* (لطيفة)
وأما قوله تعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فهو توحيد منه لنفسه، وأمر للمخاطب بتوحيده.
فإذا قال العبد ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ كان قد وحد الله بما وحد به نفسه وأتى بلفظة قل تحقيقا لهذا المعنى وأنه مبلغ محض قائل لما أمر بقوله والله أعلم.
وهذا بخلاف قوله: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ﴾ و ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ فإن هذا أمر محض بإنشاء الاستعاذة لا تبليغ لقوله: ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾
فإن الله لا يستعيذ من أحد وذلك عليه محال، بخلاف قوله: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فإنه خبر عن توحيده وهو سبحانه يخبر عن نفسه بأنه الواحد الأحد فتأمل هذه النكتة البديعة والله المستعان.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ لكمال صمديته
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ لتفرده بالكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره.
* (فصل)
وَلَمّا سَألَ المُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ سُبْحانَهُ: مِن أيِّ شَيْءٍ هُوَ؟
أنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾
وَلِذَلِكَ لَمّا سَألَ فِرْعَوْنُ مُوسى عَنْ حَقِيقَةِ رَبِّهِ، بِقَوْلِهِ: ﴿وَما رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٣] أجابَهُ مُوسى بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾.
إذْ لا وُصُولَ لِلْبَشَرِ إلى حَقِيقَةِ ذاتِهِ، فَدَلَّهم عَلى نَفْسِهِ بِصِفاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ مِن كَوْنِهِ صَمَدًا، وصِفاتِهِ السَّلْبِيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ لِلثُّبُوتِ؛ مِن كَوْنِهِ " لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ " لَمْ يَجْعَلْ لَهم سَبِيلًا إلى مَعْرِفَةِ الذّاتِ والكُنْهِ.
* (فصل)
«وَسَألَهُ ﷺ رَجُلٌ فَقالَ: إنِّي أُحِبُّ سُورَةَ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَقالَ: حُبُّكَ إيّاها أدْخَلَكَ الجَنَّةَ».
وَفِي لفظ آخر «أخبروه أن الله يُحِبهُ»
«وَقالَ لَهُ ﷺ رَجُلٌ: لَيْسَ عِنْدِي يا رَسُولَ اللَّهِ ما أتَزَوَّجُ بِهِ، قالَ: أوَلَيْسَ مَعَكَ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾؟
قالَ: بَلى، قالَ: ثُلُثُ القُرْآنِ
قالَ ألَيْسَ مَعَكَ ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾؟
قالَ: بَلى، قالَ: رُبْعُ القُرْآنِ قالَ ألَيْسَ مَعَكَ ﴿إذا زُلْزِلَتِ الأرْضُ﴾؟
قالَ: بَلى، قالَ: رُبْعُ القُرْآنِ
قالَ ألَيْسَ مَعَكَ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾؟
قالَ: بَلى، قالَ: رُبْعُ القُرْآنِ.
ألَيْسَ مَعَكَ آيَةُ الكُرْسِيِّ؟ قالَ: بَلى، قالَ: رُبْعُ القُرْآنِ قالَ: تَزَوَّجْ، تَزَوَّجْ، تَزَوَّجْ، ثَلاثَ مَرّاتٍ»
ذَكَرَهُ أحْمَدُ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ «سَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو، ويَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِأنِّي أشْهَدُ أنَّكَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا أنْتَ، الأحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أحَدٌ، فَقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَألَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأعْظَمِ، الَّذِي إذا دُعِيَ بِهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بِهِ أعْطى»
قالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَهَذا تَوَسُّلٌ إلى اللَّهِ بِتَوْحِيدِهِ، وشَهادَةِ الدّاعِي لَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ، وثُبُوتِ صِفاتِهِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِاسْمِ الصَّمَدِ وهو كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " العالِمُ الَّذِي كَمُلَ عِلْمُهُ، القادِرُ الَّذِي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ "
وَفِي رِوايَةٍ عَنْهُ: " هو السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِيهِ جَمِيعُ أنْواعِ السُّؤْدُدِ "
وَقالَ أبُو وائِلٍ: " هو السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهى سُؤْدَدُهُ "
وَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو الكامِلُ في جَمِيعِ صِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأقْوالِهِ، وبِنَفْيِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ " ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ "
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَقِيدَةِ أهْلِ السُّنَّةِ، والتَّوَسُّلُ بِالإيمانِ بِذَلِكَ، والشَّهادَةُ بِهِ هو الِاسْمُ الأعْظَمُ.
* (فائدة)
من مَواطِن الصَّلاة عَلَيْهِ ﷺ عند دُخُول المنزل
ذكره الحافِظ أبُو مُوسى المَدِينِيّ
وروى فِيهِ من حَدِيث أبي صالح بن المُهلب عَن أبي بكر بن عمران حَدثنِي مُحَمَّد بن العَبّاس بن الوَلِيد حَدثنِي عَمْرو بن سعيد حَدثنا ابْن أبي ذِئْب حَدثنِي مُحَمَّد بن عجلان عَن أبي حازِم عَن سهل بن سعد قالَ
جاءَ رجل إلى النَّبِي ﷺ فَشَكا إلَيْهِ الفقر وضيق العَيْش أو المعاش فَقالَ لَهُ رَسُول الله ﷺ
"إذا دخلت مَنزِلك فَسلم إن كانَ فِيهِ أحد أو لم يكن فِيهِ أحد، ثمَّ سلم عَليّ واقرأ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ مرّة واحِدَة"
فَفعل الرجل، فأدر الله عَلَيْهِ الرزق حَتّى أفاض على جِيرانه وقراباته.
* (فصل)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ: أيُّ الصَّلاتَيْنِ آكَدُ سُنَّةُ الفَجْرِ أوِ الوِتْرُ؟ عَلى قَوْلَيْنِ: ولا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ بِاخْتِلافِ الفُقَهاءِ في وُجُوبِ الوِتْرِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا أيْضًا في وُجُوبِ سُنَّةِ الفَجْرِ، وسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ يَقُولُ: سُنَّةُ الفَجْرِ تَجْرِي مَجْرى بِدايَةِ العَمَلِ، والوِتْرُ خاتَمَتُهُ. ولِذَلِكَ كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي سُنَّةَ الفَجْرِ والوِتْرَ بِسُورَتَيِ الإخْلاصِ وهُما الجامِعَتانِ لِتَوْحِيدِ العِلْمِ والعَمَلِ، وتَوْحِيدِ المَعْرِفَةِ والإرادَةِ، وتَوْحِيدِ الِاعْتِقادِ والقَصْدِ، انْتَهى.
فَسُورَةُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَوْحِيدِ الِاعْتِقادِ والمَعْرِفَةِ، وما يَجِبُ إثْباتُهُ لِلرَّبِّ تَعالى مِنَ الأحَدِيَّةِ المُنافِيَةِ لِمُطْلَقِ المُشارَكَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، والصَّمَدِيَّةِ المُثْبِتَةِ لَهُ جَمِيعَ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي لا يَلْحَقُها نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ونَفْيِ الوَلَدِ والوالِدِ الَّذِي هو مِن لَوازِمِ الصَّمَدِيَّةِ، وغِناهُ وأحَدِيَّتِهِ، ونَفْيِ الكُفْءِ المُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ والتَّنْظِيرِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إثْباتَ كُلِّ كَمالٍ لَهُ، ونَفْيَ كُلِّ نَقْصٍ عَنْهُ، ونَفْيَ إثْباتِ شَبِيهٍ أوْ مَثِيلٍ لَهُ في كَمالِهِ، ونَفْيَ مُطْلَقِ الشَّرِيكِ عَنْهُ، وهَذِهِ الأُصُولُ هي مَجامِعُ التَّوْحِيدِ العِلْمِيِّ الِاعْتِقادِيِّ الَّذِي يُبايِنُ صاحِبُهُ جَمِيعَ فِرَقِ الضَّلالِ والشِّرْكِ، ولِذَلِكَ كانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، فَإنَّ القُرْآنَ مَدارُهُ عَلى الخَبَرِ والإنْشاءِ، والإنْشاءُ ثَلاثَةٌ: أمْرٌ، ونَهْيٌ، وإباحَةٌ.
