الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا ﴿كَاتِبًا﴾ ، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى،"فرهان مقبوضة". * * * وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: ﴿وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا﴾ ، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة. * * * والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار:"ولم تجدوا كاتبًا"، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين. * * * [قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه] : [[هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، حتى يستقيم الكلام.]] وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم. ذكر من قال ما قلنا في ذلك: ٦٤٣٥ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن. ٦٤٣٦ - حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا"، يقول: كاتبًا يكتب لكم ="فرهان مقبوضة". ٦٤٣٧ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا] ، فرهان مقبوضة. [[الزيادة بين القوسين، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ.]] * * * ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها: ٦٤٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"فإن لم تجدوا كتابًا"، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم. ٦٤٣٩ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ:"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا. ٦٤٤٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها:"فإن لم تجدوا كتابًا"، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول. ٦٤٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا"، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ="فرهن مقبوضة"، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر. ٦٤٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها،"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة. * * * قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"فرهان مقبوضة". فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ ، بمعنى جماع"رَهْن" كما"الكباش" جماع"كبش"، و"البغال" جماع"بَغل"، و"النعال" جماع"نعل". * * * وقرأ ذلك جماعة آخرون: ﴿فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ على معنى جمع:"رِهان"،"ورُهن" جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع"رَهْن":، مثل"سَقْف وسُقُف". * * * وقرأه آخرون: ﴿فَرُهْنٌ﴾ مخففة الهاء على معنى جماع"رَهْن"، كما تجمع"السَّقْف سُقْفًا". قالوا: ولا نعلم اسمًا على"فَعْل" يجمع على"فُعُل وفُعْل" إلا"الرُّهُنُ والرُّهْن". و"السُّقُف والسُّقْف". قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه:"فرهان مقبوضة". لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على"فَعْل"، كما يقال:"حَبْلٌ وحبال" و"كَعْب وكعاب"، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع"الفَعْل" على"الفُعُل أو الفُعْل" فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل:"سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف""وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب" من:"قلب النخل". [[هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة.]] "وجَدٌّ وجُدٌّ"، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. [[وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة، وإنما قالوا في جمعه"أجداد وأجد وجدود". وكان في المطبوعة"حد وحد" بالحاء، و"الخط"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.]] وأما ما جاء من جمع"فَعْل" على"فُعْل" ف"ثَطٌّ، وثُطّ"، و"وَرْدٌ ووُرْد" و"خَوْدٌ وخُود". وإنما دعا الذي قرأ ذلك:"فرُهْنٌ مقبوضة" إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع"فَعْل"، أنه وجد"الرِّهان" مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى"الرهان" الذي هو جمع"رَهْن"، ووجد"الرُّهُن" مقولا في جمع"رَهْن"، كما قال قَعْنَب: بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ [[مختارات ابن الشجرى ١: ٦، ولباب الآداب ٤٠٢-٤٠٤، اللسان (رهن) ، وروايته هناك"من قبلك"، وهي أجود فيما أرى. غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده. كان هذا على رسم الجاهلية، فأبطله الإسلام. يقول: فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها، فذهبت بذلك كله، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، ="فليتق الله"، المدينُ ="رَبّه"، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، [[يقال: "لط الغريم بالحق دون الباطل": دافع ومنع الحق. و"لط حقه، ولط عليه" جحده ومنعه.]] أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، [[في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا قبل" بحذف اللام، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة.]] به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه. * * * وقد ذكرنا قول من قال:"هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب". وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر ما سلف آنفًا: ص ٥٣-٥٥.]] وقد:- ٦٤٤٣ - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا. * * * قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك = من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر=، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل. وأما ما قاله= من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر= فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله ﷺ:- ٦٤٤٤- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ. [[الأثر: ٦٤٤٤- ذكره الطبري بغير إسناد. وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٥: ١٠٠- ١٠٢) ومسلم في صحيحه ١١: ٣٩، ٤٠ من طرق، عن عائشة أم المؤمنين. وسنن البيهقي ٦: ٣٦. يقال نسأت عنه دينه نساء: (بالمد وفتح النون) : أخرته. و"بعته بنسيئة"، أي: بأخرة.]] * * * فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله ﷺ، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ ﷺ لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما= إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع أو الدَّين إلى أجل مسمى [[في المطبوعة: "وكان البيع. . . " وأثبت ما في المخطوطة.]] = أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) ﴾ قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا" - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه. ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال:"ومن يَكتمها". يعني: ومن يكتم شهادته ="فإنه آثم قَلبه"، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، [[انظر تفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة.]] كما:- ٦٤٤٥ - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه"، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا. ٦٤٤٦ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، يقول: فاجر قلبه. ٦٤٤٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ [[في المخطوطة والمطبوعة: "ومن يشرك بالله"، وليست هذه قراءتها، أخطأ الناسخ وسها.]] [سورة المائدة: ٧٢] ، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول:"ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه". * * * وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول:"على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر". ٦٤٤٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل:"أخْبِر بها عند الأمير"، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي. * * * وأما قوله:"والله بما تعملون عليمٌ"، فإنه يعني:"بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ="عليمٌ"، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب