(p-٢٦٤)سُورَةُ الإخْلاصِ
وَفِيها قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّها مَكِّيَّةٌ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، وعِكْرِمَةُ، وجابِرٌ.
والثّانِي: مَدَنِيَّةٌ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ. وقَدْ رَوى البُخارِيُّ في أفْرادِهِ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّها لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.» ورَوى مُسْلِمٌ في أفْرادِهِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ (p-٢٦٥)«أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: إنَّها تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.»
وَفِي سَبَبِ نُزُولِها ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ انْسِبْ لَنا رَبَّكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، قالَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ.
(p-٢٦٦)والثّانِي: «أنَّ عامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إلامَ تَدْعُونا يا مُحَمَّدُ؟ قالَ: إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. قالَ: صِفْهُ لِي، أمِن ذَهَبٍ هُوَ، أوْ مِن فِضَّةٍ، أوْ مِن حَدِيدٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ،» قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ.
والثّالِثُ: أنَّ الَّذِينَ قالُوا هَذا، قَوْمٌ مِن أحْبارِ اليَهُودِ قالُوا: مِن أيِّ جِنْسٍ هُوَ، ومِمَّنْ ورِثَ الدُّنْيا، ولِمَن يُوَرِّثُها؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، قالَهُ قَتادَةُ. والضَّحّاكُ، قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: " أحَدُ اللَّهُ " وقَرَأ أبُو عَمْرٍو " أحَدٌ اللَّهُ " بِضَمِّ الدّالِ، ووَصْلِها بِاسْمِ اللَّهِ. قالَ الزَّجّاجُ: هو كِنايَةٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. والمَعْنى: الَّذِي سَألْتُمْ تَبْيِينَ نِسْبَتِهِ هو اللَّهُ. و " أحَدٌ " مَرْفُوعٌ عَلى مَعْنى: هو أحَدٌ، فالمَعْنى: هو اللَّهُ، وهو أحَدٌ. وقُرِئَتْ " أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ " بِتَنْوِينِ أحَدٍ. وقُرِئَتْ " أحَدُ اللَّهُ " بِتَرْكِ التَّنْوِينِ، وقُرِئَتْ (p-٢٦٧)بِإسْكانِ الدّالِ " أحَدْ اللَّهُ " وأجْوَدُها الرَّفْعُ بِإثْباتِ التَّنْوِينِ، وكَسْرِ التَّنْوِينِ لِسُكُونِهِ وسُكُونِ اللّامِ في " اللَّهِ " ومَن حَذَفَ التَّنْوِينَ، فَلِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ أيْضًا، ومَن أسْكَنَ أرادَ الوَقْفَ ثُمَّ ابْتَدَأ " اللَّهُ الصَّمَدُ " وهو أرْدَؤُها.
فَأمّا " الأحَدُ " فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عُبَيْدَةَ: هو الواحِدُ. وفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَهُما. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الخَطّابِيُّ: [الواحِدُ]: هو المُنْفَرِدُ بِالذّاتِ، فَلا يُضاهِيهِ أحَدٌ.
والأحَدُ: هو المُنْفَرِدُ بِالمَعْنى، فَلا يُشارِكُهُ فِيهِ أحَدٌ. وأصْلُ " الأحَدِ " عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ: الوَحَدُ، ثُمَّ أبْدَلُوا مِنَ الواوِ الهَمْزَةَ.
وَفِي ﴿الصَّمَدُ﴾ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ في الحَوائِجِ، رَواهُ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . ورَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: الصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ في سُؤْدُدِهِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هو السَّيِّدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ (p-٢٦٨)أحَدٌ. والعَرَبُ تُسَمِّي أشْرافَها: الصَّمَدُ. قالَ الأسَدِيُّ:
؎ لَقَدْ بَكَّرَ النّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
وَقالَ الزَّجّاجُ: هو الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ السُّؤْدُدُ، فَقَدْ صَمَدَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ قَصَدَ قَصْدَهُ. وتَأْوِيلُ صُمُودِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ: أنَّ في كُلِّ شَيْءٍ أثَرَ صُنْعِهِ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: لا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ الصَّمَدَ: السَّيِّدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أحَدٌ يَصْمُدُ إلَيْهِ النّاسُ في أُمُورِهِمْ وحَوائِجِهِمْ.
والثّانِي: أنَّهُ لا جَوْفَ لَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَكَأنَّ الدّالَ مِن هَذا التَّفْسِيرِ مُبْدَلَةٌ مِن تاءٍ: والمُصْمَتُ مِن هَذا.
والثّالِثُ: أنَّهُ الدّائِمُ.
والرّابِعُ: الباقِي بَعْدَ فَناءِ الخَلْقِ، حَكاهُما الخَطّابِيُّ وقالَ: أصَحُّ الوُجُوهِ الأوَّلُ، لِأنَّ الِاشْتِقاقَ يَشْهَدُ لَهُ، فَإنَّ أصْلَ الصَّمَدِ: القَصْدُ. يُقالُ: اصْمُدْ صَمْدَ فُلانٍ، أيِ: اقْصِدْ قَصْدَهُ. فالصَّمَدُ: السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ في الأُمُورِ، ويُقْصَدُ في الحَوائِجِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: لَمْ يَلِدْ فَيُوَرَّثُ، ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ فَيُشارَكُ. (p-٢٦٩)وَذَلِكَ أنَّ مُشْرِكِي العَرَبِ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ الرَّحْمَنِ. وقالَتِ اليَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقالَتِ النَّصارى: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، فَبَرَّأ نَفْسَهُ مِن ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ قَرَأ الأكْثَرُونَ بِالتَّثْقِيلِ والهَمْزِ. ورَواهُ حَفْصٌ بِالتَّثْقِيلِ وقَلْبِ الهَمْزِ واوًا. وقَرَأ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الفاءِ. والكُفْءُ: المِثْلُ المُكافِئُ. وفِيهِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: ولَمْ يَكُنْ لَهُ أحَدٌ كُفُوًا، فَقَدَّمَ وأخَّرَ لِتَتَّفِقَ رُؤُوسُ الآياتِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ","ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ","لَمۡ یَلِدۡ وَلَمۡ یُولَدۡ","وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ"],"ayah":"قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ"}