والخَبَرُ نَوْعانِ: خَبَرٌ عَنِ الخالِقِ تَعالى وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأحْكامِهِ، وخَبَرٌ عَنْ خَلْقِهِ. فَأخْلَصَتْ سُورَةُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾
الخَبَرَ عَنْهُ، وعَنْ أسْمائِهِ، وصِفاتِهِ، فَعَدَلَتْ ثُلُثَ القُرْآنِ، وخَلَّصَتْ قارِئَها المُؤْمِنَ بِها مِنَ الشِّرْكِ العِلْمِيِّ، كَما خَلَّصَتْ سُورَةُ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ مِنَ الشِّرْكِ العَمَلِيِّ الإرادِيِّ القَصْدِيِّ. ولَمّا كانَ العِلْمُ قَبْلَ العَمَلِ وهو إمامُهُ وقائِدُهُ وسائِقُهُ، والحاكِمُ عَلَيْهِ ومُنْزِلُهُ مَنازِلَهُ، كانَتْ سُورَةُ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ.
والأحادِيثُ بِذَلِكَ تَكادُ تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّواتُرِ، و﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ، والحَدِيثُ بِذَلِكَ في الترمذي مِن رِوايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما يَرْفَعُهُ «﴿إذا زُلْزِلَتِ﴾ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ و﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، و﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ».
رَواهُ الحاكم في "المُسْتَدْرَكِ" وقالَ: صَحِيحُ الإسْنادِ.
وَلَمّا كانَ الشِّرْكُ العَمَلِيُّ الإرادِيُّ أغْلَبَ عَلى النُّفُوسِ لِأجْلِ مُتابَعَتِها هَواها، وكَثِيرٌ مِنها تَرْتَكِبُهُ مَعَ عِلْمِها بِمَضَرَّتِهِ وبُطْلانِهِ، لِما لَها فِيهِ مِن نَيْلِ الأغْراضِ، وإزالَتُهُ وقَلْعُهُ مِنها أصْعَبُ، وأشَدُّ مِن قَلْعِ الشِّرْكِ العِلْمِيِّ وإزالَتِهِ، لِأنَّ هَذا يَزُولُ بِالعِلْمِ والحُجَّةِ، ولا يُمْكِنُ صاحِبُهُ أنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ عَلى غَيْرِ ما هو عَلَيْهِ، بِخِلافِ شِرْكِ الإرادَةِ والقَصْدِ، فَإنَّ صاحِبَهُ يَرْتَكِبُ ما يَدُلُّهُ العِلْمُ عَلى بُطْلانِهِ وضَرَرِهِ لِأجْلِ غَلَبَةِ هَواهُ، واسْتِيلاءِ سُلْطانِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ عَلى نَفْسِهِ، فَجاءَ مِنَ التَّأْكِيدِ والتَّكْرارِ في سُورَةِ ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ المُتَضَمِّنَةِ لِإزالَةِ الشِّرْكِ العَمَلِيِّ، ما لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ في سُورَةِ ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾
وَلَمّا كانَ القُرْآنُ شَطْرَيْنِ: شَطْرًا في الدُّنْيا وأحْكامِها، ومُتَعَلَّقاتِها، والأُمُورِ الواقِعَةِ فِيها مِن أفْعالِ المُكَلَّفِينَ وغَيْرِها، وشَطْرًا في الآخِرَةِ وما يَقَعُ فِيها، وكانَتْ سُورَةُ ﴿إذا زُلْزِلَتِ﴾ قَدْ أُخْلِصَتْ مِن أوَّلِها وآخِرِها لِهَذا الشَّطْرِ، فَلَمْ يُذْكُرْ فِيها إلّا الآخِرَةُ وما يَكُونُ فِيها مِن أحْوالِ الأرْضِ وسُكّانِها، كانَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ، فَأحْرى بِهَذا الحَدِيثِ أنْ يَكُونَ صَحِيحًا - واللَّهُ أعْلَمُ - ولِهَذا كانَ يَقْرَأُ بِهاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ في رَكْعَتَيِ الطَّوافِ ولِأنَّهُما سُورَتا الإخْلاصِ والتَّوْحِيدِ، كانَ يَفْتَتِحُ بِهِما عَمَلَ النَّهارِ، ويَخْتِمُهُ بِهِما، ويَقْرَأُ بِهِما في الحَجِّ الَّذِي هو شِعارُ التَّوْحِيدِ.
* [فَصْلٌ في التَّوْحِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِما مَدارُ كِتابِ اللَّهِ تَعالى]
وَمِلاكُ النَّجاةِ والسَّعادَةِ والفَوْزِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَيْهِما مَدارُ كُتُبِ اللَّهِ تَعالى وبِتَحْقِيقِهِما بَعَثَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى رَسُولَهُ ﷺ، وإلَيْهِما رَغَّبَ الرُّسُلُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ " كُلُّهم " مِن أوَّلِهِمْ إلى آخِرِهِمْ.
أحَدُهُما التَّوْحِيدُ العِلْمِيُّ الخَبَرِيُّ الِاعْتِقادِيُّ المُتَضَمِّنُ إثْباتَ صِفاتِ الكَمالِ لِلَّهِ تَعالى وتَنْزِيهِهِ فِيها عَنِ التَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ وتَنْزِيهِهِ عَنْ صِفاتِ النَّقْصِ.
والتَّوْحِيدُ الثّانِي: عِبادَتُهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وتَجْرِيدُ مَحَبَّتِهِ، والإخْلاصُ لَهُ، وخَوْفُهُ ورَجاؤُهُ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، والرِّضى بِهِ رَبًّا وإلَهًا ووَلِيًّا وأنْ لا يَجْعَلَ لَهُ عَدْلًا في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ.
وَقَدْ جَمَعَ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ التَّوْحِيدِ في سُورَتَيِ الإخْلاصِ
وَهُما: سُورَةُ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ المُتَضَمِّنَةُ لِلتَّوْحِيدِ العَمَلِيِّ الإرادِيِّ، وسُورَةُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ المُتَضَمِّنَةُ لِلتَّوْحِيدِ الخَبَرِيِّ العِلْمِيِّ.
فَسُورَةُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ فِيها بَيانُ ما يَجِبُ لِلَّهِ تَعالى مِن صِفاتِ الكَمالِ، وبَيانُ ما يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِنَ النَّقائِصِ والأمْثالِ، وسُورَةُ: ﴿قُلْ ياأيُّها الكافِرُونَ﴾ فِيها إيجابُ عِبادَتِهِ وحْدَهُ (لا شَرِيكَ لَهُ) والتَّبَرِّي مِن عِبادَةِ كُلِّ ما سِواهُ ولا يَتِمُّ أحَدُ التَّوْحِيدَيْنِ إلّا بِالآخَرِ ولِهَذا كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْرَأُ بِهاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ في سُنَّةِ الفَجْرِ والمَغْرِبِ والوِتْرِ اللَّتَيْنِ هُما فاتِحَةُ العَمَلِ وخاتِمَتُهُ لِيَكُونَ مَبْدَأُ النَّهارِ تَوْحِيدًا وخاتِمَتُهُ تَوْحِيدًا.
فالتَّوْحِيدُ العِلْمِيُّ الخَبَرِيُّ لَهُ ضِدّانِ التَّعْطِيلُ والتَّشْبِيهُ والتَّمْثِيلُ فَمَن نَفى صِفاتِ الرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ وعَطَّلَها كَذَّبَ تَعْطِيلُهُ تَوْحِيدَهُ، ومَن شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ ومَثَّلَهُ بِهِمْ كَذَّبَ تَشْبِيهُهُ وتَمْثِيلُهُ تَوْحِيدَهُ.
والتَّوْحِيدُ الإرادِيُّ العَمَلِيُّ لَهُ ضِدّانِ: الإعْراضُ عَنْ مَحَبَّتِهِ والإنابَةِ إلَيْهِ والتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، أوِ الإشْراكُ بِهِ في ذَلِكَ واتِّخاذُ أوْلِيائِهِ شُفَعاءَ مِن دُونِهِ.
وَقَدْ جَمَعَ سُبْحانَهُ وتَعالى بَيْنَ التَّوْحِيدَيْنِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ القُرْآنِ فَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِراشًا والسَّماءَ بِناءً وأنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقًا لَكم فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢١]
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا إنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلَهَ إلّا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرارًا والسَّماءَ بِناءً وصَوَّرَكم فَأحْسَنَ صُوَرَكم ورَزَقَكم مِنَ الطَّيِّباتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ هو الحَيُّ لا إلَهَ إلّا هو فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [غافر: ٦١].
وَمِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ ما لَكم مِن دُونِهِ مِن ولِيٍّ ولا شَفِيعٍ أفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [السجدة: ٤].
* (فائدة)
اعلم أن من أشرف المعارف تسليط صفات السلب على أسماء الله تعالى.
وأما صفات السلب المحض فلا تدخل في أوصافه تعالى إلا أن تكون متضمنة لثبوت كالأحد المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية.
والسلام المتضمن لبراءته من كل نقص يضاد كماله، وكذلك الإخبار عنه بالسلوب هو لتضمنها ثبوتا كقوله تعالى: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ فإنه متضمن لكمال حياته وقيوميته.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ متضمن لكمال قدرته.
وكذلك قوله: ﴿وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ﴾ متضمن لكمال علمه.
وكذلك قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ﴾ متضمن لكمال صمديته وغناه.
وكذلك قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ﴾ متضمن لتفرده بكماله وأنه لا نظير له.
* (فصل)
قال ابن القيم - بعد كلام -:
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا، وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا، عكس ما يثبته القرآن، وجاء به من كل وجه.
ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَلمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواَ أحَدٌ﴾ [الإخلاص: ٤].
هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوا لأحد، فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه.
وسر ذلك: أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه. وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق لا يماثل المخلوق، ولا يشابهه، ولا هو ندّ له ولا كفؤ، فليس فيه مدح له.
فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك، لم يعد هذا مدحا، ولا ثناء عليه، ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملِك ندا ولا كفؤا، ولا شبيها من رعيته، تعظمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس في رعيته من يساميه. ولا يماثله، ولا يكافئه: كان هذا غاية المدح.
* (لطيفة)
قال ابن القيم:
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع له.
فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟
ومن هذا الباب أن سورة ﴿قل هو الله أحد﴾ تعدل ثلث القرآن ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعدد ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جدًا يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه وأفضل لإمكان تداركه والعود إليه، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه فالاشتغال به أولى - وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس ــ وإن كان القرآن أفضل، لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت. والله تعالى الموفق.
* [فَصْلٌ: هَدْيِهِ ﷺ في عِلاجِ لَدْغَةِ العَقْرَبِ بِالرُّقْيَةِ]
رَوى ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في " مُسْنَدِهِ "، مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «بَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي، إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ في أُصْبُعِهِ فانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وقالَ: " لَعَنَ اللَّهُ العَقْرَبَ ما تَدَعُ نَبِيًّا ولا غَيْرَهُ "، قالَ: ثُمَّ دَعا بِإناءٍ فِيهِ ماءٌ ومِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللَّدْغَةِ في الماءِ والمِلْحِ، ويَقْرَأُ: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ والمُعَوِّذَتَيْنِ حَتّى سَكَنَتْ».
فَفِي هَذا الحَدِيثِ العِلاجُ بِالدَّواءِ المُرَكَّبِ مِنَ الأمْرَيْنِ: الطَّبِيعِيِّ والإلَهِيِّ، فَإنَّ في سُورَةِ الإخْلاصِ مِن كَمالِ التَّوْحِيدِ العِلْمِيِّ الِاعْتِقادِيِّ، وإثْباتِ الأحَدِيَّةِ لِلَّهِ، المُسْتَلْزِمَةِ نَفْيَ كُلِّ شَرِكَةٍ عَنْهُ، وإثْباتِ الصَّمَدِيَّةِ المُسْتَلْزِمَةِ لِإثْباتِ كُلِّ كَمالٍ لَهُ مَعَ كَوْنِ الخَلائِقِ تَصْمُدُ إلَيْهِ في حَوائِجِها، أيْ: تَقْصِدُهُ الخَلِيقَةُ وتَتَوَجَّهُ إلَيْهِ عُلْوِيُّها وسُفْلِيُّها، ونَفْيِ الوالِدِ والوَلَدِ، والكُفْءِ عَنْهُ المُتَضَمَّنِ لِنَفْيِ الأصْلِ والفَرْعِ والنَّظِيرِ والمُماثِلِ مِما اخْتَصَّتْ بِهِ وصارَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، فَفي اسْمِهِ الصَّمَدِ إثْباتُ كُلِّ الكَمالِ، وفي نَفْيِ الكُفْءِ التَّنْزِيهُ عَنِ الشَّبِيهِ والمِثالِ. وفي الأحَدِ نَفْيُ كُلِّ شَرِيكٍ لِذِي الجَلالِ، وهَذِهِ الأُصُولُ الثَّلاثَةُ هي مَجامِعُ التَّوْحِيدِ.
وَفِي المُعَوِّذَتَيْنِ الِاسْتِعاذَةُ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وتَفْصِيلًا، فَإنَّ الِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ ما خَلَقَ تَعُمُّ كُلَّ شَرٍّ يُسْتَعاذُ مِنهُ، سَواءٌ كانَ في الأجْسامِ، أوِ الأرْواحِ.
والِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ الغاسِقِ وهو اللَّيْلُ، وآيَتِهِ وهو القَمَرُ إذا غابَ، تَتَضَمَّنُ الِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ ما يَنْتَشِرُ فِيهِ مِنَ الأرْواحِ الخَبِيثَةِ، الَّتِي كانَ نُورُ النَّهارِ يَحُولُ بَيْنَها وبَيْنَ الِانْتِشارِ، فَلَمّا أظْلَمَ اللَّيْلُ عَلَيْها وغابَ القَمَرُ انْتَشَرَتْ وعاثَتْ.
والِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ النَّفّاثاتِ في العُقَدِ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ السَّواحِرِ وسِحْرِهِنَّ.
والِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ الحاسِدِ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِعاذَةَ مِنَ النُّفُوسِ الخَبِيثَةِ المُؤْذِيَةِ بِحَسَدِها ونَظَرِها.
والسُّورَةُ الثّانِيَةُ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِعاذَةَ مِن شَرِّ شَياطِينِ الإنْسِ والجِنِّ فَقَدْ جَمَعَتِ السُّورَتانِ الِاسْتِعاذَةَ مِن كُلِّ شَرٍّ، ولَهُما شَأْنٌ عَظِيمٌ في الِاحْتِراسِ والتَّحَصُّنِ مِنَ الشُّرُورِ قَبْلَ وُقُوعِها، ولِهَذا أوْصى النَّبِيُّ ﷺ عُقْبَةَ بْنَ عامِرٍ بِقِراءَتِهِما عَقِبَ كُلِّ صَلاةٍ، ذَكَرَهُ الترمذي في " جامِعِهِ " وفي هَذا سِرٌّ عَظِيمٌ في اسْتِدْفاعِ الشُّرُورِ مِنَ الصَّلاةِ إلى الصَّلاةِ. وقالَ: ما تَعَوَّذَ المُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِما. وقَدْ ذَكَرَ أنَّهُ ﷺ سُحِرَ في إحْدى عَشْرَةَ عُقْدَةً، وأنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِما، فَجَعَلَ كُلَّما قَرَأ آيَةً مِنهُما انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، حَتّى انْحَلَّتِ العُقَدُ كُلُّها، وكَأنَّما أُنْشِطَ مِن عِقالٍ.
{"ayah":"قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ"}