الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: يا محمد، آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام، القائلين لك:"لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك"، فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك، وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول، وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله، وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم = ﴿ولكن أكثرهم يجهلون﴾ ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك، يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم، متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا. وليس ذلك كذلك، ذلك بيدي، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته. * * * وقيل: إن ذلك نزل في المستهزئين برسول الله ﷺ، وما جاء به من عند الله، من مشركي قريش. * ذكر من قال ذلك: ١٣٧٥٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: نزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ ﷺ الآية، فقال:"قل"، يا محمد،"إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون"، ونزل فيهم: ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا﴾ . * * * وقال آخرون: إنما قيل: ﴿ما كانوا ليؤمنوا﴾ ، يراد به أهل الشقاء، وقيل: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ ، فاستثنى ذلك من قوله: ﴿ليؤمنوا﴾ ، يراد به أهل الإيمان والسعادة. * ذكر من قال ذلك: ١٣٧٥٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن عباس قوله: ﴿ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا﴾ ، وهم أهل الشقاء = ثم قال: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس، لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: ﴿ما كانوا ليؤمنوا﴾ ، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيه ليؤمنن بها﴾ . وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك. والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم، فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا. * * * واختلفت القرأة في قراءة قوله: ﴿وحشرنا عليهم كل شيء قبلا﴾ . فقرأته قرأة أهل المدينة:"قِبَلا"، بكسر"القاف" وفتح"الباء"، بمعنى: معاينةً= من قول القائل:"لقيته قِبَلا"، أي معاينة ومُجاهرةً. * * * وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا﴾ ، بضم"القاف"،"والباء". وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون"القبل" جمع"قبيل"، كالرُّغُف التي هي جمع"رغيف"، و"القُضُب" التي هي جمع"قضيب"، ويكون"القبل"، الضمناء والكفلاء= وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم، ما آمنوا إلا أن يشاء الله. والوجه الآخر: أن يكون"القبل" بمعنى المقابلة والمواجهة، من قول القائل:"أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا"، إذا أتاه من قبل وجهه. والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً، صنفًا صنفًا، وجماعة جماعةً، فيكون"القبل" حينئذ جمع"قبيل"، الذي هو ج مع"قبيلة"، فيكون"القبل" جمع الجمع. [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٥٠، ٣٥١.]] * * * وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً. ١٣٧٥٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ﴿وحشرنا عليهم كل شيء قبلا﴾ ، يقول: معاينة. ١٣٧٥٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿وحشرنا عليهم كل شيء قبلا﴾ ، حتى يعاينوا ذلك معاينة= ﴿ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله﴾ . * * * * ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا. ١٣٧٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: ﴿قُبُلا﴾ ، معناه: قبيلا قبيلا. ١٣٧٦٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ﴿قُبُلا﴾ ، أفواجًا، قبيلا قبيلا. ١٣٧٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في"الأنعام": ﴿كل شيء قُبُلا﴾ ، قال: قبائل، قبيلا وقبيلا وقبيلا. * * * * ذكر من قال: معناه: مقابلةً. ١٣٧٦٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا) ، يقول: لو استقبلهم ذلك كله، لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله. ١٣٧٦٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿وحشرنا عليهم كل شيء قبلا﴾ ، قال: حشروا إليهم جميعًا، فقابلوهم وواجهوهم. ١٣٧٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: ﴿قُبُلا﴾ ومعناه: عيانًا. * * * قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ: ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا﴾ ، بضم"القاف" و"الباء"، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني، وأن معنى"القِبَل" داخلٌ فيه، وغير داخل في القبل معاني"القِبَل". * * * وأما قوله: ﴿وحشرنا عليهم﴾ ، فإن معناه: وجمعنا عليهم، وسقنا إليهم. [[انظر تفسير ((حشر)) فيما سلف ٤٥٧: ١١، تعليق: ٥، والمراجع هناك.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب