(p-٣٤٤)سُورَةُ الإخْلاصِ
وتُسَمّى الأساسَ والمُقَشْقِشَةَ وقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ.
مَقْصُودُها بَيانُ الحَقِيقَةِ الذّاتِ الأقْدَسِ بِبَيانِ اخْتِصاصِهِ بِالِاتِّصافِ بِأقْصى الكَمالِ لِلدَّلالَةِ عَلى صَحِيحِ الِاعْتِقادِ لِلْإخْلاصِ في التَّوْحِيدِ بِإثْباتِ الكَمالِ، ونَفْيِ الشَّوائِبِ النَّقْصِ والِاخْتِلالِ، المُثْمِرِ لِحُسْنِ الأقْوالِ والأفْعالِ، وثَباتَ اللَّجاءِ والِاعْتِمادِ في جَمِيعِ الأحْوالِ، وعَلى ذَلِكَ دَلَّ اسْمُها الإخْلاصُ المُوجِبُ لِلْخَلاصِ، وكَذا الأساسُ والمُقَشْقِشَةُ، قالَ في القامُوسِ: المُقَشْقِشَتانِ الكافِرُونَ والإخْلاصُ أيِ المُبَرِّئَتانِ مِنَ النِّفاقِ والشِّرْكِ كَما يُقَشْقِشُ الهَناءُ الجَرَبَ، الهَناءُ: القُطْرانُ، وقالَ الإمامُ عَبْدُ الحَقِّ في كِتابِهِ الواعِي: كَما يُبْرِئُ المَرِيضَ مِن عِلَّتِهِ إذا بَرِئَ مِنها - انْتَهى. وهو مَأْخُوذٌ مِنَ القَشِّ بِمَعْنى الجَمْعِ، فَسُمِّيَتا بِذَلِكَ لِأنَّها تُتْبِعُنا النِّفاقَ بِجَمِيعِ أنْواعِهِ، وكَذا الشِّرْكُ والكُفْرُ، فَجَمَعَتاهُ ونَفَتاهُ عَنْ قارِئِهِما حَقَّ القِراءَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا الِاسْمِ مَبْسُوطًا في بَراءَةَ وكَذا اسْمُها ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ دالٌّ عَلى مَقْصُودِها بِتَأمُّلِ جَمِيعِ السُّورَةِ وما دَعَتْ إلَيْهِ مِن (p-٣٤٥)مَعانِي التَّبْرِئَةِ اليَسِيرَةِ الكَثِيرَةِ، وهَذِهِ السُّورَةُ أعْظَمُ مُفِيدٍ لِلتَّوْحِيدِ في القُرْآنِ، قالَ الرّازِّيُّ: والتَّوْحِيدُ مَقامُ يَضِيقُ عَنْهُ نِطاقُ النُّطْقِ لِأنَّكَ إذا أخْبَرْتَ عَنِ الحَقِّ فَهُنالِكَ مُخْبِرٌ عَنْهُ ومُخْبِرٌ بِهِ مَجْمُوعُهُما، وذَلِكَ ثَلاثٌ، فالعَقْلُ يَعْرِفُهُ ولَكِنَّ النُّطْقَ لا يَصِلُ إلَيْهِ، سُئِلَ الجُنَيْدُ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقالَ: مَعْنى تَضْمَحِلُّ [فِيهِ -] الرُّسُومُ وتَتَشَوَّشُ فِيهِ العُلُومُ ويَكُونُ اللَّهُ كَما لَمْ يَزَلْ وقالَ الجُنَيْدُ أيْضًا: أشْرَفُ كَلِمَةٍ في التَّوْحِيدِ ما قالَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سُبْحانَهُ مَن لَمْ يَجْعَلْ لِخَلْقِهِ سَبِيلًا إلى مَعْرِفَتِهِ إلّا بِالعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ. ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ الكَمالِ بِالجَلالِ والجَمالِ ”الرَّحْمَن“ الَّذِي أفاضَ مِن طَوْلِهِ عَلى جَمِيعِ المَوْجُوداتِ عُمُومَ الأفْضالِ ”الرَّحِيم“ الَّذِي خَصَّ أهْلَ وِدادِهِ مِن نُورِ الإنْعامِ بِالإتْمامِ والإكْمالِ.
لَمّا كانَتِ الكَوْثَرُ عِلَّةً لِلنَّهْيِ عَمّا تَضَمَّنَهُ التَّكْذِيبُ مِن مَساوِئِ الأفْعالِ، وعَلِمَ بِها أنَّهُ ﷺ مُخْتَصٌّ بِالخَيْرِ المُسْتَلْزَمِ لِأنَّ شانِئَهُ هو الأبْتَرُ، فَكانَ مَوْضِعُ السُّؤالِ عَمّا يَفْعَلُ مَعَ الشّانِئِينَ مِن مَعارِكِهِ أوْ مُتارَكَةٍ، جاءَتِ الكافِرُونَ لِلْمُتارَكَةِ لِقِلَّةِ أهْلِ الدِّينِ إذْ ذاكَ، [إشارَةٌ -] إلى أنَّ هَذِهِ الدّارَ مَبْنِيَّةٌ عَلى الأسْبابِ، فَعَلِمَ بِالكافِرُونَ أنَّ الشّانِئَ [مِمّا -] لا يَعْبَأُ بِهِ، فَتَحَرَّكَتِ النَّفْسُ إلى سُؤالٍ عَنْ وقْتِ الصَّلاحِيَّةِ (p-٣٤٦)لِلْمُعارَكَةِ بَعْدَ هَذِهِ التّارِكَةِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلى المُعارَكَةِ مِن قَهْرِ الشّانِئِ بِالفِعْلِ، فَجاءَتْ سُورَةُ النَّصْرِ لِذَلِكَ الإشارَةً إلى أنَّهُ [مِمّا -] لا يُسْألُ عَنْهُ بِمَتى، لِتَغْبِيرِ ذَلِكَ في وجْهِ الإحْسانِ في التَّسْلِيمِ، وإنَّما يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ عندوعه مِنَ الإحْسانِ في التَّعَبُّدِ، مُعَبِّرًا بِأداةِ التَّحَقُّقِ إعْلامًا بِأنَّهُ آتٍ لا مَحالَةَ، فالسُّؤالُ عَنْ وقْتِهِ لَيْسَ مِن دَأْبِ السّائِرِينَ. ولَمّا ظَهَرَتْ ذَخائِرُ هَذِهِ الكُنُوزِ بِدَقائِقِ تِلْكَ الرُّمُوزِ، وما انْضَمَّ إلَيْها مِنَ القَرائِنِ الظّاهِرَةِ، اسْتَحْضَرَتْ حالُ أبِي لَهَبٍ لَمّا كانَ فِيهِ مَعَ قَرابَتِهِ القَرِيبَةِ مِن شِدَّةِ العِنادِ، والِاجْتِهادِ العَظِيمِ في كُلِّ ما يُضادُّ أشْرَفَ العِبادِ. [واشْتَدَّ -] التَّشَوُّفُ إلى انْقِلابِ حالِهِ إذْ ذاكَ هَلْ يَكُونُ بِما خَتَمَتْ بِهِ النَّصْرُ مِنَ التَّوْبَةِ أوْ بِخِذْلانِهِ وانْقِلابِهِ بِأعْظَمِ الخَيْبَةِ والحَوْبَةِ؟ فَجاءَتْ سُورَتُهُ لِذَلِكَ بَيِّنًا لِأنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّقاءُ فَنَزَلَ بِهِ في دَرْكاتِهِ مانِعًا مِن مَعالِي دُرْجِ الِارْتِقاءِ، فَلَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ إهْلاكَهُ عَدُوَّهُ ﷺ، وخَتَمَ بِأعْدى أعْدائِهِ فَحَكَمَ بِهَلاكِهِ، وهَلاكَ زَوْجِهِ هَلاكًا لا جَبْرَ لَهُ عَلى وجْهٍ مُبِينٍ أنَّهُ في أدْنى دَرْكاتِ الحَقارَةِ، وأعْظَمَ أنْواعِ الخَسارَةِ، فَرَقَصَ الفِكْرَ طَرَبًا مِن هَذِهِ الأُمُورِ، وسَكَرَ اللُّبُّ مِن عَجائِبِ المَقْدُورِ، واهْتَزَّ (p-٣٤٧)السّامِعُ غايَةَ الِاهْتِزازِ إلى وصْفِ الفاعِلِ لِذَلِكَ الَّذِي هو خارِجٌ عَنْ طَوْقِ البَشَرِ، وخارِقٌ لِلْعَوائِدِ، وهو إظْهارُ شَخْصٍ واحِدٍ عَلى النّاسِ كافَّةً مَعَ شِدَّةِ عَداوَتِهِمْ لَهُ، جاءَتِ الإخْلاصُ كاشِفَةً لِما ثَبَتَ مِنَ العَظَمَةِ لِوَلِيِّ النَّبِيِّ ﷺ سُبْحانَهُ وتَعالى الَّذِي أمَرَهُ بِهَذا الدِّينِ وفَعَلَ لَهُ هَذِهِ [الأُمُورَ -] العَظِيمَةَ المُوجِبَةَ لِمَن لَهُ قَلْبٌ أوْ ألْقى السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ، لِئَلّا يَسْتَبْعِدَ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى شَيْئًا مِن ذَلِكَ ولا غَيْرَهُ، وإنَّ تَمْثِيلَ جَمِيعِ ما يَأمُ رَبَّهُ كِلائَنا ما كانَ وكائِنًا فِيهِ ما كانَ عَلى أيِّ وجْهٍ كانَ مُوافَقَةً لِأمْرِهِ وطاعَةً لَهُ ومُنْبِئَةً لِلِاعْتِقادِ الحَقِّ الَّذِي أوْجَبَ هَذِهِ النُّصْرَةَ، وارِدَةً عَلى جَمِيعِ فِرَقِ الضَّلالِ، هَذا - في انْعِطافِ الآخَرِ عَلى الأوَّلِ بِالنِّسْبَةِ إلى السُّورِ - مِن أعْظَمِ المُناسَباتِ في ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلى الآياتِ أنَّهُ سُبْحانَهُ شَرَحَ بِالفِيلِ وما بَعْدَها مِنَ السُّورِ آياتِ الفاتِحَةِ كُلِّها [ثُمَّ -] مِن أوَّلِ البَقَرَةِ إلى آيَةِ التَّوْحِيدِ، فَأشارَ بِالفِيلِ إلى اسْتِجْماعِهِ لِصِفاتِ الكَمالِ بِأنَّ لَهُ الحَمْدَ بِما حَرَسَ مِن بَيْتِهِ مِنَ المُلُوكِ وحَماهُ مِن كَيْدِ الجَبابِرَةِ وأحْسَنَ التَّرْبِيَةِ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ هم أشْرَفُ العالَمِينَ وبِصَلاحِهِمْ صَلاحُ بَلْدَتِهِمْ أُمِّ القُرى، وبِصَلاحِها صَلاحُها فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ يُدِينُ (p-٣٤٨)العِبادَ يَوْمَ التَّنادِ، ولِذَلِكَ أعْطى رَأْسَ الهُداةِ الدِّينَ الَّذِي أفْرَدَهُ العِبادَةَ والِاسْتِعانَةَ بِالكَوْثَرِ، وهَداهُ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وأعاذَهُ مِن طَرِيقِ الكافِرِينَ المُعانِدِينَ والضّالِّينَ، وأشارَ أوَّلَ البَقَرَةِ إلى دُخُولِ المُتَّقِينَ - الَّذِينَ الكِتابُ هُدًى لَهم - في الدِّينِ أفْواجًا وإنَّ أغْنى أهْلِ الكُفْرِ وأعْتاهم سَواءٌ عَلَيْهِمُ الإنْذارُ وعَدَمُهُ في أنَّهُ لا يُؤْمِنُ وهو أبُو لَهَبٍ ومَن سارَ بِسَيْرِهِ مِن مُجاهِرٍ ومُساتِرٍ ويَعُمُّهُمُ الخَسارُ، ويَشْمَلُهُمُ الهَلاكُ والتَّبارُ، بِحُكْمِ الواحِدِ القَهّارِ، المَأْمُورِ بِعِبادَتِهِ وتَوْحِيدِهِ في الآيَةِ الجامِعَةِ لِدَعَواتِ التَّوْحِيدِ ﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] المُتَّصِفَ بِما في سُورَةِ الصَّمَدِ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ في وصْفِهِ مِثْلُها، فَتَمَّ الدِّينُ عِنْدَ ذَلِكَ [بِما لَهُ -] سُبْحانَهُ مِن كَمالِ الأوْصافِ، وجَلالِ النُّعُوتِ بِالجَبَرُوتِ والألْطافِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا تَعْوِيذُ أهْلِ الدِّينِ مِن أنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ خَلَلٌ، أوْ يَلْحَقَهم نَزْعٌ أوْ زَلَلٌ، فَخَتَمَ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ لِذَلِكَ، واللَّهُ المَسْؤُولُ في الإنْعامِ بِعائِدِ السُّؤْلِ لِكُلِّ سالِكٍ.
* * *
ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنَ القُرْآنِ دَعْوَةَ العِبادِ إلى المَعْبُودِ، وكانَ المَدْعُوُّ إلى شَيْءٍ أحْوَجَ ما يَكُونُ إلى مَعْرِفَتِهِ، وكانَ التَّعْرِيفُ تارَةً لِلذّاتِ وتارَةً لِلصِّفاتِ وتارَةً لِلْأفْعالِ، وكانَتْ هَذِهِ [الأُمَّةُ -] (p-٣٤٩)أشْرَفَ الأُمَمِ لِأنَّ نَبِيَّها أعْلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ هي الخِتامُ، أشْبَعَ الكَلامِ في تَعْرِيفِهِ سُبْحانَهُ في القُرْآنِ، وأنْهى البَيانَ في ذَلِكَ إلى حَدٍّ لا مَزِيدَ عَلَيْهِ ولَمْ يُقارِبْهُ في ذَلِكَ كِتابٌ مِنَ الكُتُبِ السّالِفَةِ، ولَكِنَّهُ لَمّا كانَ الكَبِيرُ إذا تَناهى كِبْرُهُ عَزَّتْ مَعْرِفَةُ ذاتِهِ، وكانَ اللَّهُ تَعالى هو الأكْبَرَ مُطْلَقًا، وكانَتْ مَعْرِفَةُ ذاتِهِ - كَما أشارَ إلَيْهِ الغَزالِيُّ في الجَواهِرِ، والفَخْرُ الرّازِيُّ في كُتُبِهِ - أضْيَقَ ما يَكُونُ مَجالًا وأعْسَرَهُ مَقالًا، وأعْصاهُ عَلى الفِكْرِ مَنالًا، وأبْعَدَهُ عَنْ قَبُولِ الذِّكْرِ اسْتِرْسالًا، لِأنَّ القُرْآنَ لا يَشْتَمِلُ مِن ذَلِكَ إلّا عَلى تَلْوِيحاتٍ وإشاراتٍ أكْثَرُها رَجَعَ إلى ذِكْرِ التَّقْدِيسِ المُطْلَقِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وإلى التَّعْظِيمِ المُطْلَقِ كَقَوْلِهِ ﴿سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: ١٠٠] فَكانَ القِياسُ أنْ يَقْتَصِرَ عَلى ذَلِكَ مَعَ التَّعْرِيفِ بِالصِّفاتِ والأفْعالِ، لَكِنْ لَمّا كانَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ في الذُّرْوَةِ مِن حُسْنِ الأفْهامِ مَعَ ما نالَتْهُ مِنَ الشَّرَفِ، حَباها سُبْحانَهُ وتَعالى بِسُورَةِ الإخْلاصِ كامِلَةً بِبَيانٍ لا يُمْكِنُ أنْ تَحْتَمِلَ عُقُولُ البَشَرِ زِيادَةً عَلَيْهِ، وذَلِكَ بِبَيانِ أنَّهُ ثابِتٌ ثَباتًا لا يُشْبِهُهُ ثَباتٌ عَلى وجْهٍ لا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أصْلًا، وأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّبِيهِ والنَّظِيرِ والمُكافِئِ والمَثِيلِ، فَلا زَوْجَةَ لَهُ ولا ولَدَ، ولا حاجَةَ بِوَجْهٍ (p-٣٥٠)إلى أحَدٍ، بَلْ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ، فَهو يُهْلِكُ مَن أرادَ ويُسْعِدُ مَن شاءَ، فَقالَ آمِرًا لِنَبِيِّهِ ﷺ لِيَكُونَ أوَّلَ كَلِمَةٍ فِيها دالَّةٍ عَلى رِسالَتِهِ رَدًّا عَلى مَن كَذَّبَهُ في خاصَّةِ نَفْسِهِ وعَلى البَراهِمَةِ القائِلِينَ: إنَّ في العَقْلِ غِنًى عَنِ الرُّسُلِ. ويَكُونُ البَيانُ جارِيًا عَلى لِسانِهِ ﷺ لِيَكُونَ إلى فَهْمِ الخَلْقِ عَنْهُ لِتِلْكَ الصِّفاتِ العُلى أقْرَبُ لِما لَهم بِهِ مِنَ المُجانَسَةِ: ﴿قُلْ﴾ أيْ يا أكْرَمَ الخَلائِقِ ومَن لا يَفْهَمُ عَنْ مُرْسِلِهِ حَقَّ الفَهْمِ سِواهُ، وإطْلاقَ الأمْرِ بِعَدَمِ التَّقْيِيدِ بِمَقُولٍ لَهُ يَفْهَمُ عُمُومَ الرِّسالَةِ، وأنَّ المُرادَ كُلُّ مَن يُمْكِنُ القَوْلُ لَهُ سَواءٌ كانَ سائِلًا عَنْ ذَلِكَ بِالفِعْلِ أوْ بِالقُوَّةِ حَثًّا عَلى [اسْتِحْضارِ -] ما لِرَبِّ هَذا الدِّينِ - الَّذِي حاطَهُ هَذِهِ الحِياطَةَ ورَبّاهُ هَذِهِ التَّرْبِيَةَ - مِنَ العَظَمَةِ والجَلالِ، والكِبْرِياءِ والكَمالِ، فَفي الإطْلاقِ المُشِيرِ إلى التَّعْمِيمِ رَدٌّ عَلى مَن أقَرَّ بِإرْسالِهِ ﷺ إلى العَرَبِ خاصَّةً، ويَدُلُّ عَلى أنَّ مَقُولَ القَوْلِ لا ضَرَرَ فِيهِ عَلى أحَدٍ فَإنَّ ظَواهِرَهُ مَفْهُومَةٌ لِكُلِّ أحَدٍ لا فِتْنَةَ فِيها بِوَجْهٍ، وإنَّما تَأْتِي الفِتْنَةُ (p-٣٥١)عِنْدَ تَعَمُّقِ الضّالِّ إلى ما [لا -] يَحْتَمِلُهُ عَقْلُهُ.
ولَمّا كانَ أهَمَّ المَقاصِدِ الرَّدُّ عَلى المُعَطِّلَةِ الَّذِينَ هم ضَرْبٌ مِمَّنْ يَقُولُ ﴿نَمُوتُ ونَحْيا وما يُهْلِكُنا إلا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤] أثْبَتَ وُجُودَهُ سُبْحانَهُ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ وأعْلاها وأوْفاها وأجْلاها بِما مَعْناهُ أنَّ حَقِيقَتَهُ ثابِتَةٌ ثَباتًا لا يَتَوَجَّهُ نَحْوَهُ شَكٌّ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَقالَ مُكاشِفًا لِلْأسْرارِ - فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ غَيْبَتُهُ [عَنْها -] أصْلًا - [و -] لِلْوالِهِينَ: ﴿هُوَ﴾ فابْتَدَأ بِهَذا الِاسْمِ الشَّرِيفِ الَّذِي هو أبْطَنُ الأسْماءِ إشارَةً إلى أنَّهُ غَيَّبَ الغَيْبَ بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ [كالألِفِ، وإلى أنَّهُ واجِبُ الوُجُودِ لِذاتِهِ -]، وأنَّ هُوِيَّتَهُ لَيْسَتْ مُسْتَفادَةً مِن شَيْءٍ سِواها ولا مَوْقُوفَةً عَلى شَيْءٍ سِواها، فَإنَّ كُلَّ ما كانَتْ هَوِيَّتُهُ مُسْتَفادَةً مِن غَيْرِهِ أوْ مَوْقُوفَةً عَلَيْهِ فَمَتى لَمْ يُعْتَبَرْ غَيْرُهُ فَلَمْ يَكُنْ هو هُوَ، وما كانَتْ هُوِيَّتُهُ لِذاتِهِ فَهو هو سَواءٌ اعْتُبِرَ غَيْرٌ أوْ لَمْ يُعْتَبَرْ، فَإذًا لا يَسْتَحِقُّ هَذا الِاسْمَ غَيْرَهُ أصْلًا عَلى أنَّ الهاءَ بِمُفْرَدِها مُشِيرَةٌ - بِكَوْنِها مِن أبْطَنِ - الحَلْقِ إلى أنَّهُ هو الأوَّلُ والباطِنُ المُبْدِعُ لِما سِواهُ، والواوُ - بِكَوْنِها مِن [أظَهَرَ -] حُرُوفِ الشَّفَةِ - إلى أنَّهُ الآخِرُ والظّاهِرُ، وأنَّ إلَيْهِ المُنْتَهى، ولَيْسَ وراءَهُ مَرْمى، وأنَّهُ المُبْدِئُ المُعِيدُ - كَما يُشِيرُ إلى ذَلِكَ تَكْرِيرُ الواوِ في اسْمِها، وإلى أنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ لِما (p-٣٥٢)فِيها مِنَ الإحاطَةِ.
ولَمّا كانَ وُجُودُهُ سُبْحانَهُ لِذاتِهِ، ولَمْ يَكُنْ مُسْتَفادًا مَن غَيْرِهِ، فَإنَّ ما اسْتُفِيدَ وُجُودُهُ مِن غَيْرِهِ كانَ مُمْكِنًا، [كانَ -] لا يُمْكِنُ شَرْحُ اسْمِهِ الَّذِي هو هُوَ، لا اسْمَ لِحَقِيقَةِ غَيْرِهِ يَقُومُ مِن جِنْسٍ ولا نَوْعٍ ولا فَصْلٍ لِأنَّهُ لا جِنْسَ لَهُ ولا نَوْعَ [لَهُ -] ولا سَبَبَ يُعْرَفُ بِهِ، والَّذِي لا سَبَبَ لَهُ لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلّا بِلَوازِمِهِ، واللَّوازِمُ مِنها سَلْبِيَّةٌ ومِنها إضافِيَّةٌ، ومِنها قَرِيبَةٌ ومِنها بَعِيدَةٌ، [والتَّعْرِيفُ بِالإضافِيَّةِ وبِالقَرِيبَةِ أتَمُّ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالسَّلْبِيَّةِ وبِالبَعِيدَةِ -]، لِأنَّ البَعِيدَ كالضّاحِكِ الَّذِي هو بَعْدَ المُتَعَجِّبِ بِالنِّسْبَةِ إلى الإنْسانِ لا يَكُونُ مَعْلُولًا لِشَيْءٍ [بَلْ -] مَعْلُولًا لِمَعْلُولِهِ، وبِالجَمْعِ بَيْنَ السَّلْبِيَّةِ والإضافِيَّةِ أتَمُّ مِنَ الِاقْتِصارِ عَلى أحَدِهِما، فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ اسْمٌ جامِعٌ لِلنَّوْعَيْنِ لِيَكُونَ التَّعْرِيفُ أتَمَّ، وذَلِكَ هو كَوْنُ تِلْكَ الهُوِيَّةِ إلَهًا، فاخْتِيرَ لِذَلِكَ اسْمٌ دالٌّ عَلَيْها وهو مُخْتَصٌّ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ، وهو أوَّلُ مَظاهِرِ الضَّمِيرِ كَما أنَّ الهَمْزَةَ أوَّلُ مَظاهِرِ الألِفِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْمُ الأعْظَمُ آخِرُ الظَّواهِرِ مِنَ الأسْماءِ، ولِهَذا كانَتْ كُلُّها صِفاتٍ لَهُ وهو أوَّلُ البَواطِنِ، فَقالَ مُكاشِفًا لِلْأرْواحِ (p-٣٥٣)ولِلْمُوَحِّدِينَ: ﴿اللَّهُ﴾ أيِ المَوْجُودِ الَّذِي لا مَوْجُودَ في الحَقِيقَةِ سِواهُ! هو المُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ، واخْتِيرَ هَذا الِاسْمُ لِلْإخْبارِ عَنْهُ لِدَلالَتِهِ عَلى جَمِيعِ صِفاتِ الكَمالِ: الجَلالُ والجَمالُ ولِأنَّهُ اسْمٌ جامِعٌ لِجَمِيعِ [مَعانِي -] الأسْماءِ الحُسْنى، وهو أقْرَبُ اللَّوازِمِ إلى الهُوِيَّةِ لِأنَّهُ [لا -] لازِمَ لَها أقْرَبُ مِن وُجُوبِ الوُجُودِ الَّذِي هو مُقْتَضى الذّاتِ عَلى ما هي عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ، لا بِواسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ، وبِواسِطَةِ وُجُوبِ وجُودِهِ كانَ مُفِيضًا بِاخْتِيارِهِ الإيجادَ [عَلى كُلِّ شَيْءٍ أرادَهُ، ومَجْمُوعِ الوُجُوبِ الَّذِي هو سَلْبٌ وحْدَهُ الإيجادُ - الَّذِي هو اخْتِيارٌ لِلْجُودِ [بِإضافَةِ الوُجُودِ -] وإضافَةٍ لِلْإلَهِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْها الجَلالَةُ، وهي أقْرَبُ اللَّوازِمِ إلى الذّاتِ الأقْدَسِ، ودَلَّ التَّعْبِيرُ بِهِ عَلى أنَّهُ [لا -] مُقَوِّمَ لِلَهَوِيَّةِ مِن جِنْسٍ ولا غَيْرِهِ ولا سَبَبٍ، وإلّا لَكانَ العُدُولُ عَنْهُ إلى التَّعْرِيفِ بِاللّازِمِ قاصِرًا، وعَلى أنَّ إلَهِيَّتَهُ عَلى الإطْلاقِ لِجَمِيعِ المَوْجُوداتِ، فَكانَ شَرْحُ تِلْكَ الهُوِيَّةِ بِاللّازِمِ أبْلَغُ البَلاغَةِ وأحْكَمُ الحِكْمَةِ، لِأنَّهُ - مَعَ كَوْنِهِ هو الحَقُّ - مُشِيرًا إلى ما ذَكَرَ مِنَ الدَّقائِقِ.
ولَمّا ذُكِرَتِ الذّاتُ [الَّتِي -] لا سَبَبَ لَها ولا مُقَوِّمَ مِن جِنْسٍ (p-٣٥٤)ونوعٍ وغَيْرِهِ أصْلًا بَلْ هي مُجَرَّدُ وحْدَةٍ وتَنَزُّهٍ عَنْ تَرَكُّبٍ لا كَثْرَةَ لَها ولا اثْنَيْنية بِوَجْهٍ، وعَرَّفَها باسِمِ جامِعِ الأنْواعِ السَّلُوبِ والإضافاتِ اللّازِمَةِ لَهُ هو أقْرَبُ اللَّوازِمِ إلَيْها، فانْشَرَحَ وُجُودُها المَخْصُوصُ عَلى ما هو عَلَيْهِ، فَكانَ [ذَلِكَ -] تَعْرِيفًا كامِلًا لِأنَّ تَعْرِيفَ ما لا تَرْكَّبَ فِيهِ بِاللَّوازِمِ القَرِيبَةِ في الكَمالِ كَتَعْرِيفِ المُرَكَّباتِ بِمُقَوِّماتِها، فَإنَّ التَّعْرِيفَ البالِغَ هو أنْ يَحْصُلَ في النَّفْسِ صُورَةُ مُطابِقَةٍ لِلْمَعْقُولِ، وكانَتِ الزِّيادَةُ في الشَّرْحِ مَطْلُوبَةٌ لِأنَّها أكْمَلُ لا سِيَّما في الأُمُورِ الباطِنَةِ الخَفِيَّةِ، أتْبَعُ ذَلِكَ باسِمٍ سَلْبِيٍّ إشارَةً إلى [أنَّ -] النَّظَرَ في هَذِهِ الدّارِ إلى جانِبٍ الجَلالِ يَنْبَغِي كَوْنُهُ أعْظَمَ، وذَلِكَ الِاسْمُ قُرْبُهُ مِنَ الجَلالَةِ كَقُرْبَتِها مِنَ الهُوِيَّةِ، فَإنَّهُ دالٌّ عَلى الوَحْدَةِ الكامِلَةِ المُجَرَّدَةِ وهو مُتَنَزِّلُ الجَلالَةِ كَما أنَّها مُتَنَزِّلُ الهُوِيَّةِ، وهو كَما أنَّ الجَلالَةَ لَمْ يَقَعْ فِيها شَرِكَةٌ أصْلًا قَدْ ضاهاها في أنَّهُ لا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِ تَعالى فِيهِ عِنْدَ اسْتِعْمالِهِ مُفْرَدًا بِمَعْناهُ الحَقِيقِيِّ إلّا [أنَّ -] في النَّفْيِ إشارَةٌ إلى أنَّ كُلَّ ما عَداهُ سُبْحانَهُ عَدَمٌ، فَقالَ مُكاشِفًا لِلْقُلُوبِ ولِلْعارِفِينَ مُكَذِّبًا لِلنَّصارى القائِلِينَ بِالأبِ والِابْنِ ورُوحِ القُدُسِ، ولِلْيَهُودِ القائِلِينَ بِأنَّهُ جِسْمٌ، ولِلْمَجُوسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ (p-٣٥٥)بِأنَّهُ اثْنانِ: نُورٌ يَخْلَقُ الخَيْرَ، وظَلامٌ يَخْلَقُ الشَّرَّ، ولِلصّابِئَةِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ، ولِلْمُشْرِكِينَ القائِلِينَ بِإلَهِيَّةِ الأصْنامِ، مُخْبِرًا خَبَرًا آخَرَ، أوْ مُبْدِلًا مِنَ الجَلالَةِ، أوْ مُخْبِرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: ﴿أحَدٌ﴾ وهو لِأجْلِ كَوْنِهِ خاصَّةً في الإثْباتِ حالَ الِانْفِرادِ بِهِ تَعالى مَعْرِفَةَ غَنِيٍّ عَنْ [”آل“ -] المُعَرِّفَةِ، وهو أعْرَقُ في الدَّلالَةِ عَلى صِفاتِ [الجَلالِ كَما أنَّ الجَلالَةَ أعْرَقُ في الدَّلالَةِ عَلى صِفاتِ -] الكَمالِ لِأنَّ الواحِدَ الحَقِيقِيَّ ما يَكُونُ مُنَزَّهُ الذّاتِ عَنْ أنْحاءِ التَّرْكِيبِ والتَّعَدُّدِ [و -] ما يَسْتَلْزِمُ أحَدَهُما كالجِسْمِيَّةِ والتَّحَيُّزِ والمُشارَكَةِ في الحَقِيقَةِ وخَواصِّها كَوُجُوبِ الوُجُودِ والقُدْرَةِ الكامِلَةِ والحِكْمَةِ التّامَّةِ المُقْتَضِيَةِ لِلْأُلُوهِيَّةِ مِن غَيْرِ لُزُومِ دَوْرٍ و[لا -] تَسَلْسُلٍ مِن جِهَةٍ تَرَكُّبٍ أوْ غَيْرِهِ، وقُرِئَ بِإسْقاطِ ”قُلْ“ هُنا وفي المُعَوِّذَتَيْنِ مَعَ الِاتِّفاقِ عَلى إثْباتِها في الكافِرُونَ ونَفْيِها في تَبَّتْ، ولَعَلَّ الحِكْمَةَ أنَّ الكافِرُونَ مُخاطَبَةٌ لِلْكَفّارِ بِما بَيْنَ مُشاقَقَةٍ ومُتارَكَةٍ، فَناسَبَ الحالَ أنْ يَكُونَ [ذَلِكَ -] مِنهُ ﷺ، وتَبَّتْ مُعاتَبَةُ عَمِّ الرَّسُولِ ﷺ وتَوْبِيخُهُ فَلا يُناسِبُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، والباقِياتِ ما بَيْنَ تَوْحِيدٍ وتَعَوُّذٍ، (p-٣٥٦)فَناسَبَ أنْ يُؤْمَرَ بِتَبْلِيغِهِ وأنْ يَدْعُوَ بِهِ، ورَتَّبَ الأُحْدِيَّةَ عَلى الإلَهِيَّةِ دُونَ العَكْسِ، لِأنَّ الإلَهِيَّةَ عِبارَةٌ عَنِ اسْتِغْنائِهِ عَنِ الكُلِّ، واحْتِياجُ الكُلِّ إلَيْهِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ واحِدًا مُطْلَقًا، وإلّا لَكانَ مُحْتاجًا إلى أجْزائِهِ، [فالإلَهِيَّةُ مِن حَيْثُ هي تَقْتَضِي الوَحْدَةَ، والوَحْدَةُ لا تَقْتَضِي الإلَهِيَّةَ، وعَبَّرَ بِهِ دُونَ ”واحِدٍ“ لِأنَّ المُرادَ الإبْلاغُ في الوَصْفِ بِالوَحْدَةِ إلى حَدٍّ لا يَكُونُ شَيْءٌ أشَدَّ مِنهُ، والواحِدُ - قالَ ابْنُ سِينا - مَقُولٌ عَلى ما تَحْتَهُ بِالتَّشْكِيكِ، والَّذِي لا يَنْقَسِمُ بِوَجْهٍ أصْلًا أوْلى بِالواحِدِيَّةِ مِمّا يَنْقَسِمُ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، والَّذِي يَنْقَسِمُ انْقِسامًا عَقْلِيًّا أوْلى مِمّا يَنْقَسِمُ بِالحِسِّ، والَّذِي يَنْقَسِمُ بِالحِسِّ وهو بِالقُوَّةِ أوْلى مِنَ المُنْقَسِمِ بِالحِسِّ بِالفِعْلِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ الوَحْدَةَ قابِلَةٌ لِلْأشَدِّ والأضْعَفِ.
وأنَّ الواحِدَ مَقُولٌ عَلى ما تَحْتَهُ بِالتَّشْكِيكِ كانَ الأكْمَلَ في الوَحْدَةِ الَّذِي لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ آخَرُ أقْوى مِنهُ فِيها، وإلّا لَمْ يَكُنْ بِالِغًا أقْصى المَرامِ، والأحَدُ جامِعٌ لِذَلِكَ دالٌّ عَلى الواحِدِيَّةِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، وأنَّهُ لا كَثْرَةَ هُناكَ أصْلًا، لا مَعْنَوِيَّةَ مِنَ المُقَوِّماتِ مِنَ الأجْناسِ والفُصُولِ ولا بِالأجْزاءِ العَقْلِيَّةِ كالمادَّةِ والصُّورَةِ، ولا حِسِّيَّةَ بِقُوَّةٍ ولا فِعْلٍ كَما في الأجْسامِ، وذَلِكَ لِكَوْنِهِ سُبْحانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الجِنْسِ والفَصْلِ والمادَّةِ والصُّورَةِ والأعْراضِ والأبْعاضِ والأعْضاءِ والأشْكالِ والألْوانِ وسائِرِ وُجُوهِ التَّثْنِيَةِ الَّتِي تَثْلِمُ الوَحْدَةَ الكامِلَةَ الحَقَّةَ (p-٣٥٧)اللّائِقَةَ بِكَرَمْ وجْهِهِ وعِزِّ جَلالِهِ أنْ يُشْبِهَهُ شَيْءٌ أوْ يُساوِيهِ لِأنَّ كُلَّ ما كانَتْ هُوِيَّتُهُ إنَّما تَحْصُلُ مِنَ اجْتِماعِ أجْزاءٍ كانَتْ هُوِيَّتُهُ مَوْقُوفَةً عَلى حُصُولٍ تِلْكَ الأجْزاءِ، فَلا يَكُونُ هو هو لِذاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، فَلِذا كانَ مُنَزَّهًا عَنِ الكَثْرَةِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ، ومُتَّصِفًا بِالوَحْدَةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، فَقَدْ بَلَغَ هَذا النَّظْمَ مِنَ البَيانِ أعْظَمَ شَأْنٍ، فَسُبْحانَ مَن أنْزَلَ هَذا الكَلامَ ما أعْظَمَ شَأْنَهُ وأقْهَرَ سُلْطانَهُ، فَهو مُنْتَهى الحاجاتِ، ومِن عِنْدِهِ نَيْلُ الطَّلَباتِ، ولا يَبْلُغُ أدْنى ما اسْتَأْثَرَهُ مِنَ الجَلالِ والعِظَمِ والبَهْجِ أقْصى نُعُوتِ النّاعِتِينَ وأعْظَمِ وصْفِ الواصِفِينَ، بَلِ القَدْرُ المُمْكِنُ مِنهُ المُمْتَنِعُ أزْيَدُ مِنهُ هو الَّذِي ذَكَرَهُ في كِتابِهِ العَزِيزِ، وأوْدَعَهُ وحْيَهُ المُقَدَّسَ الحَكِيمَ، وبِالكَلامِ عَلى مَعْناهُ ومَعْنى الواحِدِ تَحَقَّقَ ما تَقَدَّمَ، قالَ الإمامُ أبُو العَبا الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ: فَمِن أهْلِ اللِّسانِ مَن ساوى بَيْنَهُما جَعَلَهُما مُتَرادِفَيْنِ، فَمِنهم مَن قالَ: أصْلُ أحَدٍ واحِدٌ سَقَطَتْ مِنهُ الألِفُ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ مِنَ الواوِ المَفْتُوحَةِ، [ومِنهم مَن قالَ: لَيْسَ أصْلُهُ واحِدًا وإنْ كانا بِمَعْنًى واحِدٍ، بَلْ أصْلُهُ وحَدَ - مِنَ الوَحْدَةِ - يَحِدُ فَهو وحْدٌ -] مِثْلُ حَسَنَ يُحْسِنُ فَهو حَسَنٌ - مِنَ الحُسْنِ، أُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً، وأمّا مَن فَرَّقَ بَيْنَهُما فَمِنهم مَن قالَ: أحَدٌ اسْمٌ عَلى حِيالِهِ لا إبْدالَ فِيهِ ولا تَغْيِيرَ، ومِنهم مَن قالَ: أصْلُهُ وحَدَ، أُبْدِلَتِ الواوُ هَمْزَةً - انْتَهى، وقَدِ اسْتَخْلَصْتُ (p-٣٥٨)الكَلامَ عَلى الِاسْمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِن عِدَّةِ شُرُوحٍ لِلْأسْماءِ الحُسْنى وغَيْرِها مِنها شَرْحُ الفَخْرِ الرّازِيِّ والفَخْرِ الحَرّالِيِّ وغَيْرِهِما، قالُوا: الواحِدُ الَّذِي لا كَثْرَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ لا بِقِسْمَةٍ ولا بِغَيْرِها مَعَ اتِّصافِهِ بِالعَظَمَةِ لِيَخْرُجَ الجَوْهَرُ الفَرْدُ وهو [أيْضًا -] الَّذِي لا يَتَثَنّى، أيْ لا ضِدَّ لَهُ ولا شَبِيهَ، فَهو سُبْحانُهُ واحِدٌ بِالمَعْنَيَيْنِ عَلى الإطْلاقِ لا بِالنَّظَرِ عَلى حالٍ ولا شَيْءٍ، قالَ الإمامُ أبُو العَبّاسِ الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ: هَذِهِ حَقِيقَةُ الوَحْدَةِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ، فَلا يَصِحُّ أنْ يُوصَفَ شَيْءٌ مُرَكَّبٌ بِها إلّا مَجازًا، كَما تَقُولُ: رَجُلٌ واحِدٌ، ودِرْهَمٌ واحِدٌ، وإنَّما يُوصَفُ بِها حَقِيقَةُ ما لا جُزْءَ لَهُ كالجَوْهَرِ الفَرْدِ عِنْدَ الأشْعَرِيَّةِ غَيْرَ أنَّكَ إذا نَظَرْتَ فَوَجَدْتَ وُجُودَهُ مِن غَيْرِهِ عَلِمْتَ أنَّ اسْتِحْقاقَهُ لِهَذا الوَصْفِ لَيْسَ كاسْتِحْقاقِ مُوجِدِهِ لَهُ، وهو أيْضًا إنَّما يُوصَفُ بِهِ لِحَقارَتِهِ، ومُوجِدُهُ سُبْحانَهُ مَوْصُوفٌ بِهِ مَعَ الِاتِّصافِ بِالعَظَمَةِ، فاتِّصافُهُ بِالوَحْدَةِ عَلى الإطْلاقِ، واتِّصافُ الجَوْهَرِ بِالنَّظَرِ إلى عَدَمِ التَّرَكُّبِ مِنَ الجِسْمِ مَعَ أنَّ صِحَّةَ اتِّصافِهِ بِأنَّهُ جُزْءٌ يُزِيلُ عَنْهُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، والوَحْدَةُ أيْضًا بِالنَّظَرِ إلى المَعْنى الثّانِي وهو ما لا نَظِيرَ لَهُ لا تَصِحُّ بِالحَقِيقَةِ إلّا لَهُ سُبْحانَهُ، وكُلُّ ما نَوْعِيَّتُهُ في شَخْصِيَّتِهِ كالعَرْشِ والكُرْسِيِّ والشَّمْسِ والقَمَرِ يَصِحُّ أنْ يُقَدِّرَ لَها نَظائِرَ، ولَهُ مَعْنًى ثالِثٌ وهو التَّوَحُّدُ بِالفِعْلِ والإيجادِ، فَيَفْعَلُ كُلَّ ما يُرِيدُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى شَيْءٍ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا الوَجْهِ والَّذِي قَبْلَهُ أنَّ الأوَّلَ ناظِرٌ إلى نَفْيِ إلَهٍ ثانٍ، وهَذا نافٍ لِمُعَيَّنٍ ووَزِيرٍ، وكِلاهُما وصْفٌ ذاتِيٌّ سَلْبِيٌّ، والحاصِلُ أنَّ (p-٣٥٩)النَّظَرَ الصَّحِيحَ دَلَّ عَلى أنَّ لَنا مُوجِدًا واحِدًا بِمَعْنى أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يَلْحَقَهُ نَقْصُ القِسْمَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ وبِمَعْنى أنَّهُ مَعْدُومُ النَّظِيرِ بِكُلِّ اعْتِبارٍ، وبِمَعْنى أنَّهُ مُسْتَبِدٌّ بِالفِعْلِ مُسْتَقِلٌّ بِالإيجادِ ومُتَوَحِّدٌ بِالنَّصْعِ مُتَفَرِّدٌ بِالتَّدْبِيرِ، قَضى بِهَذا شاهِدُ العَقْلِ المَعْصُومِ مِن ظُلْمَةِ الهَوى وكَثافَةِ الطَّبْعِ، ووَرَدَ بِهِ قَواطِعَ النَّقْلِ ونَواطِقَ السَّمْعِ، ولِهَذا كانَ مِن أعْظَمِ الحَقِّ دُعاؤُهُ سُبْحانَهُ لِجَمِيعِ الخَلْقِ، وكانَتْ دَعْوَةُ رَسُولِهِ الخاتَمِ ﷺ لِلْخَلْقِ كافَّةً، وقالَ الإمامُ -] حُجَّةُ الإسْلامِ أبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ في آخِرِ شَرْحِهِ لِلْأسْماءِ في بَيانِ رَدِّ الأسْماءِ الكَثِيرَةِ إلى ذاتٍ واحِدَةٍ وسَبْعِ صِفاتٍ: الأحَدُ المَسْلُوبُ عَنْهُ النَّظِيرُ، وقالَ في الشَّرْحِ المَذْكُورِ: الواحِدُ هو الَّذِي لا يَتَجَزّى ولا يَتَثَنّى، أمّا الَّذِي لا يَتَجَزّى فَكالجَوْهِرِ الواحِدُ الَّذِي لا يَنْقَسِمُ فَقالَ: إنَّهُ واحِدٌ - بِمَعْنى أنَّهُ لا جُزْءَ لَهُ، ولِذَلِكَ النُّقْطَةُ لا جُزْءَ لَها، واللَّهُ تَعالى واحِدٌ - بِمَعْنى أنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَقْدِيرَ الِانْقِسامِ في ذاتِهِ، وأمّا الَّذِي لا يَتَثَنّى فَهو الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ كالشَّمْسِ مَثَلًا فَإنَّها وإنْ كانَتْ قابِلَةً لِلِانْقِسامِ بِالوَهْمِ مُتَحَيِّزَةً في ذاتِها لِأنَّها مِن قَبِيلِ الأجْسامِ فَهي لا نَظِيرَ لَها إلّا أنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ لَها نَظِيرٌ، ولَيْسَ في الوُجُودِ مَوْجُودٌ يَتَفَرَّدُ بِخُصُوصِ وُجُودِهِ تَفَرُّدًا لا يَتَصَوَّرُ أنْ يُشارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ أصْلًا إلّا الواحِدُ المُطْلَقُ أزَلًا وأبَدًا، والعَبْدُ إنَّما يَكُونُ واحِدًا إذا لَمْ يَكُنْ لَهُ في أبْناءِ جِنْسِهِ نَظِيرٌ في خَصْلَةٍ مِن خِصالِ الخَيْرِ، وذَلِكَ بِالإضافَةِ إلى أبْناءِ جِنْسِهِ (p-٣٦٠)وبِالإضافَةِ إلى الوَقْتِ إذْ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في وقْتٍ آخَرَ مِثْلِهِ، وبِالإضافَةِ إلى بَعْضِ الخِصالِ دُونَ الجَمِيعِ، فَلا وحْدَةَ عَلى الإطْلاقِ إلّا لِلَّهِ تَعالى، وقالَ الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الكَرِيمِ الشِّهْرِسْتانِيُّ في مُقَدِّمَةِ كِتابِهِ المِلَلِ والنِّحَلِ: واخْتَلَفُوا في الواحِدِ أهُوَ مِنَ العَدَدِ أمْ هو مَبْدَأُ العَدَدِ ولَيْسَ داخِلًا في العَدَدِ، وهَذا الِاخْتِلافُ إنَّما يَنْشَأُ مِنَ اشْتِراكِ لَفْظِ الواحِدِ، فالواحِدُ يُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ ما يَتَرَكَّبُ مِنهُ العَدَدُ، فَإنَّ الِاثْنَيْنِ لا مَعْنى لَهُ إلّا واحِدٌ، تَكَرَّرَ أوَّلَ تَكْرِيرٍ، وكَذا الثَّلاثَةُ والأرْبَعَةُ، ويُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ ما يَحْصُلُ مِنهُ العَدَدُ، أيْ هو عِلَّتُهُ ولا يَدْخُلُ في العَدُّ أيْ لا يَتَرَكَّبُ مِنهُ العَدَدُ، وقَدْ تُلازِمُ الواحِدِيَّةَ جَمِيعُ الأعْدادِ لا عَلى أنَّ العَدَدَ تَرَكَّبَ مِنها بَلْ وكُلُّ مَوْجُودٍ فَهو جِنْسُهُ أوْ نَوْعُهُ أوْ شَخْصُهُ واحِدٌ يُقالُ: إنْسانٌ واحِدٌ، وشَخْصٌ واحِدٌ، وفي العَدَدِ -] كَذَلِكَ فَإنَّ الثَّلاثَةَ في أنَّها ثَلاثَةٌ واحِدَةٌ، فالواحِدَةُ بِالمَعْنى الأوَّلِ داخِلَةٌ في العَدَدِ، وبِالمَعْنى الثّانِي عِلَّةُ العَدَدِ، وبِالمَعْنى الثّالِثِ مُلازَمَةٌ لِلْعَدَدِ، ولَيْسَ مِنَ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ قِسْمٌ يُطْلَقُ عَلى البارِئِ تَعالى مَعْناهُ: فَهو واحِدٌ لا كالأحادِ أيْ هَذِهِ الوَحْداتِ والكَثْرَةِ مِنهُ وُجِدَتْ ويَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الِانْقِسامُ بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ القِسْمَةِ - انْتَهى، وهو واحِدٌ أيْضًا بِنَفْسِهِ لا بِالنِّسْبَةِ إلى ثانٍ بِوَجْهٍ (p-٣٦١)مِنَ الوُجُوهِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: الواحِدُ يَدُلُّ عَلى الأزَلِيَّةِ والأوَّلِيَّةِ، لِأنَّ الواحِدَ في الأعْدادِ رُكْنُها وإظْهارُ مَبْدَئِها، والأحَدُ يَدُلُّ عَلى بَيْنُونَتِهِ مِن خَلْقِهِ في جَمِيعِ صِفاتِهِ ونَفْيِ أبْوابِ الشِّرْكِ عَنْهُ، فالأحَدُ بُنِيَ لِنَفْيِ ما ذُكِرَ مَعَهُ مِنَ العَدَدِ، والواحِدُ اسْمٌ لِمُفْتَتَحِ العَدَدِ، وقالَ الإمامُ أبُو حاتِمٍ مُحَمَّدُ [بْنُ مَهْرانَ -] الرّازِيُّ في كِتابِهِ الزِّينَةِ، قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: إنَّما قِيلَ لَهُ سُبْحانَهُ ”واحِدٌ“ لِأنَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَزَلْ قَبْلَ الخَلائِقِ مُتَوَحِّدًا بِالأزَلِ لا ثانِيَ مَعَهُ ولا خَلْقَ، ثُمَّ أبْدَعَ الخَلْقَ، فَكانَ الخَلْقُ كُلُّهُ مَعَ احْتِياجِهِ إلَيْهِ سُبْحانَهُ مُحْتاجًا بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ مُمْسِكًا بَعْضُهُ بَعْضًا مُتَعادِّيًا ومُتَضادًّا وُمُتَشاكِلًا وُمُزْدَوَجًا ومُتَّصِلًا ومُنْفَصِلًا، واسْتَغْنى عَزَّ وجَلَّ عَنِ الخَلائِقِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلى شَيْءٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَقْرُونًا بِهِ لِحاجَتِهِ إلَيْهِ ولا ناواهُ شَيْءٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ ضِدًّا لَهُ نَصْرًا بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الضِّدُّ والقَرِينُ لَهُ ثانِيًا، بَلْ تُوِحِّدَ بِالغِنى عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ لِأنَّهُ كانَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، والأوَّلِيَّةُ دَلَّتْ عَلى الوَحْدانِيَّةِ، فالواحِدُ اسْمٌ يَدُلُّ عَلى نِظامٍ واحِدٍ يُعْلَمُ بِاسْمِهِ أنَّهُ واحِدٌ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ:
؎وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدٌ
(p-٣٦٢)والواحِدُ مِنَ العَدَدِ في الحِسابِ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، بَلْ هو قَبْلَ كُلِّ عَدَدٍ وهو خارِجٌ عَنِ العَدَدِ، والواحِدُ كَيْفَما أدَرْتَهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْءٌ ولَمْ يَنْقُصْ مِنهُ شَيْءٌ، تَقُولُ: واحِدٌ في واحِدٍ بِواحِدٍ - فَلَمْ يَزِدْ عَلى الواحِدِ شَيْءٌ، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ، وإذا دَلَّ عَلى أنَّهُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ دَلَّ عَلى أنَّهُ مُحَدِّثُ الشَّيْءِ، فَإذا دَلَّ عَلى أنَّهُ مُحَدِّثُ الشَّيْءِ دَلَّ عَلى أنَّهُ مُغْنِي الشَّيْءُ، وإذا كانَ مُغْنِي الشَّيْءِ دُلَّ عَلى أنَّهُ لا شَيْءَ بَعْدَهُ، فَإذا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ ولا بَعْدَهُ شَيْءٌ فَهو المُتَوَحِّدُ بِالأزَلِ، يَعْنِي فَهو الواحِدُ الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ فَهو الأحَدُ، قالَ: فَلِذَلِكَ قِيلَ: هو واحِدٌ وأحَدٌ، وقُلْنا: إنَّ الأحَدَ هو اسْمٌ أكْمَلُ - أيْ أعَمُّ - مِنَ الواحِدِ، ألا تَرى أنَّكَ إذا قُلْتَ: فُلانٌ لا يَقُومُ لَهُ واحِدٌ، جازَ في المَعْنى أنْ يَقُومَ لَهُ اثْنانِ أوْ ثَلاثَةٌ فَما فَوْقَها، وإذا قُلْتَ: فُلانٌ لا يَقُومُ لَهُ أحَدٌ، فَقَدْ جَزَمْتَ بِأنَّهُ لا يَقُومُ لَهُ واحِدٌ ولا اثْنانِ ولا ما فَوْقَهُما، فَصارَ الأحَدُ أكْمَلَ مِنَ الواحِدِ، وفي الأحَدِ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ في الواحِدِ، تَقُولُ: لَيْسَ في الدّارِ واحِدٌ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ واحِدًا مِنَ الدَّوابِّ أوِ الطَّيْرِ أوِ الوَحْشِ أوِ الإنْسِ، فَكانَ الواحِدُ يَعُمُّ النّاسَ وغَيْرَ النّاسِ، وإذا قُلْتَ: لَيْسَ في الدّارِ أحَدٌ، فَهو مَخْصُوصٌ لِلْآدَمِيِّينَ دُونَ سائِرِهِمْ، والأحَدُ مُمْتَنَعٌ مِنَ الدُّخُولِ في الضَّرْبِ وفي العَدَدِ وفي القِسْمَةِ (p-٣٦٣)وفِي شَيْءٍ مِنَ الحِسابِ، وهو مُنْفَرِدٌ بِالأحَدِيَّةِ، والواحِدُ مُنْقادٌ لِلْعَدَدِ والقِسْمَةِ وغَيْرُها داخِلٌ في الحِسابِ، تَقُولُ: واحِدٌ واثْنانِ وثَلاثَةٌ، فَهَذا وإنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ العَدَدِ فَهو عِلَّةُ العَدَدِ، وداخِلٌ في العَدَدِ، لِأنَّكَ إذا ضَرَبْتَ واحِدًا في واحِدٍ لَمْ يَزِدْ، واثْنانِ هو جِذْرُ الحِسابِ، وتَقُولُ: في القِسْمَةِ، واحِدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ، لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ نِصْفٌ، ومِنَ الثَّلاثَةِ ثُلُثٌ، فَهَذِهِ القِسْمَةُ، والأحَدُ مُمْتَنِعٌ مِن هَذا، لا يُقالُ: أحَدٌ واثْنانِ ولا أحَدٌ في أحَدٍ ولا أحَدٌ في واحِدٍ ولا في اثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَةٍ، والواحِدُ وإنْ لَمْ يَتَجَزَّأْ مِنَ الواحِدِ فَهو يَتَجَزَّأُ مِن [الِاثْنَيْنِ و-] الثَّلاثَةِ فَما فَوْقَهُما، تَقُولُ: جُزْءٌ واحِدٌ مِن جُزْئَيْنِ أوْ ثَلاثٍ فَما فَوْقَها، ولا يَجُوزُ: جُزْءُ أحَدٍ مِن جُزْئَيْنِ فَما فَوْقَهُما، وقَدْ سَمّى اللَّهُ نَفْسَهُ واحِدًا أحَدًا ووَصَفَ نَفْسَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ والأحَدِيَّةِ، فالواحِدُ نَعْتٌ يَلْزَمُهُ عَلى الحَقِيقَةِ لِأنَّهُ كانَ قَبْلُ ولا ثانِيَ مَعَهُ، والثّانِي خِلالُ الواحِدِ، فَهو واحِدٌ لِاتِّحادِهِ في القِدَمِ، والخَلْقِ اثْنانِ لِاقْتِرانِهِ بِالحَدَثِ لِأنَّ الحَدَثَ ثانٍ لِلْقِدَمِ، وبِهِ ظَهَرَتِ التَّثْنِيَةُ، فالواحِدُ هو الأحَدُ في ذاتِهِ فَهو لا شَيْءَ قَبْلَهُ ولا مِن شَيْءٍ ولا في شَيْءٍ ولا عَلى شَيْءٍ ولا لِشَيْءٍ ولا مَعَ شَيْءٍ، فَيَكُونُ ذاكَ الشَّيْءُ ثانِيًا مَعَهُ بَلْ هو الواحِدُ مُنْشِئٌ والأشْياءُ كُلُّها [لَهُ -]، (p-٣٦٤)وهُوَ المُتَّحِدُ بِذاتِهِ مُمْتَنَعٌ مِن أنْ يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ ثانِيًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ والخَلْقُ كُلُّه لَهُ، وإنْ كانَ يُسَمّى بِالواحِدِ، أوْ كانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ قَدْ لَزِمَتْ جَمِيعَ الأشْياءِ في وجْهٍ فَإنَّها تَزُولُ عَنْها في وجْهٍ.
كَما قِيلَ: إنْسانٌ واحِدٌ وفَرَسٌ واحِدٌ وبَعِيرٌ واحِدٌ، وكَذَلِكَ يُقالُ لِسائِرِ الأشْياءِ، وهَذِهِ صِفَةٌ تَلْزَمُها في اللَّفْظِ، والمُسَمّى لا يَخْلُو مِن مَعانٍ كَثِيرَةٍ مُجْتَمِعَةٍ [فِيهِ -] كالجِسْمِ والعَرَضِ، وهو واحِدُ مَجْمُوعٍ مِن أشْياءَ مُتَفَرِّقَةٍ، وكُلُّ شَيْءٍ لا يَخْلُو مِنَ ازْدِواجٍ وتَضادٍّ وتَشاكُلٍ وحَدِّ وعْدٍ، وهَذِهِ الصِّفاتُ كُلُّها تَنْفِي عَنْهُ مَعْنى الأُحْدِيَّةِ والواحِدِيَّةِ، و[فِي -] الواحِدِ عَنِ العَرَبِ لُغاتٌ كَثِيرَةٌ، يُقالُ: واحِدٌ وأحَدٌ ووَحْدٌ ووَحِيدٌ وحادٌّ وأُحادٌ ومُوَحَّدٌ [وأوْحَدٌ -] - وهَذا كُلُّهُ راجِعٌ إلى مَعْنى الواحِدِ، وإنْ كانَ في ذَلِكَ مَعانٍ لَطِيفَةً ولَمْ يَجِئْ في صِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ إلّا الواحِدُ والأحَدُ، قُلْتُ: والوَحِيدُ عَلى بَعْضِ الإعْراباتِ في المُدَّثِّرِ، قالَ: وكُلُّها مُشْتَقَّةٌ مِنَ الواحِدِ، وكَأنَّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الحَدِّ، كَأنَّ الأشْياءَ كُلَّها إلَيْهِ انْتِهاؤُها وهي مَحْدُودَةٌ كُلُّها غَيْرُهُ عَزَّ وجَلَّ وهو مَحْدُودٌ، بَلْ هو غايَةُ المَحْدُودِينَ وغايَةُ الغاياتِ لا غايَةَ لَهُ، والأحَدُ يَجِيءُ في الكَلامِ بِمَعْنى الأوَّلِ وبِمَعْنى الواحِدِ، فَإذا جاءَ بِمَعْنى الأوَّلِ وبِمَعْنى الواحِدِ جازَ (p-٣٦٥)أنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ في الخَبَرِ كَقَوْلِكَ: هَذا واحِدٌ أحَدٌ، والعَرَبُ كانَتْ تُسَمِّي يَوْمَ الأحَدِ في الجاهِلِيَّةِ أوَّلًا، وقَوْلُكَ ”يَوْمَ الأحَدِ“ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ اليَوْمُ الأوَّلُ مِنَ الأُسْبُوعِ، والِاثْنَيْنِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ اليَوْمُ الثّانِي، وفي التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوَّلُ ما خَلَقَ مِنَ الأيّامِ ”يَوْمَ الأحَدِ“ قُلْتُ: يُمْكِنُ [أنْ يَكُونَ -] مَعْنى يَوْمِ الأحَدِ يَوْمُ اللَّهِ، أُضِيفَ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أوَّلَ مَخْلُوقاتِهِ مِنَ الأيّامِ، فَلَمّا أوْجَدَ الثّانِي سُمِّيَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ، لِأنَّهُ ثانِي يَوْمِ الأحَدِ، قالَ: وضِدُّ الواحِدِ اثْنانِ، وضِدُّ الأحَدِ الآخَرُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قالَ أحَدُهُما إنِّي أرانِي أعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٣٦] [ثُمَّ قالَ في ضِدِّهِ -] ”وقالَ الآخَرُ“ فَهَذا دَلِيلٌ عَلى [أنَّ -] مَعْنى قَوْلِهِمْ ”يَوْمَ الأحَدِ“ اليَوْمُ الأوَّلُ: لِأنَّهم قالُوا لِما بَعْدَهُ اثْنانِ، ولَمْ يَقُولُوا: الآخَرُ، لِأنَّ الأحَدَ إذا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنى الأوَّلِ فَضِدُّهُ الآخَرُ، وإذا كانَ الأحَدُ بِمَعْنى الأوَّلِ جازَ الخَبَرُ والجَحْدُ، وإذا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنى الأوَّلِ وكانَ بِمَعْنى الواحِدِ جازَ في الخَبَرِ وجازَ في الجَحْدِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فابْعَثُوا أحَدَكم بِوَرِقِكم هَذِهِ﴾ [الكهف: ١٩] [فَهَذا -] مِنَ الخَبَرِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ أحَدٌ بِمَعْنى الأوَّلِ وبِمَعْنى الواحِدِ لَمْ يَجُزْ أنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ إلّا في الجَحْدِ، تَقُولُ: ما جاءَنِي أحَدٌ، ولا يَجُوزُ: جاءَنِي أحَدٌ، وكَلَّمَنِي أحَدٌ، قالَ اللَّهُ تَعالى في مَعْنى الجَحْدِ ﴿أيَحْسَبُ أنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحَدٌ﴾ [البلد: ٥] [وأحَدٌ -] يَسْتَوِي (p-٣٦٦)فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ﴾ [الأحزاب: ٣٢]
وواحِدٌ لا يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ حَتّى يَدْخُلَ فِيهِ الهاءُ فَيُقالُ ”واحِدَةً“ لا يَجُوزُ ”كَواحِدٍ مِنَ النِّساءِ“ وأحَدٌ يَكُونُ بِمَعْنى الجَمْعِ، تَقُولُ العَرَبُ: يَظَلُّ أحَدُنا الأيّامَ لا يَأْكُلُ، بِمَعْنى كُلُّنا [لا -] يَأْكُلُ، فاحْتَمَلَ مَعْنى الواحِدِ والجَماعَةِ - انْتَهى، فالواحِدُ مِنَ الأسْماءِ الثُّبُوتِيَّةِ الإضافِيَّةِ، يَكُونُ في أصْلِ اللُّغَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى ثانٍ هو نِصْفُهُ، وثالِثٍ هو ثُلْثُهُ، و[هَكَذا -] هو صِفَةُ اللَّهِ تَعالى بِمَعْنى المُتَوَحِّدِ في الِاتِّصافِ بِالأُلُوهِيَّةِ حَتّى لا يَقْبَلْها غَيْرُهُ بِوَجْهٍ، فَلا شَرِيكَ [لَهُ -]، والأحَدُ مِنَ النُّعُوتِ السَّلْبِيَّةُ، بَلْ هو مَجْمَعُها، هو أحَدٌ في نَفْسِهِ لا يَقْبَلُ العَدَدَ ولا التَّرْكِيبَ بِوَجْهٍ لا بِالقِسْمَةِ ولا بِغَيْرِها سَواءٌ نَظَرَ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلى الغَيْرِ أوْ لا، فَهو مُتَمَحِّضٌ لِلسَّلْبِ، فَهو وصْفٌ راجِعٌ إلى نَفْسِ الذّاتِ بِمَعْنى أنَّهُ كامِلٌ في ذاتِهِ لا يُؤَثِّرُ في مَفْهُومِهِ النَّظَرُ إلى شَيْءٍ أصْلًا، والفَرْدُ ناظِرٌ إلى نَفْيِ العَدَدِ، فافْتَرَقَتِ الأوْصافُ الثَّلاثَةُ وإنْ كانَتْ مُتَقارِبَةً في المَعْنى.
وقالَ الإمامُ أبُو الخَيْرِ القِزْوِينِيُّ الشّافِعِيُّ في كِتابِهِ ”العُرْوَةِ الوُثْقى في أُصُولِ الدِّينِ“ ناقِلًا عَنْ بَعْضٍ مَن فَرَّقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الواحِدِ: إنَّ الأحَدَ اسْمٌ لِنَفْيِ ما يُذَكَّرُ مَعَهُ، وعَنْ بَعْضِهِمْ أنَّهُ الَّذِي لا يَجُوزُ لَهُ التَّبْعِيضُ لا فِعْلًا ولا وهْمًا، فَهو أحَدٌ بِذاتِهِ وأحَدٌ بِصِفاتِهِ، وتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعالى (p-٣٦٧)لِنَفْسِهِ عِلْمُهُ بِأنَّهُ واحِدٌ، وإخْبارُهُ بِذَلِكَ وتَوْحِيدُ العَبْدِ لَهُ عِلْمُهُ بِذَلِكَ مَعَ إقْرارِهِ بِهِ، وقالَ الإمامُ فَخْرُ الدِّينِ الرّازِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ الحُسْنى: فاللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أحَدٌ في ذاتِهِ، أحَدٌ في صِفاتِهِ، أحَدٌ في أفْعالِهِ، أحَدٌ لا عَنْ أحَدٍ غَيْرِ مُتَجَزِّئٍ ولا مُتَبَعِّضٍ، أحَدٌ غَيْرُ مُرَكَّبٍ ولا مُؤَلَّفٍ، أحَدٌ لا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ ولا يُشْبِهُ شَيْئًا، أحَدٌ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ أحَدٍ - انْتَهى، وهَذا مَعْنى ما نَقَلَهُ المُعْرِبُونَ عَنْ ثَعْلَبٍ أنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُما بِأنَّ واحِدًا يَدْخُلُهُ العَدَدُ، وأحَدٌ لا يَدْخُلُهُ ذَلِكَ، يُقالُ: اللَّهُ أحَدٌ، ولا يُقالُ: زِيدٌ أحَدٌ، لِأنَّ الأحَدَ خُصُوصِيَّةُ اللَّهِ تَعالى، زِيدٌ يَكُونُ مِنهُ حالاتٌ، ونَقَضَ عَلَيْهِ بِالعَدَدِ المُعَدَّدِ المَعْطُوفِ، يُقالُ: أحَدٌ وعِشْرُونَ واثْنانِ وعِشْرُونَ، ورَدَّ بِأنْ أحَدًا فِيهِ بِمَعْنى واحِدٍ، وقالَ الإمامُفَخْرُ الدِّينِ في شَرْحِ الأسْماءِ: إنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ البارِئَ سُبْحانَهُ، أمّا الواحِدُ فَيَحْصُلُ فِيهِ المُشارَكَةُ، ولِهَذا السَّبَبِ أُعْرِيَ مِن لامِ التَّعْرِيفِ لِأنَّهُ صارَ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى الخُصُوصِ، فَصارَ مَعْرِفَةً، وقالَ الأزْهَرِيُّ: سُئِلَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى عَنِ الأُحادِ هَلْ هي جُمَعُ [أحَدٍ، فَقالَ: مَعاذَ اللَّهِ لَيْسَ لِلْأحَدِ جَمْعٌ، ولا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ إنَّهُ جَمْعُ -] واحِدٍ كالأشْهادِ جَمْعُ شاهِدٍ - انْتَهى، وقالَ الإقْلِيشِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ: الأحَدُ هو الَّذِي لَيْسَ بِمُنْقَسِمٍ ولا مُتَجَزِّئٍ، (p-٣٦٨)فَهُوَ عَلى هَذا اسْمٌ لِعَيْنِ الذّاتِ، فِيهِ سَلَبَ الكَثْرَةَ عَنْ ذاتِهِ، فَتَقَدَّسَ بِهَذا الوَصْفِ عَنْ صِفاتِ الأجْسامِ القابِلَةِ لِلتَّجَزُّؤِ والِانْقِسامِ، والنُّقْطَةُ والجَوْهَرُ الفَرْدُ عَنْ مُثْبِتِهِ - يَعْنِي مِنَ المُتَكَلِّمِينَ، والجَوْهَرُ البَسِيطُ عِنْدَ مُدَّعِيهِ - يَعْنِي مِنَ الفَلاسِفَةِ، وإنْ كانَتْ هَذِهِ لا تَتَجَزَّأُ ولا تَنْقَسِمُ وإنَّها مُخالَفَةٌ لِلْبارِئِ تَعالى في أُحْدِيَّتِهِ، أمّا النُّقْطَةُ فَعَرْضٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إذْ هي عِبارَةٌ عَنْ طَرَفِ الخَطِّ، وإذا كانَ الخَطُّ عَرْضًا فالنُّقْطَةُ أوْلى بِالعَرْضِيَّةِ، وأمّا الجَوْهَرُ الفَرْدُ فَإنَّهُ وإنْ كانَ لا يَنْقَسِمُ فَهو مُقَدَّرٌ بِجُزْءٍ، وكُلُّ ما قُدِّرَ بِجُزْءٍ فَلا يَخْلُو مِنَ الأكْوانِ وهو كَيْفَما كانَ عَلى رَأْيِ مَن أثْبَتَهُ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ وإنْ كانُوا في أوْصافِهِ مُتَنازِعِينَ فَلا يَخْلُو مِنَ الأعْراضِ، وأمّا الجَوْهَرُ البَسِيطُ عِنْدَ مَن أثْبَتَهُ فَوُجُودُهُ عِنْدَهم لَيْسَ عَيْنَهُ إذا اثْنَيْنَيْتُهُ غَيْرَ ماهِيَّتِهِ، وما هو بِهَذا الوَصْفِ عِنْدَهم فَفِيهِ اثْنَيْنَيْةٌ، فَفارَقَ البارِئُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأُحْدِيَّتِهِ هَذِهِ المَوْجُوداتِ كَما فارَقَ بِذاتِهِ الأجْسامَ، فَوُجُودُهُ عَنْ ذاتِهِ ولَيْسَتْ صِفاتُهُ تَعالى مُغايِرَةً لِذاتِهِ، وأمّا الواحِدُ فَهو وصْفٌ لِذاتِهِ، فِيهِ سَلْبُ الشَّرِيكِ والنَّظِيرِ عَنْهُ، فافْتَرَقا - يَعْنِي بِأنَّ الأحَدَ ناظِرٌ إلى نَفْسِ الذّاتِ، والواحِدُ إلى أمْرٍ خارِجٍ عَنْها، وقالَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ: الأحَدُ فِيما يَدْعُوهُ المُشْرِكُونَ إلَهًا [مِن دُونِهِ لا يَجُوزُ (p-٣٦٩)أنْ يَكُونَ إلَهًا -] إذْ كانَتْ إماراتُ الحَدَثِ مِنَ التَّجَزُّؤِ والتَّناهِي قائِمَةً فِيهِ لازِمَةً لَهُ، والبارِئُ سُبْحانَهُ وتَعالى لا يَتَجَزَّأُ ولا يَتَناهى، فَقَدْ مَرَّ أنَّ الأحَدَ خاصٌّ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: إنَّهُ لا فَرْقَ في إطْلاقِهِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى بَيْنَ تَعْرِيفِهِ وتَنْكِيرِهِ لِأنَّهُ مَعْرِفَةٌ في نَفْسِهِ، فَطاحَ اعْتِراضُ مَن قالَ مِنَ المُلْحِدِينَ: الجَلالَةُ مَعْرِفَةٌ وأحَدٌ نَكِرَةٌ لا يُنْعَتُ بِهِ.
وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ يَجُوزُ جَعْلَهُ بَدَلًا كَما تَقَدَّمَ ولا مانِعَ مِن إبْدالِ النَّكِرَةِ مِنَ المَعْرِفَةِ مِثْلُ لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ، قالَ صاحِبُ كِتابِ الزِّينَةِ: وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ - أيْ قِراءَةِ التَّنْكِيرِ - أجْمَعَتِ الأُمَّةُ، ورَوى قَوْمٌ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصّادِقِ أنَّهُ قَرَأ قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الواحِدُ الأحَدُ الصَّمَدُ، وقالَ الإمامُ أبُو الحَسَنِ الحِرّالِيُّ في شَرْحِ الأسْماءِ [الحُسْنى -]: الأحَدُ اسْمُ أعْجَزَ اللَّهُ العُقُولَ عَنْ إدْراكِ آيَتِهِ في الخَلْقِ إثْباتًا فَلَمْ تَسْتَعْمِلْهُ العَرَبُ مُفْرَدًا قَطُّ أيْ وهو بِمَعْناهُ الحَقِيقِيِّ لا بِمَعْنًى واحِدٍ ولا بِمَعْنًى أوَّلَ مَثَلًا إلّا في النَّفْيِ لَمّا عَلِمُوا أنَّهُ مُفْصِحٌ عَنْ إحاطَةٍ جامِعَةٍ لا يَشِذُّ عَنْها شَيْءٌ، وذَلِكَ مِمّا تُدْرِكُهُ العُقُولُ والحَواسُّ في النَّفْيِ ولا تُدْرِكُهُ في الإثْباتِ فَيَقُولُونَ: ما في الدّارِ أحَدٌ - نَفْيًا لِكُلٍّ ولا يُسَوِّغُ في عُقُولِهِمْ أنْ يَقُولُوا: في الدّارِ أوْ في الوُجُودِ [أحَدٌ -]، إذْ لا يَعْقِلُ عِنْدَهم ذاتُ إنْسانٍ هي جامِعَةٌ لِكُلِّ إنْسانٍ، فَلَمّا ورَدَ عَنِ (p-٣٧٠)اللَّهِ اسْمُهُ في القُرْآنِ تَلَقّاهُ المُؤْمِنُونَ بِالإيمانِ وأحَبَّتْ قُلُوبُهم سُورَةَ ذِكْرِهِ لِجَمْعِها لِما لا يُحْصى مِن ثَناءِ الرَّحْمَنِ وهي أحَدُ الأنْوارِ الثَّلاثَةِ في القُرْآنِ، [القُرْآنُ -] نُورٌ
﴿ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ [الشورى: ٥٢] ونُورُ نُورِهِ [سُورَةُ ] ذَكَرَ الأحَدَ في خَتْمِهِ وآيَةُ الكُرْسِيِّ في ابْتِدائِهِ وسُورَةُ يس الَّتِي هي قَبْلَهُ في مَحَلِّها مِنهُ واحِدٌ مُبِينٌ عَنِ اسْمِ [اللَّهِ الَّذِي هو بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ شِرْكٌ في حَقٍّ ولا باطِلٍ، وهو واحِدٌ مُبِينٌ عَنِ اسْمِ -] الإلَهِ الَّذِي لا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكُ حَقًّا، وقَدْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ باطِلًا ”واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَة“ وذَلِكَ لِأنَّ الواحِدَ يُضائِفُ الثّانِي، وأحَدٌ جامِعٌ مُحِيطٌ لَمْ يَبْقَ خارِجَ عَنْهُ فَيُضايِفَهُ يَعْنِي أنَّ مَفْهُومَهُ ناظَرَ إلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى الآنَ كَما كانَ في الأزَلِ وحْدَهُ، فَإنَّ الخَلْقَ فانٍ فَهو في الحَقِيقَةِ عَدَمٌ، وكَأنَّهُ ما كانَ لِإحاطَتِهِ بِهِ وكَوْنُهُ في قَبْضَتِهِ وطَوْعَ مَشِيئَتِهِ، فَلا خارِجَ يَكُونُ مُضايِفًا لَهُ لِأنَّهُ لا يُضايِفُ الشَّيْءَ إلّا مَناظِرٌ لِمُساواةٍ أوْ مُباراةٍ بِمُعانَدَةٍ أوْ غَيْرِها، فالكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَدَمٌ ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: ٣٠] ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] [هَذا مُرادُهُ -] بِدَلِيلِ سابِقِهِ ولاحِقِهِ فَلا شُبْهَةَ فِيهِ لِأهْلِ الوَحْدَةِ - عَلَيْهِمُ الخِزْيُ واللَّعْنَةُ، قالَ: والوَحْدَةُ (p-٣٧١)مِنَ الواحِدِ هي [حَدٌّ -] النِّهايَةُ، والغايَةُ مِمّا هي وحْدَتُهُ، وما دُونُ الوَحْدَةِ الَّتِي هي الغايَةُ ثانِيَةٌ ودُونَهُ وجِماعُ إحاطاتِ كُلِّ ذَلِكَ أعْلى وأدْنى هي الأُحْدِيَّةُ الَّتِي لا يَشِذُّ عَنْها شاذٌّ ولا يَخْرُجُ عَنْها خارِجٌ، فَمِنَ الأسْماءِ مَعْلُومٌ لِخَلِيقَةٍ مِن خَلِيقَتِهِ بِما أتاهم مِنهُ كالرَّحِيمِ والعَلِيمِ، ومِنها ما يَعْجِزُ عَنْهُ خِلافَتُهم كالأسْماءِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ اسْمِهِ المُحْصِي، ولَكِنْ يَنالُ مَثَلًا مِن قَوْلِهِمْ، ومِنها ما لَمْ يَنَلْهُ العِلْمُ ولا أدْرَكَتْ مِثْلَهُ العُقُولُ وهو اسْمُهُ الأحَدُ، فاللَّهُ هو الأحَدُ الَّذِي لا أحَدَ إلّا هو - انْتَهى، وقالَ الإمامُ أبُو الحَكَمِ بْنُ بُرْجانَ في شَرْحِ الأسْماءِ الحُسْنى: وهو - أيِ الأحَدُ - أصْلٌ لِبابِ الوَحْدَةِ، يَدُلُّ عَلى مَحْضِ الوَحْدَةِ، ألا تَرى أنَّهُ نافٍ يَأْتِي مَعَهُ، إذا قُلْتَ: لَمْ يَأْتِنِي أحَدٌ، انْتَفى الِاثْنانِ، ولا تَقُولُ: جاءَنِي أحَدٌ كَما تَقُولُ! جاءَنِي واحِدٌ، لِأنَّ واحِدًا تَزُولُ عَنْهُ الواحِدِيَّةِ بِضَمٍّ ثانٍ إلَيْهِ بِخِلافِ الأُحْدِيَّةِ فَإنَّها لازِمَةُ الواحِدِ لا يُفارِقُهُ حَكَمُها بَعْدَ ضَمِّ الثّانِي بَلْ لَها مِن جِهَةٍ مَحْفُوظَةٍ عَلَيْها يَظْهَرُ ذاكَ بِالأشْفاعِ والأوْتارِ، فَإنَّكَ تَقُولُ: ما جاءَنِي أحَدٌ، فَتَنْتَفِي الأشْفاعُ كَما تَنْتَفِي الأوْتارُ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى زِيادَةِ شَرَفِهِ فَإنَّ الِاسْمَ كُلَّما غَمُضَتْ دَلالَتُهُ وتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ عَنِ الأفْهامِ وعَزَبَ عَنِ العُقُولِ عِلْمُهُ كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى قُرْبِهِ مِنَ الِاسْمِ الأعْظَمِ - انْتَهى، (p-٣٧٢)وقالَ بَعْضُ العارِفِينَ في كَشْفِ مَعْنى الأحَدِ ورُتْبَتُهُ: إنَّ الذّاتَ الأعْظَمَ غَيْبٌ مَحْضٌ [والأحَدُ أوَّلُ تَعَيُّنِاتِها، ولِذَلِكَ بُدِئَ بِالهَمْزَةِ الَّتِي هي أوَّل تَعَيُّناتِ الألِفِ الَّتِي هي لَهِيبٌ مَحْضٌ -] وذَلِكَ سِرُّ مُخالَفَتِها لِلْأحْرُفِ في أنَّ كُلَّ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلى مُسَمّاهُ أوَّلُ حُرُوفِ اسْمِهِ [إلّا-] الألِفُ لِكَوْنِها غَيْبًا، فَكانَ أوَّلُ اسْمِها [الهَمْزَةُ الَّتِي هي أوَّل تَعَيُّناتِها، والهَمْزَةُ لِكَوْنِها مُرَقًّى إلى غَيْبِ الألِفِ كانَ أوَّلَ اسْمِها -] أيْضًا [غَيْرُ -] دالٍّ عَلى مُسَمّاها.
ثُمَّ بَعْدَ التَّعْيِينِ بِالأُحْدِيَّةِ الشّامِلَةِ المُسْتَغْرِقَةِ [يَتَنَزَّلُ -] إلى الإلَهِيَّةِ ثُمَّ مِنها إلى الواحِدِيَّةِ، ولِذَلِكَ ابْتُدِئَ الواحِدُ بِالواوِ الَّتِي هي وصْلَةٌ إلى ما فِيهِ مِنَ الألِفِ الَّذِي هو غَيْبٌ، فَإنَّ الواحِدَ مُرَقّى إلى فَهْمِ الإلَهِ، والإلَهُ مُرَقّى إلى تَعَقُّلِ الأحَدِ، والأحَدُ مُرَقّى إلى التَّعَبُّدِ لِلذّاتِ الأقْدَسِ الأنْزَهِ، ومَنِ اعْتَقَدَ أُحْدِيَّتَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، أنْتَجَ لَهُ ذَلِكَ حُبَّهُ وتَعْظِيمَهُ، وهو تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ لِأنَّ التَّفَرُّدَ بِذَلِكَ يَقْتَضِي الكَمالَ والجَمالَ - واللَّهُ المُوَفِّقُ.
قالَ الإمامُ [ أبُو -] جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لَمّا انْقَضى مَقْصُودُ الكِتابِ العَزِيزِ بِجُمْلَتِهِ عادَ الأمْرُ إلى ما كانَ، وأشْعَرَ العالِمَ بِحالِهِمْ مِن تَرَدُّدِهِمْ بَيْنَ عَدَمَيْنِ ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأةَ الآخِرَةَ﴾ [العنكبوت: ٢٠] فَوُجُودُهم مِنهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وبَقاؤُهم بِهِ وهم وجَمِيعُ ما يَصْدُرُ عَنْهم مِن أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ (p-٣٧٣)كُلُّ ذَلِكَ خَلْقُهُ واخْتِراعُهُ، وقَدْ كانَ سُبْحانَهُ وتَعالى ولا عالَمَ ولا زَمانَ ولا مَكانَ، [وهُوَ الآنُ عَلى ما -] عَلَيْهِ كانَ، لا يَفْتَقِرُ إلى أحَدٍ ولا يَحْتاجُ إلى مُعَيَّنٍ، ولا يَتَقَيَّدُ بِالزَّمانِ، ولا يَتَحَيَّزُ بِالمَكانِ، فالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، أهْلِ الحَمْدِ ومُسْتَحَقِّهِ مُطْلَقًا، لَهُ الحَمْدُ في الأُولى والآخِرَةِ، ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ المَصِيرُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: ٢] ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص: ٣] ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤] هو المَوْجُودُ الحَقُّ، وكَلامُهُ الصِّدْقُ،
﴿وما الحَياةُ الدُّنْيا إلا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ٣٢] فَطُوبى لِمَنِ اسْتَوْضَحَ أيْ كِتابِ اللَّهِ، وأتى الأمْرُ مِن بابِهِ وعَرَفَ نَفْسَهُ ودُنْياهُ، وأجابَ داعِيَ اللَّهِ ولَمْ يَرَ فاعِلًا في الوُجُودِ حَقِيقَةً إلّا هو سُبْحانَهُ وتَعالى والحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ العالَمِينَ، ولَمّا كَمُلَ مَقْصُودُ الكِتابِ، واتَّضَحَ عَظِيمُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ لِمَن تَدَبَّرَ واعْتَبَرَ وأنابَ، كانَ مَظِنَّةَ الِاسْتِعاذَةِ واللَّجَأ مِن شَرِّ الحاسِدِ وكَيْدِ الأعْداءِ فَخَتَمَ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ مِن شَرِّ ما خَلَقَ وذَرَأ وشَرِّ الثَّقَلَيْنِ - انْتَهى.
{"ayah":"قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ"}