الباحث القرآني

﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ الَّتِي وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ فَذْلَكَةٌ لِما تَقَدَّمَ، فَلِذا أتى بِالفاءِ أيْ إذا بَذَلْتُمْ في السَّعْيِ غايَةَ المَجْهُودِ، وجاوَزْتُمْ في الحَدِّ كُلَّ حَدٍّ مَعْهُودٍ، مُتَشَبِّثِينَ بِالذُّيُولِ، راكِبِينَ مَتْنَ كُلِّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، وعَجَزْتُمْ عَنِ الإتْيانِ بِمِثْلِهِ، وما يُدانِيهِ في أُسْلُوبِهِ وفَضْلِهِ ظَهَرَ أنَّهُ مُعْجِزٌ، والتَّصْدِيقُ بِهِ لازِمٌ، فَآمِنُوا واتَّقُوا النّارَ، وأتى بِأنْ، والمَقامُ لِإذا، لِاسْتِمْرارِ العَجْزِ، وهو سُبْحانَهُ وتَعالى اللَّطِيفُ الخَبِيرُ، تَهَكُّمًا بِهِمْ كَما يَقُولُ الواثِقُ بِالغَلَبَةِ لِخَصْمِهِ: إنْ غَلَبْتُكَ لَمْ أُبْقِ عَلَيْكَ، وتَحْمِيقًا لَهم لِشَكِّهِمْ في المُتَيَقَّنِ الشَّدِيدِ الوُضُوحِ، فَفي الآيَةِ اسْتِعارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ حَرْفِيَّةٌ، أوْ حَقِيقَةٌ وكِنايَةٌ كَسائِرٍ ما جاءَ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ، وقَدْ يُقالُ: عَبَّرَ بِذَلِكَ نَظَرًا لِحالِ المُخاطَبِينَ، فَإنَّ العَجْزَ كانَ قَبْلَ التَّأمُّلِ، كالمَشْكُوكِ فِيهِ لَدَيْهِمْ لِاتِّكالِهِمْ عَلى فَصاحَتِهِمْ، (وتَفْعَلُوا) مَجْزُومٌ بِلَمْ، ولا تَنازُعَ بَيْنَها وبَيْنَ إنْ، وإنْ تُخِيِّلَ، وقَدْ صَرَّحَ ابْنُ هِشامٍ بِأنَّهُ لا يَكُونُ بَيْنَ الحُرُوفِ، لِأنَّها لا دِلالَةَ لَها عَلى الحَدَثِ، حَتّى تَطْلُبَ المَعْمُولاتِ، إلّا أنَّ ابْنَ العِلْجِ أجازَهُ اسْتِدْلالًا بِهَذِهِ الآيَةِ ورَدَّ بِأنَّ إنْ تَطْلُبُ مُثْبَتًا، ولَمْ مَنفِيًّا، وشَرْطُ التَّنازُعِ الِاتِّحادُ في المَعْنى، فَإنْ هُنا داخِلَةٌ عَلى المَجْمُوعِ عامِلَةٌ في مَحَلِّهِ، كَأنَّهُ قالَ: فَإنْ تَرَكْتُمُ الفِعْلَ فَيُفِيدُ الكَلامُ اسْتِمْرارَ عَدَمِ الإتْيانِ المُحَقَّقِ في الماضِي، وبِهَذا ساغَ اجْتِماعُهُما، وإلّا فَبَيْنَ مُقْتَضاهُما الِاسْتِقْبالُ والمُضِيُّ تَنافٍ، نَعَمْ قِيلَ في ذَلِكَ إشْكالٌ لَمْ يُحَرَّرْ دَفْعُهُ بَعْدُ بِما يَشْفِي العَلِيلَ: وهو أنَّ المَحَلَّ إنْ كانَ لِلْفِعْلِ وحْدَهُ لَزِمَ تَوارُدُ عامِلَيْنِ في نَحْوِ: إنْ لَمْ يَقُمْنَ، وإنْ كانَ لِلْجُمْلَةِ يَرُدُّ أنَّهم لَمْ يَعُدُّوها مِمّا لَها مَحَلٌّ، أوْ لِلْمَحَلِّ مَعَ الفِعْلِ، فَلا نَظِيرَ لَهُ، فَلَعَلَّهم يَتَصَيَّدُونَ فِعْلًا مِمّا بَعْدَها ويَجْزِمُونَهُ بِها، وهو كَما تَرى، وعَبَّرَ سُبْحانَهُ عَنِ الفِعْلِ الخاصِّ حَيْثُ كانَ الظّاهِرُ: فَإنْ لَمْ تَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ، بِالفِعْلِ المُطْلَقِ العامِّ ظاهِرًا لِإيجازِ القَصْرِ، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ المَقْصُودَ بِالتَّكْلِيفِ إيقاعُ نَفْسِ الفِعْلِ المَأْمُورِ بِهِ لِإظْهارِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ، لا تَحْصِيلُ المَفْعُولِ ضَرُورَةَ اسْتِحالَتِهِ، وإنَّ مَناطَ الجَوابِ في الشَّرْطِيَّةِ أعْنِي الأمْرَ بِالِاتِّقاءِ هو عَجْزُهم عَنْ إيقاعِهِ لا فَوْتُ حُصُولِ المَقْصُودِ، وقِيلَ: أُطْلِقَ الفِعْلُ وأُرِيدَ بِهِ الإتْيانُ، مَعَ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ، عَلى طَرِيقَةِ ذِكْرِ اللّازِمِ، وإرادَةِ المَلْزُومِ، لِما بَيْنَهُما مِنَ التَّلازُمِ المُصَحِّحِ لِلِانْتِفالِ بِمَعُونَةِ قَرائِنِ الحالِ أوْ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ (p-198)عَنِ الأسْماءِ الظّاهِرَةِ بِالضَّمائِرِ الرّاجِعَةِ إلَيْها حَذَرًا مِنَ التَّكْرِيرِ، والظّاهِرُ أنَّ فِيما عَبَّرَ عَنْهُ إيجازًا، وكِنايَةً، وإيهامَ نَفْيِ الإتْيانِ بِالمِثْلِ، وما يُدانِيهِ، بَلْ وغَيْرَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُرادًا، (ولَنْ) كَلّا في نَفْيِ المُسْتَقْبَلِ وإنْ فارَقَتْها بِالِاخْتِصاصِ بِالمُضارِعِ وعَمَلِ النَّصْبِ، إلّا فِيما شَذَّ مِنَ الجَزْمِ بِها في قَوْلِهِ: ؎لَنْ يَخِبِ الآنَ مَن رَجاكَ ومَن حَرَّكَ مِن دُونِ بابِكَ الحَلْقَةْ ولا تَقْتَضِي النَّفْيَ عَلى التَّأْبِيدِ، وإنْ أفادَتِ التَّأْكِيدَ والتَّشْدِيدَ، ولا طُولَ مُدَّةٍ أوْ قِلَّتَها خِلافًا لِبَعْضِهِمْ، ولَيْسَ أصْلُها (لا أنْ)، كَما رُوِيَ عَنِ الخَلِيلِ: فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ لِكَثْرَتِها، وسَقَطَتِ الألِفُ لِلسّاكِنَيْنِ، وتَغَيَّرَ الحُكْمُ وصارَ (لَنْ) تَضْرِبُ كَلامًا تامًّا دُونَ أنْ ومَصْحُوبِها، وقِيلَ بِهِ لِقَوْلِهِ: ؎يُرَجِّي المَرْءُ ما لا أنْ يُلاقِيَهُ ∗∗∗ ويَعْرِضَ دُونَ أقْرَبِهِ الخُطُوبُ واحْتِمالُ زِيادَةِ (أنْ) يُوهِنُ الِاحْتِجاجَ، ولا لا، كَما عِنْدَ الفَرّاءِ، فَأُبْدِلَتْ ألِفُهُ نُونًا، إذْ لا داعِيَ إلى ذَلِكَ، وهو خِلافُ الأصْلِ، والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ بَيْنَ جُزْئَيِ الشَّرْطِيَّةِ ظاهِرًا، مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ مُقَدَّمِها، ومُؤَكِّدٌ لِإيجابِ العَمَلِ بِتالِيها، وهَذِهِ مُعْجِزَةٌ باهِرَةٌ حَيْثُ أخْبَرَ بِالغَيْبِ الخاصِّ عِلْمَهُ بِهِ سُبْحانَهُ، وقَدْ وقَعَ الأمْرُ كَذَلِكَ كَيْفَ لا، ولَوْ عارَضُوهُ بِشَيْءٍ يُدانِيهِ لِتَناقَلَهُ الرُّواةُ، لِتَوَفُّرِ الدَّواعِي، وما أتى بِهِ نَحْوُ مُسَيْلِمَةُ الكَذّابِ مِمّا تَضْحَكُ مِنهُ الثَّكْلى، لَمْ يَقْصِدْ بِهِ المُعارَضَةَ، وإنَّما ادَّعاهُ وحْيًا، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: فاتَّقُوا، جَوابٌ لِلشَّرْطِ، عَلى أنَّ التِقاءَ النّارِ كِنايَةٌ عَنْ ظُهُورِ إعْجازِهِ المُقْتَضِي لِلتَّصْدِيقِ والإيمانِ بِهِ، أوْ عَنِ الإيمانِ نَفْسِهِ، وبِهَذا يَنْدَفِعُ ما يُتَوَهَّمُ مِن أنَّ اتِّقاءَ النّارِ لازِمٌ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلى هَذا الشَّرْطِ، فَما مَعْنى التَّعْلِيقِ، وأيْضًا الشَّرْطُ سَبَبٌ أوْ مَلْزُومٌ لِلْجَزاءِ، ولَيْسَ عَدَمُ الفِعْلِ سَبَبًا لِلِاتِّقاءِ، ولا مَلْزُومًا لَهُ، فَكَيْفَ وقَعَ جَزاءً لَهُ؟ وبَعْضُهم قَدَّرَ لِذَلِكَ جَوابًا، والتِزامُهُ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ لِأنَّ الإنْشائِيَّةَ لا تَقَعُ جَزاءً كَما لا تَقَعُ خَبَرًا، إلّا بِتَأْوِيلٍ، والزَّمَخْشَرِيُّ لا يُوجِبُ ذَلِكَ فِيها، لِعَدَمِ الحَمْلِ المُقْتَضِي لَهُ، والوَقُودُ بِالفَتْحِ كَما قَرَأ بِهِ الجُمْهُورُ ما يُوقَدُ بِهِ النّارُ، وكَذا كُلُّ ما كانَ عَلى فَعُولٍ، اسْمٌ لِما يُفْعَلُ بِهِ في المَشْهُورِ، وقَدْ يَكُونُ مَصْدَرًا عِنْدَ بَعْضٍ، وحَكَوْا ولُوعًا، وقَبُولًا، ووَضُوءًا، وطَهُورًا، ووَزُوعًا، ولَغُوبًا، وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ (وقِيدُها)، وعِيسى بْنُ عَمْرٍو وغَيْرُهُ (وقُودُها) بِالضَّمِّ، فَإنْ كانَ اسْمًا لِما يُوقَدُ بِهِ، كالمَفْتُوحِ فَذاكَ، وإنْ كانَ مَصْدَرًا كَما قِيلَ في سائِرِ ما كانَ عَلى فَعُولٍ فَحَمْلُهُ عَلى النّارِ لِلْمُبالَغَةِ، ولِلتَّجَوُّزِ فِيهِ، أوْ في التَّشْبِيهِ أوْ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أوَّلًا كَذُو وقُودِها، أوْ ثانِيًا كاحْتِراقٍ، وهو نَفْسُهُ خارِجًا غَيْرُهُ مَفْهُومًا، وذاكَ مِصْداقُ الحَمْلِ، وحُكِيَ إنَّ مِنَ العَرَبِ مَن يَجْعَلُ المَفْتُوحَ مَصْدَرًا، والمَضْمُومَ اسْمًا، فَيَنْعَكِسُ الحالُ فِيما نَحْنُ فِيهِ، والحِجارَةُ كَحِجارٍ جَمْعُ كَثْرَةٍ لِحَجَرٍ، وجَمْعُ القِلَّةِ أحْجارٌ، وجَمْعُ فَعَلٍ بِفَتْحَتَيْنِ عَلى فِعالٍ شاذٌّ، وابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ يَقُولُ: إنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لِغَلَبَةِ وزْنِهِ في المُفْرَداتِ، وهو الظّاهِرُ، والمُرادُ بِها عَلى ما صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ولِمِثْلِ ذَلِكَ حُكْمُ الرَّفْعِ حِجارَةُ الكِبْرِيتِ، وفِيها مِن شِدَّةِ الحَرِّ وكَثْرَةِ الِالتِهابِ، وسُرْعَةِ الإيقادِ، ومَزِيدِ الِالتِصاقِ بِالأبْدانِ، وإعْدادُ أهْلِ النّارِ أنْ يَكُونُوا حَطَبًا مَعَ نَتْنِ رِيحٍ وكَثْرَةِ دُخانٍ ووُفُورِ كَثافَةٍ ما نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ، وفي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ لِشَأْنِ النّارِ وتَنْفِيرٌ عَمّا يَجُرُّ إلَيْها بِما هو مَعْلُومٌ في الشّاهِدِ، وإنْ كانَ الأمْرُ وراءَ ذَلِكَ فالعالَمُ وراءَ هَذا العالَمِ، وعَيْلَمُ قُدْرَةِ الجَبّارِ سُبْحانَهُ وتَعالى يَضْمَحِلُّ فِيهِ هَذا العَيْلَمُ، وقِيلَ: المُرادُ بِها الأصْنامُ الَّتِي يَنْحِتُونَها، وقَرَنَها بِهِمْ في الآخِرَةِ زِيادَةً لِتَحَسُّرِهِمْ حَيْثُ بَدا لَهم نَقِيضُ ما كانُوا يَتَوَقَّعُونَ، وهُناكَ يَتِمُّ لَهم نَوْعانِ مِنَ العَذابِ، رُوحانِيٌّ وجِسْمانِيٌّ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ (p-199)وحَمْلُها عَلى الذَّهَبِ والفِضَّةِ لِأنَّهُما يُسَمَّيانِ حَجَرًا كَما في القامُوسِ دُونَ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ، الأصَحُّ أوَّلُهُما عِنْدَ المُحَدِّثِينَ، وثانِيهُما عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ، ويُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ الشَّيْخِ الأكْبَرِ قُدِّسَ سِرُّهُ، وألْ فِيها عَلى كُلٍّ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ، وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّها لَهُ، ويَكُونُ المَعْنى أنَّ النّارَ الَّتِي وُعِدُوا بِها صالِحَةٌ لِأنْ تَحْرِقَ ما أُلْقِيَ فِيها مِن هَذَيْنِ الجِنْسَيْنِ، فَعَبَّرَ عَنْ صَلاحِيَّتِها، واسْتِعْدادِها بِالأمْرِ المُحَقَّقِ، وذَكَرَ النّاسَ والحِجارَةَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ جَهَنَّمَ، وتَنْبِيهًا عَلى شِدَّةِ وقُودِها لِيَقَعَ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ أعْظَمَ مَوْقِعٍ، ويَحْصُلَ بِهِ مِنَ التَّخْوِيفِ ما لا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ، ولَيْسَ المُرادُ الحَقِيقَةَ وهو خِلافُ الظّاهِرِ، والمُتَبادِرِ مِنَ الآياتِ، ويُوشِكُ أنْ يَكُونَ سُوءُ ظَنٍّ بِالقُدْرَةِ، ولا يُتَوَهَّمُ مِنَ الِاقْتِصارِ عَلى هَذَيْنِ الجِنْسَيْنِ أنْ لا يَكُونَ في النّارِ غَيْرُهُما بِدَلِيلِ ما ذُكِرَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِن كَوْنِ الجِنِّ والشَّياطِينِ فِيها أيْضًا، نَعَمْ قالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّهم لَهَبُها، وأُولَئِكَ جَمْرُها، وبَدَأ سُبْحانَهُ بِالنّاسِ، لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يُدْرِكُونَ الآلامَ، أوْ لِكَوْنِهِمْ أكْثَرَ إيقادًا مِنَ الجَمادِ، لِما فِيهِمْ مِنَ الجُلُودِ واللُّحُومِ والشُّحُومِ، ولِأنَّ في ذَلِكَ مَزِيدَ التَّخْوِيفِ، وإنَّما عَرَّفَ النّارَ وجَعَلَ الجُمْلَةَ صِلَةً، وأنَّها يَجِبُ أنْ تَكُونَ قِصَّةً مَعْلُومَةً، لِأنَّ المُنْكِرَ في سُورَةِ التَّحْرِيمِ نَزَلَ أوَّلًا، فَسَمِعُوهُ بِصِفَتِهِ، فَلَمّا نَزَلَ هَذا بَعْدُ جاءَ مَعْهُودًا، فَعُرِّفَ وجُعِلَتْ صِفَتُهُ صِلَةً، وكَوْنُ الصِّفَةِ كَذَلِكَ الخَطْبُ فِيهِ هَيِّنٌ لِما أنَّ المُخاطَبَ هُناكَ المُؤْمِنُونَ، وظاهِرٌ أنَّهم سَمِعُوا ذَلِكَ مِن رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إلّا أنَّ في كَوْنِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ نَزَلَتْ أوَّلًا مَقالًا فَتَأمَّلْ، ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ ابْتِداءُ كَلامٍ قُطِعَ عَمّا قَبْلَهُ، مَعَ أنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يُعْطَفَ عَلى الصِّلَةِ السّابِقَةِ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ، بِجَعْلِهِ مَقْصُودًا بِالذّاتِ بِالإفادَةِ مُبالَغَةً في الوَعِيدِ، وجَعْلُهُ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا بِأنْ يُقَدَّرَ: لِمَن أُعِدَّتْ؟ أوْ لِمَ كانَ وقُودُها؟ كَذا، وكَذا فَمَعَ عَدَمِ مُساعَدَةِ عَطْفِ بَشَرٍ الآتِي عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ عَلَيْهِ لِأنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلْجَوابِ، إلّا أنْ يُقالَ المَعْطُوفُ عَلى الِاسْتِئْنافِ لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ اسْتِئْنافًا يَأْبى عَنْهُ الذَّوْقُ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ السِّياقَ لا يَقْتَضِيهِ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّ المَقْصِدَ مِنَ الصِّلَةِ التَّهْوِيلُ، فالسُّؤالُ بِلِمَ كانَ شَأْنُ النّارِ كَذا، مِمّا لا مَعْنى لَهُ، والجَوابُ غَيْرُ وافٍ بِهِ، وجَعَلَهُ حالًا مِنَ النّارِ بِإضْمارِ قَدْ، والخَبَرُ مِن أجْزاءِ الصِّلَةِ لِذِي الحالِ، لا مِن ضَمِيرِ وقُودِها لِلْجُمُودِ، أوْ لِوُقُوعِ الفَصْلِ بِالخَبَرِ الأجْنَبِيِّ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لا يَحْسُنُ التَّقْيِيدُ بِهَذِهِ الحالِ، إلّا أنْ يُقالَ إنَّها لازِمَةٌ بِمَنزِلَةِ الصِّفَةِ، فَيُفِيدُ المَعْنى الَّذِي تُفِيدُهُ الصِّلَةُ، ولِذا قِيلَ: إنَّها صِلَةٌ بَعْدَ صِلَةٍ، وتَعَدُّدُ الصِّلاتِ كالصِّفاتِ، والأخْبارِ كَثِيرٌ بِعاطِفٍ وبِدُونِهِ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ الإمامُ المَرْزُوقِيُّ، وإنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ السَّعْدُ، أوْ مَعْطُوفٌ بِحَذْفِ الحَرْفِ كَما صَرَّحَ بِهِ ابْنُ مالِكٍ، وجَعَلَهُ صِلَةً، (ووَقُودُها النّاسُ) إمّا مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، أوْ حالٌ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ، ومَعْنى (أُعِدَّتْ) هُيِّئَتْ، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ (اعْتَدَّتْ) مِنَ العَتادِ، بِمَعْنى العُدَّةِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ (أعَدَّها اللَّهُ لِلْكافِرِينَ) والمُرادُ إمّا جِنْسُهُمْ، والمُخاطَبُونَ داخِلُونَ فِيهِمْ دُخُولًا أوَّلِيًّا، أوْ هم خاصَّةً، ووُضِعَ الظّاهِرُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ حِينَئِذٍ لِذَمِّهِمْ، وتَعْلِيلِ الحُكْمِ بِكُفْرِهِمْ، وكَوْنُ الإعْدادِ لِلْكافِرِينَ لا يُنافِي دُخُولَ غَيْرِهِمْ فِيها عَلى جِهَةِ التَّطَفُّلِ، فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ نارَ العُصاةِ غَيْرُ نارِ الكُفّارِ، ثُمَّ يَتَبادَرُ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ النّارَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِمَكانِها في واسِعِ مُلْكِهِ، وجُعِلَ المُسْتَقْبَلُ لِتَحَقُّقِهِ ماضِيًا، كَنُفِخَ في الصُّوَرِ، والإعْدادُ مِثْلُهُ في ﴿أعَدَّ اللَّهُ لَهم مَغْفِرَةً وأجْرًا﴾ كَما يَقُولُ المُعْتَزِلَةُ خِلافَ الظّاهِرِ، والَّذِي ذَهَبَ أهْلُ الكَشْفِ إلَيْهِ أنَّها مَخْلُوقَةٌ غَيْرَ أنَّها لَمْ تَتِمَّ، وهي الآنَ عِنْدَهم دارٌ حَرَّرُوها، هَواءٌ مُحْتَرِقٌ لا جَمْرَ لَها البَتَّةَ، ومَن فِيها مِنَ الزَّبانِيَةِ في رَحْمَةٍ مُنَعَّمُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَعالى لا يَفْتَرُونَ، وتَحْدُثُ فِيها الآلامُ بِحُدُوثِ أعْمالِ الإنْسِ والجِنِّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَها، ولِذا يَخْتَلِفُ عَذابُ داخِلِيها وحْدَها بَعْدَ الفَراغِ مِنَ الحِسابِ، ودُخُولِ (p-200)أهْلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ مِن مُقَعَّرِ فَكِّ الثَّوابِتِ إلى أسْفَلِ السّافِلِينَ، فَلِهَذا كُلِّهِ يُزادُ إلى ما هو الآنَ، ولِذا كانَ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما إذا رَأى البَحْرَ: يا بَحْرُ مَتّى تَعُودُ نارًا، وكانَ يَكْرَهُ الوُضُوءَ بِمائِهِ، ويَقُولُ: التَّيَمُّمُ أحَبُّ إلَيَّ مِنهُ، وقالَ تَعالى: ﴿وإذا البِحارُ سُجِّرَتْ﴾ أيْ أُجِّجَتْ، ولَيْسَ لِلْكُفّارِ اليَوْمَ مُكْثٌ فِيها، وإنَّما يُعْرَضُونَ عَلَيْها كَما قالَ تَعالى: ﴿بُكْرَةً وعَشِيًّا﴾ وهي نارانِ حِسِّيَّةٌ مُسَلَّطَةٌ عَلى ظاهِرِ الجِسْمِ، والإحْساسِ، والحَيَوانِيَّةِ، ومَعْنَوِيَّةٌ وهي الَّتِي تَطَّلِعُ عَلى الأفْئِدَةِ، وبِها يُعَذَّبُ الرُّوحُ المُدَبَّرُ لِلْهَيْكَلِ الَّذِي أُمِرَ فَعَصى، والمُخالَفَةُ وهي عَيْنُ الجَهْلِ بِمَنِ اسْتَكْبَرَ عَلَيْهِ أشَدُّ العَذابِ، وقَدْ أطالُوا الكَلامَ في ذَلِكَ، وأتَوْا بِالعَجَبِ العُجابِ، وحَقِيقَةُ الأمْرِ عِنْدِي لا يَعْلَمُها إلّا اللَّهُ تَعالى، ولا شَيْءَ أحْسَنُ مِنَ التَّسْلِيمِ لِما جاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَكَيْفِيَّةُ ما في تِلْكَ النَّشْأةِ الأُخْرَوِيَّةِ مِمّا لا يُمْكِنُ أنْ تُعْلَمَ كَما يَنْبَغِي لِمَن غَرِقَ في بِحارِ العَلائِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وماذا عَلَيَّ إذا آمَنتُ بِما جاءَ مِمّا أخْبَرَ بِهِ الصّادِقُ مِنَ الأُمُورِ السَّمْعِيَّةِ مِمّا لا يَسْتَحِيلُ عَلى ما جاءَ، وفَوَّضْتُ الأمْرَ إلى خالِقِ الأرْضِ والسَّماءِ، أسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَنا عَلى دِينِهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب