الباحث القرآني

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن لم تفعلوا"، إن لم تأتوا بسورة من مثله، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم [[في المطبوعة: "وقد تظاهرتم"، وما في المخطوطة أجود، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك.]] ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه، وعلمتم أنه من عندي، ثم أقمتم على التكذيب به. وقوله:"ولن تفعلوا"، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا. ٥٠١- كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا"، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه [[الأثر ٥٠١- ذكره السيوطي ١: ٣٥ بنحوه، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير. وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج".]] . ٥٠٢- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا"، فقد بَين لكم الحق [[الأثران ٥٠١، ٥٠٢- في الدر المنثور ١: ٣٥، والشوكاني ١: ٤٠. ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها، وما استدل به من الأثر الأخير، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي"، ثم قال مستأنفًا: "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي". ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه: "فإن قلت: ما معنى اشتراطه في اتقاء النار، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت: إنهم إذا لم يأتوا بها، وتبين عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق رسول الله ﷺ. وإذا صح عندهم صدقه، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا، استوجبوا العقاب بالنار. فقيل لهم: إن استبنتم العجز فاتركوا العناد. فوضع"فاتقوا النار" موضعه، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد، من حيث إنه من نتائجه. لأن من اتقى النار ترك المعاندة. ونظيره أن يقول الملك لحشمه: "إن أردتم الكرامة عندي، فاحذروا سخطي". يريد: فأطيعوني واتبعوا أمري، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط. وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة. وفائدته: الإيجاز، الذي هو حلية القرآن، وتهويل شأن العناد، بإنابة اتقاء النار منابه، وإبرازه في صورته، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها". فقد تبين بهذا مراد الطبري، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط، ولا هو من جوابه، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام: قصر اتقائهم النار، على عجزهم عن الإتيان بمثله. وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة. وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري.]] . * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"فاتقوا النار"، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي، بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله. ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها، وأن الحجارة وَقُودها، فقال:"التي وَقودها الناس والحجارة"، يعني بقوله:"وَقُودُها" حَطبها، والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنزلة الحطب. فإذا ضَمت الواو من"الوقود" كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا، يراد بذلك أنها التهبتْ. فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟ قيل: إنها حجارةُ الكبريت، وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت. ٥٠٣- كما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد، عن عبد الرحمن بن سَابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، في قوله:"وقُودها الناس والحجارة"، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين. ٥٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزّاق، قال: أنبأنا ابن عُيينة، عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود في قوله:"وقودها الناسُ والحجارة"، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء [[الخبر ٥٠٣، ٥٠٤- مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين: هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال، وهو ثقة معروف، أحد الأعلام. عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد، نسبة إلى عمل الزرود: ثقة كثير الحديث، من صغار التابعين. عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي: تابعي ثقة. عمرو بن ميمون الأودي: من كبار التابعين المخضرمين، كان مسلمًا في حياة رسول الله ﷺ، ولم يره. وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي: ٥٠٧. وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون، وفي الثاني: ٥٠٤"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة، بحذف"عبد الرحمن بن سابط". ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال، لوجود المعاصرة، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة ٧٤، وعمرو بن ميمون مات سنة ٧٤ أو ٧٥. ولكن هذين الإسنادين: ٥٠٣، ٥٠٤ دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون. والخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦١، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود. فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير ١: ١١٠١ - ١١١ من رواية الطبري، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه. وذكره السيوطي ١: ٣٦ وزاد نسبته إلى: عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والفريابي، وهناد بن السري في كتاب الزهد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب.]] . ٥٠٥- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة"، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار [[الخبر ٥٠٥- ذكره ابن كثير ١: ١١١ دون أن ينسبه، والسيوطي ١: ٣٦، ونسبه لابن جرير وحده.]] . ٥٠٦- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج في قوله:"وقودها الناس والحجارة"، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم [[الأثر ٥٠٦- في ابن كثير ١: ١١١ دون نسبة.]] . ٥٠٧- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن مسعر، عن عبد الملك بن مَيسرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود، قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء [[الخبر ٥٠٧- سبق تفصيل إخراجه مع ٥٠٣، ٥٠٤.]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤) ﴾ قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن"الكافر" في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء [[انظر ما مضى: ٢٥٥.]] ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نَعماءَه قِبَله. فمعنى قوله إذًا:"أعدت للكافرين"، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جَعل لهم الأرض فراشًا، والسماء بناءً، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة [[قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا: "للجاحدين".]] ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق [[في المخطوطة: "بالأشياء"، وهو خطأ.]] . ٥٠٨- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس:"أعدت للكافرين"، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر [[الخبر ٥٠٨- في ابن كثير ١: ١١١، والدر المنثور ١: ٣٦، والشوكاني ١: ٤١.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب