهُورُ في الفارِقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ والإباحَةِ أنَّهُ يُمْتَنَعُ في التَّخْيِيرِ الجَمْعُ؛ ولا يُمْتَنَعُ في الإباحَةِ؛ لَكِنَّ الفارِقَ هَهُنا أنَّهُ لا يَجِبُ في الإباحَةِ الإتْيانُ بِواحِدٍ؛ وفي التَّخْيِيرِ يَجِبُ؛ وحِينَئِذٍ إنْ كانَ الأصْلُ فِيهِ الحَظْرَ؛ وثَبَتَ (p-٢٩٠)الجَوازُ بِعارِضِ الأمْرِ - كَما إذا قالَ: بِعْ مِن عَبِيدِي هَذا؛ أوْ ذاكَ - يُمْتَنَعُ الجَمْعُ؛ ويَجِبُ الِاقْتِصارُ عَلى الواحِدِ؛ لِأنَّهُ المَأْمُورُ بِهِ؛ وإنْ كانَ الأصْلُ فِيهِ الإباحَةُ؛ ووَجَبَ بِالأمْرِ واحِدٌ - كَما في خِصالِ الكَفّارَةِ - يَجُوزُ الجَمْعُ بِحُكْمِ الإباحَةِ الأصْلِيَّةِ؛ وهَذا يُسَمّى التَّخْيِيرَ؛ عَلى سَبِيلِ الإباحَةِ؛ انْتَهى. ولَمّا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآياتُ مِنَ البَيانِ عَلى ما يُدْهِشُ الإنْسانَ؛ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: هَلْ يُبَيِّنُ كُلَّ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ هَكَذا؟ فَنَبَّهَ مِن هَذِهِ الغَفْلَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أيْ: مِثْلَ هَذا البَيانِ العَظِيمِ الشَّأْنِ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ﴾؛ أيْ: عَلى ما لَهُ مِنَ العَظَمَةِ؛ ﴿لَكم آياتِهِ﴾؛ أيْ: أعْلامَ شَرِيعَتِهِ؛ وأحْكامِهِ؛ عَلى ما لَها مِنَ العُلُوِّ؛ بِإضافَتِها إلَيْهِ. ولَمّا اشْتَمَلَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الأحْكامِ والحِكَمِ والتَّنْبِيهِ والإرْشادِ والإخْبارِ بِما فِيها مِنَ الِاعْتِبارِ عَلى نِعَمٍ جَسِيمَةٍ؛ وسُنَنٍ جَلِيلَةٍ عَظِيمَةٍ؛ ناسَبَ خَتْمَها بِالشُّكْرِ المُرْبِي لَها؛ في قَوْلِهِ - عَلى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ؛ المُؤْذِنِ بِقَطْعِها إنْ لَمْ تُوجَدِ العِلَّةُ -: ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾؛ أيْ: يَحْصُلُ مِنكُمُ الشُّكْرُ بِحِفْظِ جَمِيعِ الحُدُودِ الآمِرَةِ؛ والنّاهِيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب