الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. [[انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف ١: ٢٣٤-٢٣٥، والمراجع في فهرس اللغة.]] ويعني بقوله:"كتب عليكم الصيام"، فرض عليكم الصيام. [[انظر تفسير"كتب" فيما سلف في هذا الجزء ٣: ٣٥٧، ٣٦٤، ٣٦٥.]] و"الصيام" مصدر، من قول القائل:"صُمت عن كذا وكذا" -يعني: كففت عنه-"أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا". ومعنى"الصيام"، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل:"صَامت الخيل"، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان: خَيْلٌ صِيَامٌ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا [[ديوانه: ١٠٦ (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها: بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا وقد فسر"صامت الخليل" بأنها الإمساك عن السير، وعبارة اللغة، "صام الفرس" إذا قام في آريه لا يعتلف، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير، فهو صائم. والعجاج: الغبار الذي يثور، يعني أنها في المعركة لا تقر. وعلك الفرس لجامه: لاكه وحركه في فيه.]] ومنه قول الله تعالى ذكره: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [سورة مريم: ٢٦] يعني: صمتًا عن الكلام. * * * وقوله:"كما كُتب على الذين من قبلكم"، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم. * * * قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا. فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه. * ذكر من قال ذلك: ٢٧٢٠- حدثت عن يحيى بن زياد، عن محمد بن أبان [القرشي] ، عن أبي أمية الطنافسي، عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. [[في معاني القرآن للفراء: "فعدوه ثلاثين يومًا".]] ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. [[في معاني القرآن: "يستن سنة الأول حتى صارت. . ".]] فذلك قوله:"كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم"، [[الخبر: ٢٧٢٠- يحيى بن زياد أبو زكرياء: هو الفراء الإمام النحوي، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد ١٤: ١٤٩-١٥٥. وفي دواوين كثيرة. محمد بن ابان: نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب"معاني القرآن" للفراء رواه عن"محمد بن أبان القرشي". ومحمد بن أبان القرشي: هو"محمد بن أبان بن صالح بن عمير"، مولى لقريش. ترجمه البخاري في الكبير ١/١/٣٤، برقم ٥٠. وقال: "يتكلمون في حفظه" وذكر في الصغير مرتين، ص: ١٨٨، ٢١٤. وقال في أولاهما: "يتكلمون في حفظ محمد بن أبان، لا يعتمد عليه". وقال في الضعفاء، ص: ٣٠"ليس بالقوي". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٣/٢/١٩٩، برقم: ١١١٩، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين. والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي، وهو من طبقة الفراء. وأما ترجمته في التهذيب ٩: ٢-٣ فإنها مختلة مضطربة، خلط فيها بين هذا وبين"محمد بن أبان الواسطي"، وشتان بينهما. والواسطي مترجم عند البخاري، برقم: ٤٨، وعند ابن ابي حاتم، برقم: ١١٢١. وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا. "عن أبي أمية الطنافسي": كذا ثبت هنا. وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر، فيما رأينا من المراجع. وإنما المترجم ابنه"عبيد بن أبي أمية". وهو الذي يروي عن الشعبي. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٢/٢/٤٠١. وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء ١: ١١١، ونقله السيوطي ١: ١٧٦، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكنه اختصره جدًا. +كأنه تلخيص لا نقل.]] * * * وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، النصارى. * ذكر من قال ذلك: ٢٧٢١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، [[سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم: ٢٩٣٥-٢٩٥٢.]] فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر. ٢٧٢٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة. * * * وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. * ذكر من قال ذلك: ٢٧٢٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب. * * * وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم. * ذكر من قال ذلك: ٢٧٢٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر. ٢٧٢٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب،"أيامًا معدودات"، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم ﷺ كان مأمورًا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ، فأمر نبينا ﷺ بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء. وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء. * * * وأما تأويل قوله:"لعلكم تَتقون"، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. [[انظرتفسير"لعل" بمعنى"لكي" ١: ٣٦٤، ٣٦٥ / ثم ٢: ٦٩، ١٦١، واطلبه في الفهرس أيضًا.]] يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم. * * * وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل: * ذكر من قال ذلك: ٢٧٢٦- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لعلكم تتقون"، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب