الباحث القرآني

نبتدئ هذا اللقاء بالكلام على قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص ١، ٢] وما تيسر من السورتين بعدها. يقول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وهذا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وللأُمَّة أيضًا. و﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ ﴿هُوَ﴾ ضمير الشأن عند المعربين، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ هو خبر المبتدأ[[هذا جارٍ على أن ﴿هُوَ﴾ مبتدأ خبره الأول اسم الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ وخبره الثاني ﴿أَحَدٌ﴾، وإذا أعربنا ﴿هُوَ﴾ ضمير الشأن يكون اسم الجلالة ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأً ثانيًا، و﴿أَحَدٌ﴾ خبر المبتدأ الثاني، وجملة ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ خبر المبتدأ الأول وهو ضمير الشأن.]]، و﴿أَحَدٌ﴾ خبر ثان، و﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ جملة مستقلة. ذكروا في سبب نزول هذه السورة «أنَّ المشركين أو اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صِفْ لنا ربَّك من أيِّ شيءٍ هو. فأنزل الله هذه السورة»[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٦٠٦) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.]]. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أي: هو الله الذي تتحدَّثون عنه وتسألون عنه ﴿أَحَدٌ﴾ أي: متوحِّدٌ بجلاله وعظمته، ليس له مثيل، وليس له شريك، بل هو متفرِّدٌ بالجلال والعظمة عز وجل. ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ جملة مستقلَّة، بيَّن الله تعالى أنه ﴿الصَّمَدُ﴾، فما معنى ﴿الصَّمَدُ﴾؟ أجمعُ ما قيل في معناه أنه الكامل في صفاته، الذي افتقرتْ إليه جميعُ مخلوقاته، فقد رُوي عن ابن عباس «أن ﴿الصَّمَدُ﴾ هو الكامل في عِلْمه، الكامل في حِلْمه، الكامل في عِزَّته، الكامل في قدرته، إلى آخر ما ذُكِر في الأثر»[[أخرج ابن جرير في تفسيره (٢٤ / ٦٩٢) بسنده عن ابن عباس في قوله: ﴿الصَّمَدُ﴾ يقول: السيد الذي قد كمُل في سُؤدده، والشريف الذي قد كمُل في شرفه، والعظيم الذي قد عظُم في عظمته، والحليم الذي قد كمُل في حِلْمه، والغني الذي قد كمُل في غِناه، والجبَّار الذي قد كمُل في جبروته، والعالِم الذي قد كمُل في علمه، والحكيم الذي قد كمُل في حِكْمته، وهو الذي قد كمُل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي إلا له.]]، وهذا يعني أنه مستغنٍ عن جميع المخلوقات؛ لأنه كامل، ووَرَدَ أيضًا في تفسيرها أن ﴿الصَّمَدُ﴾ هو الذي تَصْمُد إليه الخلائق في حوائجها، وهذا يعني أن جميع المخلوقات مفتقرةٌ إليه، وعلى هذا فيكون المعنى الجامع لـ﴿الصَّمَدُ﴾ هو: الكامل في صفاته، الذي افتقرتْ إليه جميعُ مخلوقاته. ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص ٣]. ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ لأنه جلَّ وعلا لا مثيل له، والوَلَد مشتقٌّ من والده وجزءٌ منه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فاطمة: «إِنَّهَا بَضْعَةٌ مِنِّي»[[أخرج البخاري (٣٧١٤) ومسلم (٢٤٤٩ / ٩٤)، واللفظ للبخاري، من حديث المسور بن مخرمة أن رسول الله ﷺ قال: «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي».]]، والله جلَّ وعلا لا مثيل له، ثم إن الولد إنما يكون للحاجة إليه؛ إمَّا في المعونة على مُكابدة الدنيا، وإمَّا في الحاجة إلى بقاء النسل، والله عز وجل مستغنٍ عن ذلك، فلهذا ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ لأنه لا مثيل له، ولأنه مستغنٍ عن كلِّ أحدٍ عز وجل. وقد أشار الله عز وجل إلى امتناع ولادته أيضًا في قوله تعالى: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام ١٠١]، فالولد يحتاج إلى صاحبة تلده، وكذلك هو خالقُ كلِّ شيء، فإذا كان خالقَ كلِّ شيءٍ فكلُّ شيءٍ منفصلٌ عنه بائنٌ منه. ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ لأنه عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، فكيف يكون مولودًا؟! وفي هذه الجملة الأخيرة ردٌّ على ثلاث طوائف منحرفة من بني آدم وهم المشركون واليهودُ والنصارى؛ لأن المشركين جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا وقالوا: إن الملائكة بنات الله، واليهود قالوا: عُزَير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، فكذَّبهم الله بقوله: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾. فقوله: ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ فيه ردٌّ على ثلاث طوائف -وأنا جعلتُها الأخيرة ولكن الصواب هو الأول- ﴿لَمْ يَلِدْ﴾ ردٌّ على ثلاث طوائف من بني آدم كلُّها ضالَّة: المشركون، واليهود، والنصارى؛ لأن المشركين يقولون: إن الملائكة بنات الله، والنصارى يقولون: إن المسيح ابن الله، واليهود يقولون: عُزَير ابن الله. ﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء. ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص ٤] أي: لم يكن له أحدٌ مساويًا في جميع صفاته، فنفى الله عنه -سبحانه وتعالى- نفى عن نفسه أن يكون والدًا أو مولودًا أو له مثيل. هذه السورة لها فضلٌ عظيم؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»[[أخرجه البخاري (٥٠١٣) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم (٨١١ / ٢٥٩) من حديث أبي الدرداء.]]، لكنها تَعْدِله ولا تقوم مقامه، تَعْدل ثُلث القرآن لكنْ لا تقوم مقام ثُلث القرآن؛ بدليل أن الإنسان لو كرَّرها في الصلاة الفريضة ثلاث مرَّاتٍ لم تَكْفِهِ عن الفاتحة، مع أنه إذا قرأها ثلاث مرَّاتٍ فكأنَّما قرأ القرآن كُلَّه، لكنها لا تُجزئ عنه، ولا تستغربْ أن يكون الشيءُ معادلًا للشيء ولا يجزئ عنه؛ فها هو النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنَّ «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ»[[أخرج مسلم (٢٦٩٣ / ٣٠) بسنده من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ».]]، ومع ذلك لو كان عليه رقبةٌ كَفَّارة وقال هذا الذِّكْر لم يَكْفه عن الكفَّارة، فلا يَلْزم من مُعادَلة الشيء للشيء أن يكون قائمًا مقامه في الإجزاء. هذه السورة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأُ بها في الركعة الثانية في سُنَّة الفجر، وفي سُنَّة المغرب، وفي ركعتي الطواف، وكذلك يقرأُ بها في الثالثة في الوتر؛ لأنها مبنيَّةٌ على الإخلاص التامِّ لله، ولهذا تُسَمَّى سورة الإخلاص.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب