الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أيّامًا مَعْدُوداتٍ فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٣ ـ ١٨٤].
بدأ اللهُ الآيةَ بخطابِ المؤمنينَ، لأنّ السُّورةَ مدَنيَّةٌ، والخطابَ يتضمَّنُ حُكْمًا يتوجَّهُ إلى المؤمنينَ خاصَّةً، وذلك أنّ الكفّارَ لا يُخاطَبونَ بفروعِ الشريعةِ للعملِ بها في الدُّنيا، وإنّما يُخاطَبونَ بفروعِ الشريعةِ للعقابِ عليها في الآخِرةِ.
وقولُه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ أصلُ الكَتْبِ: الجَمْعُ، والمرادُ به هنا: توثيقُ الشيءِ بجمعِهِ وشَدِّهِ وعَقْدِ أمرِه.
والصِّيامُ في اللغةِ: الإمساكُ، والصّائِمُ: القائِمُ الساكتُ، والمُمسِكُ الذي لا يَطْعَمُ شيئًا.
يقالُ: صام الفرسُ على آرِيِّهِ: إذا لم يَعتلِفْ.
وصيامُ الرِّيحِ: رُكُودُها.
قال أبو عُبَيْدةَ: كلُّ مُمسِكٍ عن طعامٍ أو كلامٍ أو سَيْرٍ، فهو صائمٌ.
قال تعالى: ﴿فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا ﴾ [مريم: ٢٦]، أيْ: إمساكًا عن الكلامِ.
وصومُ النَّهارِ: وقوفُ الشمسِ في الظَّهِيرةِ.
قال امرُؤُ القَيْسِ:
فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ
ذَمُولٍ إذا صامَ النَّهارُ وهَجَّرا
وصومُ الخيلِ: إمساكُها عن الصَّهِيلِ.
وممّا يُنسَبُ للنابغةِ الذُّبْيانيِّ:
خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غَيْرُ صائِمَةٍ
تَحْتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلُكُ اللُّجُما
وأمّا في اصطلاحِ الشارعِ، فالمرادُ بالصِّيامِ: «إمساكٌ مخصوصٌ، في زمنٍ مخصوصٍ، مِن شخصٍ مخصوصٍ، بنيَّةٍ مخصوصةٍ».
الصيامُ في الأممِ السابقةِ:
وذكَرَ اللهُ أنّ الصِّيامَ قد شُرِعَ على مَن سبَقَنا، لأمورٍ، منها:
أوَّلًا: التَّعْزِيَةُ بأنّ هذا التكليفَ فُرِضَ على غيرِكم وقامُوا به، فالإنسانُ الذي يكلَّفُ بما يكلَّفُ به غيرُهُ يتسلّى ويتعزّى، بخلافِ ما لو أُمِرَ بتكليفٍ وحدَهُ مِن دونِ الناسِ.
ثـانيًـا: فيه حَثٌّ وحَضٌّ على العملِ، فأُمَّةُ محمَّدٍ ﷺ خيرُ الأُمَمِ، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، وفي الحديثِ: (إنَّكُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُها وأَكْرَمُها عَلى اللهِ عزّ وجل)، أخرَجَهُ أحمدُ، مِن حديثِ بَهْزِ بنِ حَكِيمٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه[[أخرجه أحمد (٢٠٠٢٩) (٥/٣).]].
فإذا فعَلَ مَن دُونَهم ما أُمِرُوا به وهم خيرُ الأممِ، فهم مِن بابِ أولى أنْ يقوموا بأمرِ اللهِ.
ثـالثًـا: لبيانِ مَنزِلةِ شريعةِ الصيامِ، فالأمرُ الذي يُحكِمُهُ اللهُ في كلِّ شريعةٍ دليلٌ على فضلِهِ على غيرِهِ مِن الأعمالِ، وأنّ صلاحَ دِينِ الأممِ جميعًا لا يستقيمُ إلاَّ به، وإنِ اختلَفُوا في غيرِه، والعبادةُ التي تُفرَضُ في كلِّ شريعةٍ أشَدُّ تمكُّنًا في فِطْرةِ الإنسانِ مِن غيرِها، وإنْ كانتْ جميعُ العباداتِ على فِطْرةِ الإنسانِ التي طُبِعَ عليها، لكنَّها تَختلِفُ تمكُّنًا منها.
واللهُ لطيفٌ بعبادِهِ رحيمٌ بهم، وهو بأُمَّةِ محمَّدٍ أرحمُ، وإذا جَعَلَ العبادةَ التي رَحِمَ بها الأممَ سببًا لرحمةِ أمَّةِ محمَّدٍ، فهذا دليلٌ على أنّ اللهَ اختار مِن شرائعِ الأممِ أشَدَّ أعمالِها رَحْمةً ويُسْرًا.
رابعًا: لبيانِ خطورةِ مخالَفةِ أمرِ اللهِ في الصِّيامِ، فبيانُ اللهِ أنّ فريضةَ الصيامِ فريضةٌ للأممِ السابقةِ ولهذه الأمَّةِ: إشارةٌ إلى أنّ تَرْكَ الإنسانِ الفاضِلِ للعملِ أعظَمُ عندَهُ مِن تَرْكِ الإنسانِ المفضولِ، فالفاضلُ أولى بالعملِ، لقُرْبِه.
ثمَّ إنّ الشريعةَ المفروضةَ على الأممِ السابقةِ أظهَرُ في الإحكامِ مِن غيرِها، فلا تُنكِرُها النفوسُ، لكونِها حادثةً عليها، بل تتلقّاها النفوسُ وتَقْبَلُها، لهذا كلَّما كان الأمرُ أظهَرَ إحكامًا وأصرَحَ بيانًا، كانتِ المخالفةُ له أعظَمَ.
وقد اختُلِفَ في الصيامِ المفروضِ على الأممِ السابقةِ عدَدًا وزمنًا، والمقطوعُ به: أنّه إمساكٌ عن الطعامِ والشرابِ، لأنّ الأكلَ والشربَ أصلٌ في تحقُّقِ اسمِ الصيامِ، وأمّا ما عداهُ ـ كالجِماعِ وغيرِه ـ فيحتاجُ ذلك إلى دليلٍ يبيِّنُ، وقد روى أسْباطٌ، عن السُّدِّيِّ: «أنّ الجِماعَ محرَّمٌ عليهم، وهكذا كان النَّصارى يصُومُونَ في المدينةِ، يدَعُونَ الطعامَ والشرابَ والجِماعَ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٤).]].
وحمَلَ بعضُهمُ التشبيهَ في قوله تعالى: ﴿كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ على التشبيهِ بالوقتِ، فوقتُهم كوقتِنا، ومنهم مَن حمَلَ التشبيهَ على جميعِ الوجوهِ.
ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ مسعودٍ، وعطاءٍ وقتادةَ: أنّ اللهَ فرَضَ على الأممِ السابقةِ صيامَ ثلاثةِ أيامٍ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٧ ـ ١٥٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٤).]].
والأممُ السابقةُ التي فرَضَ اللهُ عليها الصيامَ لم يبيَّنْ أوَّلُها، ولعلَّ الصيامَ كان في كلِّ شريعةٍ، لظاهرِ إطلاقِ الآيةِ، وقد دلَّ الدليلُ مِن القرآنِ: أنّه في شريعةِ بني إسرائيلَ، وقد روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عبّادِ بنِ منصورٍ، عن الحسَنِ: «كتَبَهُ اللهُ على كلِّ أُمَّةٍ قبلَنا كما كتَبَهُ علينا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٥).]].
وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن نَصْرِ بنِ مُشارِسٍ، عن الضحّاكِ: «أنّ أوَّلَ مَن صامَ نوحٌ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٤).]].
وروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن أبي الربيعِ، عن رجلٍ مِن المدينةِ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ ﷺ: (أنَّ اللهَ كَتَبَ صِيامَ رَمَضانَ عَلى الأُمَمِ قَبْلَكُمْ) [[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٤).]].
وقال به الشَّعْبيُّ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٣).]] وقتادةُ في قولٍ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٥).]].
وظاهرُ القرآنِ والسُّنَّةِ: أنّ مَن كان بعدَ إبراهيمَ مأمورٌ باتِّباعِ مِلَّتِه، وكلُّ شِرْعةٍ في الأصولِ في الإسلامِ، فهي مِن شِرْعةِ إبراهيمَ ومَن جاء بعدَهُ مِن الأنبياءِ.
مراحلُ تشريع الصيامِ:
وقد شرَعَ اللهُ الصيامَ في الإسلامِ على مراحلَ، والأحاديثُ الواردةُ في البابِ تدلُّ على أنّ أولَ ما شُرِعَ الصيامُ شُرِعَ ثلاثةَ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، كما جاء في حديثِ عائشةَ في «الصَّحيحَيْنِ»، وفي حديثِ مُعاذٍ وابنِ عبّاسٍ.
ففي «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ الزُّهْريِّ، عن عُرْوةَ عن عائشةَ، عليها رضوانُ اللهِ تعالى.
وجاء أيضًا بتفصيلِهِ مِن حديثِ معاذِ بنِ جَبَلٍ عندَ الإمامِ أحمدَ، مِن حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي لَيْلى، قال معاذُ بنُ جَبَلٍ: «إنّ النبيَّ ﷺ لمّا قَدِمَ المدينةَ، كان يصومُ ثلاثةً مِن كلِّ شَهْرٍ، ويصومُ يومَ عاشوراءَ، فشرَعَ اللهُ عزّ وجل صِيامَ رمضانَ، مَن أرادَ صومَهُ فلْيَصُمْهُ، ومَن أرادَ أنْ يُطْعِمَ فلْيُطْعِمْ، ثمَّ فرَضَ اللهُ عزّ وجل صيامَهُ ونسَخَ صيامَ يومِ عاشوراءَ مِن الوجوبِ إلى الاستحبابِ»[[أخرجه أحمد (٢٢١٢٤) (٥/٢٤٦).]].
وقد فرَضَ اللهُ الصيامَ في السنةِ الثانيةِ قُبَيْلَ معركةِ بَدْرٍ، كما حكاهُ ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ، وهذا محلُّ اتِّفاقٍ عندَ العلماءِ، لكنَّ منهم مَن قال: إنّه فُرِضَ في شعبانَ، ومنهم مَن قال: إنّه فُرِضَ قبلَ ذلك.
وقولُه تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، أيْ: تَتَّقُونَ ما أمَرَكُمُ اللهُ بتَرْكِهِ مِن الطعامِ والشرابِ والجِماعِ وغيرِه.
قولُه تعالى: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾:
المرادُ بالمعدوداتِ: المَحْدوداتُ المُحْصَياتُ بعددٍ معيَّنٍ معروفٍ، وهو شهرُ رَمَضانَ، وشهرُ رمضانَ محدودٌ: بطلوعِ الهلالِ مِن رمضانَ، وطلوعِهِ مِن شوّالٍ، والصَّوْمُ في النهارِ بينَ الهِلالَيْنِ، قال النبيُّ ﷺ: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) [[أخرجه البخاري (١٩٠٩) (٣/٢٧)، ومسلم (١٠٨١) (٢/٧٦٢).]].
وذِكْرُ العددِ إشارةٌ إلى التيسيرِ، فاللهُ تعالى لم يَفرضْ صيامَ الدَّهْرِ، بل نَهى عنه، ولم يَأْذَنْ للأمَّةِ بتركِ الصيامِ، بل جعَلَهُ مفروضًا عليها بأيّامٍ معدودةٍ، يَعرِفُهُ أدنى المكلَّفِينَ بالتشريعِ.
ضبطُ الشهر برؤية الهلال، لا بالحساب، والحكمةُ من ذلك:
وفيه تنبيهٌ على أنّ التيسيرَ في ضبطِ عددِ الأيّامِ مقصودٌ، لذا علَّقَ معرفةَ الأيّامِ بدايةً ونهايةً برؤيةِ الهلالِ، وتعليقُ ذلك بالحسابِ تكلُّفٌ وتشديدٌ يُنافي المقصودَ مِن التيسيرِ، فالرُّؤْيةُ تكليفٌ يستطيعُهُ البادي والحاضرُ، راكبُ البَرِّ وراكبُ البحرِ، الفردُ والجماعةُ.
والتيسيرُ في ضبطِ دخولِ الشهرِ وخروجِهِ شبيهٌ بضبطِ القِبْلةِ، ولذا جاء في الحديثِ مرفوعًا وموقوفًا: (ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) [[أخرجه الترمذي (٣٤٢) (٢/١٧١)، والنسائي (٢٢٤٣) (٤/١٧١)، وابن ماجه (١٠١١) (١/٣).]]، وقد كان أحمدُ يَنْهى عن التكلُّفِ في تحديدِ القِبْلةِ بالجَدْيِ ونحوِه مِن النجومِ[[ينظر: «فتح الباري» لابن رجب (٣/٦٥).]].
وحمَلَ بعضُ السَّلَفِ «المَعْدُوداتِ» على صيامِ ثلاثةِ أيّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، حِينَما كانتْ فرضًا قبلَ صيامِ رمضانَ، رواهُ ابنُ جريرٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن عَطاءٍ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٧).]].
ورواه أيضًا عن مَعْمَرٍ عن قَتادةَ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٨).]].
ورُوِيَ بسندٍ فيه ضعفٌ عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٣/١٥٧).]].
والأرجحُ: أنّ الأيّامَ المعدوداتِ هي صيامُ رَمَضانَ، لظاهرِ السياقِ في الآياتِ، ثمَّ إنّ شريعةَ الصيامِ قبلَ رمضانَ لا خلافَ أنّها كانتْ ثلاثةَ أيّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وصيامَ عاشوراءَ، ولكنَّ كونَ صيامِ ثلاثةِ أيّامٍ مِن كلِّ شهرٍ مكتوبًا على هذه الأُمَّةِ قبلَ رمضانَ: يحتاجُ إلى دليلٍ يُثْبِتُ.
وقولُه: ﴿فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾:
أيْ: مَن كان مِن المكلَّفينَ مِن أهلِ الأعذارِ بسَفَرٍ أو مَرَضٍ، فلا حرَجَ عليه في الفِطْرِ، ويجبُ عليه أنْ يَقضيَ مكانَها أيّامًا أُخَرَ.
وقولُه: ﴿فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ﴾، المرادُ بالمرَضِ: الذي يَعجِزُ المكلَّفُ معه عن الصيامِ، أو يَقدِرُ ولكنْ بمشقَّةٍ تَضُرُّه، أو تؤخِّرُ بُرْءَ مَرَضِه.
معنى السفر، وأنّ الصواب في حدِّه العُرف، والحكمة من ذلك:
والسَّفَرُ: هو ما سُمِّيَ سَفَرًا عُرْفًا، وقد تبايَنَتْ أقوالُ السَّلَفِ في حدِّه، لِتبايُنِهم في حدِّ العُرْفِ، وهذا مِن السَّعَةِ والرَّحْمةِ.
وكثيرٌ مِن الفقهاءِ يجعلُ المنقولَ عن السَّلَفِ مِن الصحابةِ والتابعينَ أقوالًا متضادَّةً، يُبطِلُ أحدُها الآخَرَ، والأظهَرُ: أنّ مِثْلَ هذا التبايُنِ منهم وهم عرَبٌ يُدرِكُونَ معنى السَّفرِ لو حُدَّ بشيءٍ مِن الوحيِ، لاستقرَّ واستفاضَ، والسَّفرُ ممّا تَعُمُّ به البلوى لكلِّ أحَدٍ، وعدمُ تقديرِ ذلك بالنصِّ وحَدِّهِ حدًّا بيِّنًا بالنصِّ المستفيضِ مع الحاجةِ إليه: دليلٌ على أنّه أُحِيلَ إلى عُرْفِ الناسِ وعادتِهم، وهم يختلِفونَ زمنًا ومَنزلًا وطبيعةً.
والسَّفَرُ به تسقُطُ أركانٌ للإسلامِ، كالصلاةِ والصيامِ، فيَذهَبُ شَطْرُ الصلاةِ، ويُجمَعُ وقتُ الثِّنتَيْنِ وقتًا واحدًا، ويُترَكُ صيامُ رمضانَ وهو ركنٌ، ومِثلُ هذا حقُّه بيانُ حدِّه بيانًا يَلِيقُ بمنْزلةِ الأركانِ، فكما نزَلَ النصُّ بيِّنًا بحياطتِها والإتيانِ بها، يجبُ أنْ يأتيَ النصُّ برفعِها وتركِها بحدٍّ مشابِهٍ، وهذا مقتضى إحكامِ الشريعةِ.
ومع ذلك: فإنّ الشريعةَ أرادَتِ الإحالةَ إلى العُرْفِ قصدًا، تيسيرًا ورحمةً ورفعًا للحرج.
وكثيرٌ مِن فقهاءِ السَّلفِ ربَّما أفتَوْا في نازلةٍ أنّها سفرٌ، ولا يَعني أنّ ما دُونَها ليس كذلك، فيُنقَلُ قولُ الواحدِ منهم في تلك النازلةِ على أنّه حَدٌّ ضابِطٌ لأدنى السَّفَرِ، ويُنقَلُ على أنّه قولٌ يضادُّ غيرَهُ، وربَّما أفْتى الواحدُ منهم بما يوافِقُ عُرْفَهُ وعُرْفَ أهلِ بلدِه، حيثُ أُحِيلَ الأمرُ إليه، فيُجعَلُ قولًا وحدًّا يُضادُّ غيرَهُ.
ولهذا تجدُ مِن فقهاءِ السَّلَفِ مَن يختلِفُ قولُهُ في حدِّ ما يُوصَفُ به السَّفَرُ، فيُروى عنه في ذلك قولانِ وثلاثةٌ، وتُنقَلُ على أنّها أقوالٌ مختلِفةٌ، وما هي إلاَّ قولٌ واحدٌ، إمّا في نوازلَ مختلفةٍ لا تَعني أدنى مسافةِ السَّفَرِ، فحُمِلَتْ على أنّها أقوالٌ متعدِّدةٌ، وإمّا أنّ العرفَ تبايَنَ، لاختلافِ الجهةِ المقصودةِ في السَّفَرِ، فبعضُ السَّلَفِ يفرِّقُ بين ما يسافِرُ إليه الناسُ ويَرجِعونَ مِن يومِهم، وبين ما يسافِرُونَ إليه ويمكُثُونَ فيه أيّامًا، ولو كان الأخيرُ أقلَّ مسافةً، والأوَّلُ أطوَلَ، فيَجعلونَ الأوَّلَ ليس بسفرٍ، والثاني يجعلونَهُ سفرًا وإنْ كان أقصَرَ مسافةً، وكلُّها تَرجِعُ إلى العُرْفِ.
التتابُعُ في قضاءِ الصومِ:
وقولُه: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ دليلٌ على عدمِ وجوبِ التتابُعِ في القضاءِ وبهذه الآية استدل أحمد على ذلك[[مسائل ابن هاني (١/١٣٤)، ومسائل صالح (٢٦٣).]]، فاللهُ تعالى أمَرَ بالإتيانِ بالعَدَدِ، ولم يأمُرْ بالزيادةِ عليه، وكما أنّه لم يأمُرْ بالتعجيلِ بالقضاءِ، دَلَّ على أنّ في الأمرِ سَعةً، ولكنَّنا نقولُ بتفضيلِ التعجيلِ، وكذلك بتفضيلِ التتابُعِ، لأنّ التتابُعَ يقتضي تعجيلَ الأيّامِ التاليةِ لأوَّلِ يومٍ يقضيه، والتعجيلَ يقتضي تتابُعَ الأيّامِ كلِّها مع أوَّلِ استطاعةٍ بعدَ رمضانَ.
والتَّعجيلُ مستحَبٌّ، والقولُ بوجوبِ التتابُعِ مرجوحٌ، ولا تعضُدُهُ الأدلَّةُ ولا القياسُ، فالإنسانُ ربَّما يُفطِرُ أيّامًا مِن أوَّلِ رمضانَ وأيّامًا مِن أوسطِهِ وآخِرِه، والإلزامُ بِجَعْلِ القضاءِ متتابِعًا، لأنّ القضاءَ يحكي الأداءَ: لا يتَّفقُ هنا، فكيف يُؤمَرُ بالمتابَعَةِ بينَ أيّامٍ ليستْ متتابِعةً في الأداءِ؟! ثمَّ إنّ الدليلَ دلَّ على تفاضُلِها فيما بينَها، فلأوَّلِ رمضانَ فضلٌ يختلِفُ عن أوسطِه وعن آخِرِه، كما جاء في بعضِ الأخبارِ، وليالِيهِ تتفاضَلُ وكذلك أيّامُه، وأكثرُ المفسِّرينَ والفقهاءِ مِن السَّلَفِ على عدمِ وجوبِ التتابُعِ في القضاءِ.
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن داوُدَ بنِ أبي هِنْدٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ: «إنْ شاءَ تابَعَ، وإنْ شاءَ فَرَّقَ، لأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٦).]].
وقد صحَّ هذا المعنى عن غيرِ واحدٍ مِن الصحابةِ، أنّ المقصودَ هو إحصاءُ أيّامِ القضاءِ عَدًّا، وليس الإتيانَ بها سَرْدًا، فقد صَحَّ عن عطاءٍ، عن ابنِ عبّاسٍ وأبي هُرَيْرةَ، قالا في قضاءِ رَمَضانَ: «فَرِّقْهُ إنْ شئتَ، حَسْبُكَ إذا أحصيتَهُ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٦٦٤) (٤/٢٤٣).]].
وذلك أنّ اللهَ أمَرَ بالعَدَدِ، ولم يأمُرْ بصفةٍ يكونُ عليها العددُ.
وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ، فقد رُوِيَ عن أبي عُبَيْدةَ عامرِ بنِ الجَرّاحِ، ومعاذٍ، وعمرِو بنِ العاصِ، وأَنَسٍ، وأبي هريرةَ.
ورُوِيَ أيضًا عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ وعُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ وابنِ المسيَّبِ وسالمٍ وعطاءٍ وعِكْرِمةَ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ والنَّخَعيِّ وقتادةَ وطاوسٍ.
وقال به مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وجماعةٌ من فقهاءِ الكوفةِ، كأبي حنيفةَ والثَّوْريِّ، ومِن أهلِ الشامِ، كالأوزاعيِّ [[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٦).]].
ورُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ القولُ بالقضاءِ متتابعًا، كعليٍّ، وابنِ عُمَرَ، وعُرْوةَ، والشَّعْبيِّ، وابنِ سِيرِينَ [[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٧).]].
ولكنَّ القولَ المرويَّ عنهم ليس صريحًا في الوجوبِ، كالمرويِّ عنِ ابنِ عمرَ فيما رواهُ نافعٌ، أنّه كان يُتابِعُ في قضاءِ رمضانَ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٢٦٠).]].
وهذا إنّما هو فعلٌ مجرَّدٌ يقولُ باستحبابِهِ غيرُهُ من الصحابِة، والمرويُّ عن عليٍّ يَرْوِيهِ عنه الحارثُ الأعورُ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٦٦٠) (٤/٢٤٢).]].
واستحبابُ التتابُعِ هو فرعٌ عن استحبابِ التعجيلِ، والسَّلَفُ لا يختلِفونَ في فضلِ التعجيلِ.
وتعجيلُ القضاءِ ولو متفرِّقًا أفضلُ من تأخيرِهِ متتابِعًا، لأنّ المقصودَ إبراءُ الذِّمَّةِ، وإبراءُ الذِّمَّةِ أولى مِن تحقُّقِ التتابعِ المتأخِّرِ.
والأمرُ بالتتابُعِ كان ثمَّ نُسِخَ، فقد روى عروةُ، عن عائشةَ، قالتْ: نزلَتْ: «مِن أيّامٍ أُخَرَ متتابعاتٍ»، ثم سقَطَتْ «مُتَتابعاتٍ» [[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٦٥٧) (٤/٢٤١).]].
ومعنى «سقَطَتْ»، يعني: نُسِختْ، إمّا أنّها قد نزَلَتْ لفظًا ومعنًى، فنُسِخَتْ جميعًا، أو أنّها نزلَتْ مفسَّرةً بالتَّتابُعِ، ثم نُسِخَ الأمرُ بها، وإلاَّ فإنّ الأمرَ المجرَّدَ في قولِه: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ لا يُفهَمُ منه صراحةً الأمرُ بالتتابُعِ وحدَه، وإنّما يُؤخَذُ منه الإحصاءُ.
وبعضُ آيِ القرآنِ يَنْزِلُ ويَتْبَعُهُ تفسيرُهُ وبيانُهُ، وذلك في المواضعِ التي تحتاجُ إلى زيادةٍ على الحكمِ الظاهرِ، ولذا قال تعالى: ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ﴾ [القيامة: ١٨ ـ ١٩]، وبيانُ القرآنِ بنزولِهِ أصلًا على لغةِ قريشٍ، وأفصَحُ مَن يَفْهَمُها نبيُّ اللهِ ﷺ، وما احتمَلَ معنَيَيْنِ صحيحَيْنِ لغةً ونزَلَ القرآنُ على أحدِهما بيَّنه اللهُ لنبيِّهِ ﷺ إحكامًا وبيانًا، وما خرَجَ عن ذلك، فهو مِن مواضعِ السَّعَةِ والرَّحمةِ بالأمَّةِ.
تأخيرُ قضاءِ الصومِ:
وأمّا المريضُ والمسافِرُ، فإنّه يقضي ذلك اليومَ، وإن لم يَقْضِ وهو مستطيعٌ للقضاءِ، حتّى أتى عليه رمضانُ القادمُ، فهل يأثمُ أم لا؟
اتَّفَقَ العلماءُ: على أنّه ينبغي المبادَرَةُ والمسابَقَةُ، لأنّ الإنسانَ لا يَعلَمُ ما يَعرِضُ له، لكنَّهم اختلَفُوا في الإثمِ، وهل يَجِبُ عليه أنْ يقضيَ قبلَ إتيانِ رمضانَ القادمِ؟ على قولَيْنِ للعلماءِ:
ذهَبَ جمهورُ العلماءِ، وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ: إلى أنّه يجبُ القضاءُ قبلَ رمضانَ القادمِ، وذهبَ إلى هذا عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عُمرَ، وغيرُهما.
وذهب ابنُ مسعودٍ، والنَّخَعيُّ، والحسنُ، وطاوسٌ، وحمادُ بنُ أبي سُلَيْمانَ، والبخاريُّ، وابنُ حَزْمٍ، وهو قولٌ لأبي حنيفةَ: إلى أنّه لا يأثمُ، ويجوزُ أن يؤخِّرَهُ إلى ما بعدَ ذلك، وهو الصوابُ.
ولا دليلَ على وجوبِ القضاءِ قبلَ أنْ يأتيَ رمضانُ القادمُ، والاستحبابُ بالتعجيلِ لا خلافَ فيه، والأصلُ: البراءةُ مِن الإثمِ، فإذا رُخِّصَ له بالفِطْرِ في رمضانَ، ووُسِّعَ له في ذلك، فإنّ الشارعَ أولى بأن يرخِّصَ له ويوسِّعَ في القضاءِ، فإنّ رمضانَ محدَّدٌ بأيامٍ، ومَن ألزَمَ قبلَ رمضانَ الآتي، حدَّدَ القضاءَ بأيّامٍ معلومةٍ، وهذا يفتقِرُ إلى دليلٍ خاصٍّ.
واتَّفَقَ العلماءُ على أنّ المريضَ والمسافِرَ لا يَقْضِيانِ ولا يُطْعِمانِ، إذا لم يكُنْ قضاؤُهما بعدَ رمضانَ الآتي، وإذا كان بعدَ الآتي ولكن كان المرَضُ مستمِرًّا أو السَّفَرُ متَّصِلًا، فيجبُ القضاءُ بلا إطعامٍ.
وقولُه تعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾:
رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ، أنّه كان يَقرؤُها: «وعَلى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ»[[أخرجه البخاري (٤٥٠٥) (٦/٢٥).]]، والقراءةُ الأُولى متواتِرةٌ، وهي الأشهرُ.
مراحلُ تشريعِ صومِ رمضان:
كان صيامُ رمضانَ في ابتداءِ الأمرِ على التخييرِ، فمَن شاءَ صامَ، ومن شاءَ أفطَرَ وأطعَمَ، جاء هذا في حديثِ ابنِ أبي ليلى، عن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ[[سبق تخريجه.]].
ونسَخَ اللهُ تعالى التخييرَ بالآيةِ التاليةِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ [البقرة: ١٨٥]، روى البخاريُّ ومسلمٌ، عن يَزِيدَ مَوْلى سَلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ، عن سَلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ، أنّه قال: «كنّا في عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ مَن شاءَ صام، ومَن شاءَ أفطَرَ وافتَدى بطعامِ مِسْكِينٍ، حتّى أُنزِلَتْ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥]»[[أخرجه البخاري (٤٥٠٧) (٦/٢٥)، ومسلم (١١٤٥) (٢/٨٠٢).]].
ورُوِيَ هذا عن عَلقمةَ وعطاءٍ وعِكْرِمةَ والحسَنِ والشَّعْبيِّ والزُّهْريِّ وغيرِهم.
ورُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ وابنِ عمرَ بسنَدٍ ليِّنٍ.
وقد نسَخَ اللهُ التخييرَ وأَبْقى أهلَ الأعذارِ، كالمريضِ والمسافِرِ.
المعذورون بِتَرْكِ الصومِ مع الطاقة:
وحمَلَ بعضُهُمْ قولَهُ تعالى: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ على الشيخِ الكبيرِ والمرأةِ العجوزِ، وهم مَن يُطِيقُ الصومَ، فرخَّص اللهُ لهما بالفِطْرِ، ولِمَن في حُكْمِهما، كالحامِلِ والمرضِعِ وشِبْهِهما، ثمَّ نسَخَ اللهُ عزّ وجل التَّخييرَ لهما، ورخَّصَ لهما عندَ المشقَّةِ والخوفِ على الصِّحَّةِ والنَّفْسِ أو الخوفِ على الوَلَدِ.
فقد روى ابنُ جريرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عَبّاسٍ، قال: «كان الشَّيْخُ الكبيرُ والعَجُوزُ الكَبِيرةُ وهما يُطِيقانِ الصَّوْمَ، رُخِّصَ لهما أنْ يُفطِرا إنْ شاءا ويُطْعِما لكلِّ يومٍ مِسْكِينًا، ثمَّ نُسِخَ ذلك بعد ذلك: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وثبَتَ للشيخِ الكبيرِ والعجوزِ الكبيرةِ، إذا كانا لا يُطيقانِ الصَّوْمَ، وللحُبْلى والمُرْضِعِ إذا خافَتا»[[«تفسير الطبري» (٣/١٦٧).]].
ومِن السَّلَفِ مَن يرى التخييرَ للحامِلِ والمرضِعِ باقيًا ولو بلا مشقَّةٍ، رُوِيَ هذا عن قَتادةَ، عن عِكْرِمةَ، قال: «نُسِخَتِ الرُّخْصةُ عن الشَّيْخِ والعجوزِ إذا كانا يُطِيقانِ الصَّوْمَ، وبَقِيَتِ الحامِلُ والمرضِعُ أن يُفطِرا ويُطعِما»[[«تفسير الطبري» (٣/١٦٨).]].
والأظهَرُ: اشتراكُ الشيخِ والعجوزِ في حكمِ الحاملِ والمرضِعِ، وأمّا التفريقُ بينَهم مع اشتراكِهم في التخييرِ وهم ممَّن يُطِيقُ، والتفريقُ بينَهم بعدَ النسخِ بعيدٌ، فيكونُ حكمُهم جميعًا قبل النسخِ التخييرَ، وبعدَ النسخ عند المشقَّةِ والخوفِ على النَّفْسِ أو على الولدِ، فمتى وُجدَتْ، جازَ الفِطرُ.
ورُوِيَ عن مجاهدٍ القولُ بعَدَمِ نسخِ الآيةِ، وهو قولٌ لابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه، وحمَلَ معناها على المشقَّةِ في الصيامِ مع القدرةِ عليه، فروى ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾: «لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ، لا يُرَخَّصُ هَذا إلا لِلْكَبِيرِ الَّذِي لا يُطِيقُ، أوْ مَرِيضٍ يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَشْفى»[[«تفسير الطبري» (٣/١٧٤)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٨).]].
وهو المعنى الذي يقولُ به مَن قال بالنسخِ، ولكنَّ مجاهِدًا يفرِّقُ بين الشيخِ الكبيرِ والحاملِ والمرضعِ في القضاءِ، فيُلزِمُهُ على الحاملِ والمرضِعِ، ويَرفعُهُ عن الشيخِ الكبيرِ، ويَجعلُ عليه الإطعامَ فقطْ، ومرادُهُ أنّ الشيخَ الكبيرَ إنّما أفطَرَ لكِبَرِهِ، والكِبَرُ لا يَرتفِعُ بل يزيدُ، بخلافِ الحملِ والرَّضاعِ، فهو عارضٌ ويزولُ.
فِطْرُ الحاملِ والمُرْضِعِ:
والعلماءُ يَختلِفونَ في أمرِ الحاملِ والمرضعِ، هل يجبُ عليهما القضاءُ والإطعامُ جميعًا، أو يجبُ عليهما أحَدُهما؟
وإنّما وقَعَ عندَهم الخلافُ: أنّ منهم مَن جعَلَ الحَمْلَ والرَّضاعَ عِلَّةً وعذرًا عارضًا كالسَّفَرِ، فلا يجبُ على الإنسانِ إلاَّ القضاءُ، وأنّ الحاملَ والمرضِعَ يختلِفانِ عن الشيخِ الكبيرِ، وذلك لأنّ عُذْرَهُ دائمٌ أو غالبٌ، وهما كحالِ المسافرِ المطيقِ للصومِ، ولكنَّه يَشُقُّ عليه أو يَشُقُّ على رفقتِهِ لو صامَ فيُفطِرُ ويَقضي فقطْ، قالوا: وهكذا الحامِلُ والمرضِعُ.
ومنهم مَن جعلَ حُكْمَهما مقصودًا في الآيةِ، ولم يحتَجْ إلى القياسِ، فأوجَبَ الإطعامَ، فمنهم مَن جعَلَ معه القضاءَ، ومنهم مَن لم يجعَلْ معه القضاءَ، والخلافُ عندَهم على قَولَيْنِ:
القولُ الأوَّلُ: ذهَبَ عبدُ اللهِ بنُ عبّاسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ: إلى أنّ المرضِعَ والحامِلَ عليهما أن يُطْعِما عن كلِّ يومٍ مسكينًا، ولا يجبُ عليهما القضاءُ، سواءٌ خافَتا على نفسَيْهِما، أو خافَتا على ولدَيْهِما، وهذا رُوِيَ عنهما، كما رواهُ البيهقيُّ في «سُنَنِه»، وكذا عبدُ الرزّاقِ بأسانيدَ صحيحةٍ صحَّحَها الدارقطنيُّ وغيرُه.
روى الدارقطنيُّ عن أيُّوبَ، عن نافعٍ، عن ابنِ عُمرَ: «أنّ امرأتَهُ سألَتْهُ وهي حُبْلى، فقال: أفْطِرِي، وأَطْعِمِي عن كلِّ يومٍ مِسْكِينًا، ولا تَقْضِي»[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٢٣٨٨) (٣/١٩٨).]].
وبنحوِه عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عن ابنِ عبّاسٍ[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٢٣٨٢) (٣/١٩٦).]].
ولابنِ عبّاسٍ قراءةٌ في قولِه: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾، قال: «يُطَوَّقُونَهُ»، مِن الطَّوْقِ الذي يحاطُ بالعُنُقِ، أي: يستطيعُ الصيامَ مع المشقَّةِ، كأنّه قد أحاطَ بعنقِهِ، فيستطيعُ الصومَ مع الكُلْفةِ، كالشيخِ الكبيرِ، والمرأةِ العجوزِ، والحامِلِ، والمرضِعِ، فهذا عليه أن يُطعِمَ على هذا المعنى.
وقد قرأَ بها حَفْصةُ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ، وعِكْرِمةُ مَوْلى عبدِ اللهِ بنِ عبّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، وغيرُهم، ولم يقرَأْ بها أحدٌ من العَشَرةِ، لمخالفتِها الرَّسْمَ.
وعلَّلَ بعضُهم ترجيحَ هذا القولِ: أنّ فيه دفعًا لمشقَّةٍ كبيرةٍ على المرأةِ الحامِلِ والمرضِعِ، قالوا: يحصُلُ كثيرًا أن تُنجبَ المرأةُ خمسةَ أولادٍ مثلًا على التتابُعِ، فتكونُ المرأةُ سَنَةً حاملًا وسنتَينِ مُرضِعًا في كلِّ ولَدٍ مِن أولادِها، فهذه خمسَ عَشْرةَ سنةً بين حملٍ وإرضاعٍ، فإيجابُ القضاءِ عليها أن تصومَ خمسةَ عشَرَ شهرًا فيه حرَجٌ بالغٌ وشديدٌ، فكيف إذا زادَتِ المرأةُ على خمسةِ أولادٍ؟!
ورُوِيَ عن ابنِ عباسٍ وابنِ عمرَ خلافُه.
القولُ الثّاني: ذهَبَ أحمدُ والشافعيُّ، ومالكٌ وأبو حنيفةَ: إلى أنّ المرضِعَ والحامِلَ يجبُ عليهما أن يَقْضِيا، واختُلِفَ في الإطعامِ، والحاملُ والمرضعُ في ذلك على حالَيْنِ:
أوَّلًا: إذا خافَتا على نفسَيْهِما، فهما يُقاسانِ على المريضِ باتفاقِ الأئمَّةِ الأربعةِ.
ثانيًا: إذا خافَتا على ولدَيْهِما، كأنْ تكونَ المُرضِعُ قد جَفَّ حليبُها، وتخشى أنّها إن لم تَطْعَمْ، قَلَّ دَرُّها وتضرَّرَ صبيُّها، أو تكونَ حاملًا وتتناولَ علاجًا لصبيِّها في بطنِها:
فذهَبَ أحمدُ وهو المشهورُ مِن مذهبِه، وهو قولُ الشافعيِّ في روايةِ المُزَنيِّ: إلى أنّها تُفطِرُ وتُطعِمُ وتَقضي، واستَدَلَّ بقولِ اللَّهِ عزّ وجل: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾.
وهذا القولُ لم يَصِحَّ القولُ به عن أحدٍ من السَّلَفِ ـ فيما أعلمُ ـ إلاَّ مجاهدَ بنَ جَبْرٍ، وحكاهُ ابنُ أبي حاتمٍ عن بعضِ العراقيِّينَ، كالحسنِ والنَّخَعِيِّ في قولٍ له.
روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن عُثْمانَ بنِ الأَسْوَدِ، قالَ: سَأَلْتُ مجاهِدًا عن امْرَأَتِي، وكانَتْ حامِلًا، فوافَقَ تاسعُها شَهْرَ رَمَضانَ فِي حَرٍّ شديدٍ، فشَكَتْ إليَّ الصَّوْمَ، قد شَقَّ عليها، قالَ: «مُرْها، فَلْتُفْطِرْ وتُطْعِمْ مِسْكِينًا كُلَّ يَوْمٍ، فَإذا صَحَّتْ فَتَقْضِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٨).]].
قال أبو عبدِ اللهِ المروزيُّ: «لا نعلمُ أحدًا صَحَّ عنه أنّه جمَعَ عليهما الأمرَيْنِ: القضاءَ والإطعامَ، إلاَّ مجاهدًا».
ورُوِيَ عن عطاءٍ وابنِ عمرَ، ولا يصحُّ.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابُهُ، وهو قولُ الحسَنِ البَصْريِّ، وعطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، والضَّحّاكِ، والنَّخَعيِّ، والزُّهْريِّ، وربيعةَ، والأوزاعيِّ، والليثِ، وأبي ثورٍ، وأبي عُبيدٍ، والطبريِّ: إلى أنّ عليهما القضاءَ بلا إطعامٍ.
وهو الأوجَهُ، فإنّ ما في بطنِ المرأةِ الحاملِ منها كعضوٍ مِن أعضائِها، غيرُ منفصِلٍ عنها، وقد تؤثِّرُ صِحَّتُها عليه وصحَّتُهُ عليها، وكذلك المرضِعُ، فعليها إرضاعُهُ، وهو جهدٌ تبذلُهُ لِحَقِّ غيرِها، كالجهدِ الذي تبذُلُهُ لكفايةِ أهلِ بيتِها من طَبْخٍ وغَسْلٍ، فإذا كانتِ المرأةُ إذا صامَتْ تَعجِزُ عن الطَّبْخِ لأهلِ بيتِها بسببِ ضَعْفٍ في بدنِها، جاز لها الفِطْرُ، وكذلك المرأةُ المرضِعُ.
وهذا الذي يعضُدُهُ ظاهرُ الدليلِ والقياسُ الصحيحُ.
ولابنِ عبّاسٍ وابنِ عُمَرَ قولٌ بوجوبِ القضاءِ فقطْ في الحالَيْنِ:
روى عبدُ الرزّاقِ في «مصنَّفِه»، من حديثِ ابنِ جُرَيْجٍ، عن عطاءٍ، عن ابنِ عبّاسٍ، أنّه قال بالقضاءِ[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٥٦٤) (٤/٢١٨).]].
وروى البيهقيُّ في «السُّننِ»، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ عثمانَ، عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، مِثلَه.
روى أنسُ بنُ مالكٍ الكَعْبيُّ، قال: أتَيْتُ رسولَ اللهِ ﷺ فوَجَدتُّهُ يتغدّى، فقال: (ادْنُ فَكُلْ)، فقلتُ: إنِّي صائمٌ، فقال: (ادْنُ أُحَدِّثْكَ عَنِ الصَّوْمِ، أوِ الصِّيامِ، إنَّ اللهَ تَعالى وضَعَ عَنِ المُسافِرِ الصَّوْمَ، وشَطْرَ الصَّلاةِ، وعَنِ الحامِلِ أوِ المُرْضِعِ الصَّوْمَ، أوِ الصِّيامَ)، رواهُ أحمدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجهْ، وصحَّحه ابنُ خُزَيْمةَ[[أخرجه أحمد (١٩٠٤٧) (٤/٣٤٧)، والترمذي (٧١٥) (٣/٨٥)، والنسائي (٢٢٧٥) (٤/١٨٠)، وابن ماجه (١٦٦٧) (١/٥٣٣).]].
وقد قرَنَ النبيُّ ﷺ الحامِلَ والمرضِعَ بالمسافرِ في وضعِ الصيامِ، ويجبُ على المسافِرِ القضاءُ، وكذلك المرضعُ والحامِلُ، وفي حديثِ أنَسٍ اختلافٌ.
وقولُ اللهِ تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] دليلٌ على أنّه لا يُعذَرُ بالفِطْرِ مِن غيرِ بدَلٍ، إلاَّ العاجزُ عجزًا دائمًا.
وقد روى البُوَيْطِيُّ عن الشافعيِّ ذلك، أنّ الحاملَ لا إطعامَ عليها، وهي كالمريضِ تقضي عِدَّةً مِن أيّامٍ أُخَرَ.
مقدارُ الإطعامِ عن رمضانَ:
وقولُه: ﴿فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾: الفِدْيةُ: الجزاءُ، فَدَيْتُ هذا بهذا، أيْ: جزَيْتُهُ به، وأعطيتُهُ بدلًا منه.
وأكثرُ مفسِّري السَّلَفِ يجعَلونَ الطعامَ مقدارَ نصفِ صاعٍ، لأنّه هو الغالبُ في حدِّ الكفايةِ لطعامِ الواحدِ، وليس المرادُ به هو عدَمَ جوازِ ما دونَهُ حتّى لو كَفى المسكينَ، فلا أحدَ مِن السَّلفِ ينفي اعتبارَ الكفايةِ، فلو كَفى المُدُّ للجائعِ، جاز.
ولم يأتِ تقديرُ الإطعامِ عن رسولِ اللهِ ﷺ بشيءٍ.
وقولُه: ﴿فِدْيَةٌ طَعامُ﴾، فأحالَ الأمرَ إلى الفداءِ، وهو الجزاءُ المساوي، وهذا إحالةٌ إلى العُرْفِ، فكما أنّه لم يقيِّدْ أمْرَ الإطعامِ بجنسٍ أو نوعٍ، فهو لم يحدِّدْ مقدارَهُ، فالاعتبارُ إنّما هو بما جرَتْ عليه العادةُ، فيُطعِمونَ مِن أوسطِ ما يُطعِمونَ أهْلِيهم.
ويؤيِّدُ هذا قولُهُ تعالى: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ أوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ [المائدة: ٨٩]، وهذا في كفّارةِ الأَيْمانِ، وعامَّةُ المفسِّرينَ مِن السَّلَفِ في هذه الآيةِ: ﴿مِن أوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ﴾ [المائدة: ٨٩] يذكُرونَ نوعَ الطعامِ ويفصِّلونَ فيه، وكلٌّ يفسِّرُهُ بنوعٍ بحسَبِ عُرْفِ بلدِه، لأنّ المِقْدارَ عندَهم لم يَحُدَّهُ الشارعُ كزكاةِ الفِطْرِ، فأرجَعُوهُ إلى العُرْفِ.
ويذكُرُ أكثرُهم نصفَ الصاعِ مِن غيرِ الطعامِ المطبوخِ، للتغليبِ، وما دونَهُ فيه شكٌّ.
وأمّا إذا كان الطعامُ طبيخًا، فلا يَحُدُّهُ أحدٌ منهم بشيءٍ إلاَّ بما يتحقَّقُ منه الإطعامُ، وهو الشِّبَعُ.
وقد يتجوَّزُ بعضُهم بالمقدارِ دونَ نصفِ الصاعِ، لذا قال ابنُ عمرَ بالمُدِّ في إطعامِ الحامِلِ والمرضِعِ، وقال ابنُ المسيَّبِ بالمُدِّ من الحِنْطةِ، وهذا الذي يَجري عليه عملُ أهلِ المدينةِ:
فروى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ: أنّ المُدَّ يُجزِئُ بالمدينةِ.
وبيَّنَ مالكٌ: أنّ الأمرَ إلى العُرْفِ بقولِه: «وأمّا البُلْدانُ، فإنّ لهم عَيْشًا غيرَ عيشِنا، فأرى أنْ يُكفِّروا بالوسَطِ مِن عيشِهم»[[«المدونة» (١/٥٩١).]].
وجاء عن غيرِ واحدٍ مِن السَّلَفِ مِن المفسِّرينَ عمومُ الإفطارِ، كابنِ عبّاسٍ وغيرِه.
وأكثَرُ الفقهاءِ مِن الصحابةِ والتابعينَ على هذا، وبعضُهم يذكُرُ مقاديرَ وأنواعًا متبايِنةً، لتبايُنِ العرفِ وتنوُّعِ الأصنافِ التي يستعملُها الناسُ في البلدِ الواحدِ، واختلافُ الزَّمَنِ له أثرٌ أيضًا.
والإطعامُ في سائرِ الأبوابِ ـ في الصيامِ أو الكفّاراتِ ـ مقدارُهُ واحدٌ سواءٌ عندَ العلماءِ.
قال ابنُ عبدِ البرِّ في «الاستذكارِ»: «الفقهاءُ في الإطعامِ في هذا البابِ، وفي سائرِ أبوابِ الصيامِ وسائرِ الكفّاراتِ، على أصولِهم، كلٌّ على أصلِهِ، والإطعامُ عندَ الحجازيِّينَ مُدًّا بمُدِّ النبيِّ، وعندَ العراقيِّينَ نصفَ صاعٍ»[[«الاستذكار» (١٠/٢٢٤).]].
وتفسيرُ بعضِهم الفِدْيةَ في كفارةِ الصيامِ بنصفِ صاعٍ، كمجاهِدٍ وغيرِه، للاحتياطِ، وأنّ الأغلبَ أنّ في نصفِ الصاعِ كفايةً، وهذا ما يَظهرُ مِن النصِّ في قولِه: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾، يعني: مَن زاد في الإطعامِ ليحتاطَ، فهو خيرٌ.
كلُّ ما لم يقدِّرْهُ الشارعُ، مردُّهُ إلى العرف:
وهكذا كلُّ ما لم يقدِّرْهُ الشارعُ بشيءٍ معيَّنٍ، فمَرَدُّهُ إلى العُرْفِ، كطعامِ المرأةِ والولَدِ، والمملوكِ والأجيرِ بمِلْءِ بطنِه، وهكذا الكِسْوةُ، وحقُّ الضيفِ، وحقُّ الضيافةِ المشروطةِ على أهلِ الذِّمَّةِ.
ولهذا: فمَن جمَعَ مساكينَ على ولِيمةٍ، فأَكَلُوا منها بلا مِقدارٍ حتّى شَبِعُوا، أجزَأَهُ بعَدَدِهم، ولو كان من الأَرُزِّ أو الخبزِ أو المأكولاتِ الحديثةِ من (السَّنْدَوِتْشاتِ) وغيرِها، وهذا الذي يجري عليه قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ، وقولُ أحمدَ في روايةٍ.
ثمَّ إنّ اللهَ أمَرَ بالإطعامِ، ولم يأمُرْ بالتمليكِ، لا كحالِ زكاةِ الفِطْرِ، فزكاةُ الفطرِ تمليكٌ للمِسْكِينِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك أكْلُه، وأمّا الكفّارةُ فهي إطعامٌ، ويكفي في ذلك تحقُّقُه بأيِّ نوعٍ وبأيِّ مقدارٍ، ما أشبَعَ الجائعَ.
ولا حرَجَ على مَن عليه فِدْيةٌ متعدِّدةٌ إخراجُها مرَّةً واحدةً، فقد روى الدارقطنيُّ، مِن حديثِ سعيدِ بنِ أبي عَرُوبةَ وهشامٍ، عن قَتادةَ، عن أنَسِ بنِ مالكٍ: «أنّه كَبِرَ، فأمَرَ أنْ يُطعَمَ عنه، عن كلِّ يومٍ مسكينًا، فأطعَمَ عن ثلاثينَ يومًا»[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (٢٣٩١) (٣/١٩٩).]].
وقولُه: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾:
التطوُّعُ: هو التنفُّلُ والزيادةُ على الفَرْضِ، والمرادُ به هنا: الزيادةُ على القَدْرِ الواجبِ مِن الإطعامِ، فمَن زادَ على الأكلِ الذي يكفي الواحدَ ـ كمَن تصدَّقَ بصاعٍ ـ فهو خيرٌ وأفضلُ.
رُوِيَ هذا عن ابنِ عَبّاسٍ ومُجاهدٍ، وطاوُسٍ وعطاءٍ والحسَنِ، وغيرِهم[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣٠٩).]].
{"ayahs_start":183,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ","أَیَّامࣰا مَّعۡدُودَ ٰتࣲۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۚ وَعَلَى ٱلَّذِینَ یُطِیقُونَهُۥ فِدۡیَةࣱ طَعَامُ مِسۡكِینࣲۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَهُوَ خَیۡرࣱ لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُوا۟ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق