الباحث القرآني
* بابُ فَرْضِ الصِّيامِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكم لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ فاللَّهُ تَعالى أوْجَبَ عَلَيْنا فَرْضَ الصِّيامِ بِهَذِهِ الآيَةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ مَعْناهُ فُرِضَ عَلَيْكم، كَقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] يَعْنِي فَرْضًا مُؤَقَّتًا. الصِّيامُ في اللُّغَةِ هو الإمْساكُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦] يَعْنِي صَمْتًا، فَسَمّى الإمْساكَ عَنِ الكَلامِ صَوْمًا. ويُقالُ: " خَيْلٌ صِيامٌ " إذا كانَتْ مُمْسِكَةً عَنِ العَلَفِ، و" صامَتِ الشَّمْسُ نِصْفَ النَّهارِ " لِأنَّها مُمْسِكَةٌ عَنِ السَّيْرِ والحَرَكَةِ، فَهَذا حُكْمُ هَذا اللَّفْظِ في اللُّغَةِ. وهو في الشَّرْعِ: اسْمٌ لِلْكَفِّ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ وما في مَعْناهُ، وعَنِ الجِماعِ في نَهارِ الصَّوْمِ مَعَ نِيَّةِ القُرْبَةِ أوِ الفَرْضِ. وهو لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلى البَيانِ عِنْدَ وُرُودِهِ؛ لِأنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْضُوعٌ لَمَعانٍ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً في اللُّغَةِ، إلّا أنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ الفَرْضِ واسْتِقْرارِ أمْرِ الشَّرِيعَةِ قَدْ عَقَلَ مَعْناهُ المَوْضُوعَ لَهُ فِيها بِتَوْقِيفِ النَّبِيِّ ﷺ الأُمَّةِ عَلَيْها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ يَعْتَوِرُهُ مَعانٍ ثَلاثَةٍ كُلُّ واحِدٍ مِنها مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ؛ قالَ الحَسَنُ والشَّعْبِيُّ وقَتادَةَ: " إنَّهُ كُتِبَ عَلى (p-٢١٥)الَّذِينَ مِن قَبْلِنا وهُمُ النَّصارى شَهْرُ رَمَضانَ أوْ مِقْدارُهُ مِن عَدَدِ الأيّامِ، وإنَّما حَوَّلُوهُ وزادُوا فِيهِ " .
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ والسُّدِّيُّ: " كانَ الصَّوْمُ مِنَ العَتَمَةِ إلى العَتَمَةِ ولا يَحِلُّ بَعْدَ النَّوْمِ مَأْكَلٌ ولا مَشْرَبٌ ولا مَنكَحٌ، ثُمَّ نُسِخَ " . وقالَ آخَرُونَ: " مَعْناهُ أنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنا صِيامُ أيّامٍ كَما كُتِبَ عَلَيْهِمْ صِيامُ أيّامٍ، ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى مُساواتِهِ في المِقْدارِ بَلْ جائِزٌ فِيهِ الزِّيادَةُ والنُّقْصانُ " . ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ: " الَّذِينَ مِن قَبْلِكم " أهْلُ الكِتابِ " .
ورَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ قالَ: «أُحِيلَ الصِّيامُ ثَلاثَةَ أحْوالٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ فَجَعَلَ الصَّوْمَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أيّامٍ ويَوْمَ عاشُوراءَ»، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى فَرَضَ الصِّيامَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ وذَكَرَ نَحْوَ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ الَّذِي قَدَّمْنا.
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا لَمْ يَكُنْ في قَوْلِهِ: ﴿كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ دَلالَةٌ عَلى المُرادِ في العَدَدِ أوْ في صِفَةِ الصِّيامِ أوْ في الوَقْتِ كانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، ولَوْ عَلِمْنا وقْتَ صِيامِ مَن قَبْلَنا وعَدَدَهُ كانَ جائِزًا أنْ يَكُونَ مُرادُهُ صِفَةَ الصِّيامِ وما حَظَرَ عَلى الصّائِمِ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَلَمْ يَكُنْ لَنا سَبِيلٌ إلى اسْتِعْمالِ ظاهِرِ اللَّفْظِ في احْتِذاءِ صَوْمِ مَن قَبْلَنا، وقَدْ عَقَّبَهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] وذَلِكَ جائِزٌ وُقُوعُهُ عَلى قَلِيلِ الأيّامِ وكَثِيرِها، فَلَمّا قالَ تَعالى: في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] بَيَّنْ بِذَلِكَ عَدَدَ الأيّامِ المَعْدُوداتِ ووَقْتَها وأمَرَ بِصَوْمِها.
وقَدْ رُوِيَ هَذا المَعْنى عَنِ ابْنِ أبِي لَيْلى. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَطاءٍ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] صَوْمُ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ رَمَضانُ، ثُمَّ نُسِخَ بِرَمَضانَ.
* * *
بابٌ في المُسافِرِ يَصُومُ رَمَضانَ عَنْ غَيْرِهِ
واخْتُلِفَ في المُسافِرِ يَصُومُ رَمَضانَ عَنْ واجِبِ غَيْرِهِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " هو عَمّا نَوى " فَإنْ صامَهُ تَطَوُّعًا فَعَنْهُ رِوايَتانِ: إحْداهُما: أنَّهُ عَنْ رَمَضانَ، والأُخْرى: أنَّهُ تَطَوُّعٌ، وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " هو عَنْ رَمَضانَ في الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا " وقالَ أصْحابُنا جَمِيعًا في المُقِيمِ إذا نَوى بِصِيامِهِ واجِبًا غَيْرَهُ أوْ تَطَوُّعًا: " إنَّهُ عَنْ رَمَضانَ ويَجْزِيهِ " وقالَ الثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ في امْرَأةٍ صامَتْ رَمَضانَ تَطَوُّعًا فَإذا هو مِن شَهْرِ رَمَضانَ: " أجْزَأها " وقالا: " مَن صامَ في أرْضِ العَدُوِّ تَطَوُّعًا وهو لا يَعْلَمُ أنَّهُ رَمَضانُ أجْزى عَنْهُ " وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: " مَن صامَ في أوَّلِ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ وهو لا يَعْلَمُ أنَّهُ رَمَضانُ لَمْ يَجْزِهِ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ: " لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَصُومَ دَيْنًا ولا قَضاءً لِغَيْرِهِ في رَمَضانَ، فَإنْ فَعَلَ لَمْ يَجْزِهِ لِرَمَضانَ ولا لِغَيْرِهِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: نَبْتَدِئُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعالى بِالكَلامِ في المُقِيمِ يَصُومُ رَمَضانَ تَطَوُّعًا، فَنَقُولُ: الدَّلالَةُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أصْحابِنا مِن طَرِيقِ الظّاهِرِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٤] ولَمْ يُخَصِّصْ صَوْمًا، فَهو عَلى سائِرِ ما يَصُومُهُ مِن تَطَوُّعٍ أوْ فَرْضٍ في كَوْنِهِ مُجْزِيًا عَنِ الفَرْضِ؛ لِأنَّهُ لا يَخْلُو الصّائِمُ تَطَوُّعًا أوْ واجِبًا غَيْرَ أنْ يَكُونَ صَوْمًا عَمّا نَوى دُونَ رَمَضانَ، أوْ يَكُونَ مُلْغًى لا حُكْمَ لَهُ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يَصُمْ، أوْ مُجْزِيًا عَنْ رَمَضانَ؛ فَلَمّا كانَ وُقُوعُهُ عَمّا نَوى وكَوْنُهُ مُلْغًى مانِعَيْنِ مِن أنْ يَكُونَ هَذا الصِّيامُ خَيْرًا لَهُ بَلْ يَكُونُ وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضانَ خَيْرًا لَهُ، وجَبَ أنْ لا يَكُونَ مُلْغًى، ولا عَمّا نَوى مِن غَيْرِ رَمَضانَ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: ١٨٥] ثُمَّ قالَ في نَسَقِ التِّلاوَةِ: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٥] ومَعْلُومٌ عِنْدَ جَمِيعِ فُقَهاءِ الأمْصارِ إضْمارُ الإفْطارِ فِيهِ، وأنَّ تَقْدِيرَهُ: " فَأفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ " فَإنَّما أوْجَبَ القَضاءَ عَلى المُسافِرِ والمَرِيضِ إذا أفْطَرا فِيهِ، فَثَبَتْ بِذَلِكَ أنَّ مَن صامَ مِنَ المُقِيمِينَ ولَمْ يُفْطِرْ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الآيَةُ وأنَّ صِيامَ الجَمِيعِ مِنَ المُخاطَبِينَ إلّا مَن أفْطَرَ مِنَ المَرْضى والمُسافِرِينَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَعُدُّوا ثَلاثِينَ» فاقْتَضى ظاهِرُ ذَلِكَ جَوازَهُ عَلى أيِّ وجْهٍ أوْقَعَ صَوْمَهُ مِن تَطَوُّعٍ أوْ غَيْرِهِ.
ومِن جِهَةِ النَّظَرِ أنَّ صَوْمَ رَمَضانَ لَمّا كانَ مُسْتَحَقَّ العَيْنِ في هَذا الوَقْتِ أشْبَهَ طَوافَ الزِّيارَةِ في يَوْمِ النَّحْرِ، فَعَلى أيِّ وجْهٍ أوْقَعَهُ أجْزَأ عَنِ الفَرْضِ، عَلى أنَّهُ لَوْ نَواهُ عَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَمّا نَواهُ فَلَوْلا أنَّهُ قَدْ أجْزى (p-٢٧١)عَنِ الفَرْضِ لَوَجَبَ أنْ يُجْزِيَهُ عَمّا نَوى كَصِيامِ سائِرِ الأيّامِ يُجْزى عَمّا نَوى.
فَإنْ قِيلَ: إنَّ صَلاةَ الظُّهْرِ مُسْتَحَقَّةُ العَيْنِ لِهَذا الوَقْتِ إذا بَقِيَ مِنَ الوَقْتِ مِقْدارُ ما يُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ، ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ جَوازَها بِنِيَّةِ النَّفْلِ، قِيلَ لَهُ: وقْتُ الظُّهْرِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ العَيْنِ لِفِعْلِها؛ لِأنَّهُ يَتَّسِعُ لِفِعْلِها ولِغَيْرِها، ولا فَرْقَ بَيْنَ أوَّلِ الوَقْتِ وآخِرِهِ، فَإذا كانَ فِعْلُ التَّطَوُّعِ في أوَّلِهِ لا يُجْزِي عَنِ الفَرْضِ كَذَلِكَ في آخِرِهِ، وأيْضًا فَإنَّهُ إذا نَوى بِصَلاتِهِ في آخِرِ الوَقْتِ تَطَوُّعًا أوْ فَرْضًا غَيْرَهُ كانَ كَما نَوى.
وقَدِ اتَّفَقْنا عَلى أنَّ صَوْمَ عَيْنِ رَمَضانَ لا يُجْزِي عَنْ غَيْرِهِ، فَدَلَّ أنَّهُ مُسْتَحَقُّ العَيْنِ لِامْتِناعِ جَوازِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ ولِأنَّهُ وقْتٌ يَسْتَغْرِقُ الفَرْضَ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ ولا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، والظُّهْرُ لَها وقْتٌ غَيْرَ أنَّهُ إذا أخَّرَهُ كانَ جائِزًا لَهُ فِعْلُها فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﷺ: «الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» يَمْنَعُ جَوازَ صَوْمِ رَمَضانَ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ، قِيلَ لَهُ: أمّا قَوْلُهُ ﷺ «الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ» فَلا يَصِحُّ الِاحْتِجاجُ بِهِ؛ لِأنَّ فِيهِ ضَمِيرًا مُحْتَمِلًا لَمَعانٍ مِن جَوازٍ وفَضِيلَةٍ، وهو غَيْرُ مَذْكُورٍ في اللَّفْظِ، ومَتى تَنازَعْنا فِيهِ اِحْتِيجَ إلى دَلالَةٍ في إثْباتِهِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجاجُ بِهِ، وأمّا قَوْلُهُ: «ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» فَإنَّ خَصْمَنا يُوافِقُنا في هَذِهِ المَسْألَةِ أنَّهُ لَيْسَ لَهُ ما نَوى مِن تَطَوُّعٍ ولا فَرْضٍ غَيْرِهِ؛ لِأنّا نَقُولُ: لا يَكُونُ تَطَوُّعًا ولا فَرْضًا غَيْرُ رَمَضانَ، وهو يَقُولُ: لا يَكُونُ عَنْ رَمَضانَ ولا عَمّا نَوى؛ فَحَصَلَ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ أنَّ قَوْلَهُ: " ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلى ظاهِرِهِ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ، وأيْضًا قَوْلُهُ: «ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى» غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عِنْدَ الجَمِيعِ عَلى حَقِيقَتِهِ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ مَن نَوى الصَّوْمَ كانَ صائِمًا، ومَن نَوى الصَّلاةَ كانَ مُصَلِّيًا، وإنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ الصَّلاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ دُونَ فِعْلِها، وكَذَلِكَ الصَّوْمُ وسائِرُ الفُرُوضِ والطّاعاتِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ هَذا اللَّفْظَ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ في إثْباتِ حُكْمِهِ إلّا بِقَرِينَةٍ؛ فَسَقَطَ احْتِجاجُ المُخالِفِ بِهِ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ ويَحْتاجُ إلى دَلالَةٍ في إثْباتِهِ، وما كانَ هَذا وصْفَهُ فالِاحْتِجاجُ بِظاهِرِهِ ساقِطٌ، والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّ قَوْلَهُ ﷺ: " ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " يَقْتَضِي جَوازَ صَوْمِهِ إذا نَواهُ تَطَوُّعًا، فَإذا جازَ صَوْمُهُ وقَعَ عَنِ الفَرْضِ لِاتِّفاقِنا أنَّهُ إذا لَمْ يَجُزْ عَنِ الفَرْضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ما نَوى، فَوَجَبَ بِقَضِيَّةِ قَوْلِهِ: " ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " إنْ يَحْصُلْ لَهُ ما نَوى وإلّا فَقَدْ ألْغَيْنا حُكْمَ اللَّفْظِ رَأْسًا، وأيْضًا مَعْلُومٌ مِن فَحْوى قَوْلِهِ " ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " ما يَقْتَضِيهِ نِيَّتُهُ مِن ثَوابِ فَرْضٍ أوْ فَضِيلَةٍ أوْ نَحْوِها فَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ؛ ولِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ (p-٢٧٢)يَكُونَ مُرادُهُ وُقُوعَ الفِعْلِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ حاصِلٌ مَوْجُودٌ مَعَ وُجُودِ النِّيَّةِ وعَدَمِها والنِّيَّةُ هي الَّتِي تُصَرِّفُ أحْكامَهُ عَلى حَسَبِ مُقْتَضاها ومُوجِبِها مِنِ اسْتِحْقاقِ ثَوابِ الفَرْضِ أوِ الفَضِيلَةِ أوِ الحَمْدِ أوِ الذَّمِّ إنْ كانَتِ النِّيَّةُ تَقْتَضِي حَمْدَهُ أوْ ذَمَّهُ؛ وإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو القَوْلُ فِيها مِن أحَدِ مَعْنَيَيْنِ:
إمّا أنْ يَسْقُطَ اعْتِبارُ حُكْمِ اللَّفْظِ في دَلالَتِهِ عَلى جَوازِ الصَّوْمِ أوْ بُطْلانِهِ ووَجَبَ طَلَبُ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ مِن غَيْرِهِ، أوْ أنْ يُسْتَعْمَلَ حُكْمُهُ فِيما يَقْتَضِيهِ مَضْمُونُهُ مِن إفادَةِ ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن ثَوابٍ أوْ حَمْدٍ أوْ ذَمٍّ؛ فَإذا وجَبَ اسْتِعْمالٌ عَلى ذَلِكَ وقَدْ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إلى ضَرْبٍ مِنَ القُرْبِ، فَواجِبٌ أنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ؛ ثُمَّ أقَلُّ أحْوالِهِ في ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ ثَوابُهُ مِثْلَ ثَوابِ ناوِي الفَرْضِ أنْ يَكُونَ أنْقَصَ مِنهُ، ونُقْصانُ الثَّوابِ لا يَمْنَعُ جَوازَهُ عَنِ الفَرْضِ.
والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ فَيُكْتَبُ لَهُ نِصْفُها، رُبْعُها، خُمْسُها، عُشْرُها» فَأخْبَرَ بِنُقْصانِ الثَّوابِ مَعَ الجَوازِ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ما ذَكَرْنا مِن تَعَلُّقِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِالثَّوابِ والعِقابِ أوِ الحَمْدِ والذَّمِّ، قَوْلُهُ ﷺ: «ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى، فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ» .
وزَعَمَ الشّافِعِيُّ أنَّ مَن عَلَيْهِ حَجَّةُ الإسْلامِ فَأحْرَمَ يَنْوِي تَطَوُّعًا، أنَّهُ يَجْزِيهِ مِن حَجَّةِ الإسْلامِ، فَأسْقَطَ نِيَّةَ التَّطَوُّعِ وجَعَلَها لِلْفَرْضِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّ فَرْضَ الحَجِّ عَلى المُهْلَةِ وإنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ الفِعْلِ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، وذَلِكَ أبْعَدُ في الجَوازَ مِن صَوْمِ رَمَضانَ لِأنَّ صَوْمَ رَمَضانَ مُسْتَحَقُّ العَيْنِ في وقْتٍ لا يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ ولا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، فَتَرَكَ ظاهِرَ قَوْلِهِ عَلى أصْلِهِ " الأعْمالُ بِالنِّيّاتِ ولِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى " ولَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلى نَظَرٍ صَحِيحٍ يُعَضِّدُ مَقالَتَهُ؛ وكانَ الواجِبُ عَلى أصْلِهِمُ اعْتِبارَ ما يَدْعُونَهُ ظاهِرًا مِن هَذا الخَبَرِ، وأمّا عَلى أصْلِنا فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ الِاحْتِجاجَ بِهِ ساقِطٌ، وأوْضَحْنا عَنْ مَعْناهُ ومُقْتَضاهُ وأنَّهُ يُوجِبُ جَوازَهُ عَنِ الفَرْضِ؛ فَسَلِمَ لَنا ما اسْتَدْلَلْنا بِهِ مِنَ الظَّواهِرِ والنَّظَرِ ولَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ هَذا الأثَرُ.
وأمّا المُسافِرُ إذا صامَ رَمَضانَ عَنْ واجِبٍ عَلَيْهِ، فَإنَّما أجازَ ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ عَمّا نَوى؛ لِأنَّ فِعْلَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ في هَذا الحالِ وهو مُخَيَّرٌ مَعَ الإمْكانِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ بَيْنَ فِعْلِهِ وتَرْكِهِ فَأشْبَهَ سائِرَ الأيّامِ غَيْرَ رَمَضانَ، فَلَمّا كانَ سائِرُ الأيّامِ جائِزًا لِمَن صامَهُ عَمّا نَواهُ فَكَذَلِكَ حُكْمُ رَمَضانَ لِلْمُسافِرِ، وعَلى هَذا يَنْبَغِي أنَّهُ مَتى نَواهُ تَطَوُّعًا أنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا عَلى الرِّوايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ، وهي أقْيَسُ (p-٢٧٣)الرِّوايَتَيْنِ
فَإنْ قِيلِ: عَلى هَذا يَلْزَمُهُ أنْ يُجْزِيَ صَوْمُ المَرِيضِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الإفْطارُ عَنْ غَيْرِ رَمَضانَ بِأنْ نَواهُ تَطَوُّعًا أوْ عَنْ واجِبٍ عَلَيْهِ، لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتَها في المُسافِرِ ؟ قِيلَ لَهُ: لا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِعَدَمِ العِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْتُها في المُسافِرِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ المَعْنى الَّذِي وجَبَ القَوْلُ في المُسافِرِ بِما وصَفْناهُ وأنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّوْمِ وتَرْكِهِ مِن غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ وأشْبَهَ ذَلِكَ في غَيْرِ رَمَضانَ، وأمّا المَرِيضُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ الفِطْرُ إلّا مَعَ خَشْيَةِ زِيادَةِ العِلَّةِ والضَّرَرِ اللّاحِقِ بِالصَّوْمِ؛ فَهو لا يَخْلُو مِن أنْ لا يَضُرَّ بِهِ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ، أوْ أنْ يَضُرَّهُ فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُ الصَّوْمُ، فَلَمّا كانَ كَذَلِكَ كانَ فِعْلُ الصَّوْمِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ أوْ تَرْكُهُ مِن غَيْرِ تَخْيِيرٍ، فَمَتى صامَهُ وقَعَ عَنِ الفَرْضِ؛ إذْ كانَتْ إباحَةُ الإفْطارِ مُتَعَلِّقَةً بِخَشْيَةِ الضَّرَرِ، فَمَتى فَعَلَ الصَّوْمَ فَقَدْ زالَ المَعْنى وصارَ بِمَنزِلَةِ الصَّحِيحِ فَأجْزى عَنْ صَوْمِ الشَّهْرِ عَلى أيِّ وجْهٍ صامَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلصِّیَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق