الباحث القرآني

ولَمّا كانَ سُبْحانَهُ عالِمًا بِأنَّ الأنْفُسَ الأبِيَّةَ والأُنُوفَ الشّامِخَةَ الحَمِيَّةَ الَّتِي قَدْ لَزِمَتْ شَيْئًا فَمُرِّنَتْ عَلَيْهِ حَتّى صارَ لَها خُلُقًا يَصْعُبُ عَلَيْها انْفِكاكُها عَنْهُ ويَعْسُرُ خَلاصُها مِنهُ عَبَّرَ عَنْ هَذا الإخْبارِ بِالعَجْزِ مُهَدِّدًا في سِياقٍ مُلْجِئٍ إلى الإنْصافِ بِالِاعْتِرافِ أوْ تَفَطُّرِ القُلُوبِ بِالعَجْزِ عَنِ المَطْلُوبِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ فَأتى بِأداةِ الشَّكِّ تَنْفِيسًا لَهم وتَهَكُّمًا في نَفْسِ الأمْرِ بِهِمْ واسْتِجْهالًا لَهم، ثُمَّ لَمْ يُتَمِّمْ ذَلِكَ التَّنْفِيسَ حَتّى ضَرَبَهم ضَرْبَةً (p-١٧٠)قَصَمَتْ ظُهُورَهم وقَطَعَتْ قُلُوبَهم فَقالَ لِتَكُونَ الآيَةُ كافِلَةً لِصِحَّةِ نِسْبَةِ النَّظْمِ والمَعْنى آيَدَ وآكَدَ لِادِّعائِهِمُ المَقْدِرَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَنْ تَفْعَلُوا﴾ فَألْزَمَهُمُ الخِزْيَ بِما حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ العَجْزِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهم فِعْلٌ إلّا المُبادَرَةَ إلى تَصْدِيقِهِ بِالكَفِّ، فَكانُوا كَمَن أُلْقِمَ الحَجَرَ فَلَمْ يَسَعْهُ إلّا السُّكُوتُ، واسْتَمَرَّ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ لَهم ولِأمْثالِهِمْ عَلى وجْهِ الدَّهْرِ في كُلِّ عَصْرٍ يُنادِي مُنادِيهِ فَتَخْضَعُ لَهُ الرِّقابُ ويَصْدَحُ مُؤَذِّنُهُ فَتَنْكَسِرُ (p-١٧١)الرُّؤُوسُ، والتَّعْبِيرُ بِالفِعْلِ الأعَمِّ مِنَ الإتْيانِ أبْلَغُ لِأنَّ نَفْيَهُ نَفْيُ الأخَصِّ وزِيادَةٌ. والفِعْلُ قالَ الحَرالِّيُّ ما ظَهَرَ عَنْ داعِيَةٍ مِنَ المَوْقِعِ كانَ عَنْ عِلْمٍ أوْ غَيْرِ عِلْمٍ لِتَدَيُّنٍ كانَ أوْ لِغَيْرِهِ كَما تَقَدَّمَ مِرارًا. انْتَهى. فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ هَذا الكِتابَ الَّذِي بَيَّنَ أنَّهُ الهادِي إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ أعْظَمُ دَلِيلٍ عَلى إفْرادِهِ بِالعِبادَةِ واخْتِصاصِهِ بِالمُراقَبَةِ الَّتِي أرْشَدَنا إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] الآيَةَ، بِما ثَبَتَ فِيهِ مِن أدِلَّةِ التَّفَرُّدِ بِالإلَهِيَّةِ بِما ثَبَتَ مِن عَجْزِهِمْ عَنْ مُعارَضَتِهِ وعَجْزِ جَمِيعِ العَرَبِ الَّذِينَ كانُوا أفْصَحَ الخَلْقِ وكَذا جَمِيعُ مَن وُلِدَ في بِلادِهِمْ وانْطَبَعَ بِلِسانِهِمْ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى الَّذِينَ لَهم مِنَ الفَصاحَةِ والعِلْمِ ما هو مَشْهُورٌ فَقَدْ كانَ لِلْيَهُودِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ كانُوا في المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ وخَيْبَرَ واليَمَنِ وغَيْرِها، (p-١٧٢)ومَن دَخَلَ في دِينِهِمْ مِنَ العَرَبِ مِنَ الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ والعِلْمِ ما لا يَحْتاجُ مَن طالَعَ السِّيرَةَ فِيهِ إلى تَوَقُّفٍ، وكانَ النَّصارى مِن بَنِي إسْرائِيلَ ومَن دانَ دِينَهم مِنَ العَرَبِ وهم كَثِيرٌ كَثْرَةَ قَوْمِ المُنْذِرِ بْنِ ماءِ السَّماءِ، وما قارَبَ الشَّيْءَ مِن عَبْدِ القَيْسِ وتَنُوخَ وعامِلِهِ وغَسّانَ كُلُّهم فُصَحاءُ بُلَغاءُ، وزادَ كَثِيرٌ مِنهم عَلى ذَلِكَ العِلْمِ وكانَ مِنهُمُ الشُّعَراءُ المُبَرِّزُونَ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ مِنهم عَلى طَعْنٍ في هَذا القُرْآنِ ولا عارَضَهُ مِنهم إنْسانٌ إلّا ما قالَهُ مُسَيْلِمَةُ والأسْوَدُ العَنْسِيُّ فِيما افْتُضِحُوا بِهِ وأكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيهِ وسارَتْ بِفَضائِحِهِمُ الرُّكْبانُ فَكانُوا بِها مَثَلًا في سائِرِ البُلْدانِ. (p-١٧٣)قالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الجاحِظُ في كِتابِ ”الحُجَّةِ في تَثْبِيتِ خَبَرِ الواحِدِ“: إنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى بَعْثَ مُحَمَّدًا ﷺ أكْثَرَ ما كانَتِ العَرَبُ شاعِرًا وخَطِيبًا وأحْكَمَ ما كانَتْ لُغَةً وأشَدَّ ما كانَتْ عُدَّةً، فَدَعا أقْصاها وأدْناها إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وتَصْدِيقِ رِسالَتِهِ فَدَعاهم إلى حَظِّهِمْ بِالحُجَّةِ، فَلَمّا قَطَعَ العُذْرَ وأزالَ الشُّبْهَةَ وصارَ الَّذِي يَمْنَعُهم مِنَ الإقْرارِ الهَوى والحَمِيَّةَ دُونَ الجَهْلِ والحَيْرَةِ حَمَلَهم عَلى حَظِّهِمْ بِالسَّيْفِ، فَنَصَبَ لَهُمُ الحَرْبَ ونَصَبُوا لَهُ وقَتَلَ مِن عِلْيَتِهِمْ وأعْلامِهِمْ وأعْمامِهِمْ وبَنِي أعْمامِهِمْ وقَتَلُوا أعْمامَهُ وبَنِي أعْمامِهِ وعِلْيَةَ أصْحابِهِ وأعْلامَ أهْلِهِ، وهو في ذَلِكَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ وغَيْرِهِ ويَدْعُوهم صَباحًا ومَساءً (p-١٧٤)إلى أنْ يُعارِضُوهُ إنْ كانَ كاذِبًا بِسُورَةٍ واحِدَةٍ أوْ بِآياتٍ يَسِيرَةٍ، فَكُلَّما ازْدادَ تَحَدِّيًا لَهم بِها وتَقْرِيعًا بِعَجْزِهِمْ عَنْها تَكَشَّفَ مِن نَقْصِهِمْ ما كانَ مَسْتُورًا وظَهَرَ مِنهُ ما كانَ خَفِيًّا، فَحِينَ لَمْ يَجِدُوا حِيلَةً ولا حُجَّةً قالُوا لَهُ: أنْتَ تَعْرِفُ مِن أخْبارِ الأُمَمِ ما لا نَعْرِفُ فَلِذَلِكَ يُمْكِنُكَ ما لا يُمْكِنُنا؛ قالَ: فَهاتُوها مُفْتَرِياتٍ، فَلَمْ يَرِمْ ذَلِكَ خَطِيبٌ ولا طَمَعَ فِيهِ شاعِرٌ ولا طَبْعَ فِيهِ لِتَكَلُّفِهِ، ولَوْ تَكَلَّفَهُ لَظَهَرَ ذَلِكَ، ولَوْ ظَهَرَ لَوَجَدَ مَن يَسْتَجِيدُهُ ويُحامِي عَلَيْهِ ويُكابِرُ فِيهِ ويَزْعُمُ أنَّهُ قَدْ عارَضَ وقابَلَ وناقَضَ، فَدَلَّ ذَلِكَ العاقِلُ عَلى عَجْزِ القَوْمِ مَعَ كَثْرَةِ كَلامِهِمْ واتِّساعِ لُغَتِهِمْ وسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وكَثْرَةِ شُعَرائِهِمْ وكَثْرَةِ مَن هَجاهُ مِنهم (p-١٧٥)وعارَضَ شُعَراءَ أصْحابِهِ وخُطَباءَ أُمَّتِهِ، لِأنَّ سُورَةً واحِدَةً وآياتٍ يَسِيرَةً كانَتْ أنْقَضَ لِقَوْلِهِ وأفْسَدَ لِأمْرِهِ وأبْلَغَ في تَكْذِيبِهِ وأسْرَعَ في تَفْرِيقِ أتْباعِهِ مِن بَذْلِ النُّفُوسِ والخُرُوجِ مِنَ الأوْطانِ وإنْفاقِ الحَرائِبِ؛ وهَذا مِن جَلِيلِ التَّدْبِيرِ الَّذِي لا يَخْفى عَلى مَن هو دُونَ قُرَيْشٍ والعَرَبِ في العَقْلِ والرَّأْيِ بِطَبَقاتٍ، ولَهُمُ القَصِيدُ العَجِيبُ والرَّجَزُ الفاخِرُ والخُطَبُ الطِّوالُ البَلِيغَةُ والقِصارُ المُوجَزَةُ، ولَهُمُ الأسْجاعُ والمُزْدَوَجُ واللَّفْظُ المَنثُورُ، ثُمَّ يَتَحَدّى بِهِ أقْصاهم بَعْدَ أنْ ظَهَرَ عَجْزُ أدْناهم؛ فَمُحالٌ - أكْرَمَكَ اللَّهُ - أنْ يَجْتَمِعَ هَؤُلاءِ كُلُّهم عَلى الغَلَطِ في الأمْرِ الظّاهِرِ (p-١٧٦)والخَطَأِ المَكْشُوفِ البَيِّنِ مَعَ التَّقْرِيعِ بِالنَّقْصِ والتَّوْقِيفِ عَلى العَجْزِ وهم أشَدُّ الخَلْقِ أنَفَةً وأكْثَرُهم مُفاخَرَةً والكَلامُ سَيِّدُ عِلْمِهِمْ وقَدِ احْتاجُوا إلَيْهِ والحاجَةُ تَبْعَثُ عَلى الحِيلَةِ في الأمْرِ الغامِضِ فَكَيْفَ بِالظّاهِرِ ! وكَما أنَّهُ مُحالٌ أنْ يُطْبِقُوا ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنَةً عَلى الغَلَطِ في الأمْرِ الجَلِيلِ المَنفَعَةِ فَكَذَلِكَ أيْضًا مُحالٌ أنْ يَتْرُكُوهُ وهم يَعْرِفُونَهُ ويَجِدُونَ السَّبِيلَ إلَيْهِ وهم يَبْذُلُونَ أكْثَرَ مِنهُ. انْتَهى. فَثَبَتَ بِهَذا عَجْزُهم وخَرِسَ قَطْعًا إفْصاحُهم ورَمْزُهم وطَأْطَأ ذُلًّا كِبْرُهم وعِزُّهم، وكَيْفَ يُمْكِنُ المَخْلُوقَ مَعَ تَمَكُّنِهِ في سِماتِ النَّقْصِ ودَرَكاتِ الِافْتِقارِ والضَّعْفِ مُعارَضَةُ مَنِ اخْتُصَّ بِصِفاتِ (p-١٧٧)الكَمالِ وتَعالى عَنِ الأنْدادِ والأشْباهِ والأشْكالِ. وقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في سَبَبِ الإعْجازِ وأحْسَنُ ما وقَفَتُ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ ما نَقَلَهُ الإمامُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ الشّافِعِيُّ في كِتابِهِ البُرْهانِ عَنِ الإمامِ أبِي سُلَيْمانَ الخَطابِيِّ - وقالَ: وإلَيْهِ ذَهَبَ الأكْثَرُونَ مِن عُلَماءِ النَّظَرِ - أنَّ وجْهَ الإعْجازِ فِيهِ مِن جِهَةِ البَلاغَةِ لَكِنْ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَفْصِيلُها ووَضَعُوا فِيهِ إلى حُكْمِ الذَّوْقِ، قالَ: والتَّحْقِيقُ أنَّ أجْناسَ الكَلامِ مُخْتَلِفَةٌ ومَراتِبَها في دَرَجاتِ البَيانِ مُتَفاوِتَةٌ، فَمِنها البَلِيغُ الرَّصِينُ الجَزْلُ، ومِنها الفَصِيحُ القَرِيبُ السَّهْلُ، ومِنها الجائِزُ الطَّلْقُ الرَّسْلُ؛ (p-١٧٨)وهَذِهِ الأقْسامُ هي الكَلامُ الفاضِلُ المَحْمُودُ، فالقِسْمُ الأوَّلُ أعْلاهُ والقِسْمُ الثّانِي أوْسَطُهُ والقِسْمُ الثّالِثُ أدْناهُ وأقْرَبُهُ؛ فَحازَتْ بَلاغاتُ القُرْآنِ مِن كُلِّ قِسْمٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ حِصَّةً وأخَذَتْ مِن كُلِّ نَوْعٍ شُعْبَةً، فانْتَظَمَ لَها بِانْتِظامِ هَذِهِ الأوْصافِ نَمَطٌ مِنَ الكَلامِ يَجْمَعُ صِفَتَيِ الفَخامَةِ والعُذُوبَةِ، وهُما عَلى الِانْفِرادِ في نُعُوتِهِما كالمُتَضادَّيْنِ لِأنَّ العُذُوبَةَ نِتاجُ السُّهُولَةِ والجَزالَةِ والمَتانَةِ يُعالِجانِ نَوْعًا مِنَ الزُّعُورَةِ، فَكانَ اجْتِماعُ الأمْرَيْنِ في نَظْمِهِ مَعَ نَبْوِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عَنِ الآخَرِ فَضِيلَةً خُصَّ بِها القُرْآنُ لِتَكُونَ آيَةً بَيِّنَةً لِنَبِيِّهِ ﷺ، وإنَّما تَعَذَّرَ عَلى البَشَرِ جَمِيعًا الإتْيانُ بِمِثْلِهِ لِأُمُورٍ، مِنها: أنَّ عِلْمَهم لا يُحِيطُ بِجَمِيعِ أسْماءِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وأوْضاعِها الَّتِي هي ظُرُوفُ المَعانِي، ولا تُدْرِكُ أفْهامُهم جَمِيعَ مَعانِي الأشْياءِ المَحْمُولَةِ عَلى تِلْكَ الألْفاظِ، ولا تَكْمُلُ مَعْرِفَتُهم بِاسْتِيفاءِ جَمِيعِ وُجُوهِ النُّظُومِ الَّتِي بِها يَكُونُ ائْتِلافُها وارْتِباطُ بَعْضِها بِبَعْضٍ، فَيَتَوَصَّلُوا (p-١٧٩)بِاخْتِيارِ الأفْضَلِ مِنَ الأحْسَنِ مِن وُجُوهِها إلى أنْ يَأْتُوا بِكَلامٍ مِثْلِهِ، وإنَّما يَقُومُ الكَلامُ بِهَذِهِ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ لَفْظٌ حامِلٌ ومَعْنًى بِهِ قائِمٌ ورِباطٌ لَهُما ناظِمٌ؛ وإذا تَأمَّلْتَ القُرْآنَ وجَدْتَ هَذِهِ الأُمُورَ مِنهُ في غايَةِ الشَّرَفِ والفَضِيلَةِ حَتّى لا تَرى شَيْئًا مِنَ الألْفاظِ أفْصَحَ ولا أجْزَلَ ولا أعْذَبَ مِن ألْفاظِهِ، ولا تَرى نَظْمًا أحْسَنَ تَأْلِيفًا وأشَدَّ تَلاؤُمًا وتَشاكُلًا مِن نَظْمِهِ؛ وأمّا مَعانِيهِ فَكُلُّ ذِي لُبٍّ يَشْهَدُ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ في أبْوابِهِ والتَّرَقِّي إلى أعْلى دَرَجاتِهِ، وقَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الفَضائِلُ الثَّلاثُ عَلى التَّفَرُّقِ في أنْواعِ الكَلامِ، فَأمّا أنْ تُوجَدَ مَجْمُوعَةً في نَوْعٍ واحِدٍ مِنهُ فَلَمْ تُوجَدْ إلّا في كَلامِ العَلِيمِ القَدِيرِ، فَخَرَجَ مِن هَذا أنَّ القُرْآنَ إنَّما صارَ مُعْجِزًا لِأنَّهُ جاءَ بِأفْصَحِ الألْفاظِ في أحْسَنِ نُظُومِ التَّأْلِيفِ، مُضَمَّنًا أصَحَّ المَعانِي مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعالى وتَنْزِيهٍ لَهُ في صِفاتِهِ، ودُعاءٍ إلى طاعَتِهِ وبَيانٍ لِطَرِيقِ عِبادَتِهِ، في تَحْلِيلٍ وتَحْرِيمٍ وحَظْرٍ وإباحَةٍ، ومِن وعْظٍ وتَقْوِيمٍ وأمْرٍ بِمَعْرُوفٍ ونَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وإرْشادٍ إلى مَحاسِنِ الأخْلاقِ وزَجْرٍ عَنْ مَساوِيها، واضِعًا كُلَّ شَيْءٍ مِنها مَوْضِعَهُ الَّذِي لا يُرى شَيْءٌ أوْلى مِنهُ ولا يُتَوَهَّمُ (p-١٨٠)فِي صُورَةِ العَقْلِ أمْرٌ ألْيَقَ بِهِ مِنهُ، مُودَعًا أخْبارَ القُرُونِ الماضِيَةِ وما نَزَلَ مِن مَثُلاتِ اللَّهِ بِمَن مَضى وعانَدَ مِنهم، مُنْبِئًا عَنِ الكَوائِنِ المُسْتَقْبَلَةِ في الأعْصارِ الآتِيَةِ مِنَ الزَّمانِ، جامِعًا في ذَلِكَ بَيْنَ الحُجَّةِ والمُحْتَجِّ لَهُ والدَّلِيلِ والمَدْلُولِ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أوْكَدَ لِلُزُومِ ما دَعا إلَيْهِ، وأنْبَأ عَنْ وُجُوبِ ما أمَرَ بِهِ ونَهى عَنْهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ الإتْيانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ والجَمْعَ بَيْنَ أشْتاتِها حَتّى تَنْتَظِمَ وتَتَّسِقَ أمْرٌ تَعْجِزُ عَنْهُ قُوى البَشَرِ ولا تَبْلُغُهُ قُدْرَتُهم؛ فانْقَطَعَ الخَلْقُ دُونَهُ وعَجَزُوا عَنْ مُعارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ أوْ مُناقَضَتِهِ في شَكْلِهِ، ثُمَّ صارَ المُعانِدُونَ لَهُ يَقُولُونَ مَرَّةً: إنَّهُ شِعْرٌ - لِما رَأوْهُ مَنظُومًا - ومَرَّةً: إنَّهُ سِحْرٌ - لِما رَأوْهُ مَعْجُوزًا عَنْهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ - وقَدْ كانُوا يَجِدُونَ لَهُ وقْعًا في القُلُوبِ وفَزَعًا في النُّفُوسِ يُرِيبُهم ويُحَيِّرُهم، فَلَمْ يَتَمالَكُوا أنْ يَعْتَرِفُوا بِهِ نَوْعًا مِنَ الِاعْتِرافِ، ولِذَلِكَ قالُوا: إنَّ لَهُ لَحَلاوَةً وإنَّ عَلَيْهِ (p-١٨١)لَطَلاوَةً، وكانُوا مَرَّةً بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّهُ ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهي تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلا﴾ [الفرقان: ٥] مَعَ عِلْمِهِمْ أنَّ صاحِبَهُ أُمِّيٌّ ولَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَن يُمْلِي أوْ يَكْتُبُ في نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي أوْجَبَها العِنادُ والجَهْلُ والعَجْزُ. انْتَهى. وأوَّلُ كَلامِهِ يَمِيلُ إلى أنَّ الإعْجازَ بِمُجَرَّدِ النَّظْمِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى المَعْنى، وآخِرُهُ يَمِيلُ إلى أنَّهُ بِالنَّظَرِ إلى النَّظْمِ والمَعْنى مَعًا مِنَ الحَيْثِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَها، وهو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْتَقَدَ لَكِنْ في التَّحَدِّي بِسُورَةٍ واحِدَةٍ وأمّا بِالعَشَرِ فَبِالنَّظَرِ إلى البَلاغَةِ في النَّظْمِ فَقَطْ - نَقَلَهُ البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ عَنِ المُبَرِّدِ وقَدْ مَرَّ آنِفًا مِثْلُهُ في كَلامِ الجاحِظِ. وقالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ الحَرالِّيُّ في مِفْتاحِ البابِ المُقْفَلِ: البابُ الأوَّلُ في عُلُوِّ بَيانِ القُرْآنِ عَلى بَيانِ الإنْسانِ: اعْلَمْ أنَّ بَلاغَةَ البَيانِ تَعْلُو عَلى قَدْرِ عُلُوِّ المُبِينِ، فَعُلُوُّ بَيانِ اللَّهِ عَلى بَيانِ خَلْقِهِ بِقَدْرِ عُلُوِّ اللَّهِ عَلى خَلْقِهِ، فَبَيانُ كُلِّ مُبِينٍ عَلى قَدْرِ إحاطَةِ عِلْمِهِ، فَإذا أبانَ الإنْسانُ عَنِ الكائِنِ أبانَ بِقَدْرِ ما يُدْرِكُ مِنهُ وهو لا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ فَلا يَصِلُ إلى غايَةِ البَلاغَةِ (p-١٨٢)فِيهِ بَيانُهُ، وإذا أنْبَأ عَنِ الماضِي فَبِقَدْرِ ما بَقِيَ مِن ناقِصِ عِلْمِهِ بِهِ كائِنًا في ذِكْرِهِ لِما لَزِمَ الإنْسانَ مِن نِسْيانِهِ، وإذا أرادَ أنْ يُنْبِئَ عَنِ الآتِي أعْوَزَهُ البَيانُ كُلُّهُ إلّا ما يُقَدِّرُهُ أوْ يُزَوِّرُهُ؛ فَبَيانُهُ في الكائِنِ ناقِصٌ وبَيانُهُ في الماضِي أنْقَصُ وبَيانُهُ في الآتِي ساقِطٌ ﴿بَلْ يُرِيدُ الإنْسانُ لِيَفْجُرَ أمامَهُ﴾ [القيامة: ٥] وبَيانُ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَنِ الكائِنِ بالِغٌ إلى غايَةِ ما أحاطَ بِهِ عِلْمُهُ ﴿قُلْ إنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الملك: ٢٦] وعَنِ المُنْقَطِعِ كَوْنُهُ بِحَسَبِ إحاطَتِهِ بِالكائِنِ وسُبْحانَهُ مِنَ النِّسْيانِ ﴿لا يَضِلُّ رَبِّي ولا يَنْسى﴾ [طه: ٥٢] وعَنِ الآتِيِ بِما هو الحَقُّ الواقِعُ ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وما كُنّا غائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٧] ﴿والوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ﴾ [الأعراف: ٨] والمُبِينُ الحَقُّ الَّذِي لا يُوهِنُ بَيانُهُ إيهامَ نِسْبَةِ النَّقْصِ إلى بَيانِهِ، والإنْسانُ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ في البَيانِ ويَخافُ أنْ يُنْسَبَ إلى العَيِّ فَيَقْصِدُ اسْتِقْراءَ البَيانِ ويَضْعُفُ مَفْهُومُ بَيانِهِ ضَعْفًا مِن مُنَّتِهِ، ومَفْهُومُ بَيانِ القُرْآنِ أضْعافَ أضْعافِ أنْبائِهِ وقُلْ ما يَنْقُصُ عَنْ نَظِيرِهِ. انْتَهى. وقالَ الإمامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المُرّاكُشِيُّ الأكْمَهُ في شَرْحِ نَظْمِهِ (p-١٨٣)لِمِصْباحِ ابْنِ مالِكٍ في المَعانِي والبَيانِ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَتْنًا وجُمْلَةً وما تَقَدَّمَ شَرْحًا لَهُ وتَفْصِيلًا قالَ: الجِهَةُ المُعْجِزَةُ في القُرْآنِ تُعْرَفُ بِالتَّفَكُّرِ في عِلْمِ البَيانِ وهو كَما اخْتارَهُ جَماعَةٌ في تَعْرِيفِهِ: ما يُحْتَرَزُ بِهِ عَنِ الخَطَأِ في تَأْدِيَةِ المَعْنى وعَنْ تَعْقِيدِهِ، وتُعْرَفُ بِهِ وُجُوهُ تَحْسِينِ الكَلامِ بَعْدَ رِعايَةِ تَطْبِيقِهِ لِمُقْتَضى الحالِ؛ لِأنَّ جِهَةَ إعْجازِهِ لَيْسَتْ مُفْرَداتِ ألْفاظِهِ وإلّا لَكانَتْ قَبْلَ نُزُولِهِ مُعْجِزَةً، ولا مُجَرَّدُ تَأْلِيفِها وإلّا لَكانَ كُلُّ تَأْلِيفٍ مُعْجِزًا، ولا إعْرابُها وإلّا لَكانَ كُلُّ كَلامٍ مُعْرَبٍ مُعْجِزًا، ولا مُجَرَّدُ أُسْلُوبِهِ وإلّا لَكانَ الِابْتِداءُ بِأُسْلُوبِ الشِّعْرِ مُعْجِزًا - والأُسْلُوبُ الطَّرِيقُ - ولَكانَ هَذَيانُ مُسَيْلِمَةَ مُعْجِزًا، ولِأنَّ الإعْجازَ يُوجَدُ دُونَهُ أيُّ الأُسْلُوبِ في نَحْوِ ﴿فَلَمّا اسْتَيْأسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ [يوسف: ٨٠] ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] ولا بِالصَّرْفِ عَنْ مُعارَضَتِهِ، لِأنَّ تَعَجُّبَهم كانَ مِن فَصاحَتِهِ، ولِأنَّ مُسَيْلِمَةَ وابْنَ المُقَفَّعِ والمَعَرِّيَّ وغَيْرَهم قَدْ تَعاطَوْها فَلَمْ يَأْتُوا إلّا بِما تَمُجُّهُ الأسْماعُ (p-١٨٤)وتَنْفِرُ مِنهُ الطِّباعُ ويُضْحَكُ مِنهُ في أحْوالِ تَرْكِيبِهِ ويُهانُ بِتِلْكَ الأحْوالِ، أعْجَزَ البُلَغاءَ، وأخْرَسَ الفُصَحاءَ؛ فَعَلى إعْجازِهِ دَلِيلٌ إجْمالِيٌّ وهو أنَّ العَرَبَ عَجَزَتْ عَنْهُ وهو بِلِسانِها فَغَيْرُها أحْرى، ودَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ مُقَدِّمَتُهُ التَّفَكُّرُ في خَواصِّ تَرْكِيبِهِ، ونَتِيجَتُهُ العِلْمُ بِأنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنَ المُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. انْتَهى. وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في أواخِرِ العَنْكَبُوتِ ما يَنْفَعُ ها هُنا وأشارَ سُبْحانَهُ في تَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فاتَّقُوا النّارَ﴾ كَذا قالَ الحَرالِّيُّ، وهي جَوْهَرٌ لَطِيفٌ يُفْرَطُ لِشِدَّةِ لَطافَتِهِ في تَفْرِيطِ (p-١٨٥)المُتَجَمِّدِ بِالحَرِّ المُفْرِطِ وفي تَجْمِيدِ المُتَمَتِّعِ بِالبَرْدِ المُفْرِطِ. وقالَ غَيْرُهُ: جِسْمٌ لَطِيفٌ مُضِيءٌ حارٌّ مِن شَأْنِهِ الإحْراقُ ﴿الَّتِي وقُودُها﴾ أيِ الشَّيْءُ الَّذِي يُتَوَقَّدُ ويُتَأجَّجُ بِهِ ﴿النّاسُ والحِجارَةُ﴾ الَّتِي هي أعَمُّ مِن أصْنامِهِمُ الَّتِي قَرَنُوا بِها أنْفُسَهم في الدُّنْيا إلى أنَّهم لَمْ يَقْدِرُوا عَلى المُعارَضَةِ واسْتَمَرُّوا عَلى التَّكْذِيبِ، كانُوا مُعانِدِينَ ومَن عانَدَ اسْتَحَقَّ النّارَ، وإلى أنَّهم إذا أُحْرِقُوا فِيها أوْقَدَ عَلَيْهِمْ بِأصْنامِهِمْ تَعْرِيضًا بِأنَّها وإنْ كانَتْ في الدُّنْيا لا ضَرَرَ فِيها ولا نَفْعَ بِاعْتِبارِ ذَواتِها فَهي في الآخِرَةِ ضَرَرٌ لَهم بِلا نَفْعٍ بِشَفاعَةٍ ولا غَيْرِها؛ وتَعْرِيفُ النّارِ وصِلَةُ المَوْصُولِ لِأنَّ أخْبارَ القُرْآنِ بَعْدَ ثُبُوتِ أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ مَعْلُومَةٌ مَقْطُوعٌ بِها فَهو مِن بابِ تَنْزِيلِ الجاهِلِ مَنزِلَةَ العالِمِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ ما جَهِلَهُ لَمْ يَجْهَلْهُ أحَدٌ. (p-١٨٦)وقالَ الحَرالِّيُّ: الحِجارَةُ ما تَحَجَّرَ أيِ اشْتَدَّ تَصامُّ أجْزائِهِ مِنَ الماءِ والتُّرابِ، ”واتَّقَوْا“ أيْ تَوَقَّفُوا عَنْ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ حَيْثُ تُذْعِنُونَ لِرُبُوبِيَّتِهِ وتَرْتابُونَ في رَسُولِهِ، فالنّارُ مُعَدَّةٌ لِلْعَذابِ بِأشَدِّ التَّفْرِيقِ لِألْطَفِ الأجْزاءِ الَّذِي هو مَعْنى الحَرْقِ لِمَن فَرَّقَ وقَطَعَ ما يَجِبُ وصْلُهُ، أيْ لَمّا فاتَتْكُمُ التَّقْوى بِداعِي العِلْمِ فَلا تَفُتْكُمُ التَّقْوى بِسائِقِ المُوجِعِ المَخْصُوصِ المُناسِبِ عَذابُهُ لِفِعْلِكم، فَإنَّها نارٌ غِذاؤُها واشْتِعالُها بِالكَوْنِ كُلِّهِ أنْهاهُ تَرْكِيبًا وهُمُ النّاسُ المُلائِمُونَ لِمارِجِها بِالنَّوْسِ وأطْرَفِهِ وأجْمَدِهِ وهي الحِجارَةُ فَهي تِسْعٌ ما بَيْنَ ذَلِكَ مِن بابِ الأوْلى، وفِيهِ (p-١٨٧)إشْعارٌ بِمُنَّتِها وقُوَّتِها وأنَّها بِحُكْمِ هَذا الوُسْعِ لِلِالتِصاقِ بِخَلْقٍ يَعْنِي ولَيْسَتْ كَنارِ الدُّنْيا الَّتِي غِذاؤُها مِن ضَعِيفِ المَوالِدِ وهو النَّباتُ ولا تَفْعَلُ في الطَّرَفَيْنِ إلّا بِواسِطَةٍ وكانَ غِذاؤُها ووَقُودُها النَّباتُ إذْ كانَتْ مُتَقَدِّحَةً مِنهُ كَما قالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا﴾ [يس: ٨٠] وتَقُولُ العَرَبُ: في كُلِّ شَجَرٍ نارٌ واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفارُ، وذَلِكَ عَلى حُكْمِ ما تَحَقَّقَ أنَّ الغِذاءَ لِلشَّيْءِ مِمّا مِنهُ أصْلُ كَوْنِهِ وقالَ: ﴿وقُودُها﴾ لِأنَّ النّارَ أشَدُّ فِعْلِها في وقُودِها لِأنَّ بِتَوَسُّطِهِ تَفْعَلُ فِيما سِواهُ، فَإذا كانَ وقُودُها مُحْرَقَها كانَتْ فِيهِ أشَدَّ عَمَلًا لِتَقَوِّيَها بِهِ عَلَيْهِ، ويُفْهِمُ اعْتِبارُها بِنارِ الدُّنْيا (p-١٨٨)انْقِداحَها مِن أعْمالِ المَجْزِيِّينَ بِها ومِن كَوْنِهِمْ، فَهم مِنها مَخْلُوقُونَ وبِها مُغْتَذُونَ إلّا أنَّها مُنْطَفِيَةُ الظّاهِرِ في الدُّنْيا مُتَأجِّجَةٌ في يَوْمِ الجَزاءِ ومِثالُ كُلِّ مُجْزِيٍّ مِنها بِمِقْدارٍ ما في كَوْنِهِ مِن جَوْهَرِها. قُلْتُ: ويُؤَيِّدُهُ ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧] أيْ في أنَّ الغالِبَ عَلَيْهِمُ العُنْصُرُ النّارِيُّ المُفْسِدُ لِما قالَهُ: ﴿ألَمْ تَرَ أنّا أرْسَلْنا الشَّياطِينَ عَلى الكافِرِينَ تَؤُزُّهم أزًّا﴾ [مريم: ٨٣] قالَ: وفي ذِكْرِ الحِجارَةِ إفْهامُ عُمُومِ البَعْثِ والجَزاءِ لِما حَوَتْهُ السَّماءُ والأرْضُ وأنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ يَعُمُّهُ القَسْمُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ كَما عَمَّهُ القَسَمُ بَيْنَ الخَبِيثِ والطَّيِّبِ؛ وإنَّما اقْتَصَرَ في مَبْدَأِ عَقِيدَةِ الإيمانِ عَلى الإيمانِ بِبَعْثِ الثَّقَلَيْنِ وجَزائِهِمْ تَيْسِيرًا واسْتِفْتاحًا، وما سِوى ذَلِكَ فَمِن زِيادَةِ الإيمانِ وتَكامُلِهِ كَما قالَ: ﴿لِيَزْدادُوا إيمانًا مَعَ إيمانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤] ومِنَ العُلَماءِ مَن وقَفَ بِإيمانِهِ عَلى بَعْثِ الثَّقَلَيْنِ وجَزائِهِما، حَتّى إنَّ مِنهم مَن يُنْكِرُ جَزاءَ ما سِواهُما ويَتَكَلَّفُ تَأْوِيلَ مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «يُقْتَصُّ لِلشّاةِ الجَمّاءِ مِنَ الشّاةِ القَرْناءِ» . انْتَهى. ولَمّا تَمَّ ذَلِكَ وكانَ ﴿النّاسُ﴾ عامًّا لِلْكافِرِ وغَيْرِهِ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: هَذِهِ النّارُ لِمَن ؟ فَقِيلَ: ﴿أُعِدَّتْ﴾ أيْ هُيِّئَتْ وأُكْمِلَتْ قَبْلَ زَمَنِ اسْتِعْمالِها (p-١٨٩)وتُقادُ لِلْمَجْهُولِ لِأنَّ المُشْتَكِيَ إذا جُهِلَ فاعِلُهُ كانَ أنَكَأ ﴿لِلْكافِرِينَ﴾ فَبَيِّنَ أنَّها مَوْجُودَةٌ مُهَيَّأةٌ لَهم ولِكُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِوَصْفِهِمْ وهو سَتْرُ ما ظَهَرَ مِن آياتِ اللَّهِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهي عِدَّةُ المَلِكِ الدَّيّانِ لَهم بِمَنزِلَةِ سَيْفِ المَلِكِ مِن مُلُوكِ الدُّنْيا. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب