الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، مَعْنى قَوْلِهِ تَمَنّى في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فِيهِ لِلْعُلَماءِ وجْهانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفانِ:
الأوَّلُ: أنَّ تَمَنّى بِمَعْنى: قَرَأ وتَلا ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ في عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ أوَّلَ لَيْلِهِ وآخِرَها لاقى حِمامَ المَقادِرِ
وَقَوْلُ الآخَرِ:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ∗∗∗ تَمَنِّيَ داوُدَ الزَّبُورَ عَلى رُسُلِ
فَمَعْنى تَمَنّى في البَيْتَيْنِ قَرَأ وتَلا.
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ﴿إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾: إذا حَدَّثَ ألْقى الشَّيْطانُ في حَدِيثِهِ، وكَوْنُ تَمَنّى بِمَعْنى: قَرَأ وتَلا، هو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ.
القَوْلُ الثّانِي: أنْ تَمَنّى في الآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي المَعْرُوفِ، وهو تَمَنِّيهِ إسْلامَ أُمَّتِهِ وطاعَتَهم لِلَّهِ ولِرُسُلِهِ، ومَفْعُولُ ألْقى مَحْذُوفٌ فَعَلى أنْ تَمَنّى بِمَعْنى: أحَبَّ إيمانَ أُمَّتِهِ (p-٢٨٥)وَعَلَّقَ أمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ ألْقى يَظْهَرُ أنَّهُ مِن جِنْسِ الوَساوِسِ، والصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حَتّى لا يَتِمَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ أوِ الرَّسُولِ ما تَمَنّى.
وَمَعْنى كَوْنِ الإلْقاءِ في أُمْنِيَّتِهِ عَلى هَذا الوَجْهِ: أنَّ الشَّيْطانَ يُلْقِي وساوِسَهُ وشُبَهَهُ لِيَصُدَّ بِها عَمّا تَمَنّاهُ الرَّسُولُ أوِ النَّبِيُّ، فَصارَ الإلْقاءُ كَأنَّهُ واقِعٌ فِيها بِالصَّدِّ عَنْ تَمامِها والحَيْلُولَةِ دُونَ ذَلِكَ.
وَعَلى أنَّ تَمَنّى بِمَعْنى: قَرَأ، فَفي مَفْعُولِ ألْقى تَقْدِيرانِ:
أحَدُهُما: مِن جِنْسِ الأوَّلِ أيْ: ألْقى الشَّيْطانُ في قِراءَةِ الرَّسُولِ ﷺ أوِ النَّبِيِّ الشُّبَهَ والوَساوِسَ لِيَصُدَّ النّاسَ عَنِ اتِّباعِ ما يَقْرَؤُهُ، ويَتْلُوهُ الرَّسُولُ أوِ النَّبِيُّ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا إشْكالَ.
وَأمّا التَّقْدِيرُ الثّانِي: فَهو ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ أيْ قِراءَتِهِ ما لَيْسَ مِنها لِيَظُنَّ الكُفّارُ أنَّهُ مِنها.
وَقَوْلُهُ ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذا التَّقْدِيرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قِصَّةَ الغَرانِيقِ قالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمّا بَلَغَ: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠] ألْقى الشَّيْطانُ عَلى لِسانِهِ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى، فَلَمّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ المُشْرِكُونَ والمُسْلِمُونَ. وقالَ المُشْرِكُونَ: ما ذَكَرَ آلِهَتَنا بِخَيْرٍ قَبْلَ اليَوْمِ، وشاعَ في النّاسِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ أسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، حَتّى رَجَعَ المُهاجِرُونَ مِنَ الحَبَشَةِ ظَنًّا مِنهم أنَّ قَوْمَهم أسْلَمُوا، فَوَجَدُوهم عَلى كُفْرِهِمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنا في هَذا الكِتابِ المُبارَكِ أنَّ مِن أنْواعِ البَيانِ الَّتِي تَضَمَّنَها أنْ يَقُولَ بَعْضُ العُلَماءِ في الآيَةِ قَوْلًا، ويَكُونُ في الآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ ذَلِكَ القَوْلِ، ومَثَّلْنا لِذَلِكَ: بِأمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وهَذا القَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: وهو أنَّ الشَّيْطانَ ألْقى عَلى لِسانِ النَّبِيِّ ﷺ، هَذا الشِّرْكَ الأكْبَرَ والكُفْرَ البَواحَ الَّذِي هو قَوْلُهم: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلا وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجى، يَعْنُونَ: اللّاتَ والعُزّى، ومَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى، الَّذِي لا شَكَّ في بُطْلانِهِ في نَفْسِ سِياقِ آياتِ ”النَّجْمِ“ الَّتِي تَخَلَّلَها إلْقاءُ الشَّيْطانِ المَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً واضِحَةً عَلى بُطْلانِ هَذا القَوْلِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ بَعْدَ مَوْضِعِ الإلْقاءِ المَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعالى، في اللّاتِ (p-٢٨٦)والعُزّى، ومَناةَ الثّالِثَةِ الأُخْرى: ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] ولَيْسَ مِنَ المَعْقُولِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسُبُّ آلِهَتَهم هَذا السَّبَّ العَظِيمَ في سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَها بِخَيْرٍ المَزْعُومِ، إلّا وغَضِبُوا، ولَمْ يَسْجُدُوا؛ لِأنَّ العِبْرَةَ بِالكَلامِ الأخِيرِ، مَعَ أنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آياتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلى بُطْلانِ هَذا القَوْلِ، وهي الآياتُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطانِ سُلْطانًا عَلى النَّبِيِّ ﷺ، وإخْوانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وأتْباعِهِمُ المُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٩٩ - ١٠٠] وقَوْلِهِ تَعالى:
﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢] وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ إلّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ﴾ الآيَةَ [سبإ: ٢١] وقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ﴾ الآيَةَ [إبراهيم: ٢٢]، وعَلى القَوْلِ المَزْعُومِ أنَّ الشَّيْطانَ ألْقى عَلى لِسانِهِ ﷺ ذَلِكَ الكُفْرَ البَواحَ، فَأيُّ سُلْطانٍ لَهُ أكْبَرُ مِن ذَلِكَ.
وَمِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى بُطْلانِ ذَلِكَ القَوْلِ المَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعالى في النَّبِيِّ ﷺ: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إنْ هو إلّا وحْيٌ يُوحى﴾ [النجم: ٣ - ٤] وقَوْلُهُ ﴿هَلْ أُنَبِّئُكم عَلى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٢]، وقَوْلُهُ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١ - ٤٢] فَهَذِهِ الآياتُ القُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلى بُطْلانِ القَوْلِ المَزْعُومِ.
* * *
مَسْألَةٌ.
اعْلَمْ: أنَّ مَسْألَةَ الغَرانِيقِ مَعَ اسْتِحالَتِها شَرْعًا، ودَلالَةِ القُرْآنِ عَلى بُطْلانِها لَمْ تَثْبُتْ مِن طَرِيقٍ صالِحٍ لِلِاحْتِجاجِ، وصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِها خَلْقٌ كَثِيرٌ مِن عُلَماءِ الحَدِيثِ كَما هو الصَّوابُ، والمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ القِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وقَدْ بَيَّنَ البَزّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنَّها لا تُعْرَفُ مِن طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إلّا طَرِيقَ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وقَعَ في وصْلِهِ، وقَدِ اعْتَرَفَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ القِصَّةِ بِأنَّ طُرُقَها كُلَّها إمّا مُنْقَطِعَةٌ أوْ ضَعِيفَةٌ إلّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِها بِها أحَدٌ مُتَّصِلَةً إلّا (p-٢٨٧)أُمَيَّةَ بْنَ خالِدٍ، وهو وإنْ كانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ في وصْلِها.
فَقَدْ أخْرَجَ البَزّارُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِيما أحْسَبُ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ القِصَّةِ المَذْكُورَةِ، وقالَ البَزّارُ: لا يُرى مُتَّصِلًا إلّا بِهَذا الإسْنادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خالِدٍ، وهو ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وقالَ البَزّارُ: وإنَّما يُرْوى مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ، عَنْ أبِي صالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ.
فَتَحَصَّلَ أنَّ قِصَّةَ الغَرانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إلّا مِن هَذا الوَجْهِ الَّذِي شَكَّ راوِيهِ في الوَصْلِ، ومَعْلُومٌ أنَّ ما كانَ كَذَلِكَ لا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، ولِذا قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: إنَّهُ لَمْ يَرَها مُسْنَدَةً مِن وجْهٍ صَحِيحٍ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في هَذِهِ القِصَّةِ: ولَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِن هَذا، ولا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ومَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ المُحَقِّقُونَ بِكِتابِ اللَّهِ؛
• كَقَوْلِهِ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ الآيَةَ [الحاقة: ٤٤]
• وقَوْلِهِ ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ الآيَةَ [النجم: ٣]،
• وقَوْلِهِ ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤]
فَنَفى المُقارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكانِيُّ عَنِ البَزّارِ أنَّها لا تُرْوى بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ، وعَنِ البَيْهَقِيِّ أنَّهُ قالَ: هي غَيْرُ ثابِتَةٍ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، وذَكَرَ عَنْ إمامِ الأئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ وأبْطَلَها ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ، والفَخْرُ الرّازِيُّ وجَماعاتٌ كَثِيرَةٌ، وقِراءَتُهُ ﷺ سُورَةَ النَّجْمِ وسُجُودُ المُشْرِكِينَ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، ولَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِن قِصَّةِ الغَرانِيقِ، وعَلى هَذا القَوْلِ الصَّحِيحِ وهو أنَّها باطِلَةٌ فَلا إشْكالَ.
وَأمّا عَلى ثُبُوتِ القِصَّةِ كَما هو رَأْيُ الحافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فَإنَّهُ قالَ في فَتْحِ البارِي:
إنَّ هَذِهِ القِصَّةَ ثابِتَةٌ بِثَلاثَةِ أسانِيدَ كُلُّها عَلى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وهي مَراسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِها مَن يَحْتَجُّ بِالمُرْسَلِ، وكَذَلِكَ مَن لا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضادِ بَعْضِها بِبَعْضٍ؛ لِأنَّ الطُّرُقَ إذا كَثُرَتْ وتَبايَنَتْ مَخارِجُها، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ لَها أصْلًا، فَلِلْعُلَماءِ عَنْ ذَلِكَ أجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أحْسَنُها، وأقْرَبُها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتاتٌ، فَلَمّا قَرَأ ﴿وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: ٢٠] قالَ الشَّيْطانُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مُحاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى. . . الخَ فَظَنَّ المُشْرِكُونَ أنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ ﷺ، وهو بَرِئٌ مِن ذَلِكَ بَراءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وقَدْ أوْضَحْنا هَذِهِ المَسْألَةَ في رِحْلَتِنا إيضاحًا وافِيًا، واخْتَصَرْناها هُنا، وفي كِتابِنا: ”دَفْعُ إيهامِ الِاضْطِرابِ عَنْ آياتِ الكِتابِ“ .
(p-٢٨٨)والحاصِلُ: أنَّ القُرْآنَ دَلَّ عَلى بُطْلانِها، ولَمْ تَثْبُتْ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحالَةِ الإلْقاءِ عَلى لِسانِهِ ﷺ لِما ذُكِرَ شَرْعًا، ومَن أثْبَتَها نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الكُفْرِ لِلشَّيْطانِ. فَتَبَيَّنَ أنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ الكُفْرِ، ولَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وقَدْ دَلَّ القُرْآنُ عَلى بُطْلانِهِ، وهو باطِلٌ قَطْعًا عَلى كُلِّ حالٍ، والغَرانِيقُ: الطَّيْرُ البِيضُ المَعْرُوفَةُ واحِدُها: غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وفِرْدَوْسٍ، وفِيهِ لُغاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ أنَّ الأصْنامَ تَرْتَفِعُ إلى اللَّهِ كالطَّيْرِ البِيضِ، فَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لِعابِدِيها قَبَّحَهُمُ اللَّهُ ما أكْفَرَهم ! ونَحْنُ وإنْ ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَن قالَ: إنَّ مَفْعُولَ الإلْقاءِ المَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ:
ألْقى الشَّيْطانُ في قِراءَتِهِ ما لَيْسَ مِنها؛ لِأنَّ النَّسْخَ هُنا هو النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ، ومَعْناهُ الإبْطالُ والإزالَةُ مِن قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، ونَسَخَتِ الرِّيحُ الأثَرَ، وهَذا كَأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا ألْقاهُ الشَّيْطانُ، لَيْسَ مِمّا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أوِ النَّبِيُّ، فالَّذِي يَظْهَرُ لَنا أنَّهُ الصَّوابُ، وأنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلالَةً واضِحَةً، وإنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَن تَكَلَّمَ عَلى الآيَةِ مِنَ المُفَسِّرِينَ: هو أنَّ ما يُلْقِيهِ الشَّيْطانُ في قِراءَةِ النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ والوَساوِسُ المانِعَةُ مِن تَصْدِيقِها وقَبُولِها، كَإلْقائِهِ عَلَيْهِمْ أنَّها سِحْرٌ أوْ شِعْرٌ، أوْ أساطِيرُ الأوَّلِينَ، وأنَّها مُفْتَراةٌ عَلى اللَّهِ لَيْسَتْ مُنَزَّلَةً مِن عِنْدِهِ.
والدَّلِيلُ عَلى هَذا المَعْنى: أنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أنَّ الحِكْمَةَ في الإلْقاءِ المَذْكُورِ امْتِحانُ الخَلْقِ، لِأنَّهُ قالَ ﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ ٢ \ ٥٣ ] ثُمَّ قالَ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٤] فَقَوْلُهُ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ﴾ الآيَةَ، يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الأشْقِياءُ، ويَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهم، ويُكَذِّبُهُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ، ويَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ لا الكَذِبُ؛ كَما يَزْعُمُ لَهُمُ الشَّيْطانُ في إلْقائِهِ: فَهَذا الِامْتِحانُ لا يُناسِبُ شَيْئًا زادَهُ الشَّيْطانُ مِن نَفْسِهِ في القِراءَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَعَلى هَذا القَوْلِ، فَمَعْنى نَسْخِ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ: إزالَتُهُ وإبْطالُهُ، وعَدَمُ تَأْثِيرِهِ في المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ.
وَمَعْنى يُحْكِمُ آياتِهِ: يُتْقِنُها بِالإحْكامِ، فَيُظْهِرُ أنَّها وحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنهُ بِحَقٍّ، ولا يُؤَثِّرُ في ذَلِكَ مُحاوَلَةُ الشَّيْطانِ صَدَّ النّاسِ عَنْها بِإلْقائِهِ المَذْكُورِ، وما ذَكَرَهُ هُنا مِن أنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطانَ فَيَلْقى في قِراءَةِ الرَّسُولِ والنَّبِيِّ، فِتْنَةً لِلنّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهم مِن كافِرِهِمْ.
(p-٢٨٩)بِذَلِكَ الِامْتِحانِ، جاءَ مُوَضَّحًا في آياتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْناها مِرارًا
• كَقَوْلِهِ ﴿وَما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً وما جَعَلْنا عِدَّتَهم إلّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانًا ولا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ والمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشاءُ ويَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ الآيَةَ [المدثر: ٣١]
• وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٤٣]
• وقَوْلِهِ ﴿وَما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ والشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ﴾ أيْ: لِأنَّها فِتْنَةٌ، كَما قالَ ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ﴾ ﴿إنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ﴾ ﴿إنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجَحِيمِ﴾ الآيَةَ [الصافات: ٦٢ - ٦٤]؛ لِأنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّ الشَّجَرَ لا يَنْبُتُ في المَوْضِعِ اليابِسِ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ في أصْلِ الجَحِيمِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ مِرارًا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. واللّامُ في قَوْلِهِ ﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ﴾ الآيَةَ الأظْهَرُ أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ، بِألْقى أيْ: ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّةِ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الإلْقاءَ فِتْنَةً لِلَّذِينِ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، خِلافًا لِلْحَوْفِيِّ القائِلِ: إنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ”يُحْكِمُ“، وابْنِ عَطِيَّةَ القائِلِ: إنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ”يَنْسَخُ“ . ومَعْنى كَوْنِهِ: فِتْنَةً لَهم أنَّهُ سَبَبٌ لِتَمادِيهِمْ في الضَّلالِ والكُفْرِ، وقَدْ أوْضَحْنا مَعانِيَ الفِتْنَةِ في القُرْآنِ سابِقًا، وبَيَّنّا أنَّ أصْلَ الفِتْنَةِ في اللُّغَةِ وضْعُ الذَّهَبِ في النّارِ، لِيَظْهَرَ بِسَبْكِهِ فِيها أخالِصٌ هو أمْ زائِفٌ، وأنَّها في القُرْآنِ تُطْلَقُ عَلى مَعانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنها: الوَضْعُ في النّارِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] أيْ: يُحْرَقُونَ بِها، وقَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ الآيَةَ [البروج: ١٠] أيْ: أحْرَقُوهم بِنارِ الأُخْدُودِ عَلى أظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، ومِنها: الِاخْتِبارُ وهو أكْثَرُ اسْتِعْمالاتِها في القُرْآنِ،
• كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥]
• وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]
• وقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ لَأسْقَيْناهم ماءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهم فِيهِ﴾ [الجن: ١٦ - ١٧] ومِنها: نَتِيجَةُ الِابْتِلاءِ إنْ كانَتْ سَيِّئَةً كالكُفْرِ والضَّلالِ؛
• كَقَوْلِهِ ﴿وَقاتِلُوهم حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٣] أيْ: شِرْكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣]
• وقَوْلِهِ في الأنْفالِ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: ٣٩] ومِمّا يُوَضِّحُ هَذا المَعْنى قَوْلُهُ ﷺ «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» الحَدِيثَ، فالغايَةُ في الحَدِيثِ مُبَيِّنَةٌ لِلْغايَةِ في الآيَةِ (p-٢٩٠)لِأنَّ خَيْرَ ما يُفَسَّرُ بِهِ القُرْآنُ بَعْدَ القُرْآنِ السُّنَّةُ، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ هُنا ﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ وقَدْ جاءَتِ الفِتْنَةُ في مَوْضِعٍ بِمَعْنى الحُجَّةِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى في الأنْعامِ ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]
أيْ حُجَّتُهم كَما هو الظّاهِرُ.
واعْلَمْ أنَّ مَرَضَ القَلْبِ في القُرْآنِ يُطْلَقُ عَلى نَوْعَيْنِ:
أحَدُهُما: مَرَضٌ بِالنِّفاقِ والشَّكِّ والكُفْرِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى في المُنافِقِينَ ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ الآيَةَ [البقرة: ١٠] وقَوْلُهُ هُنا ﴿لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الحج: ٥٣] أيْ: كُفْرٌ وشَكٌّ.
والثّانِي: مِنهُما إطْلاقُ مَرَضِ القَلْبِ عَلى مَيْلِهِ لِلْفاحِشَةِ والزِّنى، ومِنهُ بِهَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢] أيْ: مَيْلٌ إلى الزِّنى ونَحْوِهِ، والعَرَبُ تُسَمِّي انْطِواءَ القَلْبِ عَلى الأُمُورِ الخَبِيثَةِ: مَرَضًا وذَلِكَ مَعْرُوفٌ في لُغَتِهِمْ ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎حافِظٌ لِلْفَرْجِ راضٍ بِالتُّقى لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضُ
وَقَوْلُهُ هُنا ﴿والقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٥٣] قَدْ بَيَّنّا في سُورَةِ البَقَرَةِ الآياتِ القُرْآنِيَّةَ الدّالَّةَ عَلى سَبَبِ قَسْوَةِ القُلُوبِ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكم مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَهي كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة: ٧٤] وآيَةُ الحَجِّ هَذِهِ تُبَيِّنُ أنَّ ما اشْتُهِرَ عَلى ألْسِنَةِ أهْلِ العِلْمِ.
مِن أنَّ النَّبِيَّ هو مَن أُوحِيَ إلَيْهِ وحْيٌ، ولَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، وأنَّ الرَّسُولَ هو النَّبِيُّ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وأُمِرَ بِتَبْلِيغِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ﴾ الآيَةَ [الحج: ٥٢]، يَدُلُّ عَلى أنْ كُلًّا مِنهُما مُرْسَلٌ، وأنَّهُما مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُما تَغايُرٌ واسْتَظْهَرَ بَعْضُهم أنَّ النَّبِيَّ الَّذِي هو رَسُولٌ أُنْزِلَ إلَيْهِ كِتابٌ وشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ مَعَ المُعْجِزَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِها نُبُوَّتُهُ، وأنَّ النَّبِيَّ المُرْسَلَ الَّذِي هو غَيْرُ الرَّسُولِ، هو مَن لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتابٌ وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ أنْ يَدْعُوَ النّاسَ إلى شَرِيعَةِ رَسُولٍ قَبْلَهُ، كَأنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ كانُوا يُرْسَلُونَ ويُؤْمَرُونَ بِالعَمَلِ بِما في التَّوْراةِ؛ كَما بَيَّنَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ ﴿يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أسْلَمُوا﴾ الآيَةَ [المائدة: ٤٤] وقَوْلِهِ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ أيْ: تَخْشَعَ وتَخْضَعَ وتَطْمَئِنَّ.
⁕ ⁕ ⁕
* قال المؤلف في (دفع إيهام الإضطراب عن آيات الكتاب):
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ رَسُولٍ وكُلَّ نَبِيٍّ يُلْقِي الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ، أيْ تِلاوَتِهِ إذا تَلا.
وَمِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ في عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ أوَّلَ لَيْلَةٍ وآخِرَها لاقى حِمامَ المَقادِرِ
(p-٣٤٦)وَقَوْلُ الآخَرِ:
؎تَمَنّى كِتابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلَةٍ ∗∗∗ تَمَنِّيَ داوُدَ الزَّبُورَ عَلى رِسْلِ
وَمَعْنى تَمَنّى في البَيْتَيْنِ قَرَأ وتَلا، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ﴿إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾، إذا حَدَّثَ ألْقى الشَّيْطانُ في حَدِيثِهِ.
وَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: ﴿إذا تَمَنّى﴾ أحَبَّ شَيْئًا وأرادَهُ، فَكُلُّ نَبِيٍّ يَتَمَنّى إيمانَ أُمَّتِهِ، والشَّيْطانُ يُلْقِي عَلَيْهِمُ الوَساوِسَ والشُّبَهَ، لِيَصُدَّهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وعَلى أنَّ تَمَنّى بِمَعْنى قَرَأ وتَلا، كَما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ، فَمَعْنى إلْقاءِ الشَّيْطانِ في تِلاوَتِهِ، إلْقاؤُهُ الشُّبَهَ والوَساوِسَ فِيما يَتْلُوهُ النَّبِيُّ لِيَصُدَّ النّاسَ عَنِ الإيمانِ بِهِ، أوْ إلْقاؤُهُ في المَتْلُوِّ ما لَيْسَ مِنهُ لِيَظُنَّ الكُفّارُ أنَّهُ مِنهُ.
وَهَذِهِ الآيَةُ لا تَعارُضَ بَيْنَها وبَيْنَ الآيَةِ المُصَرِّحَةِ بِأنَّ الشَّيْطانَ لا سُلْطانَ لَهُ عَلى عِبادِ اللَّهِ المُؤْمِنِينَ المُتَوَكِّلِينَ، ومَعْلُومٌ أنَّ خِيارَهُمُ الأنْبِياءُ
• كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿إنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٩٩ - ١٠٠]،
• وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ﴾ [الحجر: ٤٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢ - ٨٣] .
• وقَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: ٢٢] .
وَوَجْهُ كَوْنِ الآياتِ لا تَعارُضَ بَيْنَها، أنَّ سُلْطانَ الشَّيْطانِ المَنفِيَّ عَنِ المُؤْمِنِينَ المُتَوَكِّلِينَ في مَعْناهُ وجْهانِ لِلْعُلَماءِ:
الأوَّلُ: أنَّ مَعْنى السُّلْطانِ الحُجَّةُ الواضِحَةُ، وعَلَيْهِ فَلا إشْكالَ، إذْ لا حُجَّةَ مَعَ الشَّيْطانِ البَتَّةَ، كَما اعْتَرَفَ بِهِ فِيما ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ .
الثّانِي: أنَّ مَعْناهُ أنَّهُ لا تَسَلُّطَ لَهُ عَلَيْهِمْ بِإيقاعِهِمْ في ذَنْبٍ يَهْلَكُونَ بِهِ ولا يَتُوبُونَ مِنهُ، فَلا يُنافِي هَذا ما وقَعَ مِن آدَمَ وحَوّاءَ وغَيْرِهِما، فَإنَّهُ ذَنْبٌ مَغْفُورٌ لِوُقُوعِ التَّوْبَةِ مِنهُ، فَإلْقاءُ الشَّيْطانِ في أُمْنِيَّةِ النَّبِيِّ سَواءٌ فَسَّرْناها بِالقِراءَةِ أوِ التَّمَنِّي لِإيمانِ أُمَّتِهِ، لا يَتَضَمَّنُ (p-٣٤٧)سُلْطانًا لِلشَّيْطانِ عَلى النَّبِيِّ، بَلْ مِن جِنْسِ الوَسْوَسَةِ وإلْقاءِ الشُّبَهِ لِصَدِّ النّاسِ عَنِ الحَقِّ كَقَوْلِهِ: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ الآيَةَ [النمل: ٢٤] .
فَإنْ قِيلَ: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ سُورَةَ " النَّجْمِ، بِمَكَّةَ، فَلَمّا بَلَغَ: ﴿أفَرَأيْتُمُ اللّاتَ والعُزّى﴾ ﴿وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾ [النجم: ١٩ - ٢٠]، ألْقى الشَّيْطانُ عَلى لِسانِهِ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلا، وإنَّ شَفاعَتَهُنَّ لَتُرْجى، فَلَمّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وسَجَدَ مَعَهُ المُشْرِكُونَ والمُسْلِمُونَ، وقالَ المُشْرِكُونَ: ما ذَكَرَ آلِهَتَنا بِخَيْرٍ قَبْلَ اليَوْمِ، وشاعَ في النّاسِ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ أسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ حَتّى رَجَعَ المُهاجِرُونَ مِنَ الحَبَشَةِ، ظَنًّا مِنهم أنَّ قَوْمَهم أسْلَمُوا، فَوَجَدُوهم عَلى كُفْرِهِمْ.
وَعَلى هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، فَسُلْطانُ الشَّيْطانِ بَلَغَ إلى حَدٍّ أدْخَلَ بِهِ في القُرْآنِ، عَلى لِسانِ النَّبِيِّ ﷺ الكُفْرَ البَواحَ، حَسْبَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ القِصَّةِ المَزْعُومَةِ.
فالجَوابُ أنَّ قِصَّةَ الغَرانِيقِ مَعَ اسْتِحالَتِها شَرْعًا لَمْ تَثْبُتْ مِن طَرِيقٍ صالِحٍ لِلِاحْتِجاجِ، وصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِها خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ، كَما بَيَّنّاهُ بَيانًا شافِيًا في رِحْلَتِنا.
والمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ القِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، ومَعْلُومٌ أنَّ الكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ البَزّارُ أنَّها لا تُعْرَفُ مِن طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إلّا طَرِيقَ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وقَعَ في وصْلِهِ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصارِهِ لِثُبُوتِ هَذِهِ القِصَّةِ، بِأنَّ طُرُقَها كُلَّها، إمّا مُنْقَطِعَةٌ أوْ ضَعِيفَةٌ، إلّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ لَمْ يَرْوِها بِها أحَدٌ مُتَّصِلَةً إلّا أُمَيَّةَ بْنَ خالِدٍ، وهو وإنْ كانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ في وصْلِها، فَقَدْ أخْرَجَ البَزّارُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِيما أحْسَبُ، ثُمَّ ساقَ حَدِيثَ القِصَّةِ المَذْكُورَةِ، وقالَ: البَزّارُ لا يُرْوى مُتَّصِلًا إلّا بِهَذا الإسْنادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خالِدٍ، وهو ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَقالَ البَزّارُ: وإنَّما يُرْوى مِن طَرِيقِ الكَلْبِيِّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والكَلْبِيُّ (p-٣٤٨)مَتْرُوكٌ، فَتَحَصَّلَ أنَّ قِصَّةَ الغَرانِيقِ لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إلّا مِن هَذا الطَّرِيقِ الَّذِي شَكَّ راوِيهِ في الوَصْلِ، وما كانَ كَذَلِكَ فَضَعْفُهُ ظاهِرٌ.
وَلِذا قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ إنَّهُ لَمْ يَرَها مَسْنَدَةً مِن وجْهٍ صَحِيحٍ. وقالَ العَلّامَةُ الشَّوْكانِيُّ في هَذِهِ القِصَّةِ: ولَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِن هَذا ولا ثَبَتَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ ومَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ بَلْ بُطْلانُهُ، فَقَدْ دَفَعَهُ المُحَقِّقُونَ بِكِتابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ﴾ الآيَةَ [الحاقة: ٤٤]، وقَوْلِهِ: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى﴾ [النجم: ٣]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ﴾ الآيَةَ [ ١٧ ] .
فَنَفى المُقارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكانِيُّ عَنِ البَزّارِ أنَّها لا تُرْوى بِإسْنادٍ مُتَّصِلٍ، وعَنِ البَيْهَقِيِّ أنَّهُ قالَ: هي غَيْرُ ثابِتَةٍ مِن جِهَةِ النَّقْلِ.
وَذُكِرَ عَنْ إمامِ الأئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مِن وضْعِ الزَّنادِقَةِ، وأبْطَلَها عِياضٌ وابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيَّيْنِ والفَخْرُ الرّازِيُّ وجَماعاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَمِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ القُرْآنِيَّةِ في بُطْلانِها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ بَعْدَ ذَلِكَ في سُورَةِ ”النَّجْمِ“ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣]، فَلَوْ فَرَضْنا أنَّهُ قالَ تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلا، ثُمَّ أبْطَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها﴾ فَكَيْفَ يَفْرَحُ المُشْرِكُونَ بَعْدَ هَذا الإبْطالِ والذَّمِّ التّامِّ لِأصْنامِهِمْ، بِأنَّها أسْماءٌ بِلا مُسَمَّياتٍ، وهَذا هو الأخِيرُ.
وَقِراءَتُهُ ﷺ سُورَةَ ”النَّجْمِ“ بِمَكَّةَ وسُجُودُ المُشْرِكِينَ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، ولَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِن قِصَّةِ الغَرانِيقِ، وعَلى القَوْلِ بِبُطْلانِها فَلا إشْكالَ.
وَأمّا عَلى القَوْلِ بِثُبُوتِ القِصَّةِ، كَما هو رَأْيُ الحافِظِ ابْنِ حَجَرٍ، فَإنَّهُ قالَ في فَتْحِ البارِي: إنَّ هَذِهِ القِصَّةَ ثَبَتَتْ بِثَلاثَةِ أسانِيدَ، كُلُّها عَلى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وهي مَراسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِها مَن يَحْتَجُّ بِالمُرْسَلِ وكَذا مَن لا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضادِ بَعْضِها بِبَعْضٍ لِأنَّ الطُّرُقَ إذا كَثُرَتْ وتَبايَنَتْ مَخارِجُها، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ لَها أصْلًا.
فَلِلْعُلَماءِ عَنْ ذَلِكَ أجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ، مِن أحْسَنِها وأقْرَبِها، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتاتٌ فَلَمّا قَرَأ: ﴿وَمَناةَ الثّالِثَةَ الأُخْرى﴾، قالَ الشَّيْطانُ لَعَنَهُ اللَّهُ مُحاكِيًا (p-٣٤٩)لِصَوْتِهِ ﷺ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العَلا إلخ. . . فَظَنَّ المُشْرِكُونَ أنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ ﷺ، وهو بَرِيءٌ مِن ذَلِكَ بَراءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ.
وَقَدْ بَيَّنّا هَذِهِ المَسْألَةَ بَيانًا شافِيًا في رِحْلَتِنا، فَلِذَلِكَ اخْتَصَرْناها هُنا، فَظَهَرَ أنَّهُ لا تَعارُضَ بَيْنَ الآياتِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
{"ayah":"وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولࣲ وَلَا نَبِیٍّ إِلَّاۤ إِذَا تَمَنَّىٰۤ أَلۡقَى ٱلشَّیۡطَـٰنُ فِیۤ أُمۡنِیَّتِهِۦ فَیَنسَخُ ٱللَّهُ مَا یُلۡقِی ٱلشَّیۡطَـٰنُ ثُمَّ یُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَایَـٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق