(p-١٦٠)(سُورَةُ الإخْلاصِ) .
أرْبَعُ آياتٍ، مَكِّيَّةٌ.
﷽
﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ .
﷽
﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ قَبْلَ الخَوْضِ في التَّفْسِيرِ لا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ فُصُولٍ:
الفَصْلُ الأوَّلُ: رَوى أُبَيٌّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«مَن قَرَأ سُورَةَ“ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ ”فَكَأنَّما قَرَأ ثُلُثَ القُرْآنِ وأُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشْرَ حَسَناتٍ بِعَدَدِ مَن أشَرَكَ بِاللَّهِ وآمَنَ بِاللَّهِ» وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ:“ «مَن قَرَأ ”﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾“ مَرَّةً واحِدَةً أُعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ وأُعْطِي مِنَ الأجْرِ مِثْلَ مِائَةِ شَهِيدٍ» ”، ورُوِيَ:“ «أنَّهُ كانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذْ أقْبَلَ أبُو ذَرٍّ الغِفارِيُّ، فَقالَ جِبْرِيلُ: هَذا أبُو ذَرٍّ قَدْ أقْبَلَ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أوَتَعْرِفُونَهُ ؟ قالَ: هو أشْهَرُ عِنْدَنا مِنهُ عِنْدَكم، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: بِماذا نالَ هَذِهِ الفَضِيلَةَ ؟ قالَ لِصِغَرِهِ في نَفْسِهِ وكَثْرَةِ قِراءَتِهِ ”﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ»﴾ “ ورَوى أنَسٌ قالَ: ”«كُنّا في تَبُوكَ فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ ما لَها شُعاعٌ وضِياءٌ وما رَأيْناها عَلى تِلْكَ الحالَةِ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَجِبَ كُلُّنا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَ أنْ يَنْزِلَ مِنَ المَلائِكَةِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلِكٍ فَيُصَلُّوا عَلى مُعاوِيَةَ بْنِ مُعاوِيَةَ، فَهَلْ لَكَ أنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ ثُمَّ ضَرَبَ بِجَناحِهِ الأرْضَ فَأزالَ الجِبالَ وصارَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَأنَّهُ مُشْرِفٌ عَلَيْهِ فَصَلّى هو وأصْحابُهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قالَ: بِمَ بَلَغَ ما بَلَغَ ؟ فَقالَ جِبْرِيلُ: كانَ يُحِبُّ سُورَةَ الإخْلاصِ» “ «ورُوِيَ: ”أنَّهُ دَخَلَ المَسْجِدَ فَسَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو ويَقُولُ أسْألُكَ يا اللَّهُ يا أحَدُ يا صَمَدُ يا مَن لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ، فَقالَ: غَفَرَ لَكَ غَفَرَ لَكَ غَفَرَ لَكَ ثَلاثَ مَرّاتٍ» “ وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: ”«جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ وشَكا إلَيْهِ الفَقْرَ فَقالَ: إذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ إنْ كانَ فِيهِ أحَدٌ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أحَدٌ فَسَلِّمْ عَلى نَفْسِكَ، واقْرَأْ قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ مَرَّةً واحِدَةً فَفَعَلَ الرَّجُلُ فَأدَرَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رِزْقًا حَتّى أفاضَ عَلى جِيرانِهِ» “ وعَنْ أنَسٍ: ”«أنَّ رَجُلًا كانَ يَقْرَأُ في جَمِيعِ صِلاتِهِ: (p-١٦١)﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَسَألَهُ الرَّسُولُ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُحِبُّها، فَقالَ: حُبُّكَ إيّاها يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ“ وقِيلَ مَن قَرَأها في المَنامِ: أُعْطِيَ التَّوْحِيدَ وقِلَّةَ العِيالِ وكَثْرَةَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وكانَ مُسْتَجابَ الدَّعْوَةِ» .
الفَصْلُ الثّانِي: في سَبَبِ نُزُولِها وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤالِ المُشْرِكِينَ، قالَ الضَّحّاكُ: «إنَّ المُشْرِكِينَ أرْسَلُوا عامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ إلى النَّبِيِّ ﷺ وقالُوا: شَقَقْتَ عَصانا وسَبَبْتَ آلِهَتَنا، وخالَفْتَ دِينَ آبائِكَ، فَإنْ كُنْتَ فَقِيرًا أغْنَيْناكَ، وإنْ كُنْتَ مَجْنُونًا داوَيْناكَ، وإنْ هَوَيْتَ امْرَأةً زَوَّجْناكَها، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: لَسْتُ بِفَقِيرٍ، ولا مَجْنُونٍ، ولا هَوَيْتُ امْرَأةً، أنا رَسُولُ اللَّهِ أدْعُوكم مِن عِبادَةِ الأصْنامِ إلى عِبادَتِهِ، فَأرْسَلُوهُ ثانِيَةً وقالُوا: قُلْ لَهُ بَيِّنْ لَنا جِنْسَ مَعْبُودِكَ، أمِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ، فَقالُوا لَهُ: ثَلَثُمِائَةٍ وسِتُّونَ صَنَمًا لا تَقُومُ بِحَوائِجِنا، فَكَيْفَ يَقُومُ الواحِدُ بِحَوائِجِ الخَلْقِ ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿والصّافّاتِ﴾ [الصافات: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ إلَهَكم لَواحِدٌ﴾ [الصافات: ٤] فَأرْسَلُوهُ أُخْرى، وقالُوا: بَيِّنْ لَنا أفْعالَهُ فَنَزَلَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [ يُونُسَ»: ٣ ] .
الثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤالِ اليَهُودِ رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، «أنَّ اليَهُودَ جاءُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ومَعَهم كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ هَذا اللَّهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَن خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَغَضِبَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَسَكَّنَهُ، وقالَ: اخْفِضْ جَناحَكَ يا مُحَمَّدُ، فَنَزَلَ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَلَمّا تَلاهُ عَلَيْهِمْ قالُوا: صِفْ لَنا رَبَّكَ كَيْفَ عَضُدُهُ، وكَيْفَ ذِراعُهُ ؟ فَغَضِبَ أشَدَّ مِن غَضَبِهِ الأوَّلِ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ»﴾ ) [الأنعام: ٩١] .
الثّالِثُ: أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ سُؤالِ النَّصارى، رَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «قَدِمَ وفْدُ نَجْرانَ، فَقالُوا: صِفْ لَنا رَبَّكَ أمِن زَبَرْجَدٍ أوْ ياقُوتٍ، أوْ ذَهَبٍ، أوْ فِضَّةٍ ؟ فَقالَ: إنَّ رَبِّي لَيْسَ مِن شَيْءٍ لِأنَّهُ خالِقُ الأشْياءِ فَنَزَلَتْ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ قالُوا: هو واحِدٌ، وأنْتَ واحِدٌ، فَقالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قالُوا: زِدْنا مِنَ الصِّفَةِ، فَقالَ: ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ فَقالُوا: وما الصَّمَدُ ؟ فَقالَ: الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ الخَلْقُ في الحَوائِجِ، فَقالُوا: زِدْنا فَنَزَلَ: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ كَما ولَدَتْ مَرْيَمُ: ﴿ولَمْ يُولَدْ﴾ كَما وُلِدَ عِيسى: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ يُرِيدُ نَظِيرًا مِن خَلْقِهِ» .
الفَصْلُ الثّالِثُ: في أسامِيها، اعْلَمْ أنَّ كَثْرَةَ الألْقابِ تَدُلُّ عَلى مَزِيدِ الفَضِيلَةِ، والعُرْفُ يَشْهَدُ لِما ذَكَرْناهُ فَأحَدُها: سُورَةُ التَّفْرِيدِ.
وثانِيها: سُورَةُ التَّجْرِيدِ.
وثالِثُها: سُورَةُ التَّوْحِيدِ.
ورابِعُها: سُورَةُ الإخْلاصِ لِأنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ في هَذِهِ السُّورَةِ سِوى صِفاتِهِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هي صِفاتُ الجَلالِ؛ ولِأنَّ مَنِ اعْتَقَدَهُ كانَ مُخْلِصًا في دِينِ اللَّهِ؛ ولِأنَّ مَن ماتَ عَلَيْهِ كانَ خَلاصَهُ مِنَ النّارِ؛ ولِأنَّ ما قَبْلَهُ خَلَصَ في ذَمِّ أبِي لَهَبٍ فَكانَ جَزاءُ مَن قَرَأهُ أنْ لا يُجْمَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أبِي لَهَبٍ.
وخامِسُها: سُورَةُ النَّجاةِ؛ لِأنَّها تُنْجِيكَ عَنِ التَّشْبِيهِ والكُفْرِ في الدُّنْيا، وعَنِ النّارِ في الآخِرَةِ.
وسادِسُها: سُورَةُ الوِلايَةِ؛ لِأنَّ مَن قَرَأها صارَ مِن أوْلِياءِ اللَّهِ؛ ولِأنَّ مَن عَرَفَ اللَّهَ عَلى هَذا الوَجْهِ فَقَدْ والاهُ فَبَعْدَ مِحْنَةٍ رَحْمَةٌ كَما بَعْدَ مِنحَةٍ نِعْمَةٌ.
وسابِعُها: سُورَةُ النِّسْبَةِ لِما رُوِّينا أنَّهُ ورَدَ جَوابًا لِسُؤالِ مَن قالَ: انْسُبْ لَنا رَبَّكَ؛ «ولِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ لِرَجُلٍ مِن بَنِي سُلَيْمٍ: ”يا أخا بَنِي سُلَيْمٍ اسْتَوْصِ بِنِسْبَةِ اللَّهِ خَيْرًا» “ وهو مِن لَطِيفِ المَبانِي؛ لِأنَّهم لَمّا قالُوا: انْسُبْ لَنا رَبَّكَ، فَقالَ: نِسْبَةُ اللَّهِ هَذا والمُحافَظَةُ عَلى الأنْسابِ مِن شَأْنِ العَرَبِ، وكانُوا يَتَشَدَّدُونَ عَلى مَن يَزِيدُ في بَعْضِ الأنْسابِ أوْ يَنْقُصُ، فَنِسْبَةُ اللَّهِ في هَذِهِ السُّورَةِ أوْلى بِالمُحافَظَةِ عَلَيْها.
وثامِنُها: سُورَةُ المَعْرِفَةِ لِأنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لا تَتِمُّ إلّا بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، «رَوى جابِرٌ أنَّ رَجُلًا صَلّى فَقَرَأ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَقالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: إنَّ هَذا عَبْدٌ عَرَفَ رَبَّهُ» فَسُمِّيَتْ سُورَةَ المَعْرِفَةِ لِذَلِكَ.
وتاسِعُها: سُورَةُ الجَمالِ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ» “ فَسَألُوهُ عَنْ ذَلِكَ (p-١٦٢)فَقالَ: أحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ؛ لِأنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ واحِدًا عَدِيمَ النَّظِيرِ جازَ أنْ يَنُوبَ ذَلِكَ المِثْلُ مَنابَهُ.
وعاشِرُها: سُورَةُ المُقَشْقِشَةِ، يُقالُ: تَقَشْقَشَ المَرِيضُ مِمّا بِهِ، فَمَن عَرَفَ هَذا حَصَلَ لَهُ البُرْءُ مِنَ الشِّرْكَ والنِّفاقِ لِأنَّ النِّفاقَ مَرَضٌ كَما قالَ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠] .
الحادِيَ عَشَرَ: المُعَوِّذَةُ، «رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ دَخَلَ عَلى عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونَ فَعَوَّذَهُ بِها وبِاللَّتَيْنِ بَعْدَها، ثُمَّ قالَ: ”تَعَوَّذْ بِهِنَّ فَما تَعَوَّذْتُ بِخَيْرٍ مِنهُنَّ» “ .
والثّانِيَ عَشَرَ: سُورَةُ الصَّمَدِ؛ لِأنَّها مُخْتَصَّةٌ بِذِكْرِهِ تَعالى.
والثّالِثَ عَشَرَ: سُورَةُ الأساسِ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أُسِّسَتِ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُونَ السَّبْعُ عَلى ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ»﴾ “ ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ القَوْلَ بِالثَّلاثَةِ سَبَبٌ لِخَرابِ السَّماواتِ والأرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ﴾ [مريم: ٩٠] فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ التَّوْحِيدُ سَبَبًا لِعِمارَةِ هَذِهِ الأشْياءِ وقِيلَ السَّبَبُ فِيهِ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] .
الرّابِعَ عَشَرَ: سُورَةُ المانِعَةِ «رَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّهُ تَعالى قالَ لِنَبِيِّهِ حِينَ عُرِجَ بِهِ: أعْطَيْتُكَ سُورَةَ الإخْلاصِ وهي مِن ذَخائِرِ كُنُوزِ عَرْشِي، وهي المانِعَةُ تَمْنَعُ عَذابَ القَبْرِ ولَفَحاتِ النِّيرانِ» .
الخامِسَ عَشَرَ: سُورَةُ المَحْضَرِ لِأنَّ المَلائِكَةَ تَحْضُرُ لِاسْتِماعِها إذا قُرِئَتْ.
السّادِسَ عَشَرَ: المُنَفِّرَةُ لِأنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ عِنْدَ قِراءَتِها.
السّابِعَ عَشَرَ: البَراءَةُ لِأنَّهُ «رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ، فَقالَ: أمّا هَذا فَقَدَ بَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ»، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «مَن قَرَأ سُورَةَ ”﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾“ مِائَةَ مَرَّةٍ في صَلاةٍ أوْ في غَيْرِها كُتِبَتْ لَهُ بَراءَةٌ مِنَ النّارِ» .
الثّامِنَ عَشَرَ: سُورَةُ المُذَكِّرَةِ لِأنَّها تُذَكِّرُ العَبْدَ خالِصَ التَّوْحِيدِ، فَقِراءَةُ السُّورَةِ كالوَسْمَةِ تُذَكِّرُكَ ما تَتَغافَلُ عَنْهُ مِمّا أنْتَ مُحْتاجٌ إلَيْهِ.
التّاسِعَ عَشَرَ: سُورَةُ النُّورِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [النور: ٣٥] فَهو المُنَوِّرُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ، والسُّورَةُ تُنَوِّرُ قَلْبَكَ وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نُورًا، ونُورُ القُرْآنِ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ»﴾ “ ونَظِيرُهُ أنَّ نُورَ الإنْسانِ في أصْغَرِ أعْضائِهِ وهو الحَدَقَةُ، فَصارَتِ السُّورَةُ لِلْقُرْآنِ كالحَدَقَةِ لِلْإنْسانِ.
العِشْرُونَ: سُورَةُ الأمانِ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا قالَ العَبْدُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ دَخَلَ حِصْنِي ومَن دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِن عَذابِي» “ .
الفَصْلُ الرّابِعُ: في فَضائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ وهي مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: اشْتُهِرَ في الأحادِيثِ أنَّ قِراءَةَ هَذِهِ السُّورَةِ تَعْدِلُ قِراءَةَ ثُلُثِ القُرْآنِ، ولَعَلَّ الغَرَضَ مِنهُ أنَّ المَقْصُودَ الأشْرَفَ مِن جَمِيعِ الشَّرائِعِ والعِباداتِ، مَعْرِفَةُ ذاتِ اللَّهِ ومَعْرِفَةُ صِفاتِهِ ومَعْرِفَةُ أفْعالِهِ، وهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى مَعْرِفَةِ الذّاتِ، فَكانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مُعادِلَةً لِثُلُثِ القُرْآنِ، وأمّا سُورَةُ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] فَهي مُعادِلَةٌ لِرُبْعِ القُرْآنِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ القُرْآنِ إمّا الفِعْلُ وإمّا التَّرْكُ وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما فَهو إمّا في أفْعالِ القُلُوبِ، وإمّا في أفْعالِ الجَوارِحِ فالأقْسامُ أرْبَعَةٌ، وسُورَةُ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ لِبَيانِ ما يَنْبَغِي تَرْكُهُ مِن أفْعالِ القُلُوبِ، فَكانَتْ في الحَقِيقَةِ مُشْتَمِلَةً عَلى رُبْعِ القُرْآنِ، ومِن هَذا السَّبَبِ اشْتَرَكَتِ السُّورَتانِ أعْنِي: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾، و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ في بَعْضِ الأسامِي فَهُما المُقَشْقِشَتانِ والمُبَرِّئَتانِ، مِن حَيْثُ إنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُما تُفِيدُ بَراءَةَ القَلْبِ عَمّا سِوى اللَّهِ تَعالى، إلّا أنَّ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ يُفِيدُ بِلَفْظِهِ البَراءَةَ عَمّا سِوى اللَّهِ ومُلازَمَةَ الِاشْتِغالِ بِاللَّهِ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ يُفِيدُ بِلَفْظِهِ الِاشْتِغالَ بِاللَّهِ ومُلازَمَةَ الإعْراضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ أوْ مِن حَيْثُ إنَّ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ تُفِيدُ بَراءَةَ القَلْبِ عَنْ سائِرِ المَعْبُودِينَ سِوى اللَّهِ، و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ تُفِيدُ بَراءَةَ المَعْبُودِ عَنْ (p-١٦٣)كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ.
الوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لِكَوْنِها صِدْقًا لِلْقُرْآنِ كانَتْ خَيْرًا مِن ألْفِ شَهْرٍ فالقُرْآنُ كُلُّهُ صَدَفٌ والدُّرُّ هو قَوْلُهُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَلا جَرَمَ حَصَلَتْ لَها هَذِهِ الفَضِيلَةُ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو أنَّ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ دَلَّ عَلى أنَّ أعْظَمَ دَرَجاتِ العَبْدِ أنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُسْتَنِيرًا بِنُورِ جَلالِ اللَّهِ وكِبْرِيائِهِ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا مِن هَذِهِ السُّورَةِ، فَكانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أعْظَمَ السُّوَرِ، فَإنْ قِيلَ: فَصِفاتُ اللَّهِ أيْضًا مَذْكُورَةٌ في سائِرِ السُّوَرِ، قُلْنا: لَكِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ لَها خاصِّيَّةٌ وهي أنَّها لِصِغَرِها في الصُّورَةِ تَبْقى مَحْفُوظَةً في القُلُوبِ مَعْلُومَةً لِلْعُقُولِ فَيَكُونُ ذِكْرُ جَلالِ اللَّهِ حاضِرًا أبَدًا بِهَذا السَّبَبِ، فَلا جَرَمَ امْتازَتْ عَنْ سائِرِ السُّوَرِ بِهَذِهِ الفَضائِلِ ولْيُرْجَعِ الآنَ إلى التَّفْسِيرِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى جَنَّةٌ حاضِرَةٌ إذِ الجَنَّةُ أنْ تَنالَ ما يُوافِقُ عَقْلَكَ وشَهْوَتَكَ، ولِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الجَنَّةُ جَنَّةً لِآدَمَ لَمّا نازَعَ عَقْلَهُ هَواهُ، ولا كانَ القَبْرُ سِجْنًا عَلى المُؤْمِنِ لِأنَّهُ حَصَلَ لَهُ هُناكَ ما يُلائِمُ عَقْلَهُ وهَواهُ، ثُمَّ إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعالى مِمّا يُرِيدُها الهَوى والعَقْلُ، فَصارَتْ جَنَّةً مُطْلَقَةً، وبَيانُ ما قُلْنا: أنَّ العَقْلَ يُرِيدُ أمِينًا تُودَعُ عِنْدَهُ الحَسَناتُ، والشَّهْوَةُ تُرِيدُ غَنِيًّا يُطْلَبُ مِنهُ المُسْتَلَذّاتُ، بَلِ العَقْلُ كالإنْسانِ الَّذِي لَهُ هِمَّةٌ عالِيَةٌ فَلا يَنْقادُ إلّا لِمَوْلاهُ، والهَوى كالمُنْتَجِعِ الَّذِي إذا سَمِعَ حُضُورَ غَنِيٍّ، فَإنَّهُ يَنْشَطُ لِلِانْتِجاعِ إلَيْهِ، بَلِ العَقْلُ يَطْلُبُ مَعْرِفَةَ المَوْلى لِيَشْكُرَ لَهُ النِّعَمَ الماضِيَةَ والهَوى يَطْلُبُها لِيَطْمَعَ مِنهُ في النِّعَمِ المُتَرَبَّصَةِ، فَلَمّا عَرَفاهُ كَما أرادَهُ عالِمًا وغَنِيًّا تَعَلَّقا بِذَيْلِهِ، فَقالَ العَقْلُ: لا أشْكُرُ أحَدًا سِواكَ، وقالَتِ الشَّهْوَةُ: لا أسْألُ أحَدًا إلّا إيّاكَ، ثُمَّ جاءَتِ الشُّبْهَةُ فَقالَتْ: يا عَقْلُ كَيْفَ أفْرَدْتَهُ بِالشُّكْرِ ولَعَلَّ لَهُ مِثْلًا ؟ ويا شَهْوَةُ كَيْفَ اقْتَصَرْتِ عَلَيْهِ ولَعَلَّ هَهُنا بابًا آخَرَ ؟ فَبَقِيَ العَقْلُ مُتَحَيِّرًا وتَنَغَّصَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الرّاحَةُ، فَأرادَ أنْ يُسافِرَ في عالَمِ الِاسْتِدْلالِ لِيَفُوزَ بِجَوْهَرَةِ اليَقِينِ فَكَأنَّ الحَقَّ سُبْحانَهُ قالَ: كَيْفَ أُنَغِّصُ عَلى عَبْدِي لَذَّةَ الِاشْتِغالِ بِخِدْمَتِي وشُكْرِي ؟ فَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ وقالَ: لا تَقُلْهُ مِن عِنْدِ نَفْسِكَ، بَلْ قُلْ هو الَّذِي عَرَفْتَهُ صادِقًا يَقُولُ لِي: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَعَرَّفَكَ الوَحْدانِيَّةَ بِالسَّمْعِ وكَفاكَ مُؤْنَةَ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ بِالعَقْلِ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ المَطالِبَ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ، قِسْمٌ مِنها لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْهِ بِالسَّمْعِ وهو كُلُّ ما تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ السَّمْعِ عَلى صِحَّتِهِ كالعِلْمِ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وصِحَّةِ المُعْجِزاتِ، وقِسْمٌ مِنها لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْهِ إلّا بِالسَّمْعِ وهو وُقُوعُ كُلِّ ما عُلِمَ بِالعَقْلِ جَوازُ وُقُوعِهِ، وقِسْمٌ ثالِثٌ يُمْكِنُ الوُصُولُ إلَيْهِ بِالعَقْلِ والسَّمْعِ مَعًا، وهو كالعِلْمِ بِأنَّهُ واحِدٌ وبِأنَّهُ مَرْئِيٌّ إلى غَيْرِهِما، وقَدِ اسْتَقْصَيْنا في تَقْرِيرِ دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا بُدَّ في سُورَةِ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ مِن ”قُلْ“ وأجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لَفْظُ ”قُلْ“ في سُورَةِ: (تَبَّتْ) وأمّا في هَذِهِ السُّورَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فالقِراءَةُ المَشْهُورَةُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ وقَرَأ أُبَيٌّ وابْنُ مَسْعُودٍ، بِغَيْرِ ”قُلْ“ هَكَذا: (هو اللَّهُ أحَدٌ) وقَرَأ النَّبِيُّ ﷺ، بِدُونِ ”قُلْ هو“ هَكَذا: (اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) فَمَن أثْبَتَ (قُلْ) قالَ: السَّبَبُ فِيهِ بَيانُ أنَّ النَّظْمَ لَيْسَ في مَقْدُورِهِ، بَلْ يَحْكِي كُلَّ ما يُقالُ لَهُ، ومَن حَذَفَهُ قالَ: لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ ذَلِكَ ما كانَ مَعْلُومًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ في إعْرابِ هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ هو كِنايَةٌ عَنِ اسْمِ اللَّهِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: اللَّهُ مُرْتَفِعًا بِأنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، ويَجُوزُ في قَوْلِهِ: (أحَدٌ) ما يَجُوزُ في قَوْلِكَ: زَيْدٌ أخُوكَ قائِمٌ.
الثّانِي: أنَّ (p-١٦٤)هُوَ كِنايَةٌ عَنِ الشَّأْنِ، وعَلى هَذا التَّقْرِيرِ يَكُونُ اللَّهُ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِداءِ وأحَدٌ خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ تَكُونُ خَبَرًا عَنْ هو، والتَّقْدِيرُ الشَّأْنُ والحَدِيثُ: هو أنَّ اللَّهَ أحَدٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَإذا هي شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنبياء: ٩٧] إلّا أنَّ هي جاءَتْ عَلى التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ في التَّفْسِيرِ: اسْمًا مُؤَنَّثًا، وعَلى هَذا جاءَ: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ﴾ [الحج: ٤٦] أمّا إذا لَمْ يَكُنْ في التَّفْسِيرِ مُؤَنَّثٌ لَمْ يُؤَنَّثْ ضَمِيرُ القِصَّةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ [طه: ٧٤] .
والثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ: تَقْدِيرُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ هَذا الَّذِي سَألْتُمْ عَنْهُ هو اللَّهُ أحَدٌ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في (أحَدٌ) وجْهانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ بِمَعْنى واحِدٍ، قالَ الخَلِيلُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ: أحَدٌ اثْنانِ وأصْلُ أحَدٍ وحَدٌ إلّا أنَّهُ قُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً لِلتَّخْفِيفِ وأكْثَرُ ما يَفْعَلُونَ هَذا بِالواوِ المَضْمُومَةِ والمَكْسُورَةِ كَقَوْلِهِمْ: وُجُوهٌ وأُجُوهٌ، وِسادَةٌ وإسادَةٌ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ الواحِدَ والأحَدَ لَيْسا اسْمَيْنِ مُتَرادِفَيْنِ قالَ الأزْهَرِيُّ: لا يُوصَفُ شَيْءٌ بِالأحَدِيَّةِ غَيْرُ اللَّهِ تَعالى لا يُقالُ: رَجُلٌ أحَدٌ ولا دِرْهَمٌ أحَدٌ كَما يُقالُ: رَجُلٌ واحِدٌ أيْ فَرْدٌ بِهِ بَلْ أحَدٌ صِفَةٌ مِن صِفاتِ اللَّهِ تَعالى اسْتَأْثَرَ بِها فَلا يُشْرِكُهُ فِيها شَيْءٌ ثُمَّ ذَكَرُوا في الفَرْقِ بَيْنَ الواحِدِ والأحَدِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ الواحِدَ يَدْخُلُ في الأحَدِ، والأحَدُ لا يَدْخُلُ فِيهِ.
وثانِيها: أنَّكَ إذا قُلْتَ: فُلانٌ لا يُقاوِمُهُ واحِدٌ، جازَ أنْ يُقالَ: لَكِنَّهُ يُقاوِمُهُ اثْنانِ بِخِلافِ الأحَدِ، فَإنَّكَ لَوْ قُلْتَ: فُلانٌ لا يُقاوِمُهُ أحَدٌ، لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: لَكِنَّهُ يُقاوِمُهُ اثْنانِ.
وثالِثُها: أنَّ الواحِدَ يُسْتَعْمَلُ في الإثْباتِ، والأحَدَ في النَّفْيِ، تَقُولُ في الإثْباتِ رَأيْتُ رَجُلًا واحِدًا، وتَقُولُ في النَّفْيِ: ما رَأيْتُ أحَدًا، فَيُفِيدُ العُمُومَ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ: (أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ) فَقِراءَةُ العامَّةِ بِالتَّنْوِينِ وتَحْرِيكِهِ بِالكَسْرِ هَكَذا (أحَدُنِ اللَّهُ)، وهو القِياسُ الَّذِي لا إشْكالَ فِيهِ، وذَلِكَ لِأنَّ التَّنْوِينَ مِن ”أحَدٌ“ ساكِنٌ ولامُ المَعْرِفَةِ مِنَ اللَّهِ ساكِنَةٌ، ولَمّا التَقى ساكِنانِ حُرِّكَ الأوَّلُ مِنهُما بِالكَسْرِ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو، ”أحَدُ اللَّهُ“ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وذَلِكَ أنَّ النُّونَ شابَهَتْ حُرُوفَ اللِّينِ في أنَّها تُزادُ كَما يُزَدْنَ فَلَمّا شابَهَتْها أُجْرِيَتْ مُجْراها في أنْ حُذِفَتْ ساكِنَةً لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ كَما حُذِفَتِ الألِفُ والواوُ والياءُ لِذَلِكَ نَحْوُ: غَزا القَوْمَ ويَغْزُو القَوْمَ، ويَرْمِي القَوْمَ، ولِهَذا حُذِفَتِ النُّونُ السّاكِنَةُ في الفِعْلِ نَحْوُ: (لَمْ يَكُ) ﴿فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ﴾ [هود: ١٠٩] فَكَذا هَهُنا حُذِفَتْ في ”أحَدُ اللَّهُ“ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ كَما حُذِفَتْ هَذِهِ الحُرُوفُ.
وقَدْ ذَكَرْنا هَذا مُسْتَقْصًى عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] ورُوِيَ أيْضًا عَنْ أبِي عَمْرٍو: (أحَدْ اللَّهُ) وقالَ: أدْرَكْتُ القُرّاءَ يَقْرَءُونَها كَذَلِكَ وصْلًا عَلى السُّكُونِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: قَدْ تَجْرِي الفَواصِلُ في الإدْراجِ مُجْراها في الوَقْفِ وعَلى هَذا قالَ مَن قالَ: ﴿فَأضَلُّونا السَّبِيلَ﴾ ﴿رَبَّنا﴾ [الأحزاب: ٦٧] ﴿وما أدْراكَ ما هِيَهْ﴾ ﴿نارٌ﴾ [القارعة: ١٠] فَكَذَلِكَ ( أحَدٌ اللَّهُ) لَمّا كانَ أكْثَرُ القُرّاءِ فِيما حَكاهُ أبُو عَمْرٍو عَلى الوَقْفِ أجْراهُ في الوَصْلِ مُجْراهُ في الوَقْفِ لِاسْتِمْرارِ الوَقْفِ عَلَيْهِ وكَثْرَتِهِ في ألْسِنَتِهِمْ، وقَرَأ الأعْمَشُ: (قُلْ هو اللَّهُ الواحِدُ) فَإنْ قِيلَ: لِماذا ؟ قِيلَ: أحَدٌ عَلى النَّكِرَةِ، قالَ الماوَرْدِيُّ: فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: حَذْفُ لامِ التَّعْرِيفِ عَلى نِيَّةِ إضْمارِها والتَّقْدِيرُ قُلْ: هو اللَّهُ الأحَدُ.
والثّانِي: أنَّ المُرادَ هو التَّنْكِيرُ عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: (هو اللَّهُ أحَدٌ) ألْفاظٌ ثَلاثَةٌ وكُلُّ واحِدٍ مِنها إشارَةٌ إلى مَقامٍ مِن مَقاماتِ الطّالِبِينَ:
فالمَقامُ الأوَّلُ: مَقامُ المُقَرَّبِينَ وهو أعْلى مَقاماتِ السّائِرِينَ إلى اللَّهِ وهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إلى ماهِيّاتِ الأشْياءِ وحَقائِقِها مِن حَيْثُ هي هي، فَلا جَرَمَ ما رَأوْا مَوْجُودًا سِوى اللَّهِ لِأنَّ الحَقَّ هو الَّذِي لِذاتِهِ (p-١٦٥)يَجِبُ وُجُودُهُ، وأمّا ما عَداهُ فَمُمْكِنٌ لِذاتِهِ والمُمْكِنُ لِذاتِهِ إذا نُظِرَ إلَيْهِ مِن حَيْثُ هو هو كانَ مَعْدُومًا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يَرَوْا مَوْجُودًا سِوى الحَقِّ سُبْحانَهُ، وقَوْلُهُ: (هو) إشارَةٌ مُطْلَقَةٌ والإشارَةُ وإنْ كانَتْ مُطْلَقَةً إلّا أنَّ المُشارَ إلَيْهِ لَمّا كانَ مُعَيَّنًا انْصَرَفَ ذَلِكَ المُطْلَقُ إلى ذَلِكَ المُعَيَّنِ، فَلا جَرَمَ كانَ قَوْلُنا: ”هو“ إشارَةً مِن هَؤُلاءِ المُقَرَّبِينَ إلى الحَقِّ سُبْحانَهُ فَلَمْ يَفْتَقِرُوا في تِلْكَ الإشارَةِ إلى مُمَيِّزٍ؛ لِأنَّ الِافْتِقارَ إلى المُمَيِّزِ إنَّما يَحْصُلُ حِينَ حَصَلَ هُناكَ مَوْجُودانِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ هَؤُلاءِ ما شاهَدُوا بِعُيُونِ عُقُولِهِمْ إلّا الواحِدَ فَقَطْ، فَلِهَذا السَّبَبِ كانَتْ لَفْظَةُ: (هو) كافِيَةً في حُصُولِ العِرْفانِ التّامِّ لِهَؤُلاءِ.
المَقامُ الثّانِي: وهو مَقامُ أصْحابِ اليَمِينِ وهو دُونُ المَقامِ الأوَّلِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَؤُلاءِ شاهَدُوا الحَقَّ مَوْجُودًا وشاهَدُوا الخَلْقَ أيْضًا مَوْجُودًا، فَحَصَلَتْ كَثْرَةٌ في المَوْجُوداتِ فَلا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ هو كافِيًا في الإشارَةِ إلى الحَقِّ، بَلْ لا بُدَّ هُناكَ مِن مُمَيِّزٍ بِهِ يَتَمَيَّزُ الحَقُّ عَنِ الخَلْقِ: فَهَؤُلاءِ احْتاجُوا إلى أنْ يَقْرِنُوا لَفْظَةَ اللَّهِ بِلَفْظَةِ هو، فَقِيلَ لِأجْلِهِمْ: هو اللَّهُ لِأنَّ اللَّهَ هو المَوْجُودُ الَّذِي يَفْتَقِرُ إلَيْهِ ما عَداهُ، ويَسْتَغْنِي هو عَنْ كُلِّ ما عَداهُ.
والمَقامُ الثّالِثُ: وهو مَقامُ أصْحابِ الشِّمالِ وهو أخَسُّ المَقاماتِ وأدْوَنُها، وهُمُ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ أنْ يَكُونَ واجِبُ الوُجُودِ أكْثَرَ مِن واحِدٍ وأنْ يَكُونَ الإلَهُ أكْثَرَ مِن واحِدٍ فَقَرَنَ لَفْظَ الأحَدِ بِما تَقَدَّمَ رَدًّا عَلى هَؤُلاءِ وإبْطالًا لِمَقالاتِهِمْ فَقِيلَ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ .
وهَهُنا بَحْثٌ آخَرُ أشْرَفُ وأعْلى مِمّا ذَكَرْناهُ وهو أنَّ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى إمّا أنْ تَكُونَ إضافِيَّةً وإمّا أنْ تَكُونَ سَلْبِيَّةً، أمّا الإضافِيَّةُ فَكَقَوْلِنا: عالِمٌ، قادِرٌ مُرِيدٌ خَلّاقٌ، وأمّا السَّلْبِيَّةُ فَكَقَوْلِنا: لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا بِجَوْهَرٍ ولا بِعَرَضٍ والمَخْلُوقاتُ تَدُلُّ أوَّلًا عَلى النَّوْعِ الأوَّلِ مِنَ الصِّفاتِ وثانِيًا عَلى النَّوْعِ الثّانِي مِنها، وقَوْلُنا: اللَّهُ يَدُلُّ عَلى مَجامِعِ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ، وقَوْلُنا: أحَدٌ يَدُلُّ عَلى مَجامِعِ الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ، فَكانَ قَوْلُنا: (اللَّهُ أحَدٌ) تامًّا في إفادَةِ العِرْفانِ الَّذِي يَلِيقُ بِالعُقُولِ البَشَرِيَّةِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ لَفْظَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلى مَجامِعِ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ، واسْتِحْقاقُ العِبادَةِ لَيْسَ إلّا لِمَن يَكُونُ مُسْتَبِدًّا بِالإيجادِ والإبْداعِ، والِاسْتِبْدادُ بِالإيجادِ لا يَحْصُلُ إلّا لِمَن كانَ مَوْصُوفًا بِالقُدْرَةِ التّامَّةِ والإرادَةِ النّافِذَةِ والعِلْمِ المُتَعَلِّقِ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ مِنَ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ، وهَذِهِ مَجامِعُ الصِّفاتِ الإضافِيَّةِ، وأمّا مَجامِعُ الصِّفاتِ السَّلْبِيَّةِ فَهي الأحَدِيَّةُ، وذَلِكَ لِأنَّ المُرادَ مِنَ الأحَدِيَّةِ كَوْنُ تِلْكَ الحَقِيقَةِ في نَفْسِها مُفْرَدَةً مُنَزَّهَةً عَنْ أنْحاءِ التَّرْكِيبِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ ماهِيَّةٍ مُرَكَّبَةٍ فَهي مُفْتَقِرَةٌ إلى كُلِّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِن أجْزائِهِ غَيْرُهُ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُفْتَقِرٌ إلى غَيْرِهِ، وكُلُّ مُفْتَقِرٍ إلى غَيْرِهِ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهو مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، فالإلَهُ الَّذِي هو مَبْدَأٌ لِجَمِيعِ الكائِناتِ مُمْتَنِعٌ أنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، فَهو في نَفْسِهِ فَرْدٌ أحَدٌ وإذا ثَبَتَتِ الأحَدِيَّةُ، وجَبَ أنْ لا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا؛ لِأنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ فَإنَّ يَمِينَهُ مُغايِرٌ لِيَسارِهِ، وكُلُّ ما كانَ كَذَلِكَ فَهو مُنْقَسِمٌ، فالأحَدُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا، وإذا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ في شَيْءٍ مِنَ الأحْيازِ والجِهاتِ، ويَجِبُ أنْ لا يَكُونَ حالًّا في شَيْءٍ؛ لِأنَّهُ مَعَ مَحَلِّهِ لا يَكُونُ أحَدًا، ولا يَكُونُ مَحَلًّا لِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ مَعَ حالِّهِ لا يَكُونُ أحَدًا، وإذا لَمْ يَكُنْ حالًّا ولا مَحَلًّا لَمْ يَكُنْ مُتَغَيِّرًا البَتَّةَ لِأنَّ التَّغَيُّرَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مِن صِفَةٍ إلى صِفَةٍ، وأيْضًا إذا كانَ أحَدًا وجَبَ أنْ يَكُونَ واحِدًا إذْ لَوْ فُرِضَ مَوْجُودانِ واجِبا الوُجُودِ لاشْتَرَكا في الوُجُوبِ ولَتَمايَزا في التَّعَيُّنِ وما بِهِ المُشارَكَةُ غَيْرُ ما بِهِ المُمايَزَةُ فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُرَكَّبٌ، فَثَبَتَ أنَّ كَوْنَهُ أحَدًا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ واحِدًا فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ كَوْنُ الشَّيْءِ أحَدًا، فَإنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ تُوصَفُ بِالأحَدِيَّةِ فَهُناكَ تِلْكَ الحَقِيقَةُ مِن تِلْكَ الأحَدِيَّةِ ومَجْمُوعِهِما فَذاكَ ثالِثُ ثَلاثٍ لا أحَدٌ.
الجَوابُ: أنَّ الأحَدِيَّةَ لازِمَةٌ لِتِلْكَ الحَقِيقَةِ فالمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالأحَدِيَّةِ هو تِلْكَ الحَقِيقَةُ لا المَجْمُوعُ الحاصِلُ مِنها ومِن تِلْكَ الأحَدِيَّةِ، فَقَدْ لاحَ بِما (p-١٦٦)ذَكَرْنا أنَّ قَوْلَهُ: (اللَّهُ أحَدٌ) كَلامٌ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى مِنَ الإضافِيّاتِ والسُّلُوبِ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذا البابِ مَذْكُورٌ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ [البقرة: ١٦٣] .
{"ayah":"قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ"}