الباحث القرآني

﴿وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ﴾ أيْ مُسافِرِينَ فَفِيهِ اِسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ حَيْثُ شَبَّهَ تَمَكُّنَهم في السَّفَرِ بِتَمَكُّنِ الرّاكِبِ مِن مَرْكُوبِهِ ﴿ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا﴾ يَكْتُبُ لَكم حَسْبَما بُيِّنَ قَبْلُ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ أوْ حالٌ. وقَرَأ أبُو العالِيَةِ (كُتُبًا)، والحَسَنُ وابْنُ عَبّاسٍ (كُتّابًا) جَمْعُ كاتِبٍ ﴿فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ أيْ فاَلَّذِي يُسْتَوْثَقُ بِهِ أوْ فَعَلَيْكم أوْ فَلْيُؤْخَذْ أوْ فالمَشْرُوعُ رِهانٌ وهو جَمْعُ رَهْنٍ وهو في الأصْلِ مَصْدَرٌ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى المَرْهُونِ مِن بابِ إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى اِسْمِ المَفْعُولِ ولَيْسَ هَذا التَّعْلِيقُ لِاشْتِراطِ السَّفَرِ وعَدَمِ الكاتِبِ في شَرْعِيَّةِ الِارْتِهانِ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ «رَهَنَ دِرْعَهُ في المَدِينَةِ مِن يَهُودِيٍّ عَلى ثَلاثِينَ صاعًا مِن شَعِيرٍ» كَما في البُخارِيِّ بَلْ لِإقامَةِ التَّوَثُّقِ بِالِارْتِهانِ مَقامَ التَّوَثُّقِ بِالكَتَبَةِ في السَّفَرِ الَّذِي هو مَظِنَّةُ إعْوازِها، وأخَذَ مُجاهِدٌ بِظاهِرِ الآيَةِ فَذَهَبَ إلى أنَّ الرَّهْنَ لا يَجُوزُ إلّا في السَّفَرِ وكَذا الضَّحّاكُ فَذَهَبَ إلى أنَّهُ لا يَجُوزُ في السَّفَرِ إلّا عِنْدَ فَقْدِ الكاتِبِ، وإنَّما لَمْ يَتَعَرَّضْ لِحالِ الشّاهِدِ لِما أنَّهُ في حُكْمِ الكاتِبِ تَوَثُّقًا وإعْوازًا، والجُمْهُورُ عَلى وُجُوبِ القَبْضِ في تَمامِ الرَّهْنِ، وذَهَبَ مالِكٌ إلى أنَّهُ يَتِمُّ بِالإيجابِ والقَبُولِ ويَلْزَمُ الرّاهِنَ بِالعَقْدِ تَسْلِيمُهُ ويُشْتَرَطُ عِنْدَهُ بَقاؤُهُ في يَدِ المُرْتَهِنِ حَتّى لَوْ عادَ إلى يَدِ الرّاهِنِ بِأنْ أوْدَعَهُ المُرْتَهِنُ إيّاهُ أوْ أعادَهُ لَهُ إعادَةً مُطْلَقَةً فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الرَّهْنِ فَلَوْ قامَ الغُرَماءُ وهو بِيَدِ الرّاهِنِ عَلى أحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ مَثَلًا كانَ أُسْوَةً لِلْغُرَماءِ فِيهِ وكَأنَّهُ إنَّما ذَهَبَ إلى ذَلِكَ لِما في الرَّهْنِ مِنَ اِقْتِضاءِ الدَّوامِ أنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ: ؎فالخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُنَّ راهِنُ وقَهْوَةٌ راوُوقُها ساكِبُ وفِي التَّعْبِيرِ بِمَقْبُوضَةٍ دُونَ تَقْبِضُونَها إيماءٌ إلى الِاكْتِفاءِ بِقَبْضِ الوَكِيلِ ولا يَتَوَقَّفُ عَلى قَبْضِ المُرْتَهِنِ نَفْسِهِ وقُرِئَ (فَرُهُنٌ) كَسُقُفٍ وهو جَمْعُ رَهْنٍ أيْضًا، وقُرِئَ بِسُكُونِ الهاءِ تَخْفِيفًا. ﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ أيْ بَعْضُ الدّائِنِينَ بَعْضَ المَدْيُونِينَ بِحُسْنِ ظَنِّهِ سَفَرًا أوْ حَضَرًا فَلَمْ يَتَوَثَّقْ بِالكِتابَةِ والشُّهُودِ والرَّهْنِ، وقَرَأ أُبَيٌّ (فَإنْ أُومِنَ) أيْ آمَنُهُ النّاسُ ووَصَفُوا المَدْيُونَ بِالأمانَةِ والوَفاءِ والِاسْتِغْناءِ عَنِ التَّوَثُّقِ مِن مِثْلِهِ، و﴿بَعْضًا﴾ عَلى هَذا مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ كَما قِيلَ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ﴾ وهو المَدْيُونُ وعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ العُنْوانِ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِلْإعْلامِ ولِحَمْلِهِ عَلى الأداءِ ﴿أمانَتَهُ﴾ أيْ دَيْنَهُ، والضَّمِيرُ لِرَبِّ الدَّيْنِ أوْ لِلْمَدْيُونِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ عَلَيْهِ، والأمانَةُ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلى الدَّيْنِ الَّذِي في الذِّمَّةِ وإنَّما سُمِّيَ أمانَةً وهو مَضْمُونٌ لِائْتِمانِهِ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الِارْتِهانِ بِهِ. (p-63) وقُرِئَ (اَلَّذِيتُمِنَ) بِقَلْبِ الهَمْزَةِ ياءً، وعَنْ عاصِمٍ أنَّهُ قَرَأ (اَلَّذِتُّمِنَ) بِإدْغامِ الياءِ في التّاءِ، وقِيلَ: هو خَطَأٌ لِأنَّ المُنْقَلِبَةَ عَنِ الهَمْزَةِ في حُكْمِها فَلا يُدْغَمُ، ورُدَّ بِأنَّهُ مَسْمُوعٌ في كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ نَقَلَ اِبْنُ مالِكٍ جَوازَهُ لِأنَّهُ قالَ: إنَّهُ مَقْصُورٌ عَلى السَّماعِ، ومِنهُ قِراءَةُ اِبْنُ مُحَيْصِنٍ (اُتُّمِنَ) ونَقَلَ الصّاغانِيُّ أنَّ القَوْلَ بِجَوازِهِ مَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ، ووَرَدَ مِثْلُهُ في كَلامِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها وهي مِنَ الفُصَحاءِ المَشْهُودِ لَهُمْ، فَفي البُخارِيِّ عَنْها: «كانَ ﷺ يَأْمُرُنِي فَأتَّزِرُ ”،» فالمُخْطِئُ مُخْطِئٌ ﴿ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ في الخِيانَةِ وإنْكارِ الحَقِّ، وفي الجَمْعِ بَيْنَ عُنْوانِ الأُلُوهِيَّةِ وصِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ مِنَ التَّأْكِيدِ والتَّحْذِيرِ ما لا يَخْفى، وقَدْ أمَرَ سُبْحانَهُ بِالتَّقْوى عِنْدَ الوَفاءِ حَسْبَما أمَرَ بِها عِنْدَ الإقْرارِ تَعْظِيمًا لِحُقُوقِ العِبادِ وتَحْذِيرًا عَمّا يُوجِبُ وُقُوعَ الفَسادِ. ﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾ أيْ لا تُخْفُوها بِالِامْتِناعِ عَنْ أدائِها إذا دُعِيتُمْ إلَيْها وهو خِطابٌ لِلشُّهُودِ المُؤْمِنِينَ كَما رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِ وجَعَلَهُ خِطابًا لِلْمَدْيُونِينَ عَلى مَعْنى لا تَكْتُمُوا شَهادَتَكم عَلى أنْفُسِكم بِأنْ تُقِرُّوا بِالحَقِّ عِنْدَ المُعامَلَةِ، أوْ لا تَحْتالُوا بِإبْطالِ شَهادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْكم بِالجَرْحِ ونَحْوِهِ عِنْدَ المُرافَعَةِ خِلافَ الظّاهِرِ المَأْثُورِ عَنِ السَّلَفِ الصّالِحِ، وقُرِئَ (يَكْتُمُوا) عَلى الغَيْبَةِ. ﴿ومَن يَكْتُمْها فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ الضَّمِيرُ في (إنَّهُ) راجِعٌ إلى (مَن) وهو الظّاهِرُ، وقِيلَ: إنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ والجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةٌ لَهُ، و(آثِمٌ) خَبَرُ (إنَّ) وقَلْبُهُ فاعِلٌ لَهُ لِاعْتِمادِهِ ولا يَجِيءُ هَذا عَلى القَوْلِ بِأنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ لِأنَّهُ لا يُفَسَّرُ إلّا بِالجُمْلَةِ والوَصْفِ مَعَ مَرْفُوعِهِ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ عِنْدِ البَصْرِيِّ، والكُوفِيُّ يُجِيزُ ذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقَلْبُهُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ خَبَرُ (إنَّ) وعَلَيْهِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وأنْ يَكُونَ لِمَن وقِيلَ: (آثِمٌ) خَبَرُ (إنَّ) وفِيهِ ضَمِيرٌ عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ إنَّهُ وقَلْبُهُ بَدَلٌ مِن ذَلِكَ الضَّمِيرِ بَدَلُ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وقِيلَ: (آثِمٌ) مُبْتَدَأٌ و(قَلْبُهُ) فاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ (إنَّ)، وهَذا جائِزٌ عِنْدَ الفَرّاءِ مِنَ الكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ مِنَ البَصْرِيِّينَ وجُمْهُورُ النُّحاةِ لا يُجَوِّزُونَهُ وأضافَ الآثِمَ إلى القَلْبِ مَعَ أنَّهُ لَوْ قِيلَ: (فَإنَّهُ آثِمٌ) لَتَمَّ المَعْنى مَعَ الِاخْتِصارِ، لِأنَّ الآثِمَ بِالكِتْمانِ وهو مِمّا يَقَعُ بِالقَلْبِ وإسْنادِ الفِعْلِ بِالجارِحَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِها أبْلَغُ، ألّا تَراكَ تَقُولُ إذا أرَدْتَ التَّوْكِيدَ هَذا مِمّا أبْصَرَتْهُ عَيْنِي ومِمّا سَمِعَتْهُ أُذُنِي ومِمّا عَرَفَهُ قَلْبِي؟ ولِأنَّ الإثْمَ وإنْ كانَ مَنسُوبًا إلى جُمْلَةِ الشَّخْصِ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ الإسْنادُ إلى هَذا الجُزْءِ المَخْصُوصِ مُتَجَوِّزًا بِهِ عَنِ الكُلِّ لِأنَّهُ أشْرَفُ الأجْزاءِ ورَئِيسُها، وفِعْلُهُ أعْظَمُ مِن أفْعالِ سائِرِ الجَوارِحِ، فَيَكُونُ في الكَلامِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الكِتْمانَ مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ، وقِيلَ: أسْنَدَ الإثْمَ إلى القَلْبِ لِئَلّا يُظَنَّ أنَّ كِتْمانَ الشَّهادَةِ مِنَ الآثامِ المُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسانِ فَقَطْ ولِيُعْلَمْ أنَّ القَلْبَ أصْلُ مُتَعَلِّقِهِ ومَعْدِنُ اِقْتِرافِهِ، وقِيلَ: لِلْإشارَةِ إلى أنَّ أثَرَ الكِتْمانِ يَظْهَرُ في قَلْبِهِ كَما جاءَ في الخَبَرِ: «“ إذا أذْنَبَ العَبْدُ يَحْدُثُ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ وكُلَّما أذْنَبَ زادَ ذَلِكَ حَتّى يَسْوَدَّ ذَلِكَ بِتَمامِهِ»، أوْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ فَيَفْسُدُ بَدَنُهُ كُلُّهُ، فَقَدْ ورَدَ «”إنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ألا وهي القَلْبُ“،» والكُلُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، وقُرِئَ (قَلْبَهُ) بِالنَّصْبِ عَلى التَّشْبِيهِ بِالمَفْعُولِ بِهِ. و(آثِمٌ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وجَوَّزَ أبُو حَيّانَ كَوْنَهُ بَدَلًا مِنَ اِسْمِ إنَّ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، وبَعْضُهم كَوْنَهُ تَمْيِيزًا واسْتَبْعَدَهُ أبُو البَقاءِ، وقَرَأ اِبْنُ أبِي عَبْلَةَ ﴿آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ أيْ جَعَلَهُ آثِمًا. ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ مِن كِتْمانِ الشَّهادَةِ وأدائِها عَلى وجْهِها وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿عَلِيمٌ﴾ [ 283 ] فَيُجازِيكم بِذَلِكَ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